الجمعة، ٢٠ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٩ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

اصْبِرُوا وَصَابِرُوا (خطبة مقترحة)

اصْبِرُوا وَصَابِرُوا (خطبة مقترحة)
سعيد محمود
الأربعاء ٢٩ يونيو ٢٠١١ - ١٥:٠٦ م
2588
اصْبِرُوا وَصَابِرُوا (خطبة مقترحة)

28-رجب-1432هـ   29-يونيو-2011     

كتبه/ سعيد محمود

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

الغرض من الخطبة:

بيان أن الصبر عند الشدائد والفتن يكون بعده النصر والفرج، وليس كما يظن كثير من المتعجلين وإن كان بدافع الغيرة على الدين، لكن من غير بصيرة واستبصار للسنن الشرعية والكونية، قال الله -تعالى-: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي(يوسف:108).

فالدعوة إلى الله، والعمل لنصرة دينه بغير بصيرة يضر أكثر مما ينفع، والواقع مِن حولنا على مر التاريخ يشهد بذلك، فكم من دعوات جَلبت على الدعوة الإسلامية المفاسد الكثيرة، بسبب الغيرة والحماسة الخالية من البصيرة.. ومِن أبرز ذلك: اعتبار كثير من هؤلاء عبادة الصبر عند الفتن مِن الذل والتخاذل! على رغم أنها كانت من أبرز العبادات أثناء المرحلة المكية.

- كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يمر بأصحابه وهم يعذبون في أنحاء مكة، يقول لهم: (صَبْرًا يَا آلَ يَاسِرٍ؛ فَإِنَّ مَوْعِدَكُمُ الْجَنَّةُ)(رواه الحاكم، وقال الألباني: حسن صحيح)، ويقول لمن تعجل: (وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لا يَخَافُ إِلا اللَّهَ أَوْ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ(رواه البخاري).

1- تمهيد للكلام عن الصبر:

اختبر الله -عز وجل- عباده بأنواع ثلاثة من الابتلاء:

النوع الأول: هو التكاليف الشرعية (الأمر والنهي)، هل يطيع ربه فيما أمر، وينتهي عما نهى عنه وزجر؟

النوع الثاني: الأمور الخيرية، هل يؤمن بالغيب الذي أخبر الله -عز وجل- به، مما لم يقع تحت حواسه؟

النوع الثالث: هو القضاء والقدر، هل يسلم العبد لقضاء الله وقدره، ويرضى بما قدره عليه، مما يشق على النفوس، مع سعيه في الأسباب المشروعة ليكون دائمًا على طريق الحق والهدى(1)؟

2- الابتلاء بالشدائد والفتن امتحان لابد منه:

- سنة الله في الناس ليظهر الصادق من الكاذب: (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً(الكهف:7)، وقال الله -تعالى-: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ(العنكبوت:2).

- ولن ينال أهل الإيمان المكانة العالية في الآخرة إلا بعد الامتحان في الدنيا، قال الله -تعالى-: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ(آل عمران:142).

- وسنة الله أن حملة الدين هم أكثر الناس ابتلاء بالشدائد، قال الله -تعالى-: (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ(الأنعام:34)(2).

- حملة الدين أشد الناس حاجة إلى الصبر: (يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ(لقمان:17)(3).

3- فضل الصبر والصابرين:

- الصبر على الشدائد عاقبته الجزاء الأوفر، قال الله -تعالى-: (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ . الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ . أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ(البقرة:155-156).

- وفاز الصابرون بمعية الله، قال الله -تعالى-: (وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ(الأنفال:46).

- وجعل -سبحانه- الإمامة في الدين منوطة بالصبر واليقين، قال الله -تعالى-: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ(السجدة:24).

- وعلق الفلاح بالصبر والتقوى، فقال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(آل عمران:200).

- وجعل الصبر والتقوى من أعظم ما يواجه به مكر الأعداء، قال الله -تعالى-: (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا(آل عمران:120).

- فالصبر عاقبته خير للعبد في الدنيا والآخرة، قال الله -تعالى-: (وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ(النحل:126)، وقال الله -تعالى-: (إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ(المؤمنون:111)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنْ الصَّبْرِ(متفق عليه).

4- صور من صبر الأنبياء والصالحين:

- صبر نبي الله نوح -عليه السلام- على تكذيب قومه، قال الله -تعالى-: (فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلا خَمْسِينَ عَامًا(العنكبوت:14)، وقال عنه: (قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَارًا . فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلا فِرَارًا . وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا(نوح:5-7).

- صبر نبي الله يوسف -عليه السلام- على المحن، ولا سيما بعد لقاء إخوته، عظيم صبره وحلمه.

- صبر نبي الله موسى -عليه السلام- على ظلم الفرعون، ووصية قومه بذلك: (قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ(الأعراف:128).

- صبر نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- طوال الفترة المكية، ثم ما كان من صبره على كثير من المحن والشدائد في الفترة المدنية، والقرآن ينزل يأمره بالصبر: (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ)، وقال: (وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلاً(المزمل:10)، وقال: (مَا يُقَالُ لَكَ إِلا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ(فصلت:43)"يرجع الخطيب إلى المرحلة المكية، ولا سيما مرحلة الإيذاء والاضطهاد".

- محاولات الاعتداء، بل والقتل للنبي -صلى الله عليه وسلم-، وقتل بعضه أصحابه فضلاً عن الإيذاء.

- قال عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: "كَانَ أَوَّلَ مَنْ أَظْهَرَ إِسْلاَمَهُ سَبْعَةٌ: رَسُولُ اللهِ -صَلَّى الله عَليْهِ وسَلَّمَ-، وَأَبُو بَكْرٍ، وَعَمَّارٌ، وَأُمُّهُ سُمَيَّةُ، وَصُهَيْبٌ، وَبِلاَلٌ، وَالْمِقْدَادُ، فَأَمَّا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى الله عَليْهِ وسَلَّمَ- فَمَنَعَهُ اللَّهُ بِعَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ، وَأَمَّا أَبُو بَكْرٍ فَمَنَعَهُ اللَّهُ بِقَوْمِهِ، وَأَمَّا سَائِرُهُمْ فَأَخَذَهُمُ الْمُشْرِكُونَ، وَأَلْبَسُوهُمْ أَدْرَاعَ الْحَدِيدِ، وَصَهَرُوهُمْ فِي الشَّمْسِ، فَمَا مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ وَقَدْ وَاتَاهُمْ عَلَى مَا أَرَادُوا، إِلاَّ بِلاَلاً، فَإِنَّهُ هَانَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ فِي اللهِ، وَهَانَ عَلَى قَوْمِهِ، فَأَخَذُوهُ فَأَعْطَوْهُ الْوِلْدَانَ، فَجَعَلُوا يَطُوفُونَ بِهِ فِي شِعَابِ مَكَّةَ، وَهُوَ يَقُولُ: أَحَدٌ أَحَدٌ" (رواه أحمد وابن ماجه، وحسنه الألباني).

5- أسباب معينة على الصبر:

1- تدبر ما سبق من الآيات والأحاديث في فضل الصبر، ولا سيما الداعين إليه عند اشتداد الأذى.

2- دراسة سير الأنبياء والمرسلين؛ لا سيما الفترة المكية في حياة النبي محمد -صلى الله عليه وسلم-.

3- العلم بأن القدر سبق بذلك، وأن كل شيء قدَّره الله له فيه حكمة، فهو العليم الحكيم، قال الله -تعالى-: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) ثم قال: (لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ.. (الحديد:22-23).

4- أن يعلم العبد أن عواقب الأمور تتشابه في الغيوب، فرب محبوب في مكروه، ومكروه في محبوب، قال الله -تعالى-: (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ(البقرة:216).

5- من ذلك أن المصائب تفتح على العبد أبوابًا مِن العبادات: كالدعاء، والإنابة، كما قال الله -تعالى-: (وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ(الروم:33).

6- أن يعلم أن العاقبة والنصر للمؤمنين، ولكنها مراحل يقدرها الله لحكم كثيرة، قال الله -تعالى-: (وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ . وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ(آل عمران:141-141).

وقال الله -تعالى-: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)(النور:55).

وقال الله -تعالى-: (اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ(الأعراف:128)، وقال الله -تعالى-: (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ . وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ(القصص:5-6)، وقال الله -تعالى-: (لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ . مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ(آل عمران:196-197).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) يقوم الخطيب بالتنبيه على أن هذا النوع الأخير هو مقصود الحديث أكثر من سابقيه.

(2) يحسن للخطيب أن ينبِّه على هذه المعاني كمقدمة للدخول على فضل الصبر، وهي: الصبر ضروري لكل إنسان؛ لأنه بدونه لا يبلغ مراده، وهذا مطرد في جميع أمور الحياة، فالطالب يصبر على المذاكرة ويكف نفسه عن لذة الراحة لينجح في الامتحان، والتاجر ونحوه، وهكذا ما يقال في الأفراد يقال عن الأمم.

(3) فالداعي يجاهد في ميدانين: الأول: ميدان نفسه، يجاهدها بالصبر على الطاعات وترك المعاصي، والثاني: خارج نفسه، وهو صبره على البلاء والمحن والشدائد، والأذى.

www.anasalafy.com

موقع أنا السلفي

تصنيفات المادة