الجمعة، ٢٠ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٩ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

تأملات حول قوله -تعالى-: (عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ)

فالنفس الإنسانية عميقة لا يبلغ صاحبها غورها؛ إذ فيها دوافع وإرادات، ورغبات وشهوات لا يعلمها إلا الله -سبحانه وتعالى-. فنحن نعرف أنه كان ...

تأملات حول قوله -تعالى-: (عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ)
ياسر برهامي
الأحد ٠٧ أغسطس ٢٠١١ - ٠١:٠٥ ص
2401
تأملات حول قوله -تعالى-: (عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ)

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فالنفس الإنسانية عميقة لا يبلغ صاحبها غورها؛ إذ فيها دوافع وإرادات، ورغبات وشهوات لا يعلمها إلا الله -سبحانه وتعالى-.

فنحن نعرف أنه كان هناك بُناة للأهرامات، ولكن ما الذي حدث أثناء ذلك تفصيلاً؟ وما الذي حدث في خلجات كل إنسان منهم؟ وما الذي كانت تحدثهم به أنفسهم وهم يعملون هذه الأعمال؟!

ما الذي يحدث في نفس كل طفل فيجعله يبكي ويضحك والناس لا يعرفون، ولا أحد يعرف؟!

دوران الإلكترونات حول الذرة -سبحان الله-.. وإذا ما راقبتها رأيتها تدور في نفس الاتجاه الذي يسبح به كل شيء في الكون.. مثلما يطوف المسلمون حول الكعبة؛ وهو نفس اتجاه دوران الأرض والكواكب حول الشمس؛ فيظهر لنا جليًّا أن خالق الكون واحد.

قال الله -تعالى-: (عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ) (الرعد:9)، (عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) (الأنعام:73)، (قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) (سبأ:3)، (قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) (الزمر:46)، (عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ) (الحشر:22)، (يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ) (سبأ:2).

فالله -عز وجل- استوى في علمه ما أسر العبد وما أظهر، علِمَ ما كان وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون. كيف لا وهو الذي خلق وقدَّر؟ ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير؟!

السر وأخفى:

قال الله -عز وجل-: (يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى) (طه:7)، فالله -سبحانه وتعالى- يعلم ما أسر العبد وما أظهر، عالم الغيب والشهادة.

والأخفى من السر: هو الذي لا يحيط الإنسان به علمًا، فالسر هو: ما كتمه الإنسان في نفسه، (وَأَخْفَى) أي: الأشياء من نفس الإنسان، تخفى عليه ولا يطلع عليها، فالنفس الإنسانية عميقة لا يبلغ صاحبها غورها، ففيها دوافع وإرادات، ورغبات وشهوات لا يعلمها إلا الله -سبحانه وتعالى-، فالله -عز وجل- (يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى)، والسر هو: ما كان بين اثنين، وأحيانًا يطلق السر على ما كان في نفس الإنسان، فقد يُسِرُّ في نفسه أشياءً، كما قال الله -عز وجل-: (فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ) (يوسف:77)، أما ما هو أخفى من السر فهو: ما في أغوار النفس الإنسانية مما لا يعلمه الإنسان عن نفسه.

فإذا ما جئنا إلى دوافع العمل؛ وجدناها تحتاج إلى تفكير وتذكر من الإنسان؛ لكي يعلم لماذا فعل تلك الفعلة، فنفسه ربما تخفى عليه دوافعها؛ فيجهل لماذا فعل تلك الفعلة؟! ولربما ظن أنه فعلها من أجل كذا.. إلا أنه في الحقيقة يبتغي شيئًا آخر!

ولنأخذ الرياء مثالاً، فلربما تخدع النفس صاحبها وتبين له أنه يريد وجه الله، وهو في الحقيقة طالب لمدح الناس أو الرياسة، فهذه كلها دوافع خفية، ومع بعض من التحليل والتفكير والتذكر والدربة والخبرة؛ لربما أمكن دراسة هذه الدوافع والبحث عنها، ولكن يظل جزءًا كبيرًا جدًّا من الإنسان خفيًا.

(عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ):

إن ما غاب عن العباد أعظم بكثير مما شاهدوه وعلموه، وعندما يتفكر الإنسان في مسألة الكليات والجزئيات التي كان منبع التفكير فيها من كلام الفلاسفة الذين قالوا: "إن واجب الوجود عنده علم بالكليات فقط"! وكذلك قال مَن تبعهم مِن المتكلمين.. وفي الحقيقة كلام المتكلمين عن واجب الوجود إنما هو إثبات ما لا ذات له ولا اسم ولا صفة! وإنما فاض منه العقل الفعال الذي هو المعاني الكلية دون الجزئية! وعندما يتفكر الإنسان يجد هذا الكلام من أسخف الكلام وأسفهه، ويعلم يقينًا مباينة هذه الطريقة في التعامل مع الصفات مع طريقة القرآن والسلف -رضي الله عنهم-.

ولذلك؛ فقد قال أتباع الفلاسفة من المتأسلمين: "إن الله لا يعلم الجزئيات، وإنما يعلم الكليات"! وكما نرى فهي شبهة سخيفة باطلة لا تثمر في الإنسان أثرًا إيجابيًّا أبدًا، وهو كلام باطل مقطوع ببطلانه، فالله -عز وجل- يعلم ما يخفيه الإنسان وما يعلنه، وعلمه يشمل الجزئيات والكليات.

عالِم الغيب: الغيب هو ما غاب عن البشر.. عن حسهم، وسمعهم، وأبصارهم، وسائر أحاسيسهم.

عالِم الشهادة: يعلم ما شاهدوه وما علموه على التفصيل الذي لا يعلموه، فالله -سبحانه وتعالى- هو عالم الغيب والشهادة، وعندما يتفكر الإنسان في عالم الشهادة الذي يراه؛ يجد أنه لا يدري عنه شيئًا، وبالنظر إلى كل مجال علمي من العلوم؛ نجد أن إحاطة أهله إنما هي بالظاهر من العلم.

الطب كعلم مِن علوم الشهادة:

ولنتخذ من علم "الطب" مثالاً لنا فسنجد أن الأطباء يعلمون كثيرًا مما لا يعلمه غيرهم، فهم بالبحث والتحري تارة، وبالتجربة تارة أخرى يَصلون إلى معلومات عديدة؛ فصار عندهم قدر كبير من علم الشهادة إلا أن ما يجهلون أضعاف ما يعلمونه.

علم "الزراعة" و"النبات":

وإذا ما جئنا إلى علم "الزراعة" و"النبات" وأنواع ذلك تجد أن العالِم بشيء من ذلك عنده من أنواع العلوم ما ليس عند غيره، فهو يعرف كيف ينمو النبات وسوقه وأوراقه وثماره، فهذا كله إنما هو من العلوم المشهودة للناس.

علم "الفلك":

يدرك العلماء من الكواكب والنجوم والشهب أنواعًا كثيرة، ويعلمون عن مساراتها ودورانها ومواضعها في السماء الشيء الكثير، وذلك كله لا يعدو نقرة عصفور من بحر علم الشهادة الذي يربو على ذلك أضعافـًا مضاعفة، وذلك كله لا يتعدى حدود السماء الدنيا والأرض التي نعيش عليها، وما وراء ذلك مما غاب عنا أكبر؛ لأن الإنسان كلما صعد في السماء؛ كلما كبرت واتسعت؛ فالسماوات بعضها أكبر من بعض وأوسع، وهي تزداد كبرًا واتساعًا كلما صعدنا.

ولما كان العرش سقف المخلوقات كلها؛ كان أكبرها وأوسعها، والسماوات السبع والأرضين السبع بالنسبة له كحلقة في فلاة، وما غاب عن العباد من علم الشهادة أضعاف ما شاهدوه، والله -عز وجل- عالم الغيب والشهادة، الرحمن الرحيم -سبحانه وتعالى-.

البر والبحر:

وفي البر والبحر أنواع مما لا يحيط الإنسان بها علمًا، ولا يعلمها إلا الله -سبحانه وتعالى- مع أنه من الأمر المشهود الذي شاء الله -عز وجل- أن نعلمه.

علْم الله لما كان:

علِمَ الله -عز وجل- كيف كانت الأمور التي حدثت ومضت فيما سبق وجودنا، وهذه الأحداث الماضية اختلف الناس فيها، فبعضهم يقولون: وقع كذا.. والآخرون ينفون قولهم، وهم يعتمدون على الأخبار؛ للتأكد من وقوع هذه الأحداث أو عدم وقوعها، وهذه الأخبار متناقضة، ولا يعلم ما وقع منها إلا الله، فالتاريخ المسجل لنا لا يتجاوز خمسة آلاف سنة كما يُذكر، فضلاً عن أن هذا التاريخ غير مسجل تسجيلاً تامًا.

