الخميس، ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٨ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ

ولقد علم القاصي والداني أن "الدعوة السلفية" وأبناءها لم يقصِّروا في نصرة إخوانهم والقيام بحقوقهم عليهم

وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ
محمود عبد الحفيظ
الاثنين ١٩ أغسطس ٢٠١٣ - ١٩:٤٢ م
4989
13-شوال-1434هـ   19-أغسطس-2013     

كتبه/ محمود عبد الحفيظ

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

ففي هذه الأحداث الدامية التي تشهدها مصرنا الحبيبة -حفظها الله وسلمها من كل سوء وشر- تسيطر مشاعر الحزن والأسى على كثير من أهل الإسلام؛ ليس في مصر وحدها، بل في أرجاء العالم بأسره، وحق لهم ذلك؛ فإن مشاهد الدماء التي أُريقت والأرواح التي أُزهقت من هنا ومن هناك -نرجو أن يكونوا من الأبرياء، ونسأل الله أن يغفر لهم ويعفو عنهم- لا تفارق مخيلة الكثيرين.

وكم حذرتْ "الدعوة السلفية" -وذراعها السياسي "حزب النور"- من هذا الانقسام، وكم أبدتْ تخوفاتها من الوصول إلى تلك الدرجة من الاحتقان التي تكاد تودي بالبلاد والعباد، ولا تزال تنذر بمزيد من الدماء "إن لم تتداركنا رحمة الله"، بل وتهدد بحرب أهلية، وبتدخل مجلس الأمن في شئون بلادنا، وغير ذلك -نسأل الله العافية-.

ولقد علم القاصي والداني أن "الدعوة السلفية" وأبناءها لم يقصِّروا في نصرة إخوانهم والقيام بحقوقهم عليهم، بل لا يزالون على العهد؛ رغم كل ما يُكال لهم ولشيوخ دعوتهم من اتهامات قاسية فظيعة بالخيانة والتفسيق، بل والتكفير! ورمي العمالة بلا بينة أو حتى شبهة دليل، ولكن البعض لا يرضى إلا بأن يكون الجميع في سلة واحدة وفي مرمى واحد؛ ولو كان هذا على حساب الدعوة إلى الله وفتنة الناس في دينهم!

ويريد دون أن يشعر -وهذا ظننا الحسن به- أن يجر كلَّ أبناء التيار الإسلامي إلى حروب دامية غير محسوبة العواقب، بل في الحقيقة نتائجها محسومة عند ذوي البصائر والفهوم.

وليست نصرة المسلمين تشرع في كل وقت بالأبدان والسلاح؛ ولو أدى ذلك إلى استئصال شأفتهم جميعًا واستباحة بيضتهم، وهذا في الوقت الذي أبى فيه هذا البعض كل صور الإصلاح ومبادرات التوفيق ناسيًا أو متناسيًا هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- القائل: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لاَ يَسْأَلُونِي خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ اللَّهِ إِلا أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا(رواه البخاري).

فكم نصحتْ "الدعوة السلفية" وراسلت وتوسطت وسعتْ -ولا تزال- للمصالحة الوطنية بيْن الأطراف المتنازعة، ولكن ما من مجيب؛ فكل مستمسك بما هو عليه، يرى أنه على الحق المبين، ولكن مَن يُشادَّ مَن لا يقدر عليه ولا يطيقه هو غوي مبين! يعرِّض نفسه وصفوة شباب وطنه من أبناء التيار الإسلامي للقتل والهلاك؛ مُعرِضًا في هذا عن الاهتداء بهدي الشرع وموازين المصالح والمفاسد التي جاءت به الشريعة المطهرة، وتعامل بها النبي -صلى الله عليه وسلم-، بل تعامل بها كل أنبياء الله ورسله الكرام -عليهم صلوات الله وسلامه أجمعين-.

فهذا موسى -عليه السلام- لما أعلن فرعون عن سعيه الأثيم لاستئصال بني إسرائيل بقوله: (سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ(الأعراف:127).

كان جواب موسى -عليه السلام- لقومه: (اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)(الأعراف:128).

