الجمعة، ١١ شوال ١٤٤٥ هـ ، ١٩ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

قرض صندوق النقد الدولي... "وجهة نظر مخالِفة"

الربا في الواقع استغلال لحاجة المضطر، وأكل للمال بالباطل، وربح من غير جهد ولا عمل، وهو يوجب غضب الله وانتقامه

قرض صندوق النقد الدولي... "وجهة نظر مخالِفة"
زين العابدين كامل
الجمعة ١٤ سبتمبر ٢٠١٢ - ٠٩:٢٠ ص
3246

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقبل أن أبدأ في كتابة هذا المقال... أعلن كامل احترامي وتقديري وتوقيري لبعض مشايخنا الكرام الذين قالوا بحل وجواز ذلك القرض، وأنه ليس من الربا، والخلاف معهم لا يكون إلا بأدب واحترام. قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "ولو كان كل ما اختلف مسلمان في شيء تهاجرا؛ لم يبقَ بين المسلمين عصمة ولا أخوة".

وقال الإمام أحمد لعلي بن المديني -رحمهما الله- عندما اختلفا في مسألة وارتفعت أصواتهما: "ألا يستقيم أن نكون إخوانًا وإن اختلفنا في مسالة". ثم أقول:

أولاً:

قد حرَّم الله الربا، لما يترتب عليه من أضرار ومفاسد تعم الفرد والمجتمع، وتتسع دائرة هذا الفساد لتشمل النواحي: الاقتصادية، والاجتماعية، والنفسية، فهو يسبب العداوة بين الأفراد ويقضي على روح التعاون بينهم، وهو يؤدي إلى خلق طبقة مترفة لا تعمل شيئًا، كما يؤدي إلى تضخيم الأموال في أيديها دون جهد مبذول.

حرمه الله؛ لأنه متلفة للأموال، مهلكة للناس، ويؤدي غالبًا إلى الفقر والأزمات الاقتصادية، وفقد أصل المال أو الأرض التي تُباع عادة في نهاية الأمر لتسديد القرض وفوائده المتراكمة.

والربا في الواقع استغلال لحاجة المضطر، وأكل للمال بالباطل، وربح من غير جهد ولا عمل، وهو يوجب غضب الله وانتقامه؛ لذا حرَّم الله الربا بكل أنواعه؛ قليله وكثيره، وجاء تحريمه نصًا في القرآن والسنة، وأجمعت الأمة على تحريم الربا، وقد أُنذر صاحبه بأنه يقوم من قبره يوم القيامة يتخبط كالذي مسَّه الجن، قال الله -تعالى-: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا... ) (البقرة:275).

ولا شك أن أعظم الأنظمة الاقتصادية في التاريخ هو النظام الاقتصادي الإسلامي، القائم على أسس، مِن أهمها: تحقيق مطالب الإنسان الروحية والنفسية؛ لذا فإن الإسلام يضحي بالمال عندما تتعين التضحية طريقًا للسمو الروحي، والتهذيب النفسي والسلوكي للإنسان.

وتتمثل هذه التضحية بأمرين:

الأول: إهدار القيمة المالية لبعض الموجودات؛ لأنها تدنس روح الإنسان، أو تسلب كرامته، كتحريم الخمر، والخنزير، والنجاسات.

الثاني: تحريم بعض المعاملات الاقتصادية رغم ما تحققه من أرباحٍ مادية؛ لأنها تؤدي إلى تحجر القلوب أو إفساد الضمير أو انحراف السلوك أو ضياع مصالح للمسلمين أكبر، ومن ذلك: تحريم بيع السلاح للعدو، وتحريم القمار، والغش، وتحريم الربا.

ثانيًا:

حرَّم الله الربا، وأنزل فيه وعيدًا شديدًا، فقال -سبحانه وتعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ . فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ) (البقرة:278-279)، وقال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ . وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ)(آل عمران:130-131).

وقد عدَّه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الموبقات -المهلكات- حين قال: (اجْتَنِبُوا السَّبْعَ المُوبِقَاتِ). قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا هُنَّ؟ قَالَ: (الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالحَقِّ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ اليَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ المُحْصَنَاتِ المُؤْمِنَاتِ الغَافِلاَتِ) (متفق عليه). وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (الرِّبَا سَبْعُونَ حُوبًا، أَيْسَرُهَا أَنْ يَنْكِحَ الرَّجُلُ أُمَّهُ) (رواه ابن ماجه، وصححه الألباني)، وفي رواية: (الرِّبا ثَلاَثَةٌ وَسَبْعُونَ بَاباً أَيْسَرُها مِثْلُ أَنْ يَنْكِحَ الرَّجُلُ أُمَّهُ، وَإِنَّ أَرْبَى الرِّبا عِرْضُ الرَّجُلِ المُسْلِمِ) (رواه الحاكم، وصححه الألباني).

وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (دِرْهَمُ رِبًا يَأْكُلُهُ الرَّجُلُ وَهُوَ يَعْلَمُ أَشَدُّ مِنْ سِتَّةٍ وَثَلاثِينَ زِنْيَةً)(رواه أحمد والطبراني، وصححه الألباني). وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَأْكُلُونَ فِيهِ الرِّبَا). قَالَ: قِيلَ لَهُ: النَّاسُ كُلُّهُمْ؟ قَالَ: (مَنْ لَمْ يَأْكُلْهُ مِنْهُمْ نَالَهُ مِنْ غُبَارِهِ) (رواه أحمد، وصحح الشيخ أحمد شاكر).

وقال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ) (البقرة:172)، وقال: (وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّبًا) (المائدة:88). فالله -تعالى- يأمر بالأكل الحلال، فلا بد أن يكون الحلال موجودًا، ولا يمكن أن يأمر الله بشيء يستحيل وجوده، فالحلال موجود والحرام موجود، فقد تواترت النصوص على تحريم الربا والتحذير منه.

وقد عجبنا كل العجب... من موقف الحكومة مِن طلبهم قرضًا بفائدة من "صندوق النقد الدولي" زعمًا منهم بأننا في أمس الحاجة لهذا القرض! علمًا بأن هذا الأمر أُثير قبل ذلك في مجلس الشعب، ووقف كثير من النواب حائط صد أمام القرض الربوي لـ"صندوق النقد الدولي"، وذكروا مبررات مختلفة مابين شرعي واقتصادي وسياسي، واعترضوا على ذلك، بل وقدموا البديل من الناحية الاقتصادية؛ فلماذا الإصرار على الاقتراض مع وجود البديل؟!

ثالثًا:

هناك من الأفاضل مَن قال: إن هذه ليست فائدة، وإنما مصاريف إدارية!

وأنا أقول وأسأل: ماذا لو قال البنك الدولي: المصاريف الإدارية 3%؟ ماذا كنا سنقول... ؟! علمًا بأن البنك الدولي نفسه قال: إن هذه فائدة قدرها 1.1%، وكذلك قال بعض المسئولين أيضًا، فالعبرة ليست بالمسمى، ولكن بحقيقة الأمر، وقد ثبت عن ابن مسعود وابن عباس وأبي بن كعب -رضي الله عنهم- أنهم "كرهوا أي قرض جر منفعة".

وعن أبي أمامة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (مَنْ شَفَعَ لأَحَدٍ شَفَاعَةً فَأَهْدَى لَهُ هَدِيَّةً عَلَيْهَا فَقَبِلَهَا فَقَدْ أَتَى بَابًا عَظِيمًا مِنْ أَبْوَابِ الرِّبَا) (رواه أحمد وأبو داود، وصححه الألباني). "وهل تكون المصاريف الإدارية بالملايين من الجنيهات؟!".

رابعًا:

هناك مَن قال: "هذا أهون من القروض الداخلية؛ لأن الداخلي يكون بفائدة 15% أو أكثر!".

وأقول: وهل ذلك يكون مبررًا؟! لا هذا، ولا ذاك ما دام قد وُجد البديل، مثل ما تقدم به البعض من إلغاء دعم الكهرباء للمنشآت السياحية والفنادق "4، 5 نجوم"، وإلغاء الدعم على بنزين 95، وإلغاء دعم الغاز لمصانع الأسمنت والأسمدة، وأن ذلك سيوفر في حدود 2 مليار دولار، ورفع سعر السولار أو ترشيد دعمه -لمنع تهريبه إلى إسرائيل وغيرها- يوفِّر 2 مليار دولار جنيه، وتفعيل الحد الأقصى للأجور يوفر 100 مليون دولار، وتسريح عدد كبير من المستشارين الوهميين -ومعظمهم ضباط متقاعدون- سيوفر في حدود 2 مليار دولار، ومنع تعيين الضباط المتقاعدين في وظائف إدارية عليا بالدولة على حساب أبناء المؤسسات والشركات، وسرعة إعادة تقييم سعر الأراضي والشركات والمؤسسات الوطنية التي بيعت بأبخس الأثمان خلال العهد السابق يوفر ما يقارب 2 مليار دولار، وغير ذلك من الحلول والبدائل.

خامسًا:

أين نحن من حديث النعمان بن بشير -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-: (الحَلاَلُ بَيِّنٌ، وَالحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشَبَّهَاتٌ لاَ يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى المُشَبَّهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ: كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْلَ الحِمَى، يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ، أَلاَ وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلاَ إِنَّ حِمَى اللَّهِ فِي أَرْضِهِ مَحَارِمُهُ... ) (متفق عليه).

وكذلك جاء في الشرع أصل سد الذرائع، وهو منع الجائز؛ لأنه يجر إلى غير الجائز، وبحسب عظم المفسدة في الممنوع يكون اتساع المنع في الذريعة وشدته، فلا بد من اجتناب الشبهات وهذا الأمر سيفتح بابًا عظيمًا على الناس، والبنوك التي ربما تُغير بعض المسميات وتتحايل على شرع الله؛ لا سيما البنوك التي تقرض بفائدة مخفضة، وقد روي عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تَرْتَكِبُوا مَا ارْتَكَبَتِ الْيَهُودُ فَتَسْتَحِلُّوا مَحَارِمَ اللَّهِ بِأَدْنَى الْحِيَلِ".

سادسًا:

كان من المقبول أن يُقال: إننا سنقبل القرض مع الإقرار بتحريمه في الأصل نظرًا للظروف الاقتصادية الراهنة للبلاد، وانخفاض الاحتياطي وارتفاع العجز في الموازنة، مما سيؤثر على إمكانية صرف المرتبات للعاملين بالدولة؛ استنادًا لقاعدة: "الضرورات تبيح المحظورات"، وكذلك قاعدة: "يرتكب أخف الضررين لدفع أعلاهما، وتترك إحدى المصلحتين لتحصيل أولاهما"، كأكل الميتة للمضطر، قال -تعالى-: (قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (الأنعام:145).

سابعًا:

مثل هذه الفتاوى الكبرى تحتاج إلى جهود جماعية من العلماء وليست فردية، تحتاج إلى لجان فتوى لمناقشتها أو مجامع فقهية، مع وجود بعض المتخصصين في الاقتصاد لدراسة المسألة من جميع نواحيها والوقوف على حقيقة المصالح والمفاسد المتوقعة، فمثل هذه الفتاوى تتعلق بمصير دول، وليس بأفراد فقط.

ثامنًا:

نوصي بعدم الاقتراض، فإن القروض الربوية نذير شؤم على البلاد والمجتمعات، فعن ابن مسعود -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (مَا ظَهَرَ فِي قَوْمٍ الرِّبَا وَالزِّنَا، إِلا أَحَلُّوا بِأَنْفُسِهِمْ عِقَابَ اللهِ) (رواه أحمد وابن حبان، وحسنه الألباني). وفي رواية: (إِذا ظَهَرَ الزِّنا والرِّبا فِي قَرْيَةٍ، فقد أحَلُّوا بأنْفُسِهِمْ عَذَابَ الله) (رواه الطبراني والحاكم، وصححه الألباني).

تاسعًا:

أين نحن من هذه الآية: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا . وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا) (الطلاق:2-3)؟!

أين التقوى... ؟! أين اليقين... ؟!

أين حسن التوكل على الله؟!

أين الصدق مع الله -عز وجل-؟!

لماذا لم يرجع أصحاب القرار إلى أهل العلم في هذا الأمر؟!

لماذا لم تطلبوا المشورة من أهل العلم الشرعي والاقتصادي معًا؟!

عندما تولى عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- إمارة المدينة؛ اتخذ مجلس شورى من عشرة من كبار فقهاء المدينة فلم يقطع أمرًا بدونهم، بل كان دائمًا يطلب منهم النصح والمشورة، وهذا دليل على خشيته لله -تعالى-، وحرصه على قبول النصيحة في جنب الله -تعالى- بلا جدالٍ ولا تعالٍ.

اعلموا أنه لن ينجح اقتصاد قام على الربا أو المعاملات المحرمة... تذكروا قول ملك الملوك: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ . فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ) (البقرة:278-279).

فإلي الله المشتكى، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com