فقد عاش البشر آلافًا، بل آلافًا مؤلفة من السنين، فقد وُجِدَتْ آثار من سبعمائة وخمسين ألف سنة.. فكم عاش الإنسان؟! وما الذي حدث قبل وجوده؟! وما الذي حدث على وجه الأرض؟!

أشياء الله أعلم بها -سبحانه وتعالى-، فقد علم الله ذلك تفصيلاً، فعلْم الله تفصيلي، أما نحن فلا نعرف إلا الأحداث الإجمالية، فبناء الأهرام مثلاً معرفتنا به كحدث معرفة إجمالية، فنعرف أنه كان يوجد بناة أهرام، ولكن ما الذي حدث أثناء ذلك تفصيلاً؟ وما الذي حدث من خلجات كل إنسان منهم؟ وما الذي كان يُحَدِّث به نفسه وهو يعمل هذه الأعمال؟ وما الذي كان قبل ذلك؟ وما الذي كان بعده؟

الناس تهتم دائمًا بأخبار الملوك، فماذا عن عامة الناس؟ ما الذي حدث في نفس كل واحد منهم؟ بل إن الإنسان ليعجز عن حصر كل ما حدث في كل كلمة خرجت، وكل همٍّ همَّ به، وكل خاطر في نفسه ومشاعره الدقيقة والظاهرة..

طفولة.. ضحك.. بكاء.. أحاط الله بكل شيء علمًا:

ما الذي يقع في نفس الطفل مثلاً فيجعله يبكي أو يضحك؟ لا أحد يعرف عن ذلك شيئًا.. ولا حتى أبيه أو أمه! فهم يرونه يضحك اليوم وأمس، ولكن لا أحد يحصي كم ضحكة ضحكها، فهذا لا يعرفه أحد، وماذا حدث في نفسه؟ فهو نفسه لن يتذكر بعد سنين طويلة، مع أن هذه الأمور قد أحاط الله بها علمًا!

ملائكة - شياطين - حيوانات - حشرات:

سبحان الله! ماذا حدث في نفوس الملائكة من هموم وإرادات وعبادات.. عالم الشياطين وعالم الحيوانات التي في الغابات، وعالم الحشرات لا أحد يبحث عما فعلته هذه الحيوانات أو الحشرات مع بعضها البعض، أو ما الذي جعلها راغبة في شيء أو نافرة وهاربة منه، قد أحاط الله بهذا كله علمًا، فسبحان الذي أحاط بالكائنات وأنواع المعلومات.

يقول علماء الكيمياء: إن ما يُسمى جزيء "البروتين" إنما هو مكون من عدة أنواع من الذرات، وهي -كما تسمى في ذلك العلم-: "الهيدروجين"، "الكربون"، "النيتروجين"، ترتبط مع ما يسمى بـ"الأكسجين" بطريقة معينة، ولو رُكِّبوا بطريقة أخرى؛ لصار سمًّا قاتلاً، وهناك مئات -بل آلاف مؤلفة- من احتمالات التكوين المختلفة.

وإذا ما تفكر الإنسان في الذي كان من الممكن أن يحدث كيف كان سيحدث؛ لَوجَدَ عشرات -بل مئات الآلاف المؤلفة- من الاحتمالات لتكوين الأشياء بغير ما هي عليه.

وقد قال الله -سبحانه وتعالى- في بيان علمه بما لم يكن إذا كان كيف يكون: (وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) (الأنعام:28).

وقال -سبحانه وتعالى-: (وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا) (الكهف:80). فعلم الله ما لم يكن إذا كان كيف يكون، فهذا الغلام إنما طبع كافرًا، فلو كبر؛ لكان كافرًا -أي: باعتبار ما سيكون-، ولأرهق أبويه طغيانًا وكفرًا، وهذه إشارة إلى علم الله بما لم يكن إذا كان كيف يكون.

وقال -عز وجل-: (قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ) (آل عمران:154)، فلو أن أحدًا كُتب عليه القتل؛ لبرز إلى مضجعه ولو كان في بيته، ولكن هذا لم يحدث، وإن حدث هذا لعلم الله كيف سيكون، فقد علم الله ما كان وما سيكون، وما لم يكن إذا كان كيف يكون.