وما كان هذا خنوعًا واستسلامًا من موسى -عليه السلام- أو تخليًّا عن مشروعه الدعوي والإصلاحي وخيانة لقضيته -حاشاه عليه السلام!-، بل كان هذا هو الموقف الشرعي الموافق لمقاصد الشرائع الإلهية التي بعث الله بها الأنبياء والمرسلين من تحريز المؤمنين قدر الطاقة، والنأي بهم عن حروب دامية فيها هلاكهم وضياعهم.

وقد أنزل الله على نبيه -صلى الله عليه وسلم- في زمن الاستضعاف والعجز عن مجابهة المشركين والظالمين والانتصار منهم، تلك الوصية العظيمة الجامعة لمكارم الأخلاق والتي تجر الكافرين -فضلاً عمن دونهم في العداوة- إلى الإسلام والالتزام، فقال -عز من قائل-: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ(الأعراف:199)، وأنزل الله عليه كذلك: (فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ(البقرة:109).

وهذه نصوص محكمة غير منسوخة، قال القرطبي -رحمه الله- في تفسير قوله -تعالى-: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ): "وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ وَعَطَاءٌ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: هِيَ مُحْكَمَةٌ، وَهُوَ الصَّحِيحُ لِمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَدِمَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنِ بْنِ حُذَيْفَةَ بْنِ بَدْرٍ فَنَزَلَ عَلَى ابْنِ أَخِيهِ الْحُرِّ بْنِ قَيْسِ بْنِ حِصْنٍ، وَكَانَ مِنَ النَّفَرِ الَّذِينَ يُدْنِيهِمْ عُمَرُ، وَكَانَ الْقُرَّاءُ أَصْحَابُ مَجَالِسِ عُمَرَ وَمُشَاوَرَتِهِ، كُهُولاً كَانُوا أَوْ شُبَّانًا، فَقَالَ عُيَيْنَةُ لابْنِ أَخِيهِ: يا بن أَخِي، هَلْ لَكَ وَجْهٌ عِنْدَ هَذَا الأَمِيرِ، فَتَسْتَأْذِنُ لِي عَلَيْهِ. قَالَ سَأَسْتَأْذِنُ لَكَ عَلَيْهِ، فاستأذن لعيينة، فلما دخل قال: يا بن الْخَطَّابِ، وَاللَّهِ مَا تُعْطِينَا الْجَزْلَ، وَلا تَحْكُمُ بَيْنَنَا بِالْعَدْلِ! قَالَ: فَغَضِبَ عُمَرُ حَتَّى هَمَّ بِأَنْ يَقَعَ بِهِ. فَقَالَ الْحُرُّ، يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ اللَّهَ قَالَ لِنَبِيِّهِ -عَلَيْهِ السَّلامُ-: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) وَإِنَّ هَذَا مِنَ الْجَاهِلِينَ. فَوَاللَّهِ مَا جَاوَزَهَا عُمَرُ حِينَ تَلاهَا عَلَيْهِ، وَكَانَ وَقَّافًا عِنْدَ كِتَابِ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-. قُلْتُ: فَاسْتِعْمَالُ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- لِهَذِهِ الآيَةِ وَاسْتِدْلالُ الْحُرِّ بِهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا مُحْكَمَةٌ لا مَنْسُوخَةٌ، وَكَذَلِكَ اسْتَعْمَلَهَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-" (انتهى).

وقد أمرنا الله -تعالى- بحساب النتائج، ودراسة المواقف، واعتبار المصالح والمفاسد، قال -سبحانه-: (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ(الأنعام:108)، وقال -تعالى-: (وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ(النحل:94)، والنبي -صلى الله عليه وسلم- امتنع عن قتل رأس النفاق ابن سلول لما أراد عمر -رضي الله عنه- أن يضرب عنقه واستأذنه في ذلك، وقال: (دَعْهُ، لاَ يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ(متفق عليه)، وقال: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ مِنْكُمْ مُنَفِّرِينَ(متفق عليه).

