الجمعة، ٢٠ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٩ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

استعينوا بالله واصبروا (1-2)

فقد قضى الله -عز وجل- بعدله وحكمته أن جعل الأيام بين الناس دولاً (وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ)

استعينوا بالله واصبروا (1-2)
ياسر برهامي
الجمعة ٢٧ أغسطس ٢٠١٠ - ١٥:٤٢ م
3129

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،

فقد قضى الله -عز وجل- بعدله وحكمته أن جعل الأيام بين الناس دولاً (وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ) (آل عمران:140- 141).

فجعل الله -عز وجل- الأيام يتناوب الناس فيها اليسر والعسر، والعز والذل، والتمكين والاستضعاف، وقدر الله -سبحانه وتعالى- لأنبيائه ورسله -وهم صفوته من خلقه- وقدر أيضاً على أوليائه أن تمر عليهم فترات من المحن والشدائد، وأن تمر عليهم فترات يُستضعفون فيها في الأرض، وأن يكونوا قلة أذلة (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآَوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)(الأنفال:26).

قدر الله -عز وجل- مع كونه لا يحب الظالمين ولا يحب الكافرين، وإنما سلطهم مدة وجيزة من الزمن على عباده المؤمنين ليستخرج من عبده المؤمن أنواعاً من العبودية يحبها، ولا يمكن أن توجد هذه الأنواع لو أنه هدى الناس جميعاً، وهو -عز وجل- لو شاء لهدى الناس جميعاً، وأمره -سبحانه وتعالى- لا يحتاج إلى تكرار وتثنية (وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) (القمر:50).

يقع ما أمر -سبحانه وتعالى-، وهو -عز وجل- لا يعجزه أن يجعل الناس أمة واحدة على الإيمان، حتى أعدى أعداء الدين هو قادر -عز وجل- أن يقلب قلوبهم على الهدى، ولو شاء لجعل الناس أمة واحدة، لكنه قدر ذلك للحكم البالغة، حكمة بالغة له الحمد -سبحانه وتعالى- عليها، لذلك عندما يجد المؤمن المسلمين يصابون بأنواع المصائب والمحن، ويضطهدون بأنواع الاضطهاد، ويجد الفساد ينتشر في مشارق الأرض ومغاربها، ويرى البلاء والمحن، ويرى أنواع الشدائد يحمد الله -سبحانه وتعالى-.

ولابد أن يقع في قلبه معانٍ إيمانية ضرورية لكي يستفيد من هذه المرحلة التي قدرها الله -عز وجل- في الحقيقة ليظهر فيه الخير، ليخرج -سبحانه وتعالى- من قلوب أوليائه ما يحب من الاستعانة به والصبر على طاعته -سبحانه وتعالى-، وعلى ما يصيب الإنسان بسبب مخالفته لأهل الفساد والكفر والنفاق.

وكذلك ليوقن المؤمن بوعد الله -سبحانه وتعالى-، ويستحضر أن الله الذي أعطى، وأن الله الذي مَنَّ، وأن الله الذي آوى، لأنه سوف تأتي عليهم فترات يكونون هم ملوك الدنيا فوق الخلق يتحكمون فيهم فيما يبدو لهم، فهل يكونون في ذلك كملوك الدنيا وأهل الدنيا؟! يتحكمون فيهم لأنفسهم ولهواهم ويقولون صنعنا وانتصرنا وغلبنا وقهرنا و(إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي) (القصص: 78)، (هَذَا لِي)(فصلت:50)، ونحو ذلك مما قصَّ الله علينا من كلام الكفرة والفسقة والفاجرين؟ أم يعلمون أن الله -سبحانه- الذي أورثهم الأرض بمشيئته -سبحانه وتعالى- لا بقدرتهم ولا بتخبطهم ولا بأعدادهم.

