الثلاثاء، ٨ شوال ١٤٤٥ هـ ، ١٦ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

العمل الجماعي بين الشورى والجندية

ومتى حدث هذا التوازن بين "الشورى" و"الجندية"، وتربى الأفراد قادة وجندًا على

العمل الجماعي بين الشورى والجندية
محمد إسماعيل أبو جميل
الاثنين ٠١ أبريل ٢٠١٣ - ١٨:٢٤ م
3524
العمل الجماعي بين الشورى والجندية

21-جماد أول-1434هـ   1-إبريل-2013      


كتبه/ محمد إسماعيل أبو جميل

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فلكي يتم أي عمل جماعي على وجهه الأكمل والأرضى لله -جلَّ وعلا-، فلابد من توازن بين مبدأي: "الشورى" و"الجندية" لدى أفراده؛ قادة وجندًا، وأن يُربى الجميع على ذلك.

وإذا استقر ذلك في نفسية الأفراد لكان من أفضل وسائل التعامل مع الاختلاف الواقع لا محالة في الرؤى والاجتهادت، ولضممنا آلية جيدة لاتخاذ القرار تريح القادة وترضي الأتباع وتستوعب الرؤى المتعددة في ذات الأمر من جهة، ومن جهة أخرى نضمن تعاملاً سويًّا لأفراد الكيان مع القرار بعد صدوره حتى وإن اختلف اجتهاد بعضهم مع ما ارتآه القادة، وحينئذٍ يسير القطار آمنًا لمحطة الوصول.

فلماذا "الشورى"؟!

يقول الله -عز وجل-: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا(النساء:58).

فمن كان في المقدمة والقيادة كان عليه حمل ثقيل وأمانة عظيمة لابد أن يؤديها على تمامها لمن ورائه من جند في كل قرار يتخذه، فعن معقل بن يسار عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَا مِنْ أَمِيرٍ يَلِي أَمْرَ الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ لا يَجْهَدُ لَهُمْ وَيَنْصَحُ إِلا لَمْ يَدْخُلْ مَعَهُمُ الْجَنَّةَ(رواه مسلم).

ولأن الوحي والعصمة انقطعا بعد النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولأن النقص سمة بشرية جعل الله مخرجًا لمتخذي القرار في "الشورى": (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ(الشورى:38)، (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ(آل عمران:159)، فكانت الشورى سمة للمجتمع المسلم يمتاز بها عن غيره، بل كانت عنوانًا للمنهج النبوي الذي أمرنا الله بالتأسي به: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا(الأحزاب:21)، وهذا رغم عصمته وتأييده بالوحي -صلى الله عليه وسلم-، ولكن ليعلم أمة عمرها عمر الدنيا أنها ما أخرجت إلا لقيادة العالم لمرضاة الله -تعالى-: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ... ) (آل عمران:110).

والأمثلة لا تُحصى كثرة من سيرته -صلى الله عليه وسلم-، ويكفي الإشارة ليوم بدر إذ نزل -صلى الله عليه وسلم- على رأي الحباب بن المنذر فجعل جيش المسلمين بين بئر بدر وبين عسكر المشركين؛ ليحول بينهم وبين الماء بعد أن اختار -صلى الله عليه وسلم- موقعًا للمسلمين يجعل البئر بين الفريقين.

وكذلك يوم أحد استشار صحابته -صلى الله عليه وسلم- في الخروج لملاقاة العدو أو التحصن بالمدينة والدفاع عنها، ونزل على رأي الشباب رغم مخالفة ذلك لرأيه -صلى الله عليه وسلم-، ولكنه يُرسي دعائم دولة ويُربي جيلاً يُعده لاستكمال المسيرة من بعده، بل إنه يُكوِّن عقلية وفكر المسلم وثقافته المجتمعية، فالشورى هي أقرب الطرق لإصابة الخير في الأمور كلها وأعون على إصابة الحق، والمرء قليل بنفسه كثير بإخوانه.

والشورى هي السبيل الأيسر للخروج من الخلاف المتحتم وجوده في أي اجتماع.

