الخميس، ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٨ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

الأقربون أولى بالنصيحة

فمن جوامع كلم النبي -صلى الله عليه وسلم- قوله: (الدِّينُ النَّصِيحَةُ)...ورغم اتفاق كل فصائل الصحوة الإسلامية على ذلك إلا أنه مثـَّل من جانب آخر أحد أهم مسائل النزاع بين السلفيين وغيرهم؛ حيث اعتبرت بعض الاتجاهات الإسلامية أي نصح موجه لها من خارج الجماعة نصحًا مبنيًا على عدم معرفة بواقع الجماعة، وأن النصح لغير قادة الجماعة تجريح لا نصح.

الأقربون أولى بالنصيحة
عبد المنعم الشحات
الأربعاء ٣٠ يونيو ٢٠١٠ - ١٢:٥١ م
5293

 

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فمن جوامع كلم النبي -صلى الله عليه وسلم- قوله: (الدِّينُ النَّصِيحَةُ)، قالوا: "لمن يا رسول الله؟"، قال: (لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ) (رواه مسلم).

وقوله: (انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا)، قالوا: "يا رسول الله، ننصره إن كان مظلومًا؛ فكيف إذا كان ظالمًا؟!"، قال: (تَحْجُزُهُ أَوْ تَمْنَعُهُ مِنْ الظُّلْمِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ نَصْرُهُ) (رواه البخاري).

وجاء في الأثر: "المسلم للمسلم كاليدين تغسل إحداهما الأخرى".

وهذه القضية نحسبها من المُسَلَّمَات عند عامة المسلمين من الناحية النظرية، بينما تجد أنها مهجورة في الجانب العملي -إلا من رحم ربي-، ويشمل ذلك طرفي القضية -أعني: الناصح، والمنصوح-.

فكثير من الناس يُثبِّط نفسه عن أداء واجب النصيحة العامة والخاصة مع قدرته عليه بأنواع من العلل، ومعظم الخلق -إلا من رحم ربي- يمتنعون عن قبول النصيحة بدعاوى مختلفة!

ويُعتبر دعوة الناس إلى خلق التناصح وقبول النصح أحد أهم مفاتيح نجاح الدعوة إلى الله، وبدونه قد تبقى الدعوة بلا ثمرة، ورغم اتفاق كل فصائل الصحوة الإسلامية على ذلك إلا أنه مثـَّل من جانب آخر أحد أهم مسائل النزاع بين السلفيين وغيرهم؛ حيث اعتبرت بعض الاتجاهات الإسلامية أي نصح موجه لها من خارج الجماعة نصحًا مبنيًا على عدم معرفة بواقع الجماعة، وأن النصح لغير قادة الجماعة تجريح لا نصح.

وهو ما رفضه عامة الدعاة والعلماء السلفيين الذين استمروا في نصحهم لفصائل الدعوة الإسلامية: كالإخوان والتبليغ، واستمروا في محاولات التقويم للتيارات الجهادية، كما قاموا بدورهم في التصدي للمدرسة العقلانية الحديثة، وكتابات وفتاوى أهل العلم -كالشيخ ابن باز والشيخ العثيمين والشيخ الألباني- معروفة مشهورة.

وأما السلفيون فكان أصل قاعدة الاتباع عندهم ملزمًا لهم بقبول النصح من حيث المبدإ، لا سيما وهم يدندنون حول هذه القضية، ويكادون يحفظون أدلتها عن ظهر قلب من الكتاب، كقوله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) (الحجرات:1)، وكقوله -تعالى- ذامًا لليهود والنصارى: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ) (التوبة:31).

وكقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ) (رواه أحمد والحاكم، وصححه الألباني).

كما أنهم يستظهرون شدة الصحابة في هذا الباب حتى قال ابن عباس -رضي الله عنهما- لمن عارض سنة متعة الحج بما ظنه نهيًا مِنْ عمرَ -رضي الله عنه-، فقال: "توشك أن تننزل عليكم حجارة من السماء؛ أقول لكم: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وتقولون: قال أبو بكر وعمر؟!".

