الجمعة، ١١ شوال ١٤٤٥ هـ ، ١٩ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى

فتزكية النفس من أخطر الأمراض القلبية والشهوات الإبليسية الشيطانية التي تمثل عائقـًا من أكبر العوائق أمام إصلاح الفرد والمجتمع والطائفة والأمة؛ فالنظر إلى النفس بعين الكمال يُعمي القلب عن رؤية عيوبها وأمراضها التي يجب معالجتها، وهو منبع الكبر والعجب والحسد؛ ...............

فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى
ياسر برهامي
الاثنين ٠٣ مايو ٢٠١٠ - ١٥:٠٦ م
4300

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فتزكية النفس من أخطر الأمراض القلبية والشهوات الإبليسية الشيطانية التي تمثل عائقـًا من أكبر العوائق أمام إصلاح الفرد والمجتمع والطائفة والأمة؛ فالنظر إلى النفس بعين الكمال يُعمي القلب عن رؤية عيوبها وأمراضها التي يجب معالجتها، وهو منبع الكبر والعجب والحسد؛ لأن الناظر إلى نفسه بعين الكمال يشعر أنه يستحق مِن الناس مِن تقديرهم وتعظيمهم وثنائهم أكثر مما أخذه، فيترتب على ذلك احتقارهم وازدراؤهم؛ لكونهم لم يُعطوه حقه ولم يقدروه حق قدره! وإذا وجدهم يثنون على غيره ضاق بذلك وما استساغه؛ فوقع في تمني زوال النعمة عن أخيه ليتفرد هو -في وهمه وظنه- بالكمال؛ فهي أمراض متلازمة ربما تظهر في جملة واحدة كما ظهرت من إبليس حين أبى واستكبر وكان من الكافرين، ظهرت كل هذه الأمراض في قوله لربه -عز وجل- عن آدم -عليه السلام-: (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ) (الأعراف:12).

وظهرت من فرعون في قوله عن موسى -عليه السلام-: (أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ) (الزخرف:52)

"
العمل الإسلامي المعاصر لا يخلو من مرض تزكية النفس على مستوى الأفراد والجماعات وداخل الجماعة الواحدة، وهو مِن أعظم المعوقات التي تواجه الصحوة الإسلامية
"
.

وظهرت في قول صاحب الجنتين لصاحبه: (أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَرًا) (الكهف:34).

وظهرت في قول طائفة من الملإ من بني إسرائيل مع نبيهم حين أخبرهم ببعث الله لهم طالوت مَلِكًا: (أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ) (البقرة:247).

وهذا المرض لا يختص بالأفراد؛ بل هو كذلك يعمُّ الجماعات والطوائف والشعوب والأمم، وهل قامت الحرب العالمية الثانية التي قتل فيها في سنوات معدودة نحو 60 مليونًا من البشر إلا بسبب الفكرة المجنونة بسيادة الجنس الآري التي حقيقتها تزكية النفس، ولكن لشعب أو أمة؟!

وهل قامت إسرائيل إلا من أجل تحقيق هذه الفكرة المستقرة في حس اليهود أنهم -دون غيرهم- الشعب المختار، مهما خالفت أعمالهم وصفاتهم، وأن باقي الشعوب هم عبيد العبيد لهم، وأنهم لا يصلح لهم إلا أن يكونوا كلابًا لهم، وليس حسنًا أن يؤخذ خبز البنين ويرمى للكلاب -كما حكاه كُتَّاب الأناجيل عن المسيح-، إلا من رضي بأن يكون كلبًا لديهم واعترف بذلك وقـَبِل بما يرميه السادة له كما يرمي السادة للكلاب؛ فهذا الذي يُقبَل في الملكوت، وحاشى لله أن يكون المسيح -عليه السلام- قد قال ذلك كما يفترون عليه؟!

وهل كانت جيوش احتلال الأوربيين التي غزت شعوب الأرض وأذلتها واستعبدتها إلا لسيطرة الجنس الأبيض وعلوه، حتى صاروا إذا تكلموا عن حقوق الإنسان فهو "الأوروبي" و"الأمريكي" دون غيره، كما أن آلام الأسرى عند اليهود محصورة في "شاليط" المُنَعَّم دون مئات ألوف المعذبين في المشارق والمغارب؟!

وهذا المرض العضال لا يختص بأهل الدنيا؛ بل يقع فيه -أيضًا- من ينتسبون للدين، وإن كان أهل الدنيا يزكون أنفسهم بكثرة المال، أو الملك والجاه، أو كثرة الأولاد والأتباع، أو المسكن الفاره، أو المركب والشارة، أو الثياب والقطيفة والخميصة؛ فإن أهل الانتساب إلى الدين يزكون أنفسهم: بالعلم، والزهد، والدعوة، وقراءة القرآن، والجهاد، والنفقة في سبيل الله، وكثرة التلامذة والمريدين والأتباع.

