الجمعة، ١١ شوال ١٤٤٥ هـ ، ١٩ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

غزوة "بدر".. ومخاطر ما بعد النصر

النفس البشرية مهما بلغت مِن الكمال والفضل فهي على خطر عظيم من أمراض القلوب، وتحتاج دومًا للتربية والتهذيب،

غزوة "بدر".. ومخاطر ما بعد النصر
احمد الفيشاوى
الاثنين ٢٢ أغسطس ٢٠١١ - ١٥:١٠ م
2098

غزوة "بدر".. ومخاطر ما بعد النصر

كتبه/ أحمد الفيشاوى

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فمن الملفت للنظر في سورة الأنفال -وهي السورة التي نزلت تعقيبًا وتعليقًا على أحداث "غزوة بدر"، أنها قد تضمنت كثيرًا من التحذير والتوجيه والتزكية للفئة المؤمنة التي نصرها الله -تعالى- بـ"بدر"، مع أنهم خيرة الأرض وصفوة المهاجرين والأنصار، وخصهم الله -تعالى- بشهود تلك الغزوة المباركة، ووعدهم بغفران الذنوب، كما في قول النبي -صلى الله عليه وسلم- لعمر -رضي الله عنه-: (وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ، فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ) (متفق عليه).

لكن النفس البشرية مهما بلغت مِن الكمال والفضل فهي على خطر عظيم من أمراض القلوب، وتحتاج دومًا للتربية والتهذيب، وكلما نمت الجماعة المؤمنة العاملة لدين الله -تعالى- واتسعت دائرتها كلما كثرت أعباؤها والتكاليف الشرعية المنوطة بأفرادها، وقد يؤدي ذلك في كثير من الأحيان إلى تداخل الحقوق والواجبات، ونشوء بعض المنازعات أو الحزازات.

وما لم يكن حينئذ عند الأفراد قدر كبير من التجرد من حظوظ النفس والهوى، وإخلاص النية لله -تعالى-، وسعة الصدر وسلامته، وضبط النفس واللسان ومراقبتهما، وحسن الفهم والتفقه في دين الله -تعالى-، والانشغال بحق الله -تعالى- عن حق النفس؛ فإن هذه المنازعات أو الحزازات قد تكون كفيلة بالقضاء على روح الجسد الواحد الذي يعمل به الدعاة إلى الله -تعالى-، بل قد تكون كفيلة بتفريغ العمل الدعوى نفسه مِن محتواه، وجعله صورة بلا حقيقة، وإضعاف روابط الود والمحبة التي هي أعظم ضمانة لنجاح الدعاة إلى الله -تعالى-.

ولذلك؛ فما كادت غزوة بدر أن تنتهي ويأتي الليل على أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- وهم المجاهدون الأبرار حتى نشب بينهم من الخلاف والنزاع ما كان سببًا لنزول صدر "سورة الأنفال".

 فعن أبي أمامة الباهلي -رضي الله عنه- قال: "سَأَلْتُ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ عَنِ الأَنْفَالِ. فَقَالَ: فِينَا مَعْشَرَ أَصْحَابِ بَدْرٍ نَزَلَتْ حِينَ اخْتَلَفْنَا فِي النَّفَلِ، وَسَاءَتْ فِيهِ أَخْلاقُنَا، فَانْتَزَعَهُ اللهُ مِنْ أَيْدِينَا، وَجَعَلَهُ إِلَى رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَسَمَهُ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ عَنْ بَوَاءٍ. يَقُولُ: عَلَى السَّوَاءِ" (رواه أحمد، وأشار الشيخ أحمد شاكر إلى صحته في مقدمة "عمدة التفسير").

وعن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- قال: "خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَشَهِدْتُ مَعَهُ بَدْرًا، فَالْتَقَى النَّاسُ فَهَزَمَ اللهُ الْعَدُوَّ، فَانْطَلَقَتْ طَائِفَةٌ فِي آثَارِهِمْ يَهْزِمُونَ وَيَقْتُلُونَ، وَأَكَبَّتْ طَائِفَةٌ عَلَى الْعَسْكَرِ يَحْوُونَهُ وَيَجْمَعُونَهُ، وَأَحْدَقَتْ طَائِفَةٌ بِرَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لا يُصِيبُ الْعَدُوُّ مِنْهُ غِرَّةً، حَتَّى إِذَا كَانَ اللَّيْلُ وَفَاءَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، قَالَ الَّذِينَ جَمَعُوا الْغَنَائِمَ: نَحْنُ حَوَيْنَاهَا وَجَمَعْنَاهَا فَلَيْسَ لأَحَدٍ فِيهَا نَصِيبٌ. وَقَالَ الَّذِينَ خَرَجُوا فِي طَلَبِ الْعَدُوِّ: لَسْتُمْ بِأَحَقَّ بِهَا مِنَّا نَحْنُ نَفَيْنَا عَنْهَا الْعَدُوَّ وَهَزَمْنَاهُمْ. وَقَالَ الَّذِينَ أَحْدَقُوا بِرَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: لَسْتُمْ بِأَحَقَّ بِهَا مِنَّا نَحْنُ أَحْدَقْنَا بِرَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَخِفْنَا أَنْ يُصِيبَ الْعَدُوُّ مِنْهُ غِرَّةً وَاشْتَغَلْنَا بِهِ، فَنَزَلَتْ: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ، فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ)" (رواه أحمد، وصححه الألباني في "فقه السيرة").