ومن المأثورات المنقوشة على قلب كل سلفي: "كل يؤخذ من قوله ويُترك إلا صاحب هذا القبر".

ومن ثمَّ لم يلتفت السلفيون إطلاقـًا لمن يرهبهم من واجب النصيحة بادعاء أن هذا يخل بحقوق الأخوة، كما أنهم لم يرفعوا هذا السيف في وجه ناصح -حتى وإن نصح بما يرونه هم خطئًا، بل باطلاً-، وإنما كانوا يردون على كل ناصح إما بالقبول أو الرد لما قاله دون نهيه عن مبدإ النصيحة.

بل إن هذا كان هو ديدنهم في المناظرات السلفية - السلفية، وكقضية: ستر الوجه والكفين التي تناظر فيها الشيخان الألباني والتويجري عبر كتابات، وكمسألة الاستعانة بالكفار التي خالف فيها الشيخ الألباني وغيره أكثر مشايخ المملكة العربية السعودية.

الحاصل: أن المناقشات السلفية خلت تمامًا من فكرة رفض النصيحة من أساسها إلى مناقشة مضمونها، إلا أنه ظهر في الآونة الأخيرة في أوساط السلفيين مَن يبالغ في حب بعض الرموز السلفية إلى الدرجة التي يَظن أن توجيه أي نصيحة لها هو إسقاط لهيبتها أمام العامة، وبالتالي يطالب كل ناصح بالصمت، أو على الأقل يُلزمه بأن تكون النصيحة سرًا، وربما كان للشيخ المخاطَب بالنصيحة نصائح علنية لغيره مما يُظهر أتباع هذا الشيخ بالتناقض، بل ربما رمى الشيخ نفسه بهذه التهمة، حتى وإن كان هو نفسه ممن يقبل النصح من حيث المبدإ بأي وسيلة جاءه بها هذا النصح؛ مما يزيد من حدة المناقشات لا سيما في المنتديات الإسلامية التي يرتادها إخوة من اتجاهات إسلامية متنوعة.

وقد استدل هؤلاء الإخوة في الدفاع عن شيوخهم(1) بذلك الأدب الإسلامي الذي رغَّب فيه النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله: (مَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) (متفق عليه)، والذي أخذ منه علماء السلوك أن مِنْ آداب النصيحة أن تكون سرًا، وفي ذلك يقول الفضيل -رحمه الله-: "المؤمن يَستر، والفاجر يَهتك".

والآثار عن السلف في هذا الباب لا تُحصى كثرة؛ بيد أنه كان ينبغي على من فهم هذا الفهم أن يجمع بينه وبين الأدلة التي فيها النصيحة في العلن الواردة في سنة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وفي سيرة أصحابه -رضي الله عنهم-.

ومَنْ نظر في سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- وجد كل أنواع النصيحة، بل ربما وجد أن النصيحة في العلن كانت هي الأكثر وقوعًا منه -صلى الله عليه وسلم-؛ لحاجة تعليم الأمة، وإن كانت معظم نصائحه العلنية كانت على طريقة: "ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا..."، وكان اختيار طريقة النصيحة في كل واقعة بحسبها.

- فَمِنْ النصيحة في السر قوله -صلى الله عليه وسلم- لعائشة -رضي الله عنها- في حادثة الإفك: (إِنْ كُنْتِ أَلْمَمْتِ بِذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرِي اللَّهَ) (متفق عليه).

- ومِنْ النصيحة في العلن دون التصريح باسم صاحب الذنب قوله -صلى الله عليه وسلم- في غير ما موقف: (مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَفْعَلُونَ كَذَا وَكَذَا...).

