الجمعة، ٢٠ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٩ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

حب الصحابة وتعظيمهم من عقيدة أهل الإسلام وأصولهم

فلذلك كان الواقع فيهم كان على خطر عظيم، وكان هذا من علامات زيغه وانحرافه

حب الصحابة وتعظيمهم من عقيدة أهل الإسلام وأصولهم
محمود عبد الحفيظ
الأربعاء ٢٤ أبريل ٢٠١٣ - ٠٦:١٢ ص
6502

13-جماد ثاني-1434هـ   23-إبريل-2013      

كتبه/ محمود عبد الحفيظ

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فإن من عقيدة أهل الإسلام وأصولهم حب أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- والذب عنهم، واعتقاد ما ثَبتَ لهم من الفضل والأجر، فإن حبهم دين وإيمان وإحسان وبغضهم كفر ونفاق وطغيان، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- حريصًا على أن يُظهِر ما للصحابة من الفضائل والمزايا ولو تتبعنا ذلك لكثر في ذلك المقال، فقد قال في الأنصار: (الأَنْصَارُ لاَ يُحِبُّهُمْ إِلا مُؤْمِنٌ وَلاَ يُبْغِضُهُمْ إِلا مُنَافِقٌ، فَمَنْ أَحَبَّهُمْ أَحَبَّهُ اللَّهُ وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ أَبْغَضَهُ اللَّهُ(متفق عليه).

والمهاجرون أفضل من الأنصار فقد جمعوا بين النصرة والهجرة، وفضائل أبي بكر رفيق الغار وعمر الذي فر منه الشيطان وذي النورين عثمان وعلي، وسائر العشرة وأهل بدر وأصحاب بيعة الرضوان وكل الصحابة الأطهار لا تخفى على مَن له عينان.

- فإن الصحابة الكرام هم الذين نقلوا إلينا الإسلام، وقد أثنى الله عليهم في القرآن ورضي عنهم ورضوا عنه، وحثنا على الاستغفار لهم والترحم عليهم: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ(الحشر:10).

- بل جعل الله إيمانهم مقياسًا وميزانًا لإيمان الناس من بعدهم فقال: (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ(البقرة:137).

- قال عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: "إِنَّ اللَّهَ نَظَرَ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ فَوَجَدَ قَلْبَ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَيْرَ قُلُوبِ الْعِبَادِ فَاصْطَفَاهُ لِنَفْسِهِ فَابْتَعَثَهُ بِرِسَالَتِهِ، ثُمَّ نَظَرَ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ بَعْدَ قَلْبِ مُحَمَّدٍ فَوَجَدَ قُلُوبَ أَصْحَابِهِ خَيْرَ قُلُوبِ الْعِبَادِ فَجَعَلَهُمْ وُزَرَاءَ نَبِيِّهِ يُقَاتِلُونَ عَلَى دِينِهِ، فَمَا رَأَى الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ، وَمَا رَأَوْا سَيِّئًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ سَيِّئٌ" (أخرجه الإمام أحمد في مسنده، وحسنه الألباني موقوفًا على ابن مسعود -رضي الله عنه-).

- وقال الخطيب البغدادي -رحمه الله-: "عَلَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَرِدْ مِنَ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- وَرَسُولِهِ فِيهِمْ شَيْءٌ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ لأَوْجَبَتِ الْحَالُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا مِنَ الْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ وَالنُّصْرَةِ, وَبَذْلِ الْمُهَجِ وَالأَمْوَالِ, وَقَتْلِ الآبَاءِ وَالأَوْلادِ, وَالْمُنَاصَحَةِ فِي الدِّينِ وَقُوَّةِ الإِيمَانِ وَالْيَقِينِ - الْقَطْعَ عَلَى عَدَالَتِهِمْ وَالاعْتِقَادَ لِنَزَاهَتِهِمْ, وَأَنَّهُمْ أَفْضَلُ مِنْ جَمِيعِ الْمُعَدَّلِينَ وَالْمُزَكَّيْنَ الَّذِينَ يَجِيئُونَ مِنْ بَعْدِهِمْ أَبَدَ الآبِدِينَ. هَذَا مَذْهَبُ كَافَّةِ الْعُلَمَاءِ وَمَنْ يُعْتَدُّ بِقَوْلِهِ مِنَ الْفُقَهَاءِ" (الكفاية في علم الرواية للخطيب البغدادي).