وقد حذر النبي -صلى الله عليه وسلم- حذيفة -رضي الله عنه- من أن يتسبب في إذعار كفار قريش وتهييج الأحزاب على المسلمين،فقال له: (اذْهَبْ فَأْتِنِي بِخَبَرِ الْقَوْمِ، وَلا تَذْعَرْهُمْ عَلَيَّ(رواه مسلم)؛ حتى لا يتورط المسلمون في معركة تفوق قدراتهم وإمكانياتهم، إذ كان الغرض من إرسال حذيفة إلى معسكر المشركين معرفة أخبارهم وجس نبضهم وتحركاتهم، وقد أمكن حذيفة -رضي الله عنه- أن يقتل أبي سفيان رأس المشركين آنذاك -والذي أسلم وحسن إسلامه فيما بعد- إذ قال: "فَرَأَيْتُ أَبَا سُفْيَانَ يَصْلِي ظَهْرَهُ بِالنَّارِ، فَوَضَعْتُ سَهْمًا فِي كَبِدِ الْقَوْسِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَرْمِيَهُ، فَذَكَرْتُ قَوْلَ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (وَلا تَذْعَرْهُمْ عَلَيَّ)، وَلَوْ رَمَيْتُهُ لأَصَبْتُهُ"، ولكن امتثل حذيفة -رضي الله عنه- أمر النبي -صلى الله عليه وسلم-، فكان في هذا المصلحة العظيمة.

ولقد امتدح النبي -صلى الله عليه وسلم- قادة غزوة مؤتة الثلاثة، وامتدح خالد بن الوليد ووصفه بأنه سيف الله لما تحيز بالجيش وعاد به إلى المدينة، وسمَّى ما فعله خالد فتحًا، فقال -عليه الصلاة والسلام-: (أَخَذَ الرَّايَةَ زَيْدٌ، فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَ جَعْفَرٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَ ابْنُ رَوَاحَةَ فَأُصِيبَ، وَعَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ حَتَّى أَخَذَ سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللَّهِ حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ) (رواه البخاري)؛ لأن ما فعله خالد -رضي الله عنه- كان هو الخيار الصائب الموافق لمقاصد الشريعة، وهو تحريز المسلمين والنجاة برأس المال الحقيقي المتمثل في جند الله المؤمنين الذين تمكنوا بعد سنوات قلائل من فتح البلاد وتعبيدها لله -عز وجل-، ومدح -صلى الله عليه وسلم- هذا الجيش -رغم انسحابه- وقال: (بل أنتم العكارون وأنا فئتكم(رواه أبو داود والترمذي، وحسنه الحافظ ابن حجر، وصححه الشيخ أحمد شاكر).

بل ظل النبي -صلى الله عليه وسلم- نفسه مع صاحبه أبي بكر -رضي الله عنه- حبيس الغار، وما كان هذا جبنًا أو تخاذلاً، بل كان أخذًا بالأسباب المشروعة لحماية الدعوة إلى الله -تعالى-؛ فكان هذا الاختباء في الغار رغم معية الله الحاصلة قطعًا (إِلا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(التوبة:40)، ومع هذا... ما اقتضت تلك المعية أن يخرج النبي -صلى الله عليه وسلم- وصاحبه ليواجها بمفردهما تلك القوة الغاشمة، وما كان سكون النبي -صلى الله عليه وسلم- وصاحبه في الغار ومحاولتهما استمرار الاختباء عن أعين المشركين جبنًا أو ضعفًا أو تضييعًا لقضية الإسلام، بل كان هذا الاختباء هو الموقف الشرعي المحمود وكان نصرًا كما سماه الله (فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ) وإن لم يكن بقتل الكفار، ولكن قد صرفهم الله عن نبيه، فكان نصرًا للحفاظ على المنهج وبقاء الدعوة إلى الله حتى تصل إلى غايتها المنشودة من الوصول إلى كل أجناس البشر.

وأما مَن ظن أن التوكل على الله واستحضار معيته لعباده المؤمنين يعني عدم الأخذ بالأسباب المشروعة وإلغاء حسابات وموازنات القوى المختلفة، فقد أخطأ في ذلك وجهل معنى التوكل الذي هو اعتماد القلب على الله مع الأخذ بالأسباب المشروعة، قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ . يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ . الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ(الأنفال:64-66).

فعلَّمنا الله -تعالى- لزوم اعتبار موازين القوى بيننا وبين أعدائنا، ومعلوم أن العدد إنما يعتبر مع تقارب الصفات وإلا فمع التفاوت البيِّن في ذلك فضلاً عن الهائل، فلابد من الحفاظ على رأس المال الحقيقي "البشري" من أهل الإسلام؛ إذ ليس من الشجاعة والإقدام أن يواجه الإنسان طائرة برمح أو سيف، وأما إن لم يكن عند المسلمين إمكانية للدفع وإنما يقتلون دون إحداث نكاية في العدو لم يجز لهم أن يدخلوا هذه المعركة وإنما يستعملون ما أمر الله به في مرحلة: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ(النساء:77)، وفي مرحلة: (قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ(الأعراف:128)(انظر: أخلاقنا في الفتن "خطبة الجمعة 2-10-1434هـ، 9-8-2013م" لـ د. ياسر برهامي - موقع أنا السلفي).

ورغم أن الذي وقع من سفك الدماء وصور الفساد المتعددة شديد الألم، لكن الأكثر ألمًا والأخطر... هو ذلك الشعور التي تسلل إلى نفوس بعض التيارات والفصائل من أن الإسلام على وشك الاستئصال، وأن الإسلاميين -كما يسميهم البعض- إن لم تكن لهم الغلبة الآن؛ فلن يعبد الله في الأرض، ولن تقوم لهم قائمة بعد ذلك، وبناءً على ذلك يتصور هؤلاء أنهم في جهاد ضد الكفر وأعداء الدين قد يكفرون فيه مَن لم يكن على طريقتهم من المسلمين، ويستبيحون فيه من الأرواح والأموال والإفساد في الأرض ما لا يُستباح في الجهاد الشرعي من قطع الطرق على الناس وتعذر الإسعافات، وحرق الأخضر واليابس، وتدمير المؤسسات والمنشآت، والاعتداء على الممتلكات العامة والخاصة، بل أحيانًا على أعراض الناس ودمائهم!

أبمثل هذا ينصر الحق؟!

أبمثل هذا تكون العزة لأصحاب المشروع الإسلامي والنهضة بالبلاد والعباد؟!

وإذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- قال فيمن أفسد على الناس شيئًا ينتفعون به كشجرة في فلاةٍ يستظلون بها فتقطع لغير فائدة ومنفعة: (مَنْ قَطَعَ سِدْرَةً صَوَّبَ اللَّهُ رَأْسَهُ فِي النَّارِ(رواه أبو داود، وصححه الألباني)، لما في هذا الفعل من الإفساد؛ فكيف بما فوق ذلك مما نشاهده ونعرفه مما يلجأ إليه البعض من تلك الأعمال الخرقاء؟!

كان الواجب أن نرى ولو شيئًا من المراجعة للنفس وللمواقف المختلفة التي أدتْ بنا إلى تلك المشاهد الأليمة الدامية، والتي جعلتنا نفقد الظهير الشعبي الذي تعمل له كل القوى أعظم الحسابات وتقدر قدرته... ولكن للأسف ما رأينا شيئًا من ذلك!

ما رأينا إلا مزيدًا من الاسترسال في خطاب التكفير والتخوين وسفك الدماء... !

فكيف يتنزل علينا نصر الله... ؟!

إن وعد الله صادق لا يتخلف بحال: (وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ(الروم:47)، ولكن النصر يأخذ صورًا متعددة وليس هو فقط قتل الأعداء والتمكن من رقابهم، ولكن من أعظم صور النصر: الثبات على المنهج والثبات على الحق، والمحافظة على الدعوة إلى الله -تعالى-، فهذه أعظم المكاسب، وقد عدَّ الله خروج النبي -صلى الله عليه وسلم- ونجاته من المشركين نصرًا (فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ)؛ لما فيه من بقاء المنهج واستمرار الدعوة إلى الله.

فهلا وَعَى إخواننا ذلك؟

وهلا انتبهوا إلى ما نقول فيثلجوا صدورنا ويعيدوا الفرحة إلى قلوبنا برؤية شعبنا وبلادنا آمنة هادئة؟

هلا علم إخواننا أن التمكين ليس غاية، وإنما هو وسيلة لمطلوب أعظم عند أهل الإيمان؛ هو إقامة دين الله وسياسة الدنيا بالدين،فليست الغاية هي مجرد التمكين وإن لم نطبق ما نقدر عليه من شريعة الله -تعالى-! وإن لم نأمر بالمعروف ولم ننهَ عن المنكر! (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ(الحج:41).

فلو كنا مَشَيْنا بالعدل بين الناس، واهتممنا بمشاكلهم وحاجاتهم اليومية والحياتية التي يفتقدونها، ومددنا أيدينا للجميع، وطبقنا ما نقدر عليه من شريعة الله -بميزانها الشرعي-؛ لرأينا من الخير والبركات ما لم يخطر ببالنا كما أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم-:(حَدٌّ يُعْمَلُ بِهِ فِي الأَرْضِ، خَيْرٌ لأَهْلِ الأَرْضِ مِنْ أَنْ يُمْطَرُوا أَرْبَعِينَ صَبَاحًا(رواه أحمد وابن ماجه، وحسنه الألباني)، وقال -تعالى-: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ(الأعراف:96).

لو رأى شعب مصر المسلم المتدين بطبعه، المحب لدينه وشريعة ربه، المتألم والحانق على مَن يرميه بالكفر والنفاق… لو رأى هذا الشعب عملاً وتعظيمًا لعقيدة المسلمين وحرمات دينهم؛ لصبر على أضعاف ما قاساه وعانى منه، ولهانت عليه مرارة تلك المعاناة في جنب تلكم الحلاوة من رؤية الاقتراب من العمل بدين الله وتطبيق الشرع الشريف.

فيا إخواننا وأحبابنا... يا من يعز علينا عنتهم وألمهم:

- إن نصر الله يتنزل على من ينصره: (وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ) (الحج:40)، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ(محمد:7).

- إن نصر الله يكون لمن جاهد نفسه في مرضاة الله، وأحسن فيما بينه وبين الله، وبينه وبين الناس: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ(العنكبوت:69).

- إن نصر الله يكون لمن لهج بذكر الله -تعالى-، وأطاع الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- وصبر على ذلك: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ . وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ(الأنفال:45-46).

- إن نصر الله لا يتنزل على مَن يوالي أعداء من اليهود والنصارى ويستجير بهم إذا رأى مصلحته في ذلك، ثم هو ينقلب عليهم ويعتدي على كنائسهم وحرماتهم إذا هم خذلوه.

- إن نصر الله لا يتنزل على مَن يطعن في نيات الناس "خاصة العلماء والدعاة إلى الله" ويرميهم بالنفاق، والعمالة، والكفر!

- إن نصر الله لا يتنزل على مَن يسكت على إنكار المنكر مع قدرته ولو بالفتوى والبيان؛ فضلاً عن الرضا أو المشاركة.

- إن نصر الله لن يتنزل علينا إلا بتعظيم حرماته وشعائره: (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ(الحج:30)، (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ(الحج:32).

إن نصر الله لن يتنزل علينا إلا بالتوبة والعودة إلى الله، والاعتراف بالخطأ والتقصير، وعرض أنفسنا وأقوالنا وأفعالنا على كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- ووزن كل شيء بميزان الوحي الشريف.

فلنلهج بذكر الله، ولنستبشر ولنؤمل في الله خيرًا، ولنعلم أن الله ينصر مَن ينصره، وأن الله لا تعوزه وسيلة ولا يعجزه شيء؛ فقد ينصر الله بالريح أو بالرعب أو بالملائكة... فالنصر دائمًا للمؤمنين، ومن المحن تأتي المنح (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ)(البقرة:216).

سلم الله بلادنا وأهلها من كل سوء وشر، اللهم احفظ مصر آمنة مطمئنة رخاءً، وسائر بلاد المسلمين.


www.anasalafy.com
موقع أنا السلفي