- ومِنْ النصيحة في العلن ما صَرح به باسم المنكَّر عليه كما قال -صلى الله عليه وسلم-: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدٌ) (رواه البخاري)، كما في قصة بني جذيمة.

وإذا كانت الأحوال الثلاث قد وقعت من النبي -صلى الله عليه وسلم- فلابد إذن مِن علة يدور معها حكم النصيحة بين هذه الأحوال الثلاث:

فتُحمل النصيحة في السر على المعاصي التي استقر عند العامة حرمتها؛ بينما وقع فيها صاحبها جهلاً أو ضعفـًا، أو حتى ظن وقوعه فيه كما في حادثة الإفك، والتي برأ الله فيه أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- بقرآن يُتلى إلى يوم القيامة بعد أن ضرب النبي -صلى الله عليه وسلم- المثل للأمة في التزام الحق ولو على أقرب الأقربين!

وفي هذه الحالة لا يوجد حق إلا لهذا العاصي أن تنصحه، فلا يوجد معنى لنصيحته على الملإ، وتصبح النصيحة على الملإ في هذه الحالة فضيحة لا نصيحة.

وأما في حالة انتشار المنكر لا سيما ممن يُقتدى به فأصبح الحق ها هنا لمرتكب الخطإ ولمَنْ وراءه؛ فلابد ها هنا من التصريح بالإنكار؛ لتحصل الفائدة لجميع الأطراف، كما فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- في واقعة خالد -رضي الله عنه-، ولعله يكون أقرب إلى نفس المنكر عليه مِن أن تُنكِر عليه، ثم تطالبه بأن يعتذر هو عن خطئه أمام الناس؛ فلو أنك قمت بالأمرين معًا لكان حسنًا.

ويتأكد هذا في حق غير النبي -صلى الله عليه وسلم- حيث لا يدري: هل يَقبل المنصوح نُصحه أم لا؟

ولا يمكن أن يعلق الناصح نصح العامة إلى نظر المنصوح في النصيحة، ولعله يكون عنده تأويل يمنعه من قبولها كما كان الحال مع ابن عباس -رضي الله عنهما- الذي لم يرجع عن القول بإباحة نكاح المتعة إلا في آخر حياته، فهل كان المطلوب من الصحابة أن يسكتوا عنه احترامًا لعلمه ولقرابته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وإجلالاً لدعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- له: (اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ) (رواه الطبراني، وصححه الألباني)؟

الذي وقع من الصحابة -رضي الله عنهم- أنهم أنكروا على ابن عباس -رضي الله عنهما-، بل بالغ بعضهم كعبد الله بن الزبير -رضي الله عنهما- في الإنكار عليه حتى لا يستغل أصحاب الهوى هذه السقطة منه؛ فروى مسلم عنه أنه قال: "إن رجلاً أعمى الله قلبه كما أعمى بصره يفتي بالمتعة" -يعرِِّض برجل هو عبد الله بن عباس-، فناداه ابن عباس فقال له: "إنك لجلف جاف، فلعمري لقد كانت المتعة تفعل في عهد أمير المتقين" -أي رسول الله صلى الله عليه وسلم-، فقال له ابن الزبير: "فجرب نفسك، فوالله لو فعلتها لأرجمنك بأحجارك".

فكان أنْ عصم الله عامة الناس من السقوط في هذه المعصية، بل مَنَّ الله على ابن عباس -رضي الله عنهما- فرجع عنها في آخر حياته -والحمد لله رب العالمين-، وشرع الله لا يأتي إلا بكل خير.