- وقال ابن القيم -رحمه الله- في ميميته الشهيرة:

أولـئـك أصـحاب الـنـبـي وحـزبِه         ولولاهمُ ما كان في الأرض مسلمُ

ولـولاهــم كــادت تـمـيـد بأهـلها         ولـكـن رواســيـهـا وأوتـادُهـا هـمُ

ولـولاهـم كـانـت ظـلامًا بـأهـلـها        ولـكـن هــم فـيـهـا بـدور وأنـجــم

- ونهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن سبهم، وأخبر بأن الواقع فيهم لا يقبل الله منه صَرفًا ولا عدلاً فقال: (لا تَسُبُّوا أَصْحَابِي، لا تَسُبُّوا أَصْحَابِي، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا أَدْرَكَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلا نَصِيفَهُ(متفق عليه)، وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (مَنْ سَبَّ أَصْحَابِي فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلا عَدْلاً(رواه الطبراني، وحسنه الألباني). العدل: الفرائض، والصَرف: التطوع.

- ولقد درج أئمة أهل السنة والجماعة على ذكر الصحابة -رضي الله عنهم- في كتب العقيدة لمَّا ظهر رفض الصحابة والطعن فيهم،فقد يُذكر في بعض كتب العقيدة عند أهل السنة بعضُ الأحكام التي جاءت في القرآن أو ثبتت بها السنة؛ للتنبيه على مخالفة بعض فرق الضلال في تلك الأحكام كغسل الرِّجلين المذكور في القرآن والمبيَّن في السنة من فعله -صلى الله عليه وسلم- وقوله، وكالمسح على الخُفين الذي تواترت به السنة.

ولأن من أصول الإيمان ومعاقد الإسلام المجمع عليها: الإيمان بما جاء عن الله -عز وجل- وصح عن نبيه -صلى الله عليه وسلم- إيمانًا مجملاً ومفصَّلاً بما بلغ المسلم منها؛ فلذا لا تراهم نصوا على الإيمان بشيء من فروع تلك الأصول إلا بعد ظهور من يكذب بها، فكان كلما خرجت طائفة وفرقة كذبت بشيء مما جاء عن الله -جلَّ وعلا- أو عن رسوله -صلى الله عليه وسلم- نص أئمة الإسلام -مقابل ذلك- على الإيمان بذلك الأمر خصوصًا، والإيمان عمومًا بكل ما جاء، لخلل هذا الإيمان الكلي بعدم الإيمان بجزء من فروعه.

فليس بغريب أن يُذكر في مباحث العقيدة بيان فضل الصحابة وعلو قدرهم؛ لأنهم خير القرون المفضَّلة؛ "ولأن الكتاب والسنة هما الينبوع الصافي الذي تُستمد منه العقيدة، ويُستمد منه كل خير وهدى، ولم يعرف الناس الكتاب والسنة ولَم يصلا إليهم إلا عن طريق الصحابة، فهم الواسطة بين غيرهم وبين رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولا يَستنكرُ ذكرَ الصحابة في كتب العقائد إلا مَن امتلأ قلبُه بأمراض الشبهات، وشوى قلبَه الحقدُ على خير هذه الأمة التي هي خير الأمَم" (بتصرف من "الانتصار لأهل السنة والحديث" للشيخ عبد المحسن العباد).

عقيدة أئمة السلف في الصحابة وبعض أقوالهم:

- قال الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله-: "ومن السنَّة: ذكرُ محاسن أصحاب رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كلِّهم أجمعين والكفّ عن الذي جرى بينهم، فمَن سبَّ أصحابَ رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أو وأحدًا منهم فهو مبتدعٌ رافضيٌّ، حبُّهم سنَّةٌ والدعاءُ لهم قربةٌ، والاقتداءُ بهم وسيلةٌ، والأخذُ بآثارهم فضيلةٌ" (السنة للإمام أحمد بن حنبل). وقال: "لا يجوز لأحد أن يذكر شيئًا من مساويهم، ولا يطعن على أحد منهم فمن فعل ذلك فقد وجب على السلطان تأديبه وعقوبته ليس له أن يعفو عنه، بل يعاقبه ثم يستتيبه؛ فإن تاب قَبِل منه وإن لم يتب أعاد عليه العقوبة وخلَّده في الحبس حتى يتوب ويرجع".