وما يلفت النظر هنا: أن الآية لم تجبهم على سؤالهم، وإنما عاتبتهم بأسلوب لطيف على ما وقع منهم عند النزاع، فقد بادرت كل طائفة في إصدار الأحكام والجزم لنفسها بالاستحقاق، ثم كان الاستفتاء والرجوع إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- متراخيًا عن ذلك، وفي هذا نوع تجاوز وحيدة عن التصرف السليم في مثل هذا الموقف، فإن الأمر أولاً وآخرًا مرده إلى حكم الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-؛ ولذلك احتاجوا هنا إلى تأخير البيان التفصيلي في كيفية توزيع الغنائم، وتقديم الأمر الأهم؛ وهو التأكيد على المرجعية عند النزاع، والتأكيد على الانقياد والتسليم لحكم الله -تعالى- ورسوله -صلى الله عليه وسلم-.

أما الأمر الثاني في الآية: فهو أمره -عز وجل- لهم أن يتقوا الله ويصلحوا ذات بينهم، ولا يخفى أنه -تعالى- لا يزجرهم عن الاستفتاء والسؤال، ومعرفة الحدود والحقوق، ولا أنه -تعالى- يأمرهم وجوبًا بالتنازل عن حقوقهم مِن أجل إصلاح ذات البين، وإنما ينهاهم -عز وجل- عن الصفات والتصرفات التي قال فيها عبادة -رضي الله عنه-: "حِينَ اخْتَلَفْنَا فِي النَّفَلِ، وَسَاءَتْ فِيهِ أَخْلاقُنَا"، وهذه الصفات والتصرفات هي التي تؤدي إلى إفساد القلوب وإفساد ذات البين.

ولعل مِن هذا.. ما ذكرناه من مبادرتهم لإصدار الأحكام، وتأخير الرجوع إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-.

ولعل مِن هذا.. أسلوب الكلام الذي يستخدمه المتنازعون، وما يتخلل ذلك مِن نظرات وتعابير وجه، ونحو ذلك.. مما قد يكون له أثر أعمق مِن أثر الكلام في إفساد ذات البين.

ولعل من هذا.. تعظيم وتفضيل بعضهم للدور الذي يقوم أو قام به على حساب أدوار إخوانه، وجعل ذلك سببا لأن يكون له حق أعظم من إخوانه، حتى قال بعضهم: "نَحْنُ حَوَيْنَاهَا وَجَمَعْنَاهَا فَلَيْسَ لأَحَدٍ فِيهَا نَصِيبٌ".

لقد كانت مثل هذه الأمور التي قد يستصغرها كثير مِن الناس سببًا في توجيه هذا اللوم والعتاب البالغ في صدر سورة أُنزلت في الأساس؛ تتويجًا لـ"نصر بدر العظيم"، ومواساة للمؤمنين بعد ما لاقوه مِن قهر وظلم على أيدي كفار مكة على مدى سنين طويلة، فابتدأت السورة بهذا التوجيه؛ لتنبِّه قلوب المؤمنين على خطر ما وقعوا فيه حتى ولو كانوا من أهل "بدر"، وأهل الجهاد والفضل، ولتجذب قلوبهم إلى الإخبات والوجل والخشوع لله -تعالى-، والاعتراف بالفضل والمنة له وحده، فلا تعظم في نفوسهم حقوق نفوسهم ولا تجترئ ألسنتهم على دعوى الاستحقاق والأفضلية، وإنما يسلمون الأمر للرسول -صلى الله عليه وسلم- وقد استوت عندهم جميع الخيارات، فلا تميل قلوبهم لحكم دون حكم، ولا يتمنون لخصمهم أدنى مما يتمنون لأنفسهم، وهذا هو موجب الإيمان الذي قال عنه النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ) (متفق عليه).

وتأمل أمره -عز وجل- لهم في وسط السورة: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ . وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) (الأنفال:46-47).

فإذا كان النزاع مِن أعظم الأسباب التي تؤدي إلى فتور الهمة، والنفور من الاجتماع على الأعمال الصالحة، فإن ذلك نتيجته الحتمية: الفشل، وانتكاس القوة في الدعوة إلى الله -تعالى-.

وليس هذا فحسب، بل تأمل قوله -تعالى- في نفس السياق: (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ)، وكأن التنازع والخلاف إذا لم يعالجه المجتمع المسلم بالأسباب الشرعية التي أمر الله -تعالى- بها، فإنه يوشك أن يقع في القلوب بعض مِن الأمراض التي في قلوب أهل الشرك -والعياذ بالله تعالى-، مِن: البطر، والرياء، أو أن تصبح صورتهم وأخلاقهم شبيهة بأخلاق المشركيين الذين تتحكم فيهم أهواؤهم، ويتحكم فيهم كبرياؤهم، وكفى بذلك فسادًا وصدًا عن سبيل الله -تعالى-.

ولما علم الله -تعالى- ما في قلوب أهل بدر من الندم على ما بدر منهم وحرصهم على إصلاح ذات بينهم؛ بيَّن لهم بعد ذلك كيف يقسمون الأنفال؟ وما الذي يستحقونه وما الذي لا يستحقونه؟ فقال: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (الأنفال:41)، فجاء البيان والحكم فوافق قلوبًا سليمة مذعنة، فكان بذلك تمام الأجر والفضل.

نسأل الله -تعالى- أن يصلح قلوبنا وأعمالنا، وأن يصلح ذات بيننا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

www.anasalafy.com

موقع انا السلفى