السبت، ١٢ شوال ١٤٤٥ هـ ، ٢٠ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

مقارنة بين نظام الخلافة وبين الدولة الحديثة ذات المرجعية الإسلامية (3)

أننا "معشر الإسلاميين" قد قبلنا بالمشاركة في ظل ذلك النظام السياسي مع إضافة الشريعة كمرجعية عليا

مقارنة بين نظام الخلافة وبين الدولة الحديثة ذات المرجعية الإسلامية (3)
كتبه/ عبد المنعم الشحات
السبت ٠٤ مايو ٢٠١٣ - ١٣:٢١ م
4414
24-جماد ثاني-1434هـ   4-مايو-2013      

هل يرفع اجتهاد الرئيس الخلاف في المسائل الاجتهادية؟

كتبه/ عبد المنعم الشحات

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد قدمنا في المقالتين السابقتين من هذه الدراسة تصورًا عامًا حول أبرز الفروق بين نظام الإمامة وبين نظام الدولة الدستورية القانونية الحديثة، وأثر هذا على رأس النظام في كل منهما؛ أعني بهما: "الإمام" في الأولى، و"الرئيس" في الثانية.

وقد ذكرنا في المقالة الأولى أبرز ميادين الخلاف، وهي:

1- أثر مبدأ الفصل بيْن السلطات في الدولة الدستورية الحديثة وأثره على صلاحيات "الرئيس" مقارنة بصلاحيات "الإمام".

2- إذا كان من المتفق عليه أن نظام الإمامة يتضمن حق المعارضة تحت مسمى: "الحسبة" بينما تلعب مؤسسة أهل الحل والعقد دور "التوازن" مع صلاحيات الرئيس، إلا أن النظام الدستوري قد جعل المعارضة المادية "أحزاب المعارضة" هي أحد أبرز آليات التوازن؛ مما يقتضي النظر إلى الأحزاب المعاصرة على أنها تقوم بهذين الدورين المزدوجين.

وتثور في العادة مشكلة في التعامل مع هذا الواقع عندما تكون الأحزاب الإسلامية جميعها في مقاعد المعارضة بينما يثور لدى البعض بعض الإشكاليات في حالة وجود حزب إسلامي حاكم أو رئيس إسلامي.

وقد ذكرنا في المقالة الثانية: مبدأ الفصل بين السلطات في "النظام الدستوري"، وما يترتب عليه من تقلص صلاحيات "الرئيس" مقارنة بصلاحيات الإمام.

وكان خلاصة ما ذكرناه أن:

أولاً: نظام الإمامة:

- مهام الدولة أداء فروض الكفايات.

- المخاطب بها الأمة.

- تختار الأمة وكيلاً عنها "الإمام" عبْر جماعة التأثير فيها "أهل الحل والعقد".

- يعتبر الإمام وكيلاً عن الأمة في كل هذه المهام "لا يوجد فصل بين السلطات".

- يفوض الإمام من يقوم بوظائف الدولة التنفيذية والتشريعية والقضائية "يوجد تمييز بين السلطات".

- تمارس الأمة بصفة عامة الحسبة السياسية على الإمام كما تمارسها بصفة أخص "أهل الحل والعقد"، والذين يكون لهم عزل الإمام إذا اقتضى الأمر ذلك.

ثانيًا: نظام الدولة الدستورية:

- الأمة مصدر السلطات.

- تختار الأمة سلطة تأسيسية.

- تحدد السلطة التأسيسية شروط من يتولى كل سلطة وحدود العلاقة بينها.

وقررنا أننا "معشر الإسلاميين" قد قبلنا بالمشاركة في ظل ذلك النظام السياسي مع إضافة الشريعة كمرجعية عليا فوق هذه السلطات (بالطبع يوجد بعض الإسلاميين الذين لم يقبلوا ذلك الحل، ولكنهم بلا شك لن يكونوا معنيين بموضوع هذه الدراسة أصلاً).

بل مثـَّل الإسلاميون العدد الأكبر في الجمعية التأسيسية، وكرسوا مبدأ الفصل بين السلطات وعملوا أكثر على تقليص صلاحيات رئيس الجمهورية لحساب صلاحيات رئيس الوزراء والبرلمان، وقدَّموا هذا الدستور للناس وامتدحوا ما فيه من تقليص صلاحيات الرئيس مما يعني أن هذا اتفاق رضائي لا يجوز لأحد أن ينقضه أو يتحلل منه.

وخرجنا من ذلك إلى أن ما أُمرنا به من طاعة ولاة الأمور مقسم بين مؤسسات الدولة كل بحسب اختصاصاته الدستورية، وكنا قد وعدنا بأن نتناول في هذه المرة الفارق الآخر المتعلق بدور الأحزاب السياسية الذي حل مكان وظيفتين في "نظام الإمامة"، وهما: "دور الحسبة السياسية" و"دور أهل الحل والعقد".

ولكن بدا لي أن ما عالجناه في المقالة السابقة في حاجة إلى مزيد إيضاح، وذلك أنني حللت ضيفًا على "ورشة نقاشية"، ورغم أنها كانت تدور حول موضوع آخر إلا أن هذا الموضوع طفا على السطح بشدة.

وناقشي فيه أحد الباحثين فذكر أربعة أمور:

الأول: أننا يمكننا اعتبار أن الرئيس إمام إلا أنه قد فوض باقي المؤسسات كلٌ في عمله.

الثاني: أننا طالما رُزقنا برئيس صالح فيجب أن نعقد معه بقلوبنا بيعة افتراضية عملاً بالحديث: (مَنْ مَاتَ وَلَيْسَ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ، مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً(رواه مسلم).

الثالث: أن الدستور قد نص على أن الرئيس حَكم بين السلطات مما يحيل إليه الكثير من الصلاحيات مرة أخرى، ويقربه من صلاحيات الإمام.

الرابع: أنه وفق هذا الاعتبار فهو إمام "بمعنى أن له صلاحيات الإمام المعروفة في الفقه"، ومِن أهمها: أن اجتهاده يرفع الخلاف في المسائل الاجتهادية.

وحيث إن هذه أمور في حاجة إلى بيان مما يثري البحث فقد خصصنا هذه المقالة في الإجابة عليها، وإليك الإجابة:

أولاً: "أما قول القائل: إنه يمكن اعتبار أن الصلاحيات كانت إليه ثم فوضها": فمسلك متى اتبعناه هُدمت قواعد المعاملات من بابها، ومنها قوله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ(المائدة:1)، وقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (المُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ(رواه أحمد وأبو داود، وصححه الألباني)؛ ولو جوزنا هذا المسلك لجاز لمن استأجر عقارًا أن يفترض أنه قد اشتراه! ولمن خطب امرأة أن يفترض أنه قد تزوجها! ولا يمكن الاحتجاج هنا بأننا كنا نود أن نقرر كذا... أو أنه كان من الأفضل أو من الواجب أن نفعل كذا... ولكن العبرة بما تم بالفعل، وبما وقع العقد عليه وبما التزمه الرئيس ولم يدع إلى خلافه؛ حتى إنه بيَّن أنه لا يوافق على قانون السلطة القضائية المقترَح أمام مجلس الشورى، ولما طالبه القضاة بسحبه اعتذر بأن هذا ليس من صلاحياته.

وأما المسألة الثانية: "من الاحتجاج بحديث: (مَنْ مَاتَ وَلَيْسَ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ، مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً)": فلابد من الاعتراف بأن هذا الأمر معجوز عنه بدلاً من افتراض "بيعة وهمية" لو سأل عنها التي تُدعى له لتبرأ منها!

ويجب علينا أن نتعظ مِن حال مَن حاول الفرار من مخالفة هذا الحديث رغم أنه عاجز عن اتباعه فاضطر إلى أن يعلن بيعة للظالمين والمبدلين لشرع الله -عز وجل-!

وأما المسألة الثالثة: فهي لا تصح إلا بعد التسليم أن المرجع في صلاحيات الرئيس هو الدستور؛ هذا من جهة، فإن سلمنا بهذا ثم تدبرنا في كون الرئيس حكمًا بين السلطات... علمنا أن هذا النص لا ينافي مبدأ الفصل بينها على أن هذا المعنى لم يعد موجودًا في دستور "مصر 2012م" حيث تم تعديل هذه المادة عمدًا إلى أنه: "يُراعى الفصل بين السلطات"، وهذا أيضًا ما تمدح به الإسلاميون عمومًا "وحزب الرئيس خصوصًا" فيما يتعلق بالدستور الجديد.

وقد نَشرتْ عدة مواقع خبر تعديل هذه المادة في "دستور 2012م"، منها: "موقع إخوان البحيرة" حيث نشر في "21-11-2012م" خبرًا تحت عنوان: "التأسيسية تنتهي من اختصاصات رئيس الجمهورية" جاء فيه: "واعترضت الدكتورة منار الشوربجي على جعل الرئيس يراعي الحدود بين السلطات في المادة (134)، وقالت: إن هذا سابقة بين كل دول العالم، ولا يجب للرئيس التدخل بين السلطات. فأوضح الدكتور عاطف البنا أن هذا النص هبط بسلطات الرئيس عن دستور 71، وجعله يراعي فقط ولا يتدخل بين السلطات".

- وأما مسألة أن اجتهاد الرئيس يرفع الخلاف في المسائل الاجتهادية: فهو فرع على اعتبار أن منصب الرئاسة يكافئ منصب الإمامة، ومِن ثَمَّ فتنقل القاعدة التي قررها الفقهاء "أن اجتهاد الإمام في المسائل الخلافية يرفع الخلاف" إلى الرئيس!

ويرد على هذه القضية عدة أمور:

الأول: أننا قد بيَّـنَّا أن ما دعونا الناس إليه وعاهدناهم عليه "والتزمه الرئيس" - أننا أنتجنا لهم دستورًا يقلص صلاحيات الرئيس عن الدستور الذي سبقه؛ حتى إننا لم نرضَ له أن يكون حكمًا بين السلطات -كما تقدم-؛ فكيف نعود فنجمع له السلطات أو نعطيه شيئًا من لوازم ذلك؟!

الثاني: أن هذه القاعدة مقيدة، وليست مطلقة حتى في حق الإمام.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في مجموع الفتاوى (35/372): "لَيْسَ الْمُرَادُ بِالشَّرْعِ اللازِمِ لِجَمِيعِ الْخَلْقِ "حُكْمُ الْحَاكِمِ" وَلَوْ كَانَ الْحَاكِمُ أَفْضَلَ أَهْلِ زَمَانِهِ؛ بَلْ حُكْمُ الْحَاكِمِ الْعَالِمِ الْعَادِلِ يُلْزِمُ قَوْمًا مُعَيَّنِينَ تَحَاكَمُوا إلَيْهِ فِي قَضِيَّةٍ مُعَيَّنَةٍ؛ لا يَلْزَمُ جَمِيعَ الْخُلُقِ وَلا يَجِبُ عَلَى عَالِمٍ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُقَلِّدَ حَاكِمًا لا فِي قَلِيلٍ وَلا فِي كَثِيرٍ إذَا كَانَ قَدْ عَرَفَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ؛ بَلْ لا يَجِبُ عَلَى آحَادِ الْعَامَّةِ تَقْلِيدُ الْحَاكِمِ فِي شَيْءٍ؛ بَلْ لَهُ أَنْ يَسْتَفْتِيَ مَنْ يَجُوزُ لَهُ اسْتِفْتَاؤُهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَاكِمًا".

وقال مجموع الفتاوى (3/238-240): "الأُمَّةُ إذَا تَنَازَعَتْ فِي مَعْنَى آيَةٍ أَوْ حَدِيثٍ أَوْ حُكْمٍ خَبَرِيٍّ أَوْ طَلَبِيٍّ لَمْ يَكُنْ صِحَّةُ أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ وَفَسَادُ الآخَرِ ثَابِتًا بِمُجَرَّدِ حُكْمِ حَاكِمٍ، فَإِنَّهُ إنَّمَا يُنَفَّذُ حُكْمُهُ فِي الأُمُورِ الْمُعَيَّنَةِ دُونَ الْعَامَّةِ، وَلَوْ جَازَ هَذَا لَجَازَ أَنْ يَحْكُمَ حَاكِمٌ بِأَنَّ قَوْله -تَعَالَى-: (يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ(البقرة:228)، هُوَ الْحَيْضُ وَالأَطْهَارُ وَيَكُونُ هَذَا حُكْمًا يُلْزِمُ جَمِيعَ النَّاسِ... وَاَلَّذِي عَلَى السُّلْطَانِ فِي مَسَائِلِ النِّزَاعِ بَيْنَ الأُمَّةِ أَحَدُ أَمْرَيْنِ: إمَّا أَنْ يَحْمِلَهُمْ كُلَّهُمْ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ سَلَفُ الأُمَّةِ؛ لِقَوْلِهِ -تَعَالَى-: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ(النساء:59)، وَإِذَا تَنَازَعُوا فُهِمَ كَلامُهُمْ إنْ كَانَ مِمَّنْ يُمْكِنُهُ فَهْمُ الْحَقِّ فَإِذَا تَبَيَّنَ لَهُ مَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ دَعَا النَّاسَ إلَيْهِ وَأَنْ يُقِرَّ النَّاسَ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ كَمَا يُقِرَّهُمْ عَلَى مَذَاهِبِهِمْ الْعَمَلِيَّةِ....

وَأَمَّا إلْزَامُ السُّلْطَانِ فِي مَسَائِلِ النِّزَاعِ بِالْتِزَامِ قَوْلٍ بِلا حُجَّةٍ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ فَهَذَا لا يَجُوزُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَلا يُفِيدُ حُكْمُ حَاكِمٍ بِصِحَّةِ قَوْلٍ دُونَ قَوْلٍ فِي مِثْلِ ذَلِكَ؛ إلا إذَا كَانَ مَعَهُ حُجَّةٌ يَجِبُ الرُّجُوعُ إلَيْهَا فَيَكُونُ كَلامُهُ قَبْلَ الْوِلايَةِ وَبَعْدَهَا سَوَاءً" انتهى.

الثالث: أن هذا القول في حق الإمام مبناه على كونه مجتهدًا، فمن جوَّز ولاية غير المجتهد فقد ألزمه بالرجوع إلى قول المجتهدين.

يقول الإمام الغزالي -رحمه الله-: "وليست رتبة الاجتهاد مما لابد منه في الإمامة ضرورة، بل الورع الداعي إلى مراجعة أهل العلم فيه كافٍ، فإذا كان المقصود ترتيب الإمامة على وفق الشرع فأي فرق بيْن أن يعرف حكم الشرع بنظره أو يعرفه باتباع أفضل أهل زمانه".

ويقول الشهرستاني: "ومالت جماعة من أهل السنة إلى ذلك حتى جوَّزوا أن يكون الإمام غير مجتهد ولا خبير بمواقع الاجتهاد، ولكن يجب أن يكون معه من يكون من أهل الاجتهاد فيراجعه في الأحكام ويستفتيه في الحلال والحرام، ويجب أن يكون في الجملة ذا رأي متين وبصر في الحوادث نافذ".

وهذه الأقوال من هؤلاء الأئمة يمكن اعتبارها تقريرًا لقاعدة عظيمة في الفقه السياسي الإسلامي، وهي أنه إذا اضطرت الأمة إلى إمام ليس مستجمعًا للشروط وجب أن يقابل ذلك تقييد للصلاحيات.

وقد بيَّن الشيخ "محمد شاكر الشريف" نموذجًا لوجود أمور خارجة عن صلاحيات الإمام، وأن هذا وجد مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال في معرض بحثه عن الشورى وحكمها ابتداءً ثم هل هي ملزمة أم معلمة: "ومن زاوية دخول الموضوع في صلاحيات الخليفة فإننا نقسم ذلك إلى قسمين:

1- أمور يتولاها بمقتضى ولايته وهي داخلة في صلاحياته، فإنه ينفذها ويقوم بها على الوجه الذي يرى أنه يحقق مقاصد الولاية، ولا يجب عليه أن يستشير في ذلك إلا إذا لم يدرِ وجه الصواب من الأمور المشكلة ولم يترجح له شيء فيها، فأما تسييره لأمور الدولة وإصداره للتعليمات التي تنظِّم ذلك وعمل اللوائح والنُّظـُم التي يضبط بها أمره، واختياره لمعاونيه، وتوليته للولاة على الأقاليم أو غيرها، وتحديد صلاحياتهم ومحاسبتهم وعزلهم إذا اقتضى الأمر، ونحو ذلك من الأمور التي تدخل في صلاحياته، والتي يشار إليها في الفكر السياسي الوضعي بأنها "السلطة التنفيذية"؛ فإنه يعمل ذلك انطلاقًا من صلاحياته، ولا تجب عليه الاستشارة في ذلك، وإن كنا نقول: الاستشارة في هذه الأمور وما جرى مجراها -إذا لم يترتب عليها تعطيل للأمور- فيها خير كبير، ولن يعدم المستشير أن يستفيد خيرًا إذا أحسن اختيار من يستشيره.

2- أمور لا يملك التصرف فيها بمقتضى ولايته، فهذه لا يملك أن يمضيها إلا بموافقة أهلها على ذلك، ولذلك أمثلة: ففي غزوة بدر الكبرى لما أراد الرسول -صلى الله عليه وسلم- ملاقاة المشركين -بعد نجاة قافلة مكة- استشار مَن معه في القتال، فوافقه على ذلك المهاجرون، لكن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لم يكتفِ بذلك وقال: أشيروا عليَّ أيها الناس! وهو يريد بذلك الأنصار، وذلك أن البيعة التي أخذها عليهم في مكة لم تكن تلزمهم بالقتال خارج المدينة، وإنما كانت قاصرة على أن يمنعوه وهو في ديارهم مما يمنعون منه أنفسهم، ولم يُفرَض الجهاد في ذلك الوقت فرضًا عامًا، فكان خروج الأنصار إلى القتال في غزوة بدر خارجًا عن حد البيعة، كما لم يكن هناك إلزام من الشرع بذلك؛ لذلك أصرَّ الرسول -صلى الله عليه وسلم- على معرفة رأي الأنصار وموافقتهم على ذلك.