- قال الإمام الطحاوي -رحمه الله-: "وَنُحِبُّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَلا نُفَرِّطُ فِي حُبِّ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَلا نَتَبَرَّأُ مِنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ، وَنُبْغِضُ مَنْ يُبْغِضُهُمْ وَبِغَيْرِ الْخَيْرِ يَذْكُرُهُمْ، وَلا نَذْكُرُهُمْ إِلا بِخَيْرٍ. وَحُبُّهُمْ دِينٌ وَإِيمَانٌ وَإِحْسَانٌ، وَبُغْضُهُمْ كُفْرٌ وَنِفَاقٌ وَطُغْيَانٌ" (العقيدة الطحاوية).

- قال ابن أبي زيد القيرواني -رحمه الله-: "وأنَّ خيْرَ القرون القرنُ الَّذين رَأَوا رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- وآمَنوا به ثمَّ الَّذين يَلُونَهم ثمَّ الَّذين يَلونَهم، وَأفْضَلُ الصحابة الخُلَفاءُ الرَّاشدون المَهْديُّون؛ أبو بكر ثمَّ عُمر ثمَّ عُثمان ثمَّ عليٌّ -رضي الله عنهم أجمعين-.

وأن لاَ يُذكَرَ أَحَدٌ مِن صحابَةِ الرَّسولِ -صلى الله عليه وسلم- إلاَّ بأحْسَن ذِكْرٍ، والإمساك عمَّا شَجَرَ بَينهم، وأنَّهم أحَقُّ النَّاس أن يُلْتَمَسَ لَهم أَحَسَن المخارج، ويُظَنَّ بهم أحْسن المذاهب" (من مقدمة ابن أبي زيد القيرواني لكتابه الرسالة).

- قال الإمام أبو عثمان الصابوني -رحمه الله-: "ويَرون الكفَّ عمَّا شجر بين أصحاب رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وتطهير الألسنة عن ذكر ما يتضمَّن عيبًا لهم أو نقصًا فيهم، ويرون التَّرحُّم على جميعهم والموالاة لكافَّتهم" (عقيدة السلف وأصحاب الحديث).

- قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "وَمِنْ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ: سَلاَمَةُ قُلُوبِهِمْ وَأَلْسِنَتِهِمْ لأَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- كَمَا وَصَفَهُمُ اللهُ بِهِ فِي قَوْلِهِ -تَعَالَى-: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)، وَطَاعَةَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فِي قَوْلِهِ: (لاَ تَسُبُّوا أَصْحَابِي فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهُ لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلا نَصِيفَهُ)، وَيَقْبَلُونَ مَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسَّنَّةُ وَالإِجْمَاعُ مِنْ فَضَائِلِهِمْ وَمَرَاتِبِهِمْ... " (العقيدة الواسطية).

- فمنهج أهل السنة والجماعة الإمساك عن ذكر هفوات الصحابة وتتبع زلاتهم وعدم الخوض فيما شجر بينهم؛ امتثالا لقول النبي: (إِذا ذُكِرَ أصْحابِي فأمْسِكُوا، وَإِذا ذُكِرَتِ النُّجُومُ فأَمْسِكُوا، وَإذا ذُكِرَ القَدَرُ فأمْسِكُوا(أخرجه الطبراني في الكبير، وصححه الألباني)؛ وحرصًا على سلامة صدور الناس لهم.

سلامة صدور المؤمنين وحسن ظنهم بأصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-:

- يقول الإمام الذهبي -رحمه الله-: "فَالقَوْمُ لَهُم سَوَابِقُ وَأَعْمَالٌ مُكَفِّرَةٌ لِمَا وَقَعَ مِنْهُمُ، وَجِهَادٌ مَحَّاءٌ، وَعُبَادَةٌ مُمَحِّصَةٌ، وَلَسْنَا مِمَّنْ يَغْلُو فِي أَحَدٍ مِنْهُم، وَلاَ نَدَّعِي فِيْهِم العِصْمَةَ، نَقْطَعُ بِأَنَّ بَعْضَهُم أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ، وَنَقْطَعُ بِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ أَفْضَلُ الأُمَّةِ، ثُمَّ تَتِمَّةُ العَشْرَةِ المَشْهُوْدِ لَهُم بِالجَنَّةِ... فَأَمَّا مَا تَنْقُلُهُ الرَّافِضَةُ، وَأَهْلُ البِدَعِ فِي كُتُبِهِم فَلاَ نُعَرِّجُ عَلَيْهِ وَلاَ كرَامَةَ، فَأَكْثَرُهُ بَاطِلٌ وَكَذِبٌ وَافْتِرَاءٌ، فَدَأْبُ الرَّوَافِضِ رِوَايَةُ الأَبَاطِيْلِ أَوْ رَدُّ مَا فِي الصِّحَاحِ وَالمسَانِيْدِ، وَمتَى إِفَاقَةُ مَنْ بِهِ سَكْرَانٌ ؟!" (سير أعلام النبلاء).

- قال ابن دقيق العيد -رحمه الله-: "وما نقل عنهم فيما شجر بينهم واختلفوا فيه، فمنه ما هو باطل وكذب فلا يلتفت إليه، وما كان صحيحًا أولناه تأويلاً حسنًا؛ لأن الثناء عليهم من الله سابق، وما ذكر من الكلام اللاحق محتمل للتأويل، والمشكوك والموهوم لا يبطل الملحق المعلوم" (أصحاب رسول الله ومذاهب الناس فيهم لعبد العزيز العجلان).

- وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "مَا يُنْقَلُ عَنِ الصَّحَابَةِ مِنَ الْمَثَالِبِ فَهُوَ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا هُوَ كَذِبٌ، إِمَّا كَذِبٌ كُلُّهُ، وَإِمَّا مُحَرَّفٌ قَدْ دَخَلَهُ مِنَ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ مَا يُخْرِجُهُ إِلَى الذَّمِّ وَالطَّعْنِ، وَأَكْثَرُ الْمَنْقُولِ مِنَ الْمَطَاعِنِ الصَّرِيحَةِ هُوَ مِنْ هَذَا الْبَابِ يَرْوِيهَا الْكَذَّابُونَ الْمَعْرُوفُونَ بِالْكَذِبِ... النَّوْعُ الثَّانِي: مَا هُوَ صِدْقٌ، وَأَكْثَرُ هَذِهِ الأُمُورِ لَهُمْ فِيهَا مَعَاذِيرُ تُخْرِجُهَا عَنْ أَنْ تَكُونَ ذُنُوبًا وَتَجْعَلُهَا مِنْ مَوَارِدِ الاجْتِهَادِ الَّتِي إِنْ أَصَابَ الْمُجْتَهِدُ فِيهَا فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِنْ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ.

وَعَامَّةُ الْمَنْقُولِ الثَّابِتِ عَنِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ هَذَا الْبَابِ، وَمَا قُدِّرَ مِنْ هَذِهِ الأُمُورِ ذَنْبًا مُحَقَّقًا فَإِنَّ ذَلِكَ لا يَقْدَحُ فِيمَا عُلِمَ مِنْ فَضَائِلِهِمْ وَسَوَابِقِهِمْ وَكَوْنِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ; لأَنَّ الذَّنْبَ الْمُحَقَّقَ يَرْتَفِعُ عِقَابُهُ فِي الآخِرَةِ بِأَسْبَابٍ مُتَعَدِّدَةٍ، مِنْهَا: التَّوْبَةُ الْمَاحِيَةُ... وَمِنْهَا: الْحَسَنَاتُ الْمَاحِيَةُ لِلذُّنُوبِ; فَإِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ، وَقَدْ قَالَ -تَعَالَى-: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ(النِّسَاءِ:31)، وَمِنْهَا: الْمَصَائِبُ الْمُكَفِّرَةُ. وَمِنْهَا: دُعَاءُ الْمُؤْمِنِينَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ، وَشَفَاعَةُ نَبِيِّهِمْ، فَمَا مِنْ سَبَبٍ يَسْقُطُ بِهِ الذَّمُّ وَالْعِقَابُ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الأُمَّةِ إِلا وَالصَّحَابَةُ أَحَقُّ بِذَلِكَ، فَهُمْ أَحَقُّ بِكُلِّ مَدْحٍ وَنَفْيِ كُلِّ ذَمٍّ مِمَّنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الأُمَّةِ" (منهاج السنة النبوية).