الذرة.. -سبحان الله-!

(وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) (يونس:61).

الذرة هي: تلك التي نجدها في الغبار الذي نراه في ضوء الشمس، وإن قذف أحد ببعض التراب؛ فسيجد ألافًا مؤلفة منها، وإن وضع أحد يده على الرمل ثم أخرجها؛ فلن يستطيع أن يعد ما فيها من ذرات، وهذا حجم كف الإنسان، فكيف بالصحاري؟! فكم بها من ذرة من ذرات الرمال؟! وإن تكسرت كم يكون بها من ذرات التراب؟! فذرات التراب أخف من ذرات الرمال، فذرة الرمل الواحدة من الممكن أن تكون آلافًا مؤلفة من ذرات التراب، وفي ذرة الغبار التي يراها الإنسان آلافًا مؤلفة من الأجزاء التي هي أدق من ذلك، والتي ليست لها عندهم تسمية فسموها: "ذرة"، إذن فالذرة هي أصغر شيء عند العرب، فالله -عز وجل- لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين.

ثم هذه الأرض.. كم حجمها بكل ما فيها؟! سبحان الله! والغبار الموجود في السماوات كلها وبين الكواكب ما هو إلا ذرات تتحرك بطريقة الله يعلمها، والغبار الذي في المجرات لا يعلمه إلا الله، والغبار الذي في الأغلفة التي حول الكواكب.. ككوكب "زحل".

كوكب "زحل".. -سبحان الله-!

فكوكب "زحل" تلتف حوله حلقات دائرية ملونة، وهذه الحلقات ما هي إلا ذرات تتحرك، ذرات لا حصر لها عند البشر، ولا يقدرون على عدها، قد أحاط الله -سبحانه وتعالى- بها علمًا؛ لأنه الذي أوجدها -سبحانه-، وجعلها تتحرك بنظام؛ إذ إنها لو لم تكن تتحرك بنظام؛ لما كانت هذه الألوان الجذابة، وهي تدور في ملف دائري متقن محكم لا تخرج عنه منذ آلاف مؤلفة من السنين، والله وحده هو الذي يعلم كم من السنين مرت على هذه الأشياء، وهي بهذا الإتقان التام والإحكام البالغ.

دوران الإلكترونات حول الذرة.. والمسلمين حول الكعبة.. والأرض حول الشمس.. -سبحان الله-!

(وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) (يونس:61).

ذكرنا أن ذرة الغبار قد تنقسم إلى ما هو أصغر من ذلك، فقد كتب الله كل ذلك: (وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ)!

ومِن الأشياء العجيبة التي لم يتعلمها الإنسان إلا بعد آلاف من السنين هو دوران هذه "الإلكترونات" حول الذرة، فقد عرف الإنسان وجود هذه "الإلكترونات" بآثارها، فهو وإن لم يكن يراها إلا أنه كان يرى آثارها.. -فسبحان الله!- عندما يجدها تدور بنفس النظام الذي يدور به كل شيء في الكون، نظام المركز الذي تدور حوله الأشياء في مدارات، مثلما تدور الكواكب حول نجومها، ومثلما تدور "الإلكترونات" حول نواة الذرة، ومثلما يطوف المسلمون حول "الكعبة"، وليس فقط نفس النظام، بل نفس الاتجاه، وهو عكس اتجاه عقارب الساعة، وعندما يرى الإنسان ذلك، بل ويعلم أنها سبع مستويات من الدوران حول النواة، وقد أمرنا الله -عز وجل- أن نطوف حول الكعبة سبع مرات، عندما يرى ذلك؛ يظهر له بجلاء أن خالق هذا الكون واحد، وأن الذي أمرنا بالطواف حول "الكعبة" هو خالق هذا الكون -سبحانه وتعالى- الذي أحاط علمًا بكل شيء!

(يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا):

إن الله يعلم ما يدخل في الأرض مِن ماء الأمطار، وما ينزل من حبات المطر التي تنزل من السماء وتدخل في باطن الأرض، وتستمر في السريان بطريقة معينة حتى تتجمع في أماكن خاصة وتستقر فيها، وتصبح ماءً يجري في الأنهار والعيون.