هناك معان إيمانية لابد أن يستحضرها المؤمن عندما يمر بظروف تشبه الظروف التي مر بها أنبياء الله -سبحانه وتعالى- من قبل:

أول هذه المعاني أن يشهد المؤمن قضاء الله -عز وجل- وقدرته، وحكمته وعدله -سبحانه وتعالى-، ويشهد أن الأمور كلها  بقضاء(إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) (القمر:49)، ذلك من أعظم ثمرات الإيمان، وأن يشهد خلق الله -عز وجل- لأفعال العباد، وأنه هو -سبحانه وتعالى- الذي جعلهم كذلك، ليستحضر ملك الله وليستحضر عزته وقهره -عز وجل-.

انظر وتأمل في قول موسى -صلى الله عليه وسلم- وهو يدعو ربه -عز وجل-: (رَبَّنَا إِنَّكَ آَتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ) (يونس:88).

وموسى -عليه الصلاة والسلام- لم يستحضر في هذه اللحظة أن فرعون عنده ما عنده من المال والجنود والملك والسلطان، لم يستحضر هذا المعنى، وإنما استحضر أن الله آتاه فقال: (رَبَّنَا إِنَّكَ آَتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ)، لم يستحضر إلا أن فرعون آلة لنفوذ قضاء الله وقدره، وهذا والله من أعظم الأمور أهمية، حين يرى العبد أن من يواجههم من الكفرة والظالمين أعداء الإسلام أضعف وأذل من أن يرجوهم أو يخالفهم أو أن يظن أن الأمور بأيديهم، لماذا يسير الناس في ركب الظالمين؟ ولماذا يداهنون الكافرين؟ لماذا يوالونهم؟

ذكر الله -عز وجل- عن المنافقين ذلك بأنهم يخشون أن تكون الدولة والغلبة لهم، يخشون أن تكون هناك مرحلة أخرى، فهم يعدون العدة لذلك، وحينما يكون الأمر بالفعل للكفرة والظلمة فإن أكثر الناس تبعاً لهم، لأنهم استحضروا أن الملك لهؤلاء كما قال الله -عز وجل- عن المنافقين (بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) (النساء:138).

انظر... فضحهم الله -عز وجل- وبيّن حقيقة ما في قلوبهم، يتولون الذين كفروا لأنهم يبتغون عندهم العزة، يعاونون على الفساد لأنهم يريدون من المفسد مكانة ومنزلة، لو استحضروا أن المُلْكَ لله، وأن الله الذي آتى فرعون وملأه زينة وأموالاً في الحياة الدنيا، وأنه -سبحانه- الذي قدر أن يوجد من يضل عن سبيله، وفى قدرته أن يمحوهم في لحظة، وفي قدرته -سبحانه وتعالى- أن يزيلهم من على وجه الأرض، ومع ذلك قدر ربنا أن يضلوا عن سبيله.

ولماذا قدر الله ذلك؟! لأن هناك قلوباً خبيثة، وهناك ما يشبه المغناطيس يجذبها له، كما قال -عز وجل-: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) (الأنفال:36-37).

انظر، الكفار ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله، وذلك يكون عليهم بعد ذلك (فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ)يتحسرون لماذا؟! لأنهم لا يجدون ثمرة لما يفعلون، يجدون عكس ما يريدون من صد الناس عن سبيل الله، وفى نهاية الأمر (ثُمَّ يُغْلَبُونَ) وتأمل ذكر (ثُمَّ) في هذا الموضع، وهى للتراخي، لكي تطمئن، لكي يسكن قلبك، لأن الأمور كلها بمقادير، وأن لها موعداً محدداً، ولا تقل: لماذا لم يأخذهم الله الآن؟ لماذا تركهم يفسدون في الأرض ثم يغلبون؟ ثم سوف يأتي ذلك الزمان.

ولذلك قال الله -عز وجل- لنبيه: (وَلاَ تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ) (الأحقاف:35)، فإياك أن تستعجل، واعلم أن كل شيء بحكمة وبقدر من الله -عز وجل- الملك المليك المقتدر فهو -عز وجل- الذي آتى فرعون وأمثاله في كل زمان هذه القوة والزينة.

وقال -عز وجل-: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ . وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآَخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ)(الأنعام:112-113).