فلذلك كان الواقع فيهم كان على خطر عظيم، وكان هذا من علامات زيغه وانحرافه فلم يجترئ على الصحابة أحد إلا وله خبيئة سوء، فالصحابة منهم تلقت الأمة كتاب الله -عز وجل- وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وهذا يعني أن الطعن في عدالتهم وتجريحهم يزلزل بناء الإسلام ويقوِّض دعائم الشريعة، ويشكك في صحة القرآن العظيم، ويضيع الثقة بسنة النبي -صلى الله عليه وسلم-.

ومن هنا جاءت أقوال أئمة أهل السنة والجماعة صريحة في بيان حكم من ينتقصهم:

- قال الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله-: "إِذَا رَأَيْتَ رَجُلاً يَذْكُرُ أَحَدًا مِنَ الصَّحَابَةِ بِسُوءٍ فَاتَّهِمْهُ عَلَى الإِسْلامِ" (البداية والنهاية لابن كثير).

- وسئل الإمام النسائي -رحمه الله- عن معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنهما- فقال: "إنما الإسلام كدارٍ لها بابٌ، فبابُ الإسلام الصحابة، فمن آذى الصحابةَ إنما أرادَ الإسلام، كمن نَقرَ البابَ إنما يريدُ دخولَ الدار، قال: فمن أراد معاويةَ -رضي الله عنه- فإنما أراد الصحابة" (تهذيب الكمال/ ترجمة الإمام النسائي، وأخرجه الحافظ ابن عساكر في تاريخه).

- قال الإمام أبو زُرْعة الرازي -رحمه الله-: "إِذَا رَأَيْتَ الرَّجُلَ يَنْتَقِصُ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَّ- فَاعْلَمْ أَنَّهُ زِنْدِيقٌ, وَذَلِكَ أَنَّ الرَّسُولَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَّ- عِنْدَنَا حَقٌّ, وَالْقُرْآنَ حَقٌّ, وَإِنَّمَا أَدَّى إِلَيْنَا هَذَا الْقُرْآنَ وَالسُّنَنَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَّ-, وَإِنَّمَا يُرِيدُونَ أَنْ يُجَرِّحُوا شُهُودَنَا لِيُبْطِلُوا الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ, وَالْجَرْحُ بِهِمْ أَوْلَى وَهُمْ زَنَادِقَةٌ" (رواه الخطيب في الكفاية والحافظ ابن حجر في الإصابة).

- قال الإمام السرخسي -رحمه الله-: "الشريعة إِنَّمَا بلغتنا بنقلهم فَمن طعن فيهم فَهُوَ ملحد منابذ لِلإِسْلامِ دواؤه السَّيْف إِن لم يتب"(أصول السرخسي).

- وقال الإمام مالك -رحمه الله- فيمن يسب الصحابة: "إنما هؤلاء أقوام أرادوا القدح في النبي -صلى الله عليه وسلم- فلم يمكنهم ذلك، فقدحوا في أصحابه حتى يقال: رجل سوء ولو كان رجلاً صالحا لكان أصحابه صالحون!" (الصارم المسلول لشيخ الإسلام ابن تيمية).

- وقال الشوكاني -رحمه الله-: "وجناب الصحابة أَمْرٌ عَظِيمٌ فَمَنِ انْتَهَكَ أَعْرَاضَ بَعْضِهِمْ فَقَدْ وَقَعَ فِي هُوَّةٍ لا يَنْجُو مِنْهَا سَالِمًا"(إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول).

فدلت هذه النصوص على مكانة الصحابة وفضلهم وأن من أمارات الإيمان وعلاماته: سلامة الصدور والألسنة تجاههم، وأن كل من انتقصهم أو رضي بانتقاصهم فهو من الضالين والمغرضين، والصحابة كلهم عدول والقدح فيهم لا يضرهم، بل يجري الله الحسنات والثواب لهم كما قالت عائشة -رضي الله عنها-، فعن جابر -رضي الله عنه- قال: قيل لعائشة: إن أناسًا يتناولون أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى أبا بكر وعمر فقالت: "ما تعجبون من هذا؟ انقطع عنهم العمل فأحب الله أن لا ينقطع عنهم الأجر" (جامع الأصول لابن الأثير).