والشورى تجعل آراءنا أقرب للموضوعية أكثر من الذاتية؛ إذ تفرض على المشاركين أن تكون لديهم معايير محددة وموضوعية للقرارات والرؤى المقترحة، وهذه الموضوعية تنمو مع نمو النقاشات والحوارات، أما العمل الفردي فمرده قناعة القائم بالعمل؛ لذا هو أقرب للذاتية من الموضوعية، إذن "فالشورى راحة للقادة وحق للأتباع" للوصول لأوفق القرارات وأقربها للمصلحة وأبعدها عن المفسدة.

ولماذا الجندية؟!

من الأمور البدهية أنه لا يتم التعاون والاجتماع إلا بقيادة وطاعة وجندية كما هي من فطرة جميع البشر، وهذا مقتضي الحديث: (إِذَا كَانَ ثَلاثَةٌ فِي سَفَرٍ فَلْيُؤَمِّرُوا أحدهم(رواه أبو داود، وحسنه الألباني)، وإلا فلا معنى للإمرة "القيادة" بدون الطاعة والجندية.

وكما أن الشورى موضعها قبل اتخاذ القرار فالجندية تلزم بعد صدور القرار، وكما أن الشورى راحة للقيادة وحق للأتباع وضمان للمصلحة فكذلك الجندية والطاعة واجب على الأتباع وحق للقادة وضمان لتحقيق المصلحة على أرض الواقع.

والسؤال الذي يدور بخلد كل فرد في المجموع هو ما حدود هذه الطاعة؟ وما مدى وجوب التزام الفرد بقرارات الجماعة؟ ومدى السعة في مخالفة الفرد لقرار الجماعة إذا خالف رأي الجماعة؟

والجواب:

أولاً: تقرير أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.

ثانيًا: لابد من الإشارة إلى أنواع الخلاف، وأنه منه السائغ وغير السائغ، والكلام هنا على الاجتهادات السائغة التي لا تخالف نصًا ولا إجماعًا ولا قياسًا جليًّا.

 وحينئذٍ يمكن تقسيم الأمر إلى ثلاثة أقسام:

1- ما يسع الفرد أن يخالِف أو يوافق، بل قد لا يلزم للجماعة أن يكون لها رأي موحد فيه، و مثاله: الصوم والفطر في السفر.

2- ما يسع الفرد أن يخالف أو يوافق، ولكن مع عدم إظهار المخالفة، ومثاله: مسألة اتحاد واختلاف المطالع.

3- ما لا يسع الفرد أن يخالف فيه، و مثاله: الأمور العسكرية والتي لا تحدث النكاية فيها إلا بالتزام المجموع كله، وقد يؤدي تأخر القليل لأن تنقلب الموازين لغير صالح المجموع، وغالبًا يتبعها الأمور السياسية. (اهـ بتصرف من كلام الشيخ عبد المنعم الشحات).

وفي العمل الجماعي عامة والسياسي خاصة علينا أن ندرك أن التزام القرار بكل قوة وهمة تأثيره أكبر بكثير من القرار نفسه أصاب أم لم يصب؛ لأنه بالتزام القرار وإنجاحه يزداد وزنك ورقمك في المعادلة السياسية ولا يمكن تهميشك، وبذلك تقترب رويدًا رويدًا من تحقيق مشروعك الفريد الذي لا اختلاف عليه البتة، وفي المقابل إذا افترقنا وتناطحنا عند كل بادرة خلاف في وجهات النظر سنجد أنفسنا بعد عدة مواقف أفرادًا متفرقين ليس لنا وزن ولا قيمة في موازين السياسة؛ مما يؤثر على تطبيق مشروعنا الإسلامي والذي يتباكى عليه الكثير منا، وقد نكون نحن السبب في إضعافه وتهميشه.

