الجمعة، ١١ شوال ١٤٤٥ هـ ، ١٩ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

البعد الغائب

فالحمد لله على نعمه، ونسأله المزيد من فضله علينا وعلى أمتنا

البعد الغائب
عصام حسنين
الاثنين ٠٧ يناير ٢٠١٣ - ٠٥:٤٦ ص
2063
البعد الغائب

كتبه/ عصام حسنين

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فالحمد لله على نعمه، ونسأله المزيد من فضله علينا وعلى أمتنا، والتسديد والتوفيق لكل ساع لتفعيل الدستور وتحويل كلياته إلى جزئيات تحقق العدل والحياة الكريمة بكل معانيها بما ييسر على الناس عبادة ربهم -تعالى-.

إنها مسؤولية كبيرة تحتاج إلى توفيق من الله وصدق وإخلاص، ومشاورة ورجوع لأهل العلم؛ لمعرفة الأولويات ومعرفة ما يقدم ويؤخر من مشاريع القوانين.

- ونحتاج من المسؤولين التنفيذيين أن يتقوا الله في الناس، وأن يعلموا أنها أمانة وأنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها، وأن يحذروا دعوة المظلومين -وما أكثرهم-، ولتكن هذه المرحلة بداية جديدة يستشعرون فيها المسئولية وثقل الأمانة وثقل السؤال عنها يوم القيامة.

- ونحتاج جميعًا حكامًا ومحكومين إلى أن نتوب إلى الله وأن نصلح ما بيننا وبينه ليصلح أحوالنا وما بيننا وبين خلقه، قال -تعالى-: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا . يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا . وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا . مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا . وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا) (نوح:10-14)، وقال -تعالى-: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (الأعراف:96).

- ونحتاج في المرحلة القادمة التي تشهد وستشهد حربًا ضروسًا من خصوم المادة 2 و219 من الدستور كما صرحوا بأنها كارثية تارة وتمييزية تارة أخرى، مع أن لجنة كبار العلماء بالأزهر -جزاهم الله خيرًا- هم من وضعوها، ومن قبل رفضوا أن يكون الأزهر هو المرجعية فيما يتعلق بالشريعة الإسلامية؛ لئلا تكون دولة دينية -زعموا- ووافقوا على أن يكون دوره استشاريًّا فقط كما في الدستور الآن، ثم انسحبوا وقالوا على الدستور ما قالوه، ويتوعدون في المرحلة القادمة بإسقاطه، وأنهم سيخوضون الانتخابات البرلمانية القادمة ليكونوا أغلبية، ومِن ثَمَّ يعدلون الدستور!

والسؤال هنا: لماذا دائمًا لا تحترمون نتيجة الصندوق كآلية الديمقراطية التي تزعمون أنكم تجاهدون من أجل إقرارها؟ وهل ستسقطون الدستور بالطرق نفسها التي سعيتم بها إلى تعطيل الاستفتاء عليه أم بالمنافسة الشريفة؟!

والواضح لكل ذي عينين أنها الأولى، وقد بدأتم الحرب الإرهابية التشويهية بالكذب والزور؛ لتشويه صورة السلفيين وخرجتم تقولون الشيخ "ياسر برهامي" خدع أعضاء التأسيسية، وأنه كان يكيد ويخدع، وحاولتم الوقيعة بين السلفيين والأزهر، إلى آخر ذلك... !

ونحن نقول: إن كانت نواياكم صادقة فتبينوا كما فعلت بعض القنوات ووضح الشيخ وأجاب، وأزال اللبس -والحمد لله-، وإن كانت الأخرى -وهي يقينًا- فهي إزراء واتهام للنخبة التي وقَّعت على هذه المواد بأنهم قليلو العقل وأنهم خُدعوا، وما أظنهم يرضون بذلك! ولذلك يجب عليهم التكذيب أو يسكتون ظنًا -أنه في مصلحتهم- فيحق عليهم القول فلا يستحقون أن يكونوا من أهل الحل والعقد الذين يديرون شئون البلاد!