والعمل الإسلامي المعاصر لا يخلو من هذا المرض؛ مرض تزكية النفس على مستوى الأفراد والجماعات وداخل الجماعة الواحدة، وهو مِن أعظم المعوقات التي تواجه الصحوة الإسلامية وتجعل من استمرار مرحلة "الإحراق" أفضل لها بكثير من مرحلة "الإشراق"، أعني أن استمرار مرحلة الاستضعاف والاضطهاد الذي تعاني منه خير لها من مرحلة التمكين الذي ربما أدى إلى الهلاك الذي خافه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على أصحابه الذين رباهم بنفسه حين قال: (مَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ؛ وَلَكِنِّي أَخْشَى أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ) (متفق عليه).

وتزكية النفس تكون على درجات متفاوتة: فأحيانًا تكون داخل النفس دون أن يظهر في الكلام ويرى الإنسان القشة التي تظهر في عين أخيه ولا يرى الجذع الذي في عينه، وأحيانًا يكون في الحال والسلوك فيقول المرء بلسان حاله: "أضاعوني وأي فتى أضاعوا...".

وأحيانًا تزداد حتى تظهر على اللسان؛ فيمدح المرء نفسه، ويعدد كمالاته ورجحان عقله وفكره وقيادته، وأحيانًا يزداد حتى يُسخِّر من تحته لمدحه، ويجنِّد من يذكر فضائله وينادي في الناس بتفرده، ويكون مقدار المدح والثناء له الذي يبذله منافقوه والقدح في غيره هو المؤهل الأساسي للتقديم والتقريب وتولية المسئوليات! فيوسد الأمر إلى غير أهله؛ فيخرب العمل وتضيع الأمانة، وكثيرًا ما يتستر مرض تزكية النفس وراء ستار مدح المنهج الذي ينتمي إليه الشخص أو مدح الجماعة والطائفة التي ينتسب إليها والدعوة التي يدعو بها، وهو يخفي عن نفسه حقيقة الداء ويغور دفن أعراضه في الأعماق؛ حتى لا يبحث عن العلاج ولا يأخذ الدواء، فيتمكن المرض ويزداد حتى يهلك!

"
النظر إلى النفس بعين الكمال يُعمي القلب عن رؤية عيوبها وأمراضها التي يجب معالجتها، وهو منبع الكبر والعجب والحسد
"

ولقد علَّم النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه ورباهم على معالجة هذا الداء: بالنظر إلى الذنوب والخطايا، وداوم استحضار خطرها، والاعتراف بالظلم بالقلب قبل اللسان؛ اتباعًا لنبي الله يونس -عليه السلام- الذي قال: (لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) (الأنبياء:87)، فعلَّم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبا بكر -رضي الله عنه- دعاءً يقوله في صلاته، فقال له: (قُلِ: اللَّهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا وَلاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ، فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ، وَارْحَمْنِي إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (متفق عليه).

وتأمل دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو خير خلق الله: (اللَّهُمَّ اغْفِرْ لي خَطِيئَتِي وَجَهْلِي وَإِسْرَافِي فِي أَمْرِي وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي جِدِّي وَهَزْلِي وَخَطَئِي وَعَمْدِي وَكُلُّ ذَلِكَ عِنْدِي، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (متفق عليه).

وتأمل في سيد الاستغفار: (أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ، أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ وَأَبُوءُ بِذَنْبِي، اغْفِرْ لِي، فَإِنَّهُ لاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ) (رواه البخاري).

فنظرة المؤمن إلى عيوبه وذنوبه تمنع عنه مرض العجب والكبر الذي يُهلكه، ولجوؤه إلى الله وافتقاره إليه وشعوره بعجزه وشهوده أنه لا يستطيع أن يقوم بأمر نفسه وصلاحها لو وكله الله إليها طرفة عين، فيقول: (يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ بِرَحْمَتِكَ أَسْتَغِيثُ أَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ، وَلاَ تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ) (رواه الحاكم والبزار، وحسنه الألباني)؛ يمنع عنه تزكية النفس وعيب الآخرين والجرأة على تحمل مسئولية خاف من حملها مَن هم أفضل منه أضعافـًا مضاعفة، وتفتح له باب التفتيش في أعماق النفس؛ ليستخرج الأمراض المدفونة ويعالجها، فإنه لابد وأن يصدق مع الله في قوله: "وَأَبُوءُ بِذَنْبِي"، وليس فقط يحرِّك لسانه به مع استمرار شهود كمال النفس، وحاجتنا إلى البحث عن عيوبنا أعظم أهمية من دعوة الآخرين لإصلاح عيوبهم، والاستفادة من هدايا العيوب، ولو كانت من كاشح -المضمر للعداوة- أنفع لنا من الرد والدفع واتهام المخالف في نيته وقصده.