وهذه الغابات الهائلة الموجودة حول الأنهار الكبيرة، مثل: الغابات الاستوائية في "إفريقيا"، وغابات "الأمازون"، وغابات ربما لم يدخلها الإنسان، فمتى تنبت هذه الأشجار؟ وكيف وصل الماء إليها؟!

وهذه البذور.. ظلت في النبات مدة معينة حتى وصلت إلى الأرض بطريقة معينة، وقد أحاط الله بهذا كله علمًا، ويعلم -سبحانه- ما يدخل في الأرض من فضلات الإنسان.

فعلى سبيل المثال: فإن شعر الإنسان يقع منه عشرات في اليوم؛ فإلى أين يذهب هذا الشعر؟! فكل واحدٍ منا يقع منه شعر بدون أن يشعر؛ بالإضافة إلى ما يخرج من الإنسان مثل: أظافره، والتي يجعلها في مكان حتى يدفنها متبعًا للسنة؛ فأين ذهبت؟! وهل أحد يبحث عن فضلاته كيف انتهت وذهبت في الأرض؟!

ويعلم -سبحانه- ما يدخل في الأرض من أجساد موتى البشر، ومن الحيوانات والنباتات والمخلوقات التي لا يعلمها العباد، فكل يوم يدخل في الأرض أشياء ويخرج منها أشياء، والله -عز وجل- قد أحاط بها علمًا.

وإن الإنسان ليحدث له انكسار -رغمًا عنه-؛ إذا ما تفكر في تلك الأشياء الموجودة بالفعل، وأكثر الخلق لا ينتبهون إليها، فهناك أشياء تدخل وأخرى تخرج في كل يوم وفي كل لحظة.. -سبحان الله-!

فبخار الماء الذي يخرج من الأنهار والبحار والمحيطات، ونباتات الأرض التي تخرج منها، وما يخرج من الأرض من أنواع الكنوز والمعادن والمياه التي تنبع من العيون، ونحو ذلك فكل يوم يخرج من الأرض أشياء قد أحاط الله بها علمًا، فهل هناك مخلوق يحيط علمًا بكل ذلك؟!

وهذه الأشياء موجودة بالقطع، وكل منها بنظام متقَن يجزم بأنها لا يمكن أن تقع مصادفة، ولا يمكن أن تكون عبثًا أو سدى، فقد أحاط الله علمًا بما ينزل من السماء من مطر وملائكة وشياطين، تنزل من السماء إلى الأرض، وما يعرج مِن: ملائكة، وأعمال العباد الطيبة، والخبيثة، والأرواح وصعودها، فمنها ما تُفَتَّحُ له أبواب السماء، ومنها ما يُغلق دونها وترد إلى الأرض ويُلقى بها، والله -سبحانه وتعالى-: (فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ) (الحج:31).

فقد أحاط الله علمًا بكل ذلك، فليتفكر الإنسان في أعمال العباد المتفاوتة من خير وشر، وظلم وعدل، وإيمان وكفر، آلاف مؤلفة من البشر تصعد أعمالهم إلى السماء كل يوم، بل كل لحظة من اللحظات.

وكيف لا وهو الذي خلق وقدَّر؟!

(سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى . الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى . وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى) (الأعلى:1-3)، جعل الله -سبحانه- كل شيء بمقدار، فهو الذي خلق، وهو الذي قدَّر -سبحانه وتعالى-.

(أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ):

يقول الله -عز وجل-: (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (الملك:14)، ولهذه الآية تفسيران:

أما الأول: ألا يعلم الذي خلقهم، فتكون (مَنْ) مفعولاً به، فاعل (يَعْلَمُ) ضمير مستتر تقديره: "هو"، و(مَنْ) في محل نصب مفعول به لتكون الآية بمعنى: ألا يعلم الذين خلقهم، وهو اللطيف الخبير.

وأما التفسير الثاني لها: أن (مَنْ) فاعل الفعل (يَعْلَمُ) فتكون (مَنْ) ضمير ظاهر في محل رفع فاعل، وتكون الآية بمعنى: ألا يعلم الخالق، والمفعول به مقدر عائد على مخلوقاته.

واللطيف: فيه معنى الخفاء؛ حيث إن الله يدبر ويقدر سائر الأمور مِن حيث لا يشعر البشر، وقد أحاط الله علمًا بذلك مِن حيث لا يعلمون -سبحانه وبحمده-.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

www.anasalafy.com

موقع أنا السلفي

 

تصنيفات المادة