السبت، ١٢ شوال ١٤٤٥ هـ ، ٢٠ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

الإسلام "والديمقراطية" مواطن الاتفاق ومواطن الاختلاف

فإن الديمقراطية قد انتقلت إلى بلاد المسلمين عن طريق أصحاب مقولة: "علينا أن نأخذ كل ما عند الغرب حتى القاذورات التي في بطونهم!".

الإسلام "والديمقراطية" مواطن الاتفاق ومواطن الاختلاف
عبد المنعم الشحات
الجمعة ٣١ مايو ٢٠١٣ - ١٦:٠٥ م
7922
22-رجب-1434هـ   31-مايو-2013      

كتبه/ عبد المنعم الشحات

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فالنظام الديمقراطي نظام يوناني قديم أعرضت عنه أوروبا إلى مناهج حكم امتزجت فيها الثيوقراطية "المسماة بالدينية"، بالأوتوقراطية "الديكتاتورية"، وهذه الديكتاتورية من رجال الكنيسة مِن جهة ومن رجال الحكم من جهة ولدت انفجارًا في اتجاهين:

الأول: رفض الدين.

الثاني: رفض الديكتاتورية.

حتى ظن كثير من الباحثين -فضلاً عن العامة- التلازم التام بينهما.

وهنا عادت أوروبا إلى الديمقراطية اليونانية؛ لأنه تحقق لها الأمرين معًا حيث نقلت السيادة المطلقة التي كانت الكنيسة تتنازعها مع الملوك إلى الشعب.

ثم تطورت النظرية لتشمل عددًا من الأسس، منها:

1- مبدأ السيادة التامة للشعب فهو مَن يملك حق التشريع والإباحة والمنع.

2- مبدأ الفصل بين السلطات.

3- مبدأ تداول السلطة.

كما شملتْ عددًا من الآليات، مثل: التمثيل النيابي، والانتخابات، والبرلمانات، وأسلوب الرقابة، وغيرها من الآليات... وبعض هذه الآليات نقلها الغرب عن كتب السياسة الشرعية الإسلامية.

ولكن هل يدعونا هذا إلى ترديد عبارة: "الديمقراطية بضاعتنا رُدت إلينا"؟

في الواقع: إن موضوع "بضاعتنا ردت إلينا لا مجال له في عالم الأفكار"، وإنما مجاله "الماديات"؛ فمن سُرق منه "شيء" ثم استرده يقول: "بضاعتنا ردت إلينا"، أما أن يستعير آخر منه فكرة ثم يلقحها بأفكار من عنده ليخرج شيئًا جديدًا ليس هو بضاعتك؛ فلمَ تقبله "لا سيما وأن بضاعتك الصافية النقية ما زالت عندك"؟!

وهل إذا استنسخ أحد كتابًا من كتبك ثم زاد ونقص في نسخته التي نسخها، فهل يمكنك الاعتماد عليها رغم وجود نسختك الأصلية؟!

وعلى الرغم من أن النظام الديمقراطي لم يخلُ من مشكلات، منها: صعوبة تطبيق الديمقراطية المباشرة، وعدم دقة غير المباشرة.

ومنها: ظهور ظاهرة المال السياسي، وغيرها من الصعوبات؛ إلا أنها مثَّلت بالنسبة للغرب تطورًا هائلاً لنظم الحكم مما جعلهم يجزمون بأنها رغم مشاكلها هي "أفضل البدائل المتاحة".

وفي واقع الأمر "وقبل أن يظهر أصحاب نظرية بضاعتنا ردت إلينا"، فإن الديمقراطية قد انتقلت إلى بلاد المسلمين عن طريق أصحاب مقولة: "علينا أن نأخذ كل ما عند الغرب حتى القاذورات التي في بطونهم!".

وبعد أن تمكنت النظم الديمقراطية "نظريًّا" في بلاد المسلمين اختلفت نظرة العلماء إليها، فانقسموا إلى قسمين رئيسيين:

1- قسم اعتبر الديمقراطية هي بعينها الشورى الإسلامية وأنها بضاعتنا ردت إلينا! وعلى رأس هؤلاء: الدكتور "يوسف القرضاوي"، و"الغنوشى"، و"الترابي"، وعامة أصحاب هذه المدرسة.

2- قسم اعتبر الديمقراطية مناقضة للإسلام إذ جعلت السيادة للشعب، والسيادة في دين المسلمين لله -عز وجل-: (إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ أَمَرَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ(يوسف:40)، وقال -تعالى-: (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ(الأعراف:54)، وكما يقول الدكتور "محمد عمارة": "فالإسلام يقول: (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ) بينما الديمقراطية تقول: (أَلا لَهُ الْخَلْقُ فَقَطْ!)". وهذه عبارة جامعة مانعة تغنيك عن الكثير من الكلام.

إلا أن أصحاب المذهب الأخير قد انقسموا إلى مذهبين فرعيين:

الأول: مَن يصر على نقد الديمقراطية على اعتبار أنها لا معنى لها إلا منازعة سيادة الله على البشر ولزوم اتباع شرعه، ومِن ثَمَّ فهي عنده أشبه بالفكرة البسيطة التي لا تحتمل البسط ولا التفصيل، ثم إنه يتنزل أنه وإن كان فيها من حق فهو غير مفيد لنا على الإطلاق، وممن يذهب إلى ذلك الاتجاه الشيخ "محمد شاكر الشريف"، والشيخ "سعيد عبد العظيم".

الثاني: من يرى أن الديمقراطية فكرة مركبة من عدة أفكار جزئية يمكنك أن تفككها فتقبل منها وترفض، ويأتي على رأس هؤلاء: الدكتور "محمد ضياء الريس"، وبالطبع كل مَن يقبل الديمقراطية بإطلاق هو في الواقع من هذا النوع غير أنه يخالف الواقع حينما يُخرِج نظرية السيادة من تعريف الديمقراطية معتمدًا على تعريفات مختزلة للديمقراطية في بعض الإجراءات، ومِن ثَمَّ يبني على ذلك القبول المطلق بها.

هل مصطلح الديمقراطية قابل للتفكيك؟

يرفض البعض تفكيك مصطلح الديمقراطية أو غيره من المصطلحات من باب أن هذا فيه فتنة وتلبيس، وأنك متى رفضتَ من الديمقراطية جزءًا وقبلتَ الجزء الآخر فإن الذي سوف يروَّج إعلاميًّا هو القبول المطلق بها؛ مما يلزم منه الإقرار بالباطل.

وفي الواقع إن الأمر هاهنا يحتاج إلى مناقشة من جهتين:

الأولى: هل الديمقراطية بالفعل فكرة مركبة أم لا؟ وهل بعض جزئياتها موافق للشرع أم لا؟

الثاني: إذا كانت الديمقراطية فكرة مركبة وبعض جزئياتها موافق والبعض مخالف، فهل المناسب هو تغليب المخالفة لا سيما إذا كانت تبلغ درجة الكفر أم أن الأنسب هو التفصيل؟

فبالنسبة للسؤال الأول: فالصحيح أن الديمقراطية فكرة مركبة من أمور مخالفة للشرع وأخرى موافقة، بل منقولة من الشرع.

وأما السؤال الثاني: فالصحيح أن هذا الأمر راجع إلى المصالح والمفاسد، وهو قريب الشبه من قضية النقل عن أهل الكتاب التي قال النبي -صلى الله عليه وسلم- فيها: (مَا حَدَّثَكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَلا تُصَدِّقُوهُمْ، وَلا تُكَذِّبُوهُمْ(رواه أحمد وأبو داود وابن حبان، وصححه الألباني)، بينما أنكر على عمر -رضي الله عنه- لما وجد بيده صحيفة من التوراة، فقال: (أَمُتَهَوِّكُونَ فِيهَا يَا ابْنَ الْخَطَّابِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً(رواه أحمد والبيهقي، وحسنه الألباني)، والأمر هاهنا يختلف باختلاف الأحوال.

كذلك وجدنا بعض الأئمة ينكرون بدع الصوفية شكلاً وموضوعًا في حين اضطر ابن تيمية -رحمه الله- إلى تفكيك كثير من مصطلحات الصوفية ليفصِّل في شأن ألفاظ غريبة عن منهج السلف: كالحال، والمقام، بل الحلول والاتحاد التي أوجد لها معانٍ موافقة للشرع، وقال: إن أريد بها ذلك قبلتْ وإلا فهي من الكفر والضلال.

وهذا الذي فعله ابن تيمية -رحمه الله-؛ لأنه رأى أن أصحاب هذه الأقوال الكفرية يروجونها متسترين بالأقوال الأخرى، فكان لابد من هذا التفصيل ليزول الإشكال؛ لا سيما وأن هذه الألفاظ شأنها شأن الديمقراطية لسنا متعبدين بقبولها أو رفضها، وإنما نحن متعبدون بقبول الحق ورفض الباطل.

تفكيك مصطلح الديمقراطية وعلاقته بمشروعية العمل السياسي:

في معرض بيان مشروعية العمل السياسي نقل الشيخ "عبد الرحمن عبد الخالق" فتاوى عن الشيخ "ابن باز" والشيخ "ابن عثيمين" -رحمهما الله- بجواز العمل السياسي بشرط إنكار المنكر، وعلَّق على هذا بأنهم أفتوا بهذه الفتاوى وهم يعرفون دساتير تلك الدول، وما فيها من ذكر الديمقراطية.

وذكر الدكتور "محمد يسري إبراهيم" في رسالته عن حكم المشاركة السياسية أن القائلين بالمشاركة بضوابط إنكار الباطل يمكن اعتبارهم جمهور المعاصرين.

وإذا كان الأمر كذلك فيجب على المشارك لكي يحقق شرطها الذي ذكره أهل العلم أن يعرف المصطلحات السياسية المعاصرة، وما تتضمنه من حق أو باطل.

موقف "الدعوة السلفية" من العمل السياسي قبل وبعد الثورة:

كانت "الدعوة السلفية" تتبنى أن العمل السياسي في ظل الأنظمة الديمقراطية الحديثة على ضربين:

الأول: ما لا يتحقق فيها الشرط الذي ذكره عامة العلماء، وهو البراءة من الباطل الذي تتضمنه كلمة الديمقراطية أو غيرها من الأفكار اللصيقة بها؛ لا سيما الأفكار الليبرالية.

الثاني: ما يتحقق فيها ذلك.

وفي الحالة الأولى: كانت الدعوة تجزم بعدم الجواز.

وأما في الثانية: فكانت الدعوة تعلقها على المصلحة والمفسدة؛ هذا من حيث الحكم، وأما الفتوى في الواقع المصري فكانت الامتناع؛ لكون عامة المشاركين آنذاك يقدمون تنازلاتٍ، مثل: القبول بالديمقراطية بدون تفصيل، بل والقبول بمعظم معطيات الليبرالية! كما أن المصالح المترتبة على المشاركة تكاد تكون منعدمة في ظل نظام حكم متكلس غير قابل للإصلاح.

وأما بعد الثورة: فقد حاول البعض النزول بمرجعية الشريعة في الدستور عما كانت عليه قبل الثورة؛ مما حفز الجميع تقريبًا إلى تبني المشاركة في المناقشات حول الدستور، وطرحت الدعوة رؤيتها ودافعت عن عدم قبولها بالديمقراطية بمعناها الغربي، وأنها لا تقبل منها إلا ما يوافق الإسلام، ووفق الله "الدعوة" إلى تدشين تلك التجربة، والتي نجحت -بحمد الله- في الحفاظ على "المادة الثانية"، ثم تعمقت بإضافة مواد: (4) و(81) و(219) بالإضافة إلى تثبيت المادة (2) والمادة (11) في دستور 2012م.

موقف "الدعوة السلفية" من مصطلح "الديمقراطية" قبل وبعد الثورة:

بناءً على ما تقدم فقد كان الأنسب قبل الثورة وفي ظل عدم جدوى المشاركة، وفي ظل محاولات تمرير الديمقراطية وقبول عدد كبير من الرموز الإسلامية لفكرة أن "الديمقراطية بضاعتنا ردت إلينا" - أن يكون الرفض المختصر الذي يركز على أسباب الرفض، وإن كانت الحيثيات لم تكن تخلو من ذكر بعض التفاصيل.

وأما بعد الثورة وفي ظل ترجح مصالح المشاركة، والتي ينبغي معها أن يترجم قيد "بشرط عدم الإقرار بمنكر" إلى حدود واضحة لهذا الذي تنكر، ولغيره الذي تقبل - كان لابد من التفصيل والتوضيح، بل إن "الدعوة" ما زالت تحرص في خطابها ألا تمدح الديمقراطية مجردة؛ ولو باستصحاب قيد يذكر مرة وتنتهي المشكلة "كانت أحد أسباب الخلاف بين د.عماد عبد الغفور الرئيس السابق لحزب النور وبين الدعوة السلفية أنه كان يرى أنه يسعنا التصريح بقبول الديمقراطية مطلقًا طالما أننا ذكرنا القيد ذات مرة، بل كان الدكتور عماد ينحاز للرأي الذي يخرج الديمقراطية من نطاق أن تكون متضمنة بحكم تعريفها ما يناقض الإسلام".

ومن هنا: حرصتْ "الدعوة" على التبرؤ من فلسفة الديمقراطية "نظرية السيادة للشعب"، والتي يعبر عنها د."محمد عمارة" بأنها تقرر أن الله له الخلق دون الأمر، وحتى الآليات فلم ندعِ أنها موافقة للشرع تمامًا، ولكن القبول بهذه الآليات حينئذٍ يكون من باب أدنى المفسدتين كما أفتى الشيخ "الألباني" جبهةَ الإنقاذ في الجزائر بالدخول في الانتخابات من باب ارتكاب أدنى المفسدتين كما صرَّح بذلك في رده على الشيخ "مقبل" الذي هاتفه مستفهمًا كما في "تحفة المجيب" (نقلاً عن حكم مشاركة الإسلاميين في العمل السياسي لسامح الغنيمي).

مثال توضيحي:

إذا أعد أحدهم طعامًا مكونًا من لحم وخضروات، ثم وضع فيه ملحًا زائدًا، ثم أضاف ملعقة سم ثم قدمه للناس، فالواجب عليك حينئذٍ أن تسارع بالتحذير منه، وربما اكتفيتَ بقولك: "إنه مميت" دون أن تشير إلى أن بعض مكوناته طيب.

ثم إن فاوضك هذا الشخص على إعادة صنع الطعام واشترطتَ عليه حذف السم فوافق، واشترطتَ عليه حذف الملح الزائد فرفض، وإذا تركته والحالة هذه فسوف يصنعه كما كان، بل أفسد، وإن قبلت الملح الزائد منعتَ السم القاتل الذي يصيبك منه شئت أم أبيت.

فمع استبعاد السم الذي مفسدته قطعية ولا تقوم أمامها مصلحة يمكننا الكلام على الموازنة بين المصالح والمفاسد.

وفي حالتنا تلك مثَّلنا باللحم والخضروات لما يُقبل من الديمقراطية، والملح الزائد لبعض آلياتها التي في نظامنا الإسلامي ما هو أفضل منها كـ"انتخاب النواب في مقابلة أهل الحل والعقد"، والسم هو: فلسفة الديمقراطية المنبثقة من فلسفة "الأنسنة" أو فلسفة "أن الله له الخلق والإنسان له الأمر"، كما يعبِّر عن ذلك الدكتور "محمد عمارة".

الإسلام والديمقراطية مواطن الاتفاق ومواطن الاختلاف عند الدكتور "محمد ضياء الريس":

وبعد أن قررنا اختيار "تفكيك مصطلح الديمقراطية" رأيتُ أن أنقل إليك كلام أحد كبار منظري الفكر السياسي في الإسلام، وهو الدكتور "محمد ضياء الريس" في مقارنته بين الإسلام والديمقراطية، والتي ختم بها كتابه الرائع: "النظريات السياسية في الإسلام".

فإليك كلامه مع بعض التعليقات التي وضعتُها بين قوسين، وبدأتُها بقولي: "قلتُ"، وثمة مواطن هامة من كلامه وضعتُ تحتها خطًا.

قال -رحمه الله-: "... الكلام على الموضوع الذي طالما شغل بال الباحثين أكثر من غيره، ونعني به تحديد العلاقة بين الإسلام و"الديمقراطية"، وهذه هي النقطة الأخيرة من هذا البحث:

يرى كثير من الباحثين في العصر الحديث -ولاسيما في البلاد الإسلامية- أن هناك تشابهًا أو تطابقًا بين الإسلام والديمقراطية، ومع صرف النظر عن أنه ربما كان الذي دعا بعضهم إلى القول بهذا الرأي أن النظام الديمقراطي هو نوع الحكم السائد الآن في البلاد الغربية الذي تروج له الدعاية وتمتدح صفاته وتشيد بشأنه.

فلا شك في أن الباحث يستطيع أن يجد دعائم كثيرة صحيحة يمكن أن يستند إليها هذا الرأي، فبيْن الإسلام والديمقراطية أوجه تشابه أو تطابق عديدة، ولكن القول بهذا إنما يعبِّر فقط عن بعض الحقيقة، أما الحقيقة الكاملة فهي أن بينهما من التخالف مثل ما بينهما من التوافق، بل ربما كان الأقرب إلى الصواب أن نقول: إن وجوه الخلاف تغلب، أو هي أهم من وجوه التماثل.

فأما بالنسبة إلى الأولى -أي وجوده التماثل- فإننا لا نحتاج إلى أن نعيد ما سبق أن قررناه وشرحناه من قبْل في خلال الفصول المطولة التي تألف منها الكتاب، وإنما يكفي أن نحيل من يريد البحث في هذا الموضوع إلى "الفصل السادس" الذي جعلنا عنوانه: "العقد السياسي ومسائله".

كما نحيله إلى ما كتبناه عن "مسئولية الحكم" في الفصل الحالي، وما ذكرناه في مواضع عديدة في غير هذين، فقد بيَّنَّا هناك الأساس الذي يقوم عليه بناء الدولة، وشرحنا طبيعة التعاقد، وحددنا مكانة الأمة وخصائص إرادتها، كما أوضحنا العلاقة بينها وبين الحاكم وعددنا المسئوليات السياسية؛ فلا نحتاج لأن نضيف إلى ما ذكرناه هنالك شيئًا، ومن ذلك كله يتبين أنه ليس فقط بين الإسلام -من الوجهة السياسية- والنظام الديمقراطي أوجه تشابه، بل إن أهم ما تحتوي عليه الديمقراطية من عناصر، وأفضل ما تتميز به من صفات يشتمل عليه الإسلام.

فإن كان يُراد بالديمقراطية أنها -كما عرَّفها لنكولن- حكم الشعب بواسطة الشعب من أجل الشعب، فهذا المعنى متمثل (قلتُ: يعني به هنا أن يمارس الشعب سلطة الحكم دون السيادة حيث يمثِّل هذا أكبر مظاهر الخلاف بين الإسلام والديمقراطية -كما سيبين لاحقًا-) ولا شك في نظام الدولة الإسلامية باستثناء أن الشعب ينبغي أن يُفهم في الإسلام على نحو مُعيَّن أو شامل -كما سنبين فيما بعد- (قلتُ: يعني أن الأصل في الإسلام وجود دولة تضم جميع أبنائه).

وإن كان يُراد بالديمقراطية ما صار يُقرن بها عادة من وجود مبادئ سياسية أو اجتماعية معينة، مثل: مبادئ المساواة أمام القانون، وحرية الفكر والعقيدة، وتحقق العدالة الاجتماعية، وما إلى ذلك، أو كفالة حقوق معينة: كحق الحياة، والحرية، والعمل، وما أشبه - فلا شك أيضًا أن كل تلك المبادئ متحققة، وهذه الحقوق مكفولة في الإسلام، وقد اتضح جانب من ذلك مما ذكرناه في مناسبات سابقة من الكتاب، ويحتاج البعض الآخر إلى شرح خاص ينبغي أن يفرد له بحث على حدة، ولكنه مفهوم بصفة عامة من روح الإسلام وطبيعة تشريعه.

غير أنه ينبغي أن يُلاحظ أن نظرة الإسلام إلى هذه الحقوق من حيث المنشأ الطبيعي قد تختلف، فقد تعتبر حقوقًا لله، وقد تعتبر حقوقًا مشتركة بين الله والعباد، وقد تعتبر نعمًا لا حقوقًا أو تقرر على أنها هي الأصل في الأشياء أو أنها هي القانون الذي وضعه الله للوجود أو الفطرة، ولكن مع كل ذلك لا يؤثر هذا الاختلاف في النظرة في طبيعة تلك الخصائص أو الحالات؛ والنتيجة واحدة، وهي أن الإنسان تضمن له كل هذه الأمور، والواقع أن الشريعة الإسلامية إنما ترمي إلى أن تحقق العدالة المطلقة في أكمل صورها، وأن توفر للإنسان أسمى وأكرم حياة "يمكن أن تتوفر" تليق بإنسانيته (قلتُ: وكل هذه المعاني حق في ذاتها، ولكن المفهوم الغربي الليبرالي لها مخالف للشريعة؛ ولذلك حرص ممثلو الدعوة السلفية في دستور 2012م على وجود المادة 81 الضابطة لباب الحقوق والحريات بألا تخالف النظام العام المنصوص عليه في الدستور، ومنه: الشريعة).

أما إن كان المراد من الديمقراطية ما تعورف على أن نظامها يستتبعه، وهو تحقق مبدأ الفصل بين السلطات، فهذا أيضًا ظاهر في النظام الإسلامي.

فالسلطة التشريعية هنا -وهي أهم السلطات في أي نظام ديمقراطي- مودعة في الأمة كوحدة ومنفصلة عن سلطة الإمام أو رئيس الدولة.

فالتشريع يصدر عن الكتاب والسنة أو إجماع الأمة أو الاجتهاد، وهو بهذا مستقل عن الإمام، بل هو فوقه، والإمام ملزم ومقيد به؛ وما الإمامة في الحقيقة إلا رئاسة السلطة التنفيذية، والقضاء مستقل أيضًا؛ لأنه لا يحكم وفقًا لرأي الحاكم أو الرئيس، وإنما يحكم وفقًا لأحكام الشريعة، أي أمر الله، ولا يمكن أن يحكم -إن أريد له أن يبقى قضاءً إسلاميًّا- إلا هكذا (قلتُ: لعل الأدق أن يُقال: إن النظام الإسلامي عرف التمييز بين السلطات، وليس الفصل بينها بالمعنى الديمقراطي الحديث، والذي تحدد صلاحيات كل سلطة نصوص دستورية صارمة)" إلى أن قال موضحًا أهم الفروق بين الديمقراطية والإسلام:

"خصائص دولة الإسلام: لكننا نعود بعد ذلك لنبيِّن أوجه الخلاف بين الإسلام والديمقراطية، وهي وجوه ذات أهمية كبرى، فبعد معرفتها يظهر أنه يكون من الخطأ الكبير أن يظن أنهما شيء واحد، أو أن نظاميها متطابقان، ومع أن هناك فوارق عديدة إلا أنا نقتصر على ذكر أهمها.

فأهم الفوارق إذن بين الديمقراطية والإسلام هي الأمور الثلاثة الآتية:

الأمر الأول: أن المراد بكلمة "شعب" أو "أمة" في الديمقراطية الحديثة كما هي معروفة في عالم الغرب أنه شعب محصور في حدود جغرافية يعيش في إقليم واحد تجمع بين أفراده روابط من الدم، والجنس، واللغة، والعادات المشتركة، أي: أن الديمقراطية مقترنة -لا محالة- بفكرة "القومية" أو "العنصرية"، وتسايرها نزعة التعصب أو العصبية، ولا كذلك الإسلام.

فالأمة عنده أصلاً ليست هي التي تربط بينها وحدة المكان أو الدم أو اللغة، فهذه روابط صناعية أو عارضة أو ثانوية؛ ولكن الرابطة -أصلاً- هي الوحدة في العقيدة: أي في الفكرة والوجدان، كل مَن اعتنق فكرة الإسلام -من أي جنس أو لون أو وطن- فهو عضو في دولة الإسلام.

فنظرة الإسلام إنسانية، وأفقه عالمي، وإن كان هذا لا يمنع -بل إن ذلك قد يكون ضروريًّا تحقيقًا للصالح العام، ويكون إذن واجبًا شرعيًّا- أن يوجد في داخل تلك الدائرة العامة دوائر خاصة إقليمية أو قومية من أجل التنظيم أو تحقيق أغراض وطنية أو محلية، لا تتعارض مع الأغراض العامة.

وإذا وجدت الروابط الأخرى: وهي وحدة الوطن، والأصل، واللغة، وغيرها... إلى جانب الرابطة الأساسية، وهي: "وحدة العقيدة"؛ كان هذا أقوى تأكيدًا لوجود الأمة وظهور الدولة.

ودليل ما تقدم -أي عمومية الرسالة- قوله -تعالى-: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)(سبأ:28)، وكذلك: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا(الأعراف:158)، وقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)(الأنبياء:107).

الأمر الثاني: أن أهداف الديمقراطية الغربية الحديثة -أو أي ديمقراطية كانت في الأزمنة القاتمة- هي أغراض دنيوية أو مادية، فهي ترمي إلى تحقيق سعادة أمة أو شعب بعينه، من حيث تحقيق مطالبه في هذه الحياة الدنيا: ترمي إلى إنماء الثروة أو رفع الأجور مثلاً أو كسب حربي، ولكن النظام الإسلامي أو الديمقراطية الإسلامية -إن صح هذا التعبير- بينما تشمل مثل هذه الأغراض في الدنيا وتعطيها ما يجب لها من أهمية مع إبعاد فكرة التحيز القومي - تجمع إلى جانبها أغراضًا روحية، بل إن الأغراض الروحية هي الأولى وهي الأساس، وهي الأسمى.

قال ابن خلدون في تعريف الإمامة -كما رأينا من قبل-: إنها لتحقيق مصالح الناس الأخروية والدنيوية الراجعة إليها؛ إذ أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة.

فدولة الإسلام يجب أن تنظر في أعمالها إلى الآخرة على أنها الغاية، وتقوم بكل أعمال الخير التي يأمر بها الدين، والتي تؤدي إلى رضوان الله وتحقق المطالب الروحية للإنسان، كما أنها تجعل الدين أو القانون الأخلاقي المقياس الذي تقيس به أعمالها وكل تصرفاتها.

الأمر الثالث: أن سلطة الأمة في الديمقراطية الغربية مطلقة، فالأمة -حقًا وعلى الإطلاق- هي صاحبة السيادة، هي -أو المجلس الذي تنتخبه- التي تصنع القانون أو تلغيه، والقرارات التي يصدرها هذا المجلس تصبح قانونًا واجب النفاذ، وتجب له الطاعة حتى وإن جاءت مخالفة للقانون الأخلاقي أو متعارضة مع المصالح الإنسانية العامة، فالديمقراطية الحديثة -مثلاً- تعلن الحرب من أجل سيادة شعب على غيره أو الاستيلاء على سوق، أو استعمار مكان أو احتكار منابع للنفط، وفي سبيل ذلك تسفك دماء لا تنتهي، وتزهق أرواح بشرية لا تعد، وتشقى الإنسانية كلها من أجل هذا!

ولكن في الإسلام ليست سلطة الأمة مطلقة هكذا، وإنما هي مقيدة بالشريعة بدين الله الذي اعتنقه والتزم به كل فرد منها، فهي لا تستطيع أن تتصرف إلا في حدود هذا القانون، وهذا القانون هو الذي يحتويه الكتاب والسنة، وإذا كان قد اعترف بأن إرادة الأمة الكلية أحد مصادر القانون؛ فالمفهوم أن هذه الإرادة تعتمد على ما جاء في الكتاب والسنة أيضًا في صورة ما، وقد خُولت هذا الحق نفسه بمقتضى أمر منهما، وإن كان فرض أن من خصائص إرادة هذه الأمة أنها لن تحيد عن الحق أي لن تنحرف عن المنهج الذي رسمه هذان المصدران.

فالأمة في الإسلام -أو إذا شئت في الديمقراطية الإسلامية- ملتزمة بالقانون الأخلاقي، ومقيدة بمبادئه، وقد فرض الدين عليها واجبات، وكلَّفها بمسئوليات، وقد سبق أن بينا ذلك حينما تكلمنا على الطبيعة العامة لفروض الكفاية التي هي واجبة على الأمة بأسرها.

النظام الإسلامي:

هذه إذن هي الفروق بين الديمقراطية والنظام الإسلامي.

وهنا نستطيع أن نجيب على السؤال الذي طال انتظاره لنا، والذي طلبنا الإجابة عليه في بداية البحث -وما كان يمكن الإجابة عليه قبل الآن-، وهو: وأين إذن مقر السيادة؟ أو مَن هو صاحب السيادة -بالمعنى الدستوري الحديث- في الدولة الإسلامية؟

فما دمنا قد أثبتنا أن الإسلام لا يتطابق مع أي من النظم السابقة التي عددناها فليس الحاكم إذن هو صاحب السيادة؛ لأن الإسلام ليس "أوتوقراطية"، ولا رجال الدين أو الآلهة؛ لأنه ليس "ثيوقراطية"، ولا القانون وحده؛ لأنه ليس "نوموقراطية"، ولا الأمة وحدها؛ لأنه ليس "ديمقراطية" بهذا المعنى الضيق.

وإنما الجواب الصحيح: أن "السيادة" فيه مزدوجة، فالسيد أمران مجتمعان ينبغي أن يظلا متلازمين، ولا يتصور قيام الدولة وبقاؤها إلا بوجود هذا التلازم.

هذان الأمران، هما:

1- الأمة.

2- القانون أو شريعة الإسلام.

فالأمة والشريعة -معًا- هما صاحبا السيادة في الدولة الإسلامية.

فالدولة الإسلامية إذن -على هذه الصورة- نظام فريد، خاص بالإسلام لا يصح القول بأنه يتطابق مع أي من النظم المعروفة؛ ولذا فإنه ينبغي أن يوضع لها اصطلاح خاص، وتُسمى باسم يمثل حقيقتها، وما دام مثل هذا الاسم لم يُوضع أو لم يُهتدَ إليه بعد، فيُكتفى -الآن- بأن يشار إليها بصفة مجملة على أنها النظام الإسلامي.

فإن كان لابد من استعمال لفظ "ديمقراطية" -مع مراعاة الفوارق الأساسية التي بيناها سابقًا- فيمكن أن يوصف هذا النظام -على وجه تقريبي- بأنه "ديمقراطية"، إنسانية، عالمية، دينية، أخلاقية، روحية ومادية معًا، أو يجوز -وهذه المعاني ماثلة في الذهن- أن تجمع كل هذه الصفات في تعبير موجز، فيقال: إنها "الديمقراطية الإسلامية" انتهى. (قلتُ: وفي هذا أهمية ألا نطلق القول بقبول الديمقراطية إلا مقيدة، وقد تمكن ممثلو الدعوة أن يجعلوا مقومات الدولة الإسلامية تقوم على الديمقراطية والشورى، وأثبتوا في محاضر جلسات التأسيسية أن الغرض بيان أننا بحكم كوننا مسلمين لا ينبغي أن نقبل الديمقراطية المطلقة، بل لابد من تقييدها بالشرع، وهذا مستفاد من كلمة شورى كما بينه الدكتور محمد عمارة -حفظه الله-).

وبهذا النقل الوافي عن أحد كبار منظري الفكر السياسي الإسلامي المقارن يتبين لنا أوجه الاتفاق وأوجه الاختلاف بيْن الإسلام والديمقراطية، ويتمهد طريق واضح لتطبيق فتوى مَن أفتى مِن العلماء -وهم جمهورهم كما علمتَ- بالمشاركة السياسية "شريطة عدم إقرار منكر".


www.anasalafy.com

انا السلفي