وهذا الجانب يمثل أحد الجوانب الكثيرة للاختلاف بين النظام الإسلامي والنظام الديمقراطي القائم على تزكية النفس، فنظامهم الديمقراطي ما هو إلا صورة فجة من هذا المرض، وعَرض من أعراضه في التنافس المحموم على السلطة ولزوم تزكية النفس بما ليس فيها من خلال إعلام خادع، وأحزاب مضللة للعامة والدهماء، ولزوم القدح في الآخرين والتنقيص منهم لينفرد المرشح بالإبهار اللازم للفوز بأصوات المخدوعين، والرسول -صلى الله عليه وسلم- جعل طلب الإمارة وتزكية النفس لمنصبها سببًا في منع استحقاق من فعل ذلك لهذا الأمر؛ فقال: (إِنَّا وَاللَّهِ لاَ نُوَلِّي عَلَى هَذَا الْعَمَلِ أَحَدًا سَأَلَهُ وَلاَ أَحَدًا حَرَصَ عَلَيْهِ) (متفق عليه).

ومن عظيم الغبن للصحابة -رضي الله عنهم- لا سيما الخلفاء الراشدين أن يزعم الزاعمون أنهم تولوا بطريقة ديمقراطية، وما يلزم من هذا القول من أنهم زكوا أنفسهم، بل لم يحدث شيء من ذلك؛ وإنما قال أبو بكر -رضي الله عنه- للأنصار -رضي الله عنهم-: "وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين: عمر أو أبي عبيدة"، فقال له عمر -رضي الله عنه-: "بل نبايعك أنت؛ رضيك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لديننا، أفلا نرضاك لدنيانا؟!"، أو كما قالا -رضي الله عنهما-.

وكانت خلافة عمر -رضي الله عنه- باختيار أبي بكر -رضي الله عنه- له وعهده له بذلك، واجتمع الصحابة على الرضا بذلك.

وكان اختيار عثمان -رضي الله عنه- عن طريق اختيار عبد الرحمن بن عوف له بعد أن خلع نفسه من أن يكون مرشحًا للخلافة ففوض له الأمر علي وعثمان وباقي الستة قد سبقوا في تفويضهم.

وكانت بيعة علي -رضي الله عنه- كذلك بعد مقتل عثمان -رضي الله عنهما- ألزمه بها كبار الصحابة؛ ليجمع الشمل ويستدرك الأمر.

واسترجع عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- لما فتح الكتاب الذي أخذت البيعة عليه مغلقًا فإذا فيه اسم عمر بن عبد العزيز؛ فاسترجع على المصيبة التي حصلت له بتحمله المسئولية الهائلة.

"
منع الاستبداد وظلم الملوك، واستعباد الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا، وتحقيق الرقابة والتقويم للسلطة التنفيذية، كلها حاصلة في النظام الإسلامي الراشد من خلال: الشورى، والنصيحة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة حدود الله وشرعه على القائد والمقود سواء بسواء
"

فالنظام السياسي الإسلامي في العهود الراشدة لم يعرف التنافس على السلطة القائم على تزكية النفس وترشيحها، وطلب الولاية المستلزم للقدح في الآخرين وبيان عيوبهم، وعقد التحالفات الحزبية على العصبيات الجاهلية والمصالح الدنيوية المحضة بعيدًا عن النصيحة للأمة بتولية الأصلح والخوف من المسئولية أمام الله -عز وجل- عن الرعية، بل العمل الإسلامي المبني على العلم والعمل لإقامة الدين وسياسة الدنيا بالدين هو الذي يفرز الكفاءات ويبزر القيادات التي يقدمها فضلها وجهدها في العمل من أجل الدين، ويزكيها غيرها على غير رغبة منها في ذلك، بل لا تقبل المسئولية إلا اضطرارًا رعاية لمصلحة الأمة، وهذه السلبية من سلبيات النظام السياسي الغربي القائم على الديمقراطية لو طبقت حقيقة فكيف إذا كانت اسمًا بلا حقيقة، ومفسدة بلا مصلحة؟!

فإن أهم مصلحة تحققها الديمقراطية: منع الاستبداد وظلم الملوك، واستعباد الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا، وتحقيق الرقابة والتقويم للسلطة التنفيذية، وهي حاصلة في النظام الإسلامي الراشد من خلال: الشورى، والنصيحة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة حدود الله وشرعه على القائد والمقود سواء بسواء، وكل هذه المصالح معدومة في الأنظمة المستبدة التي تتخذ من: الديمقراطية، والحرية، والمساواة -على ما في هذه الثلاثة من فساد ومناقضة للشرع- ستارًا لحقيقة ظلمها وفسادها وعدم قابليتها للإصلاح والرقابة من قِبَل الأمة، ولا حتى المراجعة وقبول النصح؛ ولذا كانت المشاركة في ديمقراطية "ديكورية" ولعبة سياسية مُعاونة في الحقيقة على تحسين أقبح الصور وتضليل العامة وإيهامهم بالسير على طريق الإصلاح، وهم يراوحون أماكنهم إن لم يكونوا يرجعون القهقرى؛ أمرًا غير مرضي عند أهل الحق.

ونسأل الله -تعالى- أن يغفر لنا خطايانا، وأن يدخلنا برحمته في عباده الصالحين.

www.salafvoice.com
موقع صوت السلف

تصنيفات المادة