فقال له سعد بن معاذ -رضي الله عنه- لما فطن أن رسول -صلى الله عليه وسلم- يقصدهم بقوله: أشيروا عليَّ أيها الناس!: لعلك تخشى أن تكون الأنصار ترى حقًا عليها أن لا تنصرك إلا في ديارهم! وإني أقول عن الأنصار وأجيب عنهم؛ فاظعن حيث شئت، وصل حبل من شئت، واقطع حبل من شئت... إلى أن قال: والله، لئن استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، فسُرَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقول سعد ونشَّطه ذلك، ثم قال: سيروا وأبشروا، فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم!

وفي غزوة حنين عندما قسَّم الرسول -صلى الله عليه وسلم- على المسلمين غنائمهم التي أفاءها الله عليهم جاء وفد هوازن مسلمًا تائبًا، وسألوه أن يمن عليهم بما غنمه المسلمون منهم من السبايا والأموال، ولما كانت هذه قسمة قد وقعت ووصلت أصحابها بمقتضى القسمة الشرعية، ووضع أصحابها يدهم عليها وصارت ملكًا لهم بذلك لم يكن لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يأخذ منهم ما استحقوه بحكم الشرع إلا بموافقتهم؛ لذلك عرض عليهم -صلى الله عليه وسلم- ذلك وندبهم إليه، وبيَّن لهم أن مَن طابت نفسه برد ذلك عليهم فليرده، ومن لم تطب نفسه فإن الرسول -صلى الله عليه وسلم- يعوِّضه عن ذلك من أول ما يفيء الله على المسلمين.

فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إن هؤلاء القوم جاؤوا مسلمين وقد كنت استأنيت سبيهم، وقد خيرتهم فلم يعدلوا بالأبناء والنساء شيئًا، فمن كان عنده منهن شيء فطابت نفسه بأن يرده فسبيلُُ ذلك، ومن أحب أن يستمسك بحقه فليرد عليهم وله بكل فريضة ست فرائض من أول ما يفيء الله علينا، فقال الناس: قد طيبنا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- . فقال: إنا لا نعرف من رضي منكم ممن لم يرضَ، فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم.

فهنا أيضًا شاور رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أصحاب الشأن وعمل على رأيهم؛ لأنهم هم أملك بذلك" (انتهى من كتاب مقدمة في فقه النظام السياسي الإسلامي).

ومما هو خارج على صلاحيات الإمام ما أخرجه بموجب اتفاق بينه وبين الأمة كما في النظم الدستورية، وهذا ما انتهى إليه الباحث "عبد الرحمن سليمان الرومي" في رسالة ماجستير من الجامعة الإسلامية في غزة بعنوان: "اجتهاد ولي الأمر في ضوء الواقع المعاصر".

فجاء في خلاصة بحثه: "هناك علاقة وثيقة بين ولي الأمر والهيئات التشريعية في الأنظمة المعاصرة، حيث تحملت الهيئات التشريعية العبء الأكبر عن ولي الأمر في الجانب التشريعي، وضيقت دائرة اجتهاده، كما أن لها سلطة رقابة سياسية ومالية، وفي المقابل لولي الأمر سلطة تدخل إجرائية في الهيئات التشريعية وعملها".

كما جاء فيها أيضًا: "المجامع الفقهية هي الوسيلة المثلى لتحقيق الاجتهاد الجماعي وتنظيمه، وهي تقوم بدور مهم في الاجتهاد المعاصر ومعاونة ولاة الأمر في المستجدات والقضايا العامة".

قلت: (وقد أصبح هذا ملزمًا في الدستور المصري 2012م الذي ألزم جميع السلطات بما فيها الرئيس بالرجوع لهيئة كبار العلماء فيما يخص الشريعة).

الخلاصة:

وأختم هذه المقالة بمثل ما ختمتُ به سابقتها: إننا تعاقدنا مع المجتمع على نظام دستوري يحقق الفصل بين السلطات، وإن قاعدة: "اجتهاد الحاكم رافع للخلاف" تطبق على كلٍ بحسب ولايته من رئيس أو أغلبية برلمان أو قاضٍ أو غيره؛ لا سيما وأن هذا الأمر كان مقررًا في ظل نظام الإمامة ففي ظل الدولة الدستورية الحديثة من باب أولى.

أنا السلفي

www.anasalafy.com