ومِنْ ذلك أيضًا ما روي عن عائشة -رضي الله عنها- فيما رواه أبو إسحاق قال: "حدثتني امرأتي العالية، قالت: دخلت على عائشة في نسوة، فقالت: ما حاجتكن؟ فكان أول من سألها أم محبة، فقالت: يا أم المؤمنين هل تعرفين زيد بن أرقم؟ قالت: نعم، قالت: فإني بعته جارية لي بثمانمائة درهم إلى العطاء، وإنه أراد بيعها فابتعتها منه بستمائة درهم نقدًا، فأقبلت عليها غضبى، فقالت: بئسما شريت وبئسما اشتريت، أبلغي زيدًا أنه قد أبطل جهاده إلا أن يتوب، وأُفحمت صاحبتنا فلم تكلم طويلاً، ثم إنها سهل عليها فقالت: يا أم المؤمنين، أرأيت إن لم آخذ إلا رأس مالي؟ فتلت عليها: (فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ) (البقرة:275)".

ونلاحظ هنا أيضًا شدة أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- في استنكار أن يقع زيد بن أرقم -رضي الله عنه- في مثل هذا الخطإ.

- ومِنْ ذلك قول ابن عباس -رضي الله عنهما- في الإنكار على مذهب زيد -رضي الله عنه- في ميراث الجد مع الإخوة: "ألا يتقي الله زيد بن ثابت؛ يجعل ابن الابن ابنًا ولا يجعل أبا الأب أبًا؟!".

وقد يختلف الحال في شأن تأخر البعض عن أداء الواجب من البيان؛ فإنه يحتمل الصبر عليه مع النصيحة، كما في فعل عيسى مع يحيى -عليهما السلام-، فعن الحارث الأشعري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ اللَّهَ أَمَرَ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ أَنْ يَعْمَلَ بِهَا وَيَأْمُرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَعْمَلُوا بِهَا، وَإِنَّهُ كَادَ أَنْ يُبْطِئَ بِهَا، فَقَالَ عِيسَى: إِنَّ اللَّهَ أَمَرَكَ بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ لِتَعْمَلَ بِهَا وَتَأْمُرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَعْمَلُوا بِهَا فَإِمَّا أَنْ تَأْمُرَهُمْ وَإِمَّا أَنْ آمُرَهُمْ، فَقَالَ يَحْيَى: أَخْشَى إِنْ سَبَقْتَنِي بِهَا أَنْ يُخْسَفَ بِي أَوْ أُعَذَّبَ...) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).

وهذه الأحوال التي انتشر فيها المنكر، وانتشرت نسبته إلى صاحبه، فكان الإنكار عليه باسمه؛ حيث إن تعميته لا تكاد تفيد إن لم تضر، وأما إذا انتشر المنكر دون نسبته إلى فاعل معين، أو بدأ البعض في فعله مع علم الناصح بحاجة عامة الناس إلى تعلم ذلك الأمر؛ ناسب هنا أن تكون النصيحة بصيغة: "ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا..."، وكان هذا هو غالب حال النبي -صلى الله عليه وسلم- في الإنكار جمعًا بين مصلحة الإنكار، وبين مسألة الستر على المسلم.

ومِنْ هذا العرض نستنتج أن تقرير الأحكام الشرعية -فضلاً عن المواقف المصيرية من قضايا: تحكيم شرع الله، والولاء والبراء، ونحوها- مما يجب الإنكار العام فيها؛ لحق عامة الناس في ذلك، ويزداد الأمر أهمية كلما ازدادت القضية خطورة، وازداد القول انتشارًا.

وأما التصرفات الشخصية أو الآراء التي لم يعلنها أصحابها؛ فالنصيحة الخاصة أستر وأعون على قبولها.

ويتضيق الأمر على من آتاه الله علمًا إذا سُئل عن قول لغيره يدين لله بخطئه أو بطلانه لا سيما إذا كانت المسألة من الخلاف غير السائغ انتظارًا لمناصحة صاحب القول سرًا، ثم انتظارًا لما قد يراه ذلك المنصوح؛ بينما يفهم عامة الناس من ذلك الإقرار، وإذا كان عيسى -عليه السلام- يتعجل يحيى -عليه السلام- في بلاغ كان حتمًا سيبلغه، ولكنه استبطأه؛ فأنذره: إما أن يبلغ، وإما أن يبلغ هو؛ فكيف بالمخالفات الشرعية؟!

