الجمعة، ٢٠ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٩ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

الحائط الوهمي*

إنما الأمر سنة وأسوة، والثواب لمن كان الأسوة الحسنة والامتحانات القادمة أصعب وأشق، والفتن القادمة أكثر اضطرابًا كموج البحر

الحائط الوهمي*
ياسر برهامي
الجمعة ٢٧ يناير ٢٠١٢ - ١٧:٣٢ م
3842

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

عندما كنت أتنقل بين المحافظات في الثمانينيات للدعوة إلى الله سمعت من أحد سائقي سيارات الأجرة التي كنت أركبها على طريق رشيد قصة يتناقلونها عن منطقة سماها الناس المارد، يحكي سائقو السيارات عنها أن جنًا ماردًا يسكن هذه المنطقة "قرب البوصيلي"، وأنه في بعض المرات يجد السائق نورًا أمامه يظنه سيارة في الليل فينحرف النور ويظن السائق أن الطريق قد مال فيميل معه؛ فيقع في ترعة أو بحيرة إدكو أو في الزراعات، وآخر سمع أصواتًا عنيفة في أسفل سيارته كأنها انفجارات فيعود للموقف ويكشف على السيارة فلا يجد شيئًا، وربما وجد أحدهم أمامه "جاموسة" تعترض طريقه فجأة؛ فيضطر للفرملة فتنقلب السيارة، ولا يجد الناس جاموسة ولا شيئًا.

وفي إحدى المرات وجد أحدهم فجأة في وسط الطريق -وهو يسير بسرعته- حائطًا يسد الطريق فقال في نفسه لو فرملت فجأة انقلبت السيارة فالحل الأقل خسارة أن أدخل في الحائط، فدخل فيه فوجد الطريق فارغًا، واستمر الطريق في السير، ولا يوجد حائط ولا شيء.

أتذكر هذه القصة كثيرًا وأحكيها لإخواني عندما نجد أمامنا عوائق في طريق عملنا في الدعوة إلى الله ونصرة الدين، وفي أكثر الأحيان يكون هذا العائق من صنع الشيطان في عيوننا وعقولنا بلا حقيقة على أرض الواقع بينما يحتاج إلى أن نقتحمه؛ فندرك ساعتها أن الطريق ممهد، وأن ذلك العائق من جنس حائط "المارد الوهمي"، وأنه (إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) (آل عمران:175)، وأن هذه العوائق من جنس (قَالَ أَلْقُوْاْ فَلَمَّا أَلْقَوْاْ سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ) (الأعراف:116).

والحل هو أن نوقن بأنه: (مَا جِئْتُم بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ . وَيُحِقُّ اللّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) (يونس:81-82) 

"
وفي أكثر الأحيان يكون هذا العائق من صنع الشيطان في عيوننا وعقولنا بلا حقيقة على أرض الواقع بينما يحتاج إلى أن نقتحمه
"

.

 

 

تذكرتُ هذه المسألة وأنا أتابع معركة القسَم في مجلس الشعب بين إصرار بعض الإخوة -ثبتهم الله وجزاهم الله خيرًا- على أن يضيفوا في قسمهم: "فيما لا يخالف شرع الله"، وإصرار البعض على حذف هذه العبارة من ألسنتهم أولاً، ثم بغلق الميكروفون ثانيًا، ثم من المضبطة ثالثًا، ولو استطاعوا من قلوبهم؛ لفعلوا تقديسًا للائحة كأنها قرآن! بل فوق القرآن لا يجوز مخالفة نصه! حتى قالت بعض وسائل الإعلام: "السلفيون يخالفون نص اللائحة!".

مع أن الزيادة في الحقيقة هي تعبير عن أعلى مواد الدستور شأنًا، بل هي تعبير عن إرادة الأمة الحقيقية التي ما أتت بهؤلاء النواب لهذا المجلس إلا مِن أجلها؛ ليقوموا بتنقية الدستور والقانون مما يخالف شرع الله، وهو بلا شك يتضمن ما يخالفه إلى الآن باعتراف المحكمة الدستورية العليا في قضية الربا التي رفعها الأزهر ممثلاً في جامعة الأزهر عندما طالبته بعض الجهات بفوائد ربوية على أموال متأخرة فأراد الامتناع عن ذلك، فقضت المحكمة بدستورية الفوائد الربوية وإن خالفت الشريعة؛ لأن النص الدستوري خطاب للمجلس التشريعي فيما يستقدم من قوانين، ولم يتعرض بالإلغاء للقوانين التي صدرت قبل التعديل الدستوري سنة 80، فلابد أن يعدلها المجلس التشريعي أولاً لتكون باطلة؛ وإلا فهي لازمة التطبيق!

فكانت الإضافة ضرورية حفاظًا على عقيدة كل مسلم من النواب يعتقد أنه: (إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) (يوسف:40)، ويعتقد قول الله: (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ) (الشورى:21).

وكنت أتأمل شفاه نوابنا: هل يقولون الكلمة دون أن تسمع لقطع الميكروفون أم يقولونها سرًا فيكونون قد حافظوا على عقيدتهم وإن كانوا قد ضيعوا جانب الدعوة والبراءة مما يخالف الشرع، وما نصرهم الله إلا بالمحافظة على الشرع، حتى هدى الله من أهل العلم منهم من قالها ابتداءً قبل القسم، والبعض تخيل الحائط الوهمي الذي من صنع الشيطان، مع إنه قد كفي مؤنة البدء بالأمر بمن سبقه ممن أصر على الحق -جزاه الله خيرًا-، ومرت سيارة قلوبهم، والبعض آثر سلامة وهمية دون أن يتلفظ بالاستثناء -ولو سرًا-؛ فأوقف انطلاق قلبه نحو الهدف الذي جاء من أجله -غفر الله لهم جميعًا-، وإن كنت متأكدًا من تأويلهم، لكن مَن أراد تحقيق المراتب العالية والأهداف السامية لا يمكن أن يكون جامعًا للتأويلات، ولا متتبعًا لرخص المذاهب، إلا أن يكون في الأمر رخصة شرعية، وليس رخصة في اختلافات المشايخ والعلماء.

إنما الأمر سنة وأسوة، والثواب لمن كان الأسوة الحسنة، والامتحانات القادمة أصعب وأشق، والفتن القادمة أكثر اضطرابًا كموج البحر، فلابد أن نحذر من الغرق فيها، ولابد أن نصلح ما فسد في سيارات "قلوبنا" نتيجة حادث التوقف أمام الحائط الوهمي؛ لنستطيع استكمال المسيرة، فهي بلا شك لا تزال طويلة -والله المستعان-.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* نشرت بجريدة "الفتح" بتاريخ الجمعة 3 ربيع الأول 1433هـ - 27 يناير 2012م.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

 

تصنيفات المادة