أنتظر ردًا من النخبة المثقفة جدًّا والمفتحة جدًّا، وللعلم الورقة التي عليها توقيعاتهم موجودة وأطلب من الإخوة نشرها على أوسع نطاق؛ ليعلم شعبنا مَن الصادق مِن الكاذب... وهل سينتهون؟ أجزم بلا؛ لأنه كما قال -صلى الله عليه وسلم-: (إِذَا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ) (رواه البخاري).

- نحتاج في هذه المرحلة -وهي تشهد ما تشهده- إلى بذل الجهد والصدق مع الله -تعالى-، والجمع بين العمل الدعوي التربوي البنائي داخل المسجد وبين العمل المجتمعي؛ بحيث نكون دائمًا في الحدث، بل واستباقه، وعقد منتديات للحوار ورد الشبهات، والحديث الذي لا يمل عن الشريعة ووجوب التحاكم إليها، وبيان محاسنها وكيفية تطبيقها، فهذا هو هدفنا الأكبر من المشاركة السياسية ثم السعي في حوائج الناس التي كنا من سنين نتقرب بها لله -تعالى- ولا نزال -إن شاء الله-.

- ونحن في مسيرتنا المباركة هذه يجب أن نبيِّن للناس ما هي الدعوة السلفية، وما منهجها؟ وتوضيح كذبة التشدد والتطرف، وأن دعوتنا دعوة إلى العمل بالإسلام النقي الذي بُعث به محمد -صلى الله عليه وسلم-.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في آخر عقيدته التي كتبها إلى أهل "واسط": "وكل ما يقولونه أو يفعلونه من هذا أو غيره فإنما هم فيه متبعون للكتاب والسنة، وطريقتهم هي دين الإسلام الذي بعث الله به محمدًا -صلى الله عليه وسلم-، لكن لما أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة، وفي حديث عنه أنه قال: (مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ مَا أَنَا عَلَيْهِ الْيَوْمَ وَأَصْحَابِي) (رواه الترمذي، وصححه الألباني)، صار المتمسكون بالإسلام المحض الخالص عن الشوب هم أهل السنة والجماعة، وفيهم الصديقون والشهداء والصالحون، ومنهم أعلام الهدى ومصابيح الدجى أولو المناقب المأثورة، والفضائل المذكورة، وفيهم الأبدال، وفيهم أئمة الدين الذين أجمع المسلمون على هدايتهم، وهم الطائفة المنصورة الذين قال فيهم النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الحَقِّ مَنْصُورَةٌ لاَ يَضُرُهُمْ مِنْ خَالَفَهُمْ وَلاَ مَنْ خَذلَهُمْ حَتَّى تَقُومُ السَّاعَةُ) (متفق عليه)، فنسأل الله أن يجعلنا منهم... " اهـ.

- ونحتاج أشد مما سبق إلى التذكير بكثير من القضايا المهمة، منها:

أولاً: التبيُّن والتثبت:

ومن أحكامه:

1- عدم قبول أخبار الفساق والكذابين إلا بعد التبين، قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) (الحجرات:6)، والفاسق هو الكذاب والمعلن بالذنب.

ومعنى الآية: يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم كاذب أو معلن بالذنب بخبر فتثبتوا؛ لئلا تصيبوا قومًا بخطأ فتصبحوا على ما فعلتم نادمين بسبب العجلة وترك التأني، وقد ذكر غير واحد من السلف أنها نزلت في الوليد بن عقبة -رضي الله عنه- حين بعثه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على صدقات بني المصطلق، وقد روي ذلك من طرق، ومن أحسنها ما رواه الإمام أحمد في مسنده من رواية الحارث بن ضرار ملك بني المصطلق. وهناك رواية مرسلة عن مجاهد وقتادة أذكرها؛ لتعلقها بسبب المقالة، فعن قتادة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بعث الوليد بن عقبة مُصَّدِّقًا إلى بني المصطلق فلما أبصروه أقبلوا نحوه، فهابهم -وفي رواية: لإحنة كانت بينه وبينهم-، فرجع إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فأخبره أنهم ارتدوا عن الإسلام. فبعث نبي الله -صلى الله عليه وسلم- خالد بن الوليد، وأمره أن يتثبت ولا يَعْجَل، فانطلق خالد حتى أتاهم ليلاً، فبعث عُيونه فلما جاءوا أخبروا خالدًا أنهم متمسكون بالإسلام، وسمعوا أذانهم وصلاتهم، فلما أصبحوا أتاهم خالد ورأى صحة ما ذكروه، فعاد إلى نبي الله -صلى الله عليه وسلم- فأخبره، فنزلت هذه الآية، فكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (التَّأَنِّي مِن الله والعَجَلَةُ مِنَ الشَّيْطانِ) (رواه أبو يعلى والبيهقي، وحسنه الألباني).

وعليه فمعنى الآية: يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم كاذب أو معلن بالذنب بخبر فتثبتوا؛ لئلا تصيبوا قومًا بخطأ؛ فتصبحوا على ما فعلتم نادمين بسبب العجلة وترك التأني.

قال القرطبي -رحمه الله-: "وفي الآية دليل على قبول خبر الواحد إذا كان عدلاً؛ لأنه أمر فيها بالتثبت عند نقل خبر الفاسق، ومن ثبت فسقه بطل قوله في الأخبار إجماعًا؛ لأن الخبر أمانة، والفسق قرينة يُبطلها..." (راجع تفسير ابن كثير والقرطبي).

فهل هذا هو منهج أحدنا عند تلقي الأخبار: التأني والتريث والتثبت؟!

2- أخذ الخبر من مصدره الأصلي -إن أمكن-: وإلا فمن أهل المكان الثقات، وتعضيد الشاهد بآخر؛ لأنه ربما يخطئ الواحد أو يقل ضبطه، وكم من حادثة مرت بي ومن ثقة أمين إلا أنه لم يضبط، فعلمتني ما ذكرته هنا وأؤكد عليه، ولا ينافي ذلك قبول خبر الواحد العدل، وإنما هو مزيد توثيق؛ لتغير الزمان خاصة الأخبار الخطيرة المتعلق بمآل الدعوة.

فلقد كان القاضي أبو يوسف -رحمه الله- يطلب تزكية الشهود لتغير الزمان وضعف الديانة وتفشَّي الكذب، وكان عمر بن عبد العزيز يقضي في المدينة بشاهد واحد ويمين، فلما صار إلى الشام لم يقبل إلا شاهدين لما رآه من تغير عما عرفه من أهل المدينة (انظر إعلام الموقعين لابن القيم 3/85). ثم رد الخبر إلى أهل العلم والخبرة، وهذه هي:

ثانيًا: المرجعية والثقة بها:

فكم من المشاكل التي عوَّقت مسيرتنا بسبب غياب أو ضعف هذا الأصل الشرعي؛ فما أحوجنا إليه في هذه المرحلة! قال -تعالى-: (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلا قَلِيلاً) (النساء:83).

هذه الآية الكريمة أصل في قضية المرجعية، وأنه لا بد للناس من مرجع يرجعون إليه، قال ابن كثير -رحمه الله-: "ينكر -تعالى- على مَن يبادر إلى إشاعة الأمور قبل تحققها، فيُخبر بها ويُفشيها وينشرها، وقد لا يكون لها أصل من الصحة، وقد نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك: نهى عن قيل وقال، أي: كثرة الحديث عما يقوله الناس دون تثبت أو تدبر أو تبين، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: (كَفَى بِالْمَرْءِ كَذِبًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ) (رواه مسلم في مقدمة صحيحه)، وقال: (بِئْسَ مَطِيَّةُ الرَّجُلِ: زَعَمُوا) (رواه أحمد وأبو داود، وصححه الألباني). ومعني: (يَسْتَنْبِطُونَهُ) أي: يستخرجونه من معادنه" (اهـ بتصرف من تفسير ابن كثير).

ونبهت خاتمة الآية على أن الخروج عن هذه المرجعية له آثاره السيئة، فقال -تعالى-: (وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً) أي: ولولا فضل الله عليكم ورحمته -أيها المؤمنون- بهذا التوجيه العظيم؛ لكان هناك خروج واتباع للشيطان -والعياذ بالله تعالى-.

وفي حديث حذيفة -رضي الله عنه- قال: كَانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنِ الْخَيْرِ، وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنِ الشَّرِّ مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِي... وفيه قال حذيفة: هَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟ قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (نَعَمْ، دُعَاةٌ عَلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا) فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، صِفْهُمْ لَنَا، قَالَ: (نَعَمْ، قَوْمٌ مِنْ جِلْدَتِنَا، وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا) قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، فَمَا تَرَى إِنْ أَدْرَكَنِي ذَلِكَ؟ قَالَ: (تَلْزَمُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ) (متفق عليه).

وجماعة المسلمين الذين أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بلزومهم هم: أهل العلم المستمسكون بما كان عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- وصحابته -رضي الله عنهم-.

سئل إسحاق بن راهويه -رحمه الله- عن الجماعة، فقال: "عالم متمسك بأثر النبي -صلى الله عليه وسلم- وطريقه، فمن كان معه وتبعه فهو الجماعة"، ثم قال: "لم أسمع عالمًا منذ خمسين سنة كان أشد تمسكًا بأثر النبي -صلى الله عليه وسلم- من محمد بن أسلم".

وسئل ابن المبارك -رحمه الله- عن الجماعة الذين ينبغي أن يُقتدى بهم، فقال: "أبو بكر وعمر" فلم يزل يحسب حتى انتهى إلى محمد بن ثابت والحسين بن واقد، قيل: مِن الأحياء؟ قال: "أبو حمزة السكري". وقال ابن مسعود -رضي الله عنه-: "إنما الجماعة ما وافق طاعة الله وإن كنت وحدك" (راجع الاعتصام للشاطبي -رحمه الله-).

ويضاف -إلى ما سبق من صفات- صفة الخبرة بالواقع والقدرة على الربط بين الواقع والأدلة الشرعية، وقد أحسن ملتقى علماء مصر عندما سمع من إخوانه في الجمعية التأسيسية حتى تم الاقتناع بالموافقة على الدستور، وهذا ما نريده في جميع الأمور القادمة -إن شاء الله- حتى تجتمع الكلمة وتأمن الدعوة، ويحدث المآل الحميد.

ثالثًا: قضية المآل:

أي: فقه ما تؤول إليه الأمور.

قال الشاطبي -رحمه الله-: "النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعًا كانت الأفعال موافقة أو مخالفة، وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل، مشروعًا لمصلحة فيه تستجلب أو لمفسدة تدرأ، ولكن له مآل على خلاف ما قصد فيه، وقد يكون غير مشروع لمفسدة تنشأ عنه أو مصلحة تندفع به، ولكن له مآل على خلاف ذلك... ".

وهي قاعدة متفق عليها بين العلماء، قال أبو بكر بن العربي -رحمه الله-: "وهي قاعدة متفق عليها بين العلماء، فافهموها وادخروها"؛ لذلك فهو يحتاج إلى دقة نظر وعمق بحث فيما يستجد أو ينزل من الأمور سواء الأقوال أو الأفعال، فإن كانت نتائجها تتفق مع مقصد الشارع من تشريعها أمر بها، وإن كانت لا تتفق منعها ابتداء؛ لأن الدفع أسهل من الرفع.

وضوابط هذا النظر:

1- ترجح حصول المآل سواء أكان مصلحة أم مفسدة، وذلك بغلبة الظن على أقل تقدير.

2- أن يكون النظر على وفق مقاصد الشريعة.

3- أن يكون المآل المتوقع منضبطًا في علته وحكمه.

ومثاله من كتاب الله -تعالى-: قوله -عز وجل-: (وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ) (الأنعام:108)، حيث نهى الله -تعالى- عن سب معبودات المشركين مع أن فيه مصلحة، وهي تخذيل المشركين وتوهين أمر الشرك، لكن لما وُجد له مآل آخرٍ مراعاتُه أرجح، وهو: سبهم الله -تعالى- وملء ما في السماوات والأرض سبًّا في الأوثان لا يزن انحرافهم بكلمة واحدة في شأن الرب -سبحانه- نهى عن هذا العمل المؤدي إليه مع كونه سببًا في مصلحة، ومأذونًا فيه؛ لولا هذا المآل".

قال النووي -رحمه الله-: "وفي هذا الحديث... إذا تعارضت المصالح أو تعارضت مصلحة ومفسدة، وتعذر الجمع بين فعل المصلحة وترك المفسدة بدئ بالأهم، لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أخبر أن نقض الكعبة وردها إلى ما كانت عليه من قواعد إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- مصلحة، ولكن تعارضه مفسدة أعظم منه، وهي: خوف فتنة بعض من أسلم قريبًا، وذلك لما كانوا يعتقدونه من فضل الكعبة فيرون تغييرها عظيمًا؛ فتركها -صلى الله عليه وسلم-... " اهـ.

وقال الحافظ ابن حجر -رحمه الله-: "يستفاد من هذا الحديث: ترك المصلحة؛ لأمن الوقوع في المفسدة، ومنه: ترك إنكار المنكر؛ خشية الوقوع في أنكر منه" اهـ.

وقد عمل أهل العلم في كل زمان ومكان بهذه القاعدة -فيما نزل بهم من نوازل- التي هي من أسس السياسة الشرعية، وهذا نحتاج إليه في مرحلتنا هذه أكثر مما سبق؛ لأن الصراع محتدم والنفوس مشحونة، وهناك من يريد للبلد عدم الاستقرار وجر البلاد إلى حرب أهلية، وقد حدثت مقدمات له، لكن الله سلَّم بحكمة المشايخ والعلماء كما فعل الشيخ "المحلاوي" -حفظه الله- من منع الشباب من المجيء إلى محيط المسجد، وكذا كثير من الشباب الذي لم يقدم على شيء إلا بعد الرجوع وسؤال المشايخ.

ويجب أن نعلم أن جميع الناس محل دعوة لنا، ويمكن عن طريق التفاهمات مع رؤوس هؤلاء الشباب -إما المدفوع حماسة أو المستأجر- أن ننهي هذا الاحتقان، وقد جربنا فنجحنا مع من استطعنا الوصول إليه بتخذيله أو إقناعه بحرمة الدم والمساجد وأهل العلم.

وأعجبني جدًّا ما فعله المسلمون في "هولندا" إبان عرض النائب الهولندي "فيلدرز" فيلمه المعادي للإسلام: "فتنة"!

أولاً: دعت جمعية الأئمة كل المسلمين شيوخًا وشبابًا إلى الرزانة والهدوء والتعقل، وأن يتوخوا الحكمة في الردود، وحذرتهم من القيام بأفعال سلبية تعود بالضرر عليهم، وعلى المجتمع عمومًا.

قالت في بيان لها: "إن أي رد فعل عنيف يخدم أعداء الله الإسلام، ويصب في نفس الهدف الذي يريد "فيلدرز" نفسه، وهو زرع فتيل الصراع بين أفراد المجتمع".

قلتُ: وهو ما يريده خصوم الدعوة الآن، فالحذر... ولزوم ركب العلماء وإرجاع الأمور إليهم كما أمرنا شرعًا.

ثانيًا: عقد شباب مسلمون من أبناء الجيل الثاني ورشة عمل حوارية في ضاحية "بأمستردام"؛ لاحتواء تداعيات الفيلم الذين شاهدوا عرضًا له، وفي أثناء هذه الورشة أشهر أحد الهولنديين إسلامه ليصبح ثالث شخص دخل في الإسلام خلال أسبوع واحد ردًّا على عبارة انتهى بها الفيلم تقول: "أوقفوا أسلمة أوروبا".

ثالثًا: فتحت جميع المساجد الهولندية أبوابها للرد على استفسارات الهولنديين بشأن القرآن الكريم والإسلام، وقامت مؤسسة النشر السعودية "دار البينة" بإعلان بدء مشروع توزيع الكتاب الخيري باللغة الهولندية تحت شعار: "نصرة القرآن الكريم من الانفعال للفعل"، وتعدى الاهتمام والإقبال المتزايد طور التوزيع إلى طور الشراء حتى نفدت تقريبًا الكتب والمصاحف الإلكترونية المترجمة. (راجع موقع: مفكرة الإسلام).

وهكذا يكون موقفنا: "من الانفعال للفعل بالحكمة والموعظة الحسنة".

والله -تعالى- أعلم

www.anasalafy.com
موقع أنا السلفي.

تصنيفات المادة

ربما يهمك أيضاً