الجمعة، ١١ شوال ١٤٤٥ هـ ، ١٩ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

صراع الهوية وفصل الدين عن الحياة

ولهذا الجواب المختصر تفصيل وبيان ، وهو ينتظم في عدة نقاط

صراع الهوية وفصل الدين عن الحياة
محمد إبراهيم منصور
الاثنين ٠٢ سبتمبر ٢٠١٣ - ١٩:١١ م
3187

صراع الهوية وفصل الدين عن الحياة

كتبه/ محمد إبراهيم منصور

الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ـ وعلى آله وصحبه ومن والاه ـ وبعد ؛

فهناك تساؤل يثور في أذهان الكثيرين في هذه الآونة : لماذا يحرص غالبية الشعب المصري على الحفاظ على مواد الهوية في الدستور ، ولماذا تحرص بعض القوى السياسية على حذف هذه المواد ؟

والجواب باختصار : أنَّ عامة هذا الشعب يعتقدون أن ( الإسلام منهج حياة ) ، لذلك يحرصون أشد الحرص على هذه المواد التي تجعل هذا المعنى واقعًا عمليًا.

أما تلك القوى التي تريد حذف هذه المواد فإنها تنطلق من النظرية الغربية ( فصل الدين عن الحياة ) .

ولهذا الجواب المختصر تفصيل وبيان ، وهو ينتظم في عدة نقاط :

1- أصل قضية أن (الإسلام منهج حياة ) .

2- أصل نظرية (فصل الدين عن الحياة ) .

3- صناعة النخب التي تتبنى فصل الدين عن الحياة .

4- صراع النخب العلمانية والليبرالية على مواد الهوية في الدستور .

5- أصل قضية (الإسلام منهج حياة ) .

العقيدة المستقرة عند كل مسلم أن الإسلام منهج كامل للحياة ، فهو بالإضافة إلى كونه يحتوي على العقائد والعبادات فإنه أيضًا يحتوي على أبواب المعاملات ، فمن طالع آيات الأحكام في القرآن لوجد أنها تتحدث عن الربا وبعض أحكام البيوع وكذلك أحكام الأطعمة والأشربة وكذلك الحدود والقصاص والقضاء والشهادات وأحكام السلم والحرب والمعاهدات .

ثم جاءت السنة ـ وهي الوحي الثاني لأن الله قال : ( وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحي) ـ جاءت لتبين وتفصل أحكام المعاملات ، وتؤسس وتؤصل بالإضافة إلى القرآن تلك القواعد والضوابط التي من خلالها يتوصل المجتهدون إلى أحكام ما يستجد من أمور لم يرد فيها نص في القرآن أو السنة .

فالقرآن والسنة تناولا الأحكام التي تتعلق بأبواب المعاملات تناولاً موسعًا .

فلو أنك طالعت البخاري مثلاً أو مسلم وهما أصح كتابين بعد القرآن ـ فقد تلقتهما الأمة بالقبول لصحتهما ولزوم العمل بهما ـ لو أنك طالعتهما لوجدت أنهما يحتويان علي الأبواب الآتية :

1- أبواب العقائد : الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الأخر والقدر خيره وشره .

2- أبواب العبادات : الصلاة والزكاة والصيام والحج .

3- أبواب المعاملات : أحكام البيوع والربا والصرف ، أحكام بيع الأصول والثمار ، أحكام المساقاة والمزارعة ، أحكام الرهن والحوالة والكفالة والضمان ، أحكام الحجر على المفلس والسفيه والصغير والمجنون ، أحكام الوصايا والمواريث ، أحكام الخطبة والنكاح والطلاق والحضانة والنفقة ، أحكام الأطعمة والأشربة والألبسة والزينة ، أحكام الجهاد والمعاهدات وأهل الذمة ، أحكام الجنايات والحدود والقصاص والديات والتعزيرات ، أحكام الشهادة والقضاء .

فهذان أصح الكتب بعد القرآن يحتويان على هذا المنهج المتكامل الذي يضبط جميع جوانب الحياة ، وعلى نفس المنوال جاءت السنن الأربعة المكملