الجمعة، ١١ شوال ١٤٤٥ هـ ، ١٩ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

تواصوا بالصبر

فلا تحصل النجاة التامة للعبد يوم القيامة إلا بتحصيل هذه الأمور مجتمعة من

تواصوا بالصبر
عبد المنعم الشحات
الجمعة ٢٨ يونيو ٢٠١٣ - ١١:١٥ ص
2982
تواصوا بالصبر
20-شعبان-1434هـ   28-يونيو-2013      

كتبه/ عبد المنعم الشحات

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد بيَّن الله لنا طريق الفوز والنجاح في تلك السورة البليغة التي قال عنها الشافعي -رحمه الله-: "لو لم يُنزِل الله على عباده إلا تلك السورة لكفتهم"، وهي سورة العصر: (وَالْعَصْرِ . إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ . إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ(العصر).

فلا تحصل النجاة التامة للعبد يوم القيامة إلا بتحصيل هذه الأمور مجتمعة من الإيمان والعمل الصالح، والدعوة إلى الله، والصبر والذي يشمل أنواعًا، منها -وهو الأليق بالسياق هنا-: الصبر على الأذى الذي يصيب الإنسان من الناس مع قدرته على دفع الأذى بمثله، ويزداد هذا الأمر شرفًا إذا وقع الأذى بسبب الدعوة إلى الله ثم وقع الصبر وكظم الغيظ وضبط النفس حسبة لله -عز وجل-.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في بيان أنواع الصبر، مع ذكر شرف الصبر على أذى الناس:

"الصبر ثلاثة أقسام: صبر على الطاعة حتى يفعلَها، فإن العبد لا يكاد يفعل المأمور به إلا بعد صبرٍ ومصابرة، ومجاهدة لعدوه الظاهر والباطن، فبحسب هذا الصبر يكون أداؤه للمأمورات وفعله للمستحبات.

النوع الثاني: صبر عن المنهي حتى لا يفعلَه، فإن النفس ودواعيها وتزيين الشيطان وقرناء السوء تأمره بالمعصية وتجرئه عليها، فبحسب قوة الصبر يكون تركه لها، قال بعض السلف: أعمالُ البِرِّ يفعلها البَرُّ والفاجر، ولا يَقدِرُ على ترك المعاصي إلا صدِّيق.

النوع الثالث: الصبر على ما يُصيبه بغير اختيارِه من المصائب، وهي نوعان: نوع لا اختيار للخَلقِ فيه، كالأمراضِ وغيرِها من المصائب السماوية، فهذه يسهل الصبر فيها؛ لأن العبد يشهد فيها قضاء الله وقدره، وأنه لا مدخل للناس فيها، فيصبر إما اضطرارًا وإما اختيارًا، فإن فتح الله على قلبه باب الفكرة في فوائدِها وما في حَشوِها من النِّعَم والألطاف، انتقل من الصبر عليها إلى الشكر لها والرضا بها، فانقلبت حينئذٍ في حقه نعمةً، فلا يزالُ هِجيْرَا قلبه ولسانِه فيها: رب أَعِني على ذكرِك وشكرك وحسنِ عبادتك، وهذا يقوى ويضعف بحسب قوة محبة العبد لله وضعفِها... ولهذا قال الله -تعالى-: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ(السجدة:24)، فالصبر واليقين يُنال بهما الإمامة في الدين.

فإذا انضاف إلى هذا الصبرِ قوة اليقين والإيمان تَرقـَّى العبدُ في درجات السعادة بفضل الله -تعالى-، و(ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ(الحديد:21)؛ ولهذا قال الله -تعالى-: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ . وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ(فصلت:34-35)".

وكما هو الحال في أزمنة الغربة، غالبًا ما يحتل الصبر مكانًا بارزًا في التكوين السلوكي والأخلاقي لمن يقوم بدور الدعوة إلى الله -تعالى-؛ لا سيما مع إخبار النبي -صلى الله عليه وسلم- عن هذه الأيام التي وصفها بأنها أيام الصبر، وشبه القابض على دينه فيها كالقابض على الجمر، ورغم ما نحفظه جميعًا من سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي وُضع سلا الجزور على عنقه، وشجت رأسه، وأدمى سفهاء ثقيف قدميه، وما نحفظه مما لاقاه الصحابة -رضي الله عنهم- كبلال وصهيب وعمار، وغيرهم... إلا أننا استغرقنا في واقعنا الذي كان البلاء بهذا النوع من الأذى يقع من بعض الأجهزة الأمنية وفي مقارها بينما كان هذا يقابل بتعاطف ومحبة يلقيها الله في قلوب عموم الخلق، وبالتالي فصار صبرنا قليلاً في مواجهة الأذى العام متى وجد.

وفي هذه الآونة تقوم بعض التيارات الإسلامية باستفزاز الناس والتعالي عليهم ومحاولة تقريرهم رغما عنهم بإنجازات لا يرونها، والتلويح لهم بخطاب التكفير والعنف! وهذا يولد استفزازًا عظيمًا داخل طوائف كثيرة من الشعب، ونتيجة السمت الإسلامي للإخوة السلفيين فغالبًا ما لا يجد الناس إلا السلفيين للتنفيس عن هذا الكبت بداخلهم، وإن كان معظمهم يعرف الفرق بين الاتجاهات الإسلامية.

وفي هذا الصدد يجب علينا أن نتحمل هذه الموجة، وأن نتعامل معها بذكاء وحكمة، وأن نكظم غيظنا ونضبط ردود فعلنا، ونتواصى بالصبر حتى لا نخسر جهود دعوتنا، وقد يرى البعض أن في هذا ضعف وهذا غير صحيح، بل العكس هو الصحيح.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في الأمور التي تعين العبد على هذا النوع من الصبر: "الخامس: أن يعلم أنه ما انتقم أحد قط لنفسه إلا أورثَه ذلك ذُلاً يجده في نفسه، فإذا عَفا أعزَّه الله -تعالى-، وهذا مما أخبر به الصادق المصدوق حيث يقول: (وَمَا زَادَ اللهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلا عِزًّا(رواه مسلم)، فالعز الحاصل له بالعفو أحب إليه وأنفع له من العز الحاصل له بالانتقام، فإن هذا عِزٌّ في الظاهر، وهو يُورِث في الباطن ذُلاً، والعفو ذُلٌّ في الباطن، وهو يورث العزَّ باطنًا وظاهرًا". ويقول -صلى الله عليه وسلم-: (لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ، إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الغَضَبِ(متفق عليه).

ويجب أن تعلم أن هناك فرقًا عظيمًا بين ضبط النفس وبين الذل؛ فضبط النفس هو: تحمل الأذى في سبيل الله، من أجل الله ومن أجل دعوته.

ضبط النفس هو: تحمل الأذى والنظر في مآلات الأمور.

ضبط النفس هو: مراعاة قواعد المصالح والمفاسد.

أما الذل فهو: تحمل الأذى والإهانة من أجل مصلحة النفس، فكثير من الناس يتحمل الأذى والإهانة من أجل مصلحة نفسه؛ يخشى على وظيفته أو يخشى أن يسجن أو يخشى من أي أذى شخصي؛ وهذا هو الذل، وهؤلاء هم الذين يتربون على الذل، أما أن نتحمل في سبيل الله، فالرسول -صلى الله عليه وسلم- قد وُضع السَّلى على رأسه الكريمة فما حركه وصبر -صلى الله عليه وسلم-، بل شجوا رأسه وصبر -صلى الله عليه وسلم-! فيجب أن نفرِّق بين ضبط النفس وبين الذل حتى لا يقع وهم، أو يتصور أحد أن هناك خلطًا بين الأمرين.

الأسباب المعينة على الحلم والصبر وضبط النفس:

أولاً: طلب الثواب من عند الله، وقد وردت نصوص في فضل كثير من الأخلاق المتقاربة؛ كلها تدور حول هذه المعاني، منها:

1- الرحمة بالمخطئ والشفقة عليه، واللين معه والرفق به، فإن الناس يجتمعون على الرفق واللين ولا يجتمعون على الشدة والعنف؛ لأن الله -سبحانه وتعالى- قال: (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ(آل عمران:159).

2- سعة الصدر وحسن الثقة مما يحمل الإنسان على العفو كما قال -سبحانه-: (ولِمَن صَبَرَ وغَفَرَ إنّ ذَلِكَ لَمِن عَزْمِ الأمُورِ)(الشورى:43).

3- كظم الغيظ، ووردت فيه نصوص كثيرة.

4- ضبط النفس وهو بمعنى كظم الغيظ؛ ولذلك أثنى الله -جل وعلا- على الكاظمين الغيظ، فقال -جلَّ من قائل-: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ . الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ(آل عمران:133-134).

فالمتقون من صفاتهم أنهم يكظمون الغيظ، وكظم الغيظ هو أحد معاني ضبط النفس، والجزاء جنة عرضها السماوات والأرض، ولو لم يأتنا إلا هذه الآية لكفانا بها -والله- فضلاً وشرفًا، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَا مِنْ جُرْعَةٍ أَعْظَمُ أَجْرًا عِنْدَ اللَّهِ مِنْ جُرْعَةِ غَيْظٍ كَظَمَهَا عَبْدٌ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ(رواه أحمد وابن ماجه، وصححه الألباني)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنْفِذَهُ، دَعَاهُ اللَّهُ عَلَى رُءُوسِ الْخَلائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، حَتَّى يُخَيِّرَهُ فِي أَيِّ الْحُورِ شَاءَ(رواه أحمد وأبو داود والترمذي، وحسنه الألباني)، وقال -صلى الله عليه وسلم-:  (وَمَنْ كَظَمَ غَيْظَهُ لَو شَاءَ أَنْ يُمْضِيَهُ أَمْضَاهُ مَلأَ اللَّهُ قَلْبَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَجَاءً(أخرجه الطبراني في الكبير، وحسنه الألباني).

ثانيًا: معرفة مآلات الأمور:

إن أعظم الأسباب التي تمنع من التصرفات الخاطئة معرفة عواقب الأمور، وإتقان قاعدة المصالح والمفاسد، والله -جلَّ وعلا- يقول للصحابة: (ولا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ(الأنعام:108)، أي إذا كان سب الأصنام سيؤدي إلى سب الله -جلَّ وعلا- فلا تسبوا الأصنام، وهذه قضية نغفل عنها.

ثالثًا: معرفة أن الصبر أكثر دفعًا للأذى من الرد بالمثل:

ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في الأسباب المعينة على الصبر على الأذى عشرين سببًا، منها: "الرابع عشر: أن صَبْرَه على من آذاه واحتمالَه له يوجب رجوعَ خَصْمِه عن ظلمه، وندامته واعتذاره، ولوم الناسِ له، فيعود بعد إيذائه له مستحييًا منه نادمًا على ما فعلَه، بل يصير مواليًا له، وهذا معنى قوله -تعالى-: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ . وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ(فصلت:35).

الخامس عشر: ربما كان انتقامُه ومقابلتُه سببًا لزيادة شرِّ خصمِه، وقوة نفسه، وفكرته في أنواع الأذى التي يوصلها إليه، كما هو المشاهَد، فإذا صبر وعفا أَمِنَ من هذا الضرر، والعاقل لا يختار أعظم الضررين بدفع أدناهما، وكم قد جلب الانتقام والمقابلة من شرٍّ عجز صاحبه عن دفعه، وكم قد ذهبتْ نفوس ورِئاسات وأموال لو عفا المظلوم لبقيت عليه.

السادس عشر: أن من اعتاد الانتقام ولم يصبِر لابد أن يقع في الظلم، فإن النفس لا تَقتصر على قدرِ العدل الواجب لها، لا علمًا ولا إرادة، وربما عجزت عن الاقتصار على قدرِ الحق، فإن الغضب يخرج بصاحبه إلى حد لا يعقل ما يقول ويفعل، فبينما هو مظلوم ينتظر النصر والعز، إذ انقلب ظالمًا ينتظر المقت والعقوبةَ.

السابع عشر: أن هذه المظلمة التي ظلمها هي سبب إما لتكفيرِ سيئته، أو رفْعِ درجته، فإذا انتقم ولم يصبِر لم تكن مكفرة لسيئته ولا رافعة لدرجته.

الثامن عشر: أن عفه عفوه وصبره من أكبر الجند له على خصمه، فإن من صبر وعفا كان صبره وعفوه موجِبًا لذل عدوه وخوفه وخشيته منه ومن الناس، فإن الناس لا يسكتون عن خصمه، وإن سَكت هو، فإذا انتقم زال ذلك كله؛ ولهذا تجد كثيرًا من الناس إذا شَتَم غيره أو آذاه يحب أن يستوفي منه، فإذا قابله استراح وألقَى عنه ثقلاً كان يجده.

التاسع عشر: أنه إذا عفا عن خصمه استشعرتْ نفس خصمه أنه فوقَه، وأنه قد ربِح عليه، فلا يزال يرى نفسَه دونَه، وكفى بهذا فضلاً وشرفًا للعفو.

العشرون: أنه إذا عفا وصفح كانت هذه حسنةً، فتولد له حسنةً أخرى، وتلك الأخرى تولد له أخرى، وهلم جرًّا، فلا تزال حسناته في مزيد، فإن من ثواب الحسنة الحسنة، كما أن من عقاب السيئةِ السيئة بعدها، وربما كان هذا سببًا لنجاته وسعادته الأبدية، فإذا انتقم وانتصر زال ذلك".

رابعًا: التأمل في قصص الحلم والصبر والعفو وتحمل الأذى، ومن أمثلتها:

قصة أصحاب القرية التي وردت في سورة ياسين: فقد أرسل الله -جلَّ وعلا- لقرية رسولين، ثم عزز بثالث، فقالوا: (إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ(يس:14)، ودامت القصة بين أهل القرية وبين الرسل، وفي آخر المطاف قال أهل القرية: (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ(يس:18)، وهذه نهاية القصة، فجاء رجل مؤمن... ولننظر كيف يتم ضبط الأعصاب، وكيف يكون التصرف في المواقف الحاسمة! قال الله -تعالى-: (وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى(يس:20)، فماذا سيفعل هذا الرجل؟! أهل القرية مشركون بالله ويستهزئون بالرسل، يعلنون أنهم سيعذبونهم وسيقتلونهم، ويأتي الرجل يسعى، فما هو موقفه وماذا سيفعل؟ (قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ) (يس:20).

أرأينا ضبط الأعصاب؟!

أرأينا الأسلوب؟!

أرأينا كيف يكون التصرف في مواقف الشدة؟!

(قَالَ يَا قَوْمِ... ) بأحب الألفاظ إليهم، وكان المتوقع بحدود فهمنا القاصر أنه ما دام هؤلاء يهددون الرسل ويؤذونهم، ويريدون أن يقتلوهم أن يأتي هذا ويلتحم بمعركة مع هؤلاء المشركين، لا، بل يقول بأحب الألفاظ إليهم: (يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ . اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ . وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ(يس:20-22).

فهل سنواجِه منكرًا أعظم من هذا؟!

أي منكر رأيناه لن يكون أعظم من منكر أهل القرية؛ لأن أهل القرية مشركون، هددوا الرسل وكفروا بالله واستهزئوا به، ومع ذلك يأتي هذا الرجل ويقول هذه الكلمات الهادئة، العاقلة، المطمئنة، ويثني الله -جلَّ وعلا- عليه في نهاية القصة: (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ(يس:26).

فإذا رأينا منكرًا فلا أقول: لا نغيره، ولكن ضبط الأعصاب مطلب شرعي لابد منه؛ لنعرف كيف نتصرف، فالله الله في الحلم وتدريب النفس على ذلك، الحلم الحلم، وإنما العلم بالتعلم والحلم بالتحلم، وقدوتنا في ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، والأمثلة في سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- وفي قصص الصحابة -رضي الله عنهم- لا تُحصى كثرة.

وسائل ضبط النفس:

1- الحرص على إفشاء السلام والبسمة في وجوه المسلمين.

2- ضبط اللسان: يقول -صلى الله عليه وسلم-: (أَمْسِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ(رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني)، ولما قال له معاذ -رضي الله عنه-: يَا نَبِيَّ اللَّهِ وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟ قَالَ: (ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ وَهَلْ يُكِبُّ النَّاسَ عَلَى وُجُوهِهِمْ فِي النَّارِ، إِلا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ؟!(رواه أحمد والترمذي وابن ماجه، وصححه الألباني).

3- دفع السيئة بالحسنة: يقول -تعالى-: (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ . وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ . وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)(فصلت:34-36).

ويقول -صلى الله عليه وسلم-: (اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُمَا كُنْتَ، وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ(رواه أحمد والترمذي، وحسنه الألباني).

4- الإعراض عن الجاهلين: وهذا مما يساعد على ضبط النفس، يقول -جلَّ وعلا-: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ(الأعراف:199)، ويقول: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا)(الفرقان:63)، ويقول: (وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا) (الفرقان:72).

كان الأحنف بن قيس -رحمه الله- يسير يومًا إلى منزله، ووراءه رجل يتبعه منذ مسافة يسبُّه ويشتمه، فلما قرب الأحنف من بيته، وقف وقال لهذا الرجل: "يا أخي، أعْطِني ما بقي عندك -أي أكمل السب والشتم- فاستغرب الرجل وقال: لماذا؟! قال: أخشى أن يراك سفهاء قومنا فيؤذونك، وأنا لا أريد أن يؤذوك!"، فأطَق الرجل حياءً وانصرف.

5- الالتزام بما ورد في الشرع لإذهاب الغضب، ومن ذلك:

أ- الاستعاذة بالله من الشيطان: فعن سليمان بن سرد قال: كُنْتُ جَالِسًا مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَرَجُلاَنِ يَسْتَبَّانِ، فَأَحَدُهُمَا احْمَرَّ وَجْهُهُ، وَانْتَفَخَتْ أَوْدَاجُهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (إِنِّي لأَعْلَمُ كَلِمَةً لَوْ قَالَهَا ذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ، لَوْ قَالَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ، ذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ(رواه البخاري)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (إِذا غَضِبَ الرَّجُلُ فقالَ أعُوذُ بِاللَّه سَكَنَ غَضَبُهُ(رواه ابن عدي في الكامل، وصححه الألباني). إذن التعوذ من الشيطان وسيلة مهمة من وسائل ضبط النفس.

ب‌- السكوت: إذا غضبت فإياك والكلمة، قال -صلى الله عليه وسلم-: (إِذا غَضِبَ أحدُكُمْ فَلْيَسْكُتْ(رواه أحمد، وصححه الألباني).

ت- السكون وتغيير الحالة التي هو عليها: قال -صلى الله عليه وسلم-: (إِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ وَهُوَ قَائِمٌ فَلْيَجْلِسْ، فَإِنْ ذَهَبَ عَنْهُ الْغَضَبُ وَإِلا فَلْيَضْطَجِعْ(رواه أحمد وأبو داود، وصححه الألباني).

ث- التفكر في مضار الغضب وأنه يجمع الشر كله: عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوْصِنِي؟ قَالَ: (لا تَغْضَبْ)، قَالَ: قَالَ الرَّجُلُ: فَفَكَّرْتُ حِينَ قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَا قَالَ، فَإِذَا الْغَضَبُ يَجْمَعُ الشَّرَّ كُلَّهُ. (رواه أحمد، وصححه الألباني).

وفيما يتعلق بموضوعنا، فإظهار موافقة الناس فيما يقولونه من حق والتلطف في رد ما يدعونه من خطأ ومعرفة فقه حديث: (إِنَّ لِصَاحِبِ الحَقِّ مَقَالاً(متفق عليه)، وأن الناس مصدومون وموجوعون... كل هذا من شأنه أن يزيل هذه الاحتقانات.

نسأل الله أن يسلمنا من كل شر، ويحفظ بلادنا وبلاد المسلمين.

www.anasalafy.com

موقع أنا السلفي