ولقد سمعنا من الأستاذ "صبحي صالح" -القيادي بجماعة الإخوان المسلمين- كلامًا لا ينتهي منه العجب حيث قال ما نصه: "الشيعة مذهب إسلامي معتبر وهو من مذاهب أهل السنة... لكن الذي يشتم الصحابة فهذا تاريخ؛ لأن الصحابة مش من الاعتقاد، من المقدسات من المصونات من المحرمات، لكن مش من العقائد الذي لم يختلف معي في العقيدة فليس هناك مشكلة ما دون ذلك يختلف ويتفق وأنا يجب أن أقبل وأتحمل!".

فلا ندري هل يمكن أن يصل الحال بالبعض إلى درجة أنه لا يعي ما يقول؟!

هل يجب علينا أن نتحمل وأن نقبل بشتم الصحابة وسبهم "حتى مع التسليم جدلاً أن الأمر لا تعلق له بالاعتقاد"؟!

وهل كان الأمر سيظل على ما هو عليه إذا كان من يُسب هو الأستاذ "حسن البنا" أو الآباء والأمهات؟!

كيف يمكن أن تطاوع امرئ نفسه أن يهوِّن من شأن أعراض أمهات المؤمنين وصحابة النبي -صلى الله عليه وسلم- وحرماتهم؟! فهل يصدر ذلك إلا من جاهل أو شانئ جاحد لفضل الصحابة ومكانتهم؟!

مَن مِن أئمة الإسلام وعلماء الملة -وقد مر بنا نقول عنهم وشيء من أقوالهم- اجترأ على مخالفة النصوص البينات الواضحات في الكتاب والسنة -وإجماع الأمة- في عدالة الصحابة ووجوب تعظيمهم وزعم أن الخلاف مع الشيعة الطاعنين في الصحابة والسابين لهم -بل يكفرون جمهورهم إلا نفرًا قيلاً منهم- ويجعلونهم شر أهل الملل كما نَقل شيخ الإسلام ابن تيمية عن الشعبي قوله: "وفضلت اليهود والنصارى على الرافضة بخصلتين: سئلت اليهود: من خير أهل ملتكم؟ قالوا: أصحاب موسى، وسئلت النصارى: من خير أهل ملتكم؟ قالوا: حواري عيسى، وسئلت الرافضة من شر أهل ملتكم؟ قالوا أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم-! أمروا بالاستغفار لهم فسبوهم!" - أنه خلاف ليس عقديًا، وأنه خلاف سياسي أو تاريخي، وأنه لا يفسد للود قضية، وأنه خارج أصول الدين وليس من مسائل العقيدة؟!

وللأسف قد أعرض الأستاذ "حسن البنا" -رحمه الله- عن إجابة سؤال وجهه له تلامذته حيث سألوه عن الفرْق بيْن الشيعة والسنة عند زيارة أحد أئمتهم بالمركز العام فقال غاضبًا: "ديننا واحد وإلهنا واحد ورسولنا واحد وقبلتنا واحدة وسنتنا واحدة!"، كما حكى عنه الأستاذ التلمساني.

ولقد أساء عندما اقتصر عند تناوله لقضية الخلافة والإمامة والخلاف بين الصحابة على الإمساك عما شجر بين الصحابة من خلاف دون نص على إمامة الخلفاء الراشدين الأربعة؛ مما يوهم أن الخلاف بين أهل السنة والشيعة خلاف سياسي مضى زمنه ومقتضياته والسكوت عنه أولى!

وقد يظن البعض أن هذا هو مقصود السلف في قولهم بالإمساك عما شجر بين الصحابة من خلاف وهذا باطل بلا شك، فإن الإمساك المقصود عند السلف هو عن وقائع الفتنة وتفاصيلها بعد مقتل عثمان -رضي الله عنه-، وليس عن الإقرار بخلافة أبي بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي -رضي الله عنهم-، فإن معرفة مراتب الصحابة -رضي الله عنهم- من الدين, قال ابن عمر -رضي الله عنهما-: "كُنَّا نُخَيِّرُ بَيْنَ النَّاسِ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَنُخَيِّرُ أَبَا بَكْرٍ، ثُمَّ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ، ثُمَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ" (رواه البخاري)، يعني يعتقدون أن خير الناس أبو بكر ثم عمر ثم عثمان، ويؤمن أهل السنة أن أفضل الصحابة أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي رضي الله عنهم, وتريبهم في الفضل كترتيبهم في الخلافة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "ومن طعن في خلافة أحد منهم فهو أضل من حمار أهل".