تأمل والله هذه الكنوز القرآنية، تأمل أن الله الذي جعل، هذا أول ما ينبغي أن تلحظه: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا)، لم يقل كذلك كان لكل نبي وإنما قال: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا)، الله الذي خلق في قلوبهم ذلك كما قال -تعالى-: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ)، وبدأ بشياطين الإنس أكثر (يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ) يشير بعضهم على بعض، ويأمر بعضهم على بعض، وينصح بعضهم على الفساد والكفر والنفاق (زُخْرُفَ الْقَوْلِ) أي القول المزخرف الذي يحسبه سامعه حقاً وهو باطل، وأكثر الناس ليس عندهم من التمييز والقدرة على معرفة النافع من الضار (غُرُورًا) أي ليغروهم به.

(وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ) استحضر هذا جيداً، كل الأمور بمشيئته -سبحانه-، (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ)، ثم إذا تم ذلك بإذنه وبحكمته وقع ما أراد -سبحانه وتعالى-، وهو الذي قدر -عز وجل- وجود الأعداء وكيد الأعداء، وكل ذلك لهوانهم عليه، ولذلك قال لنبيه -عليه الصلاة والسلام- (فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ) وهذا نوع من الاحتقار، لا تعبأ بهم، لا تقلق، لا تضطرب من ذلك، والخطاب في حقيقة الأمر لكل مؤمن كما قال: (لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادْ) (آل عمران:196).

هم أهون على الله -سبحانه وتعالى- من أن يجعل لهم منزلة وقدراً، لو كانت الدنيا بأسرها تساوى عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء، لو أن الدنيا بأسرها كانت تساوى عند الله شيئاً ما مد عمر إبليس ليطول عمره في الدنيا منذ خلق الله آدم وأمر ملائكته بالسجود وأبى إبليس، -مخلوق قبل آدم- إلى قيام الساعة عمر إبليس، سألها إبليس فأعطاها له.

انظر لتعرف هذه الدنيا، ما أشد تفاهتها وحقارتها فإن الله أعطاها لعدوه إبليس اللعين حين سألها، لأنها أتفه ما يكون، لذلك استحضر أن ذلك بمشيئة الله -سبحانه وتعالى-: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ) (الأنعام:112)، هم يكيدون كيداً والله -عز وجل- يكيد كيداً (فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا) (الطارق:17)، وكذلك قال -سبحانه-: (فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ) (القلم:40)، يمد لهم -عز وجل- ولكنهم مربوطون فيما أراد -عز وجل- أن يكونوا فيها (وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) لمتانة كيده -عز وجل- أملي لهم، وفتح عليهم أبواب كل شيء، قال -سبحانه وتعالى-: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ . فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ . فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ . فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الأنعام:42-45).

قال الله -سبحانه وتعالى-: (وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ) أي إلى الزخرف من القول الغرور (أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآَخِرَةِ) من حكمته -سبحانه وتعالى- أنه جعل قلوباً تميل إلى هذا الباطل وتقبله وتحبه وترضاه، وتعين عليه وتدعو له وتسعى إلى نشره في الأرض، وهذا باطل وأمر قبيح، ولكن كثيراً جداً من النفوس تميل إليه بسبب ماذا؟ بسبب انعدام الإيمان (وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآَخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ) (الأنعام: 113)، ليكسبوا ما هم مكتسبون، لتكون نهايتهم ولتكون عاقبتهم كما كان عاقبة من قبلهم.

كذلك إذا استحضر أن الله الذي يجعل هذا في النهاية لا شيء، يجعله مطموساً عليه، لا يثمر الثمرة التي رجاها أصحابه منه، هان علينا أمرهم، ولذا دعا موسى -عليه السلام- ربه أن يطمس على أموال آل فرعون، قال: (رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ) (يونس:88)، ومضى زمن، بعض أهل العلم من أهل التفسير يقول: "بين الدعوة وبين الإجابة أربعون سنة"، الله أعلم كم كان؟! ولكن الدعوة أجيبت، ولكن لا يعني ذلك أن تجاب في نفس اللحظة، الدعوة المجابة يمكن أن تبقى مدة لا يرى الناس إجابتها في الواقع إلى أن يأذن الله -سبحانه وتعالى-، لأن كل شيء بمقدار (قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلاَ تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ) (يونس:89).