ومما ينبغي أن يُنبه عليه أنه حتى وإن نصح ناصح فأساء، وجاء إلى ذنب مستور فنشره؛ أنه لا ينبغي للمنصوح أن يُعرض عن الاستجابة للحكم الشرعي الذي يجب عليه الامتثال له بالنصيحة وبدونها، وحبذا لو استجاب ثم عاد فنصح الناصح بأن يلتزم بآداب النصيحة، ولتكن نصيحته تلك سرًا أو جهرًا بحسب ما يقتضيه الحال على التفصيل الذي بيناه.

وهنا قد يُعترض بأمور، منها:

1- أن هدي السلف هو النصيحة في السر، وقد قدمنا ما فيه.

2- ومنها: أن المصلحة الآن في ظل وجود العالمانيين أن نسكت عمن أخطأ من أهل العلم والفضل، ونكتفي بنصيحة السر وإن لم تقابل باستجابة سريعة من المنصوح!

وإذا عرضنا هذه الرؤية على هدي السلف نجد أن حرصهم على نفي كل خطإ شرعي يقع فيه أي أحد لا سيما إذا كان متبوعًا يفوق تلك الحسابات بكثير، وهذا علي -رضي الله عنه- يقاتل من بغى عليه من أهل الشام -رضي الله عنهم أجمعين-، ويقاتل الخوارج، ويقاتل السبئية الذين ادعوا له الإلهية؛ فحرقهم علي -رضي الله عنه- بالنار بدلاً من القتل بالسيف ذاهلاً عن قوله -صلى الله عليه وسلم-: (لا يُعَذِّبُ بِالنَّارِ إِلا رَبُّ النَّارِ) (رواه أبو داود، وصححه الألباني)، فأنكر عليه ابن عباس -رضي الله عنهما- في ظل كل هذه الحروب؛ فبلغ ذلك عليًا، فقال: "ويح ابن عباس باحث عن الهنات".

ونحن نوقن أن كل خطإ سواء أكان كبيرًا أو صغيرًا قد تكون له توابعه، وفي هذا المثال استثمر بعض أتباع ابن سبإ هذا الخطأ اليسير من علي -رضي الله عنه- فثبَّت به أتباعه على الكفر؛ حيث قال لهم: "ما ازددنا فيه إلا بصيرة؛ فإنه لا يعذب بالنار إلا رب النار"! مما يؤكد على أهمية إنكار أي خطإ مهما بدا في أعين البعض صغيرًا.

ثم إن وجود العالمانيين مستمر، بل إنهم هم الذين يورطون كثيرًا من الدعاة في الأخطاء؛ بالترغيب تارة، وبالترهيب تارة، ولو كان هذا المبرر كافيًا لما أٌنكر حتى على "الترابي" و"جمال البنا" وأمثالهما ممن يزعمون أنهم يُجَمِّلون الدين أمام أعدائه!

3- ومنها: اعتذار البعض عن المنصوح بقوله: "لعل ميزان المصالح والمفاسد عند المنصوح قد حتَّم عليه أن يتكلم بما تكلم، ومِن ثمَّ فحسن الظن به واجب".

والجواب: أنه لا مجال هنا للكلام على حسن الظن أو إساءته؛ اللهم إلا في وجه من يتجاوز نقد الخطإ إلى الطعن في المُخطِئ، وإن كان من المعروفين باتباع السنة في غير هذا الخطإ؛ إذ إن الإنكار ليس فيه إلا أن المنكِر يَرى الأمور على خلاف ما يراها المنكَر عليه، ويرى خللاً في تطبيقه للمصالح والمفاسد، وإلا لوافقه، وحيث تبين له خطأ المخطئ؛ فعليه أن يبينه بدليله، سواء أتى الخطأ من جهة عدم ضبط المسألة أو من جهة عدم تقدير المصلحة، وقد نصح عامة السلف الحسين -رضي الله عنه-، وبينوا له خطأه في تقدير المصلحة في الذهاب إلى الكوفة.

4- وأفحش منه ما يدعيه البعض دفاعًا عن أخطاء بعض الدعاة أنه فعل ذلك تقية، وهو مما لا يجوز في مقام الدعوة؛ لا سيما مع عدم وجود الإكراه، وإذا كان الإمام أحمد -رحمه الله- قد أنكر على علماء زمانه الذين سكتوا على "بدعة القول بخلق القرآن" تقية، فقال: "إذا سكت العالم تقية، والجاهل لا يعلم؛ فمتى يظهر الحق"؟!

فإذا كان هذا هو إنكاره على مَنْ سكت؛ فكيف بمن وافق؟! مع أن هؤلاء قد تعرضوا لما يصلح أن يكون عذرًا لآحاد الناس أن يوافقوهم على ما يقولون، ولكن العالم المُقتدى به لا يكاد يجوز له ذلك؛ لما ثبت عن السلف من ضرورة الموازنة بين الفعل المكره عليه والعقوبة المحتملة.

وإضلال الخلق الذي ينشأ من إقرار المُقتدَى به بأمر باطل أشد من إقرار آحاد الناس ليفدي نفسه، ولأنه إذا كان لا يجوز إجماعًا أن يفدي نفسه بهتك عرض غيره؛ فلا يجوز أن يفدي نفسه بإفساد دين غيره ممن سيسمع منه ما يقوله تقية، وهو لا يعلم ذلك(2).

ومَنْ جَوَّز هذا الأمر فليعذر لكل من علماء السوء في كل زمان ومكان؛ فإنه لم يفتِ أحدٌ منهم بما يخالف دينه إلا وهو يخشى على نفسه الدوائر!

وإذا قيل: "فرْق بين مَنْ يخشى على نفسه وبَين من يخشى على دعوته..."، قلنا: إن الإمام أحمد مُنع من العلم والتعلم، وتعطلت كل مظاهر دعوته.

هذا مع الأخذ في الاعتبار الفرق بين موافقة الباطل، والسكوت الذي يفهم منه الإقرار، والسكوت الذي لا يفهم منه الإقرار؛ فإن غاية ما يمكن أن يفعله الداعي أن يتلطف في عرض بعض الحق في موطن على أن يبينه في آخر.

5- على أنه إذا تغاضينا عن هذه النقطة؛ فإن من يضطر إلى النطق بالباطل تقية يكون في أمَس الحاجة إلى مَنْ يقوم نيابة عنه بتبيين الحق؛ سواء اعتذر عنه بأن قوله كان تقية -وأظن أن هذه ورطة تفقد التقية معناها-، أو أنكر القول وترك الاعتذار عن قائله متى زال عنه الإكراه لكي يبيِّن المانع الذي منعه من الجهر الحق.

6- وقد ينسب قول إلى بعض أهل الفضل بطريق الإقرار، وهو أحد الأدلة المعتبرة، كأن يقول بعض المنتسبين إليه أو مَنْ هم تحت ولايته كلامًا باطلاً، ثم ينتشر، ويعلمه القاصي والداني؛ فيطالب البعض بحسن الظن بأنه لم يعلم، ولو علم لأنكر، ومِنْ ثمَّ يجب على الناصح أن يُعلم المنصوح سرًا أولاً؛ ليتولى هو بنفسه تصحيح الخطإ، ويخرج من عهدة الإقرار المنسوب إليه.

ونحن نَنصح في هذا الباب ألا يُرهق الناصح نفسه في استعمال قاعدة الإقرار لنسبة قول لساكت، أو لاستنباط موقف بطريقة اللوازم، ويكتفي ببيان الحق ونصيحة الساكت أن يُنكر، والواقع في المنكر أن يرجع، وينبغي أن يكون هَمّ الدعاة إلى الله إزالة المنكر وإنكاره، دون التوقف كثيرًا عند من يتم على يديه ذلك الأمر، واستصحاب حسن الظن مطلوب ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً.

وإذا استصحبنا أن أي فكرة تُطرح لا تؤمَن أن يتأثر بعض الناس بها بصورة أو بأخرى، مما يوجِب على كل الدعاة أن ينكروا المنكر إذا أُعلِن على الناس، وأن مخاطَبة مَنْ له على المنكَر عليه نوعُ ولاية هي إحدى وسائل إنكار هذا المنكر، ولكنها لا تغني عن البيان، لا سيما في القضايا المتعلقة بالشبهات، وأما قضايا الشهوات فربما يسع فيها أن يتولاها أولى الناس بها فحسب.

7- وقد يعترض البعض أن تكرار التبرؤ مما يخالف منهج السلف من قِبَل بعض الدعاة يكفي لحسن الظن في كل خطإ جزئي، وكما قدمنا أن القيام بواجب النصيحة لا يلزم منه سوء الظن، وأن الالتزام الإجمالي بمنهج السلف أمر حَسن يُحمد عليه صاحبه، ولكنه لا يُغني عن البيان التفصيلي للحق؛ وإلا كان كما استنكر ابن القيم -رحمه الله- على من سُئل عن مسألة ميراث، فقال: "تقسم على ما جاء في كتاب الله وسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-"؛ بأنه لم ينفع السائل في هذه المسألة الجزئية بشيء، ولا شك أن دعوة الناس إلى الالتزام بالكتاب والسنة أمر حسن، ولكن لابد من تطبيق هذا تفصيليًا عند كل حكم يحتاجه المكلف.

وإذا كانت إحالة العامي إلى الكتاب والسنة دون بيان الحكم والدليل في المسألة المسئول عنها يصيبه بالحيرة مما يضطره إلى سؤال آخر؛ فإن قول المرء في تصحيح خطإ وقع فيه أو وقع فيه غيره أن كل ما يخالف الكتاب والسنة يرجع عنه أو ينكره لم ينفع العامي بشيء، وربما ذهل عن الخطإ المومئ إليه، وربما حمل الكلام على بعض الحق الذي في الكلام فلا يجزئ في هذه الأحوال إلا التبيين التام؛ (إِلا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (البقرة:160).

8- وأما الاعتراض بأنه الأولى أن توجه الجهود إلى نقد البَعِيدين عن منهج السلف؛ فإنه منطق معكوس؛ فطالما كان الأمر خطئًا كان إنكاره واجبًا، وقد تقدم فعل ابن عباس مع علي -رضي الله عنهم-.

بل إن تدارك الأخطاء داخل الصف السلفي قبل استفحالها قد يكون أولى من الإنكار على المخالِفين، وكلٌّ واجب؛ حيث إن الأول من جنس الحفاظ على رأس المال، والثاني من جنس طلب الربح، والحفاظ على رأس المال السلفي مطلب لابد أن تتحد عليه جهود الدعاة إلى السنة في كل مكان، وهذا مما يصح أن يقال فيه: "الأقربون أولى بالمعروف".

ثم إن النتائج المترتبة على غض الطرف عن الأخطاء التي تحدث في الصف السلفي شديدة الخطورة، منها:

أ- أنه لا يُؤمَن مع عدم الإنكار اقتناع الكثيرين بها؛ فيتميع الصف السلفي، والعاقل من اتعظ بغيره، وكم من الاتجاهات الإسلامية يقبلون اليوم ما كانوا ينكرونه بالأمس لا لحجة من كتاب أو سنة؛ وإنما لتراكم الفتاوى التي يُسكَّن بها الغير فلا يسكن، بل تزداد شهيته للمزيد، ويُضلَّل بها مَنْ لم يسمع إلا إياها من حديثي الالتزام.

ب- إن هذا المسلك المشرب بالمحاباة يمثل فتنة لسائر الإسلاميين عن اتباع المنهج السلفي، وربما كان فتنة للبعض عن التعاون مع الحركة الإسلامية ككل.

ج- إن هذا المسلك ينمي مرض الحزبية، وهو الداء العضال الذي اضطر البعض بسببه إلى الفتوى بمنع التعاون على البر والتقوى المأمور به شرعًا، والذي يطلق عليه: "العمل الجماعي".

ومعالجة داء الحزبية والعصبية إنما يكون في تنمية روح الاتباع، وتكريس قاعدة: "كل يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-" واقعًا عمليًا، ورفع شعار: "شيخ الإسلام حبيب إلينا، والحق أحب إلينا منه" مع كل حبيب إلى القلب.

وأخيرًا: فلن نطالب إخواننا الذين يتبنون أن النصيحة لا تكون إلا سرًا أن يلتزموا معنا بما ألزموا به أنفسهم فلا ينصحونا إلا سرًا، ولكن لينصحوا ما شاءوا سرًا وجهرًا طالما كان بالأدلة الشرعية من: الكتاب والسنة، ونسأل الله أن نكون ممن يرجع تفصيليًا عن أي خطإ وقع فيه، ولكننا فقط نطالبهم بما ألزموا به أنفسهم من حسن الظن بالمسلمين والدعاة.

ونشهد الله -تعالى- أننا ما أردنا بذلك إلا النصح لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، وأننا نجمع بين النصيحة في السر والعلن بحسب ما ندين لله به من هذه الضوابط التي بيناها، بل فوق هذا أنه ما من قضية نطرحها على الملإ وإلا ولنا فيها مع صاحبها مناصحة مباشرة، أو يكون قد ثبت لدينا بالسند الصحيح المتصل مناصحة غيرنا من أهل العلم له؛ بيد أن ذكر تفاصيل مثل ذلك مما تضر ولا تنفع، لا سيما وأن النصيحة واجب شرعي، وحق مِنْ حقوق الأخوة، وحق من حقوق العامة على الدعاة، لا يحتاج من يقوم به إلى أن يقدم عنه اعتذارًا!

والله من وراء القصد، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) قصرنا الكلام هنا على أتباع المشايخ؛ لأننا لم نجد -بفضل الله تعالى- من الشيوخ السلفيين الذين وجه لهم نقد في الآونة الأخيرة من اشترط على ناصحه أن ينصحه سرًا، وإن كان هناك من اشترط أن تكون النصيحة مهذبة بناءة، وهي شروط معتبرة بلا شك، وكما ذكرنا أن دفاع بعض المحبين قد يضر حينما ينسب البعض للشيوخ أنهم أعطوا لأنفسهم حصانة من النقد لم يعطوا مثلها لخصومهم من الدعاة الجدد وغير الجدد؛ فضلاً عن العالمانيين وغيرهم ممن قد يطالبونا بأن نطيع الله فيهم وننصحهم سرًا كما اشترطنا لأنفسنا.

(2) يتأول البعض أخطاء بعض الدعاة على أنها تقية، ثم يضيف إلى ذلك أن الكل يعلم هذا فلا حاجة هنا للإنكار! ولا ندري من أين يمكن للإنسان أن يعرف أن كل سامع بقوله يعرف أنه قال ما قال تقية؟!

وأعجب من ذلك أن يقال ذلك في حق أخطاء دعاة يتمتعون بدرجة قبول عالية عند العامة، وعند كلامهم إلى العامة لا يتضمن كلامهم أي إشارة إلى هذا الاضطرار!

ونكرر... إننا في هذا السياق نصحح بعض الأخطاء التي يقع فيها إخواننا دفاعًا عن مشايخهم، مع التأكيد على أنه لم يقل أحد مِنْ هؤلاء الدعاة بذلك -بحمد الله-.