حكم سب الصحابة ومَن يسبهم:

سب الصحابة كبيرة من أعظم الكبائر؛ لأنه يسب من مدحهم الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، والرافضة الذين يسبون الصحابة -رضي الله عنهم- ويكفرونهم خاصة أبا بكر وعمر ويعتقدون أن أول الخلفاء علي وهم الإمامية الاثنى عشرية الصحيح أن أقوالهم بدعية كفرية، ولكن لكثرة الجهل وانتشار البدع وعدم تميز أصحاب العقائد الكفرية عن غيرهم من أهل البدع غير الكفرة فلا يمكن إطلاق الكفر على عمومهم وعوامهم قبل إقامة الحجة على أعيانهم، بخلاف غلاة الرافضة الذين يعتقدون الإلهية في غير الله كالعلويين في علي، ومن يعتقدون خطأ الرسالة وأن الأمين خان فنزل على محمد بدلاً من علي، ومن يعتقدون تحريف القرآن ومن يرفعون الأئمة والأولياء فوق الأنبياء والمرسلين فهؤلاء كفار نوعًا وعينًا (انتهى بتصرف من فقه الخلاف لـ د.ياسر برهامي).

ما الواجب على كل مسلم تجاه الصحابة؟ 

الواجب على كل مسلم هو حب الصحابة -رضي الله عنهم- وتوليهم ومعرفة فضلهم، خصوصًا أفضلهم: أبا بكر وعمر، ثم عثمان، ثم عليًّا -رضي الله عنهم-، وهذا الترتيب لابد من معرفته، فترتيب هؤلاء في الفضل هو إجماع أهل السنة، ونص عليُّ بن أبي طالب -رضي الله عنه- على ترتيب أبي بكر ثم عمر -رضي الله عنهما-، حيث قال لابنه محمد بن الحنفية لما سأله: "أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟ قَالَ: أَبُو بَكْرٍ، قُلْتُ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: ثُمَّ عُمَرُ، وَخَشِيتُ أَنْ يَقُولَ عُثْمَانُ، قُلْتُ: ثُمَّ أَنْتَ؟ قَالَ: مَا أَنَا إِلا رَجُلٌ مِنَ المُسْلِمِينَ" (رواه البخاري).

فلا تجوز مخالفة هذا الترتيب، وهو تفضيل أبي بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي -رضي الله عنهم-، كما كان الصحابة على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- يفعلون، ثم باقي العشرة المبشرين بالجنة، وهم: طلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو عبيدة بن الجراح -رضي الله عنهم-.

والستة أهل الشورى الذين كان عمر -رضي الله عنهم- قد اختارهم، وجعل الخلافة فيهم يختارون منهم واحدًا، وهم: عثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنهم-، هؤلاء أفضل الصحابة بعد النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهم الذين توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو عنهم راضٍ، وأهل بدر وأهل بيعة الرضوان ومن أنفق من قبل الفتح وقاتل أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا، وكذا أزواجه -صلى الله عليه وسلم- ورضي الله عنهن أجمعين، وأفضلهن خديجة ثم عائشة -رضي الله عنهما-.

وكذا حب آل البيت فرضٌ وواجب، كما أوصانا النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: (أُذَكِّرُكُمْ اللَّهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي(رواه أحمد ومسلم)،وأهل السنة يجمعون بين حب الصحابة وحب أهل البيت، ولا يجعلون هناك تناقضًا بين حب الصحابة وحب أهل البيت كما يفعل الرافضة" (انتهى بتصرف من المنة شرح اعتقاد أهل السنة لـ د.ياسر برهامي).

رضي الله عن الصحابة أجمعين.

اللهم احشرنا مع نبيك وأهل بيته المطهرين، وصحابته الغر الميامين، اللهم آمين.

أنا السلفي

www.anasalafy.com