كذلك الاستقامة على أمر الله من أعظم ما يعين على الثبات على دين الله، وعدم متابعة سبيل الذين لا يعلمون، عدم متابعة الكفرة والظلمة والمنافقين والفسقة، فكل هؤلاء لا يعلمون، وبالأولى أنك لا تكون من الذين لا يعلمون، إذا كنت قد نهيت عن اتباع سبيلهم فمن باب أولى ألا تكون منهم، فذلك العلم من أعظم ما يعين على الثبات على دين الله -سبحانه وتعالى-، أن تكون على علم، لأنك إذا علمت الحق وأيقنت بوعد الله -سبحانه وتعالى- فإنك لن تعبأ بما تراه من مقدمات وبدايات.

هذا هو الدرس الأول والفائدة الأولى، أن تستحضر أن الأمور بمقادير، شهود قضاء الله -عز وجل- وقدره، وأن الملك لله -سبحانه-، وأنه يفعل ما يشاء، وأن الأمور بيده (هُوَ الَّذِي جَعَلَ) تكرر هذا في القرآن كثيراً، قال -تعالى-: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا) (الفرقان:31)، الله -عز وجل- جعل المجرمين يدبرون الإضلال، ومع ذلك فكفى بالله هادياً، والمؤمنون لا يجدون أي سبيل للنصرة من الناس في الأرض، والله كفى به نصيراً (وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا).

كما أنه -سبحانه وتعالى- الذي يجعل أئمة الهدى، فأنت إذا نظرت إلى منة الله -عز وجل- عليك أن جعلك مؤمناً مسلماً وترجو أن تكون محسناً في ظروف وفى أحوال أكثر أهل الأرض قد ضلوا عن سبيل الله، فذلك منة من الله -سبحانه وتعالى- عليك، هو الذي جعلك كذلك، فاشهد منته وفضله العظيم.

والله إنه لفضل عظيم أن يصطفيك الله -سبحانه وتعالى- لدينه وسط هذا الركام الهائل، وسط هذه الضلالات والمنكرات والمفاسد، يجعلك ملتزماً بطاعته اختارك الله من بين ملايين البشر لتكون مسلماً، وقد جعل غيرك يعبدون البقر، ويعبدون الشياطين، ويعبدون الأوثان، ويعبدون البشر، وينسبون إلى الله الصاحبة والولد، ويفعلون ويفعلون، انظر إلى ما اجتباك الله به: (هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ) (الحج:78).

منة من الله أن سماك مسلماً قبل أن تولد، وكتبك في اللوح المحفوظ مؤمناً مسلماً متابعاً لنبيه-عليه الصلاة والسلام- قبل أن يصدر منك شيء، وقبل أن توجد في الأرض بمن فيها، فإن الله كتب في الذكر كل شيء، وكتب مقادير الخلائق قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، فإذا نظرت إلى هذا رأيت منة الله عليك.

وإذا كنت ممن رفع الله همته أكثر فجعله يعمل من أجل الإسلام فهذا والله لهو الشرف فإذا كنت تعمل بالإسلام فذلك شرف لك، وإذا كنت ملتزماً بالدين في وسط الكفرة والمنافقين في الملايين بل آلاف الملايين من البشر، أنت واحد في فئة غير ملتزمة، فإذا أضفت إلى ذلك -وهى في الحقيقة من ضمن العمل  بالإسلام- أن تعمل من أجل إعلاء كلمة الله وتدعو إليه وتسعى لتكون كلمة الله هي العليا فهذا شرف وكرم من الله -تعالى- عليك أعظم.

www.salafvoice.com
موقع صوت السلف

تصنيفات المادة