وكذلك فإن عالم السياسة عالم غامض باطنه أعمق من ظاهره بكثير؛ قد لا يُعلم فيه المخطئ من المصيب إلا بعد أزمنة عديدة -كما هو الحال في كثير من الأحداث التاريخية-، قد لا يوجد فيه قرار مصيب بدرجة مائة في المائة وقرار خطأ بدرجة مائة في المائة، بل يوجد فيه قرار يُلتزم به وسيتم دعمه "يزيد من قوة الكيان"، وقرار لا يلتزم به ولا يتم دعمه "يُضعف الكيان".

وأما عن التوازن بين الشورى والجندية الذي نقصده، فنقول للقيادة والتي تنتظر الجندية والطاعة من أتباعها أنها: عليها ألا تغفل عن الشورى بينها وبين أتباعها بالآلية التي يُتفق عليها "مشاورة الجميع أو من ينوب عنهم" فلا يُدرى على يد مَن سيقتح الله بالخير، وكذلك إذا اشتركت القاعدة بصورة ما في اتخاذ القرار "عن طريق الشورى" يكون ذلك من أكبر المحفزات لها على الاستجابة للقرار والعمل به؛ حتى لو كانت صورته النهائية على خلاف ما كان يرى البعض منهم.

ونقول لجميع أفراد الكيان ممن ليس في موقع القيادة أو اتخاذ القرار: لك حق وعليك واجب، أما الحق الذي لك فهو أن تضمن آلية سليمة في اتخاذ القرار من خلال عمل مؤسسي، وآلية شورى صحيحة لضمان أصلح القرارات لك وللمجموع كله.

وعليك واجب، أولاً لو وُفقت وكنت ممن استُشير في أمر فأحسن بذل النصح فالدين النصيحة، بل حتى وإن لم تتسنَ مشاورتك لاعتبار ما من ضيق وقت أو أن يقتضي الحدث سرعة في اتخاذ القرار لا تسمح بالوصول لكل أطراف الكيان؛ فعليك تقديم النصيحة ما استطعت لذلك سبيلاً إن تيسر لك.

ومن جهة أخرى: لو قدمتَ نصحك ومشورتك فلا يلزم أن يستقر عليها الاختيار، واعلم أنك فرد من مجموع الكل فيه مثلك يبذل النصح، وأن الاختلاف في الرؤى واقع لا محالة، وحينئذٍ لابد من الاستقرار على أمر واحد من كل الآراء المقترحة، وطالما أدير الأمر بطريقة صحيحة -أنت تعلم كيفيتها طالما كنت جزءًا من الكيان- فلا تجد في نفسك شيئًا إن قُدم رأي غيرك عليك، فليس معنى أنك قد استُشرت أن كلامك مُلزم فأنت واحد من مجموع.

وحينئذٍ يأتي دور جُنديتك وواجبها في تنفيذ القرار المتخذ -وإن ارتأيت خلافه- على النحو الذي بيَّنا، ولك في خالد بن الوليد -رضي الله عنه- وقصة عزله وتولية أبي عبيدة بن الجراح مكانه أسوة حسنة.

واعلم أن أساس أي تجمع أو كيان هو أن يتنازل الفرد عن بعض ما يراه حقًا له لأجل مصلحة المجموع؛ وإلا لما كان لحديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِذَا كَانَ ثَلاثَةٌ فِي سَفَرٍ فَلْيُؤَمِّرُوا أحدهم) معنى!

ومتى حدث هذا التوازن بين "الشورى" و"الجندية"، وتربى الأفراد قادة وجندًا على ذلك لسار القطار بهدوء، وكفينا قدرًا كبيرًا من العقبات الداخلية التي تعوقنا وتؤخرنا عن الوصول لما نبتغيه، ولأغلقنا بابًا عظيمًا من أبواب أمراض القلوب، ولسار الركب بهدوء وسلام.

أسأل الله أن يلهمنا رشدنا وأن يعيذنا من شر نفوسنا، وأن يجعلنا مفاتيح للخير مغاليق للشر، وألا يجعلنا مفاتيح للشر مغاليق للخير، وصلِّ اللهم على نبيينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

www.anasalafy.com

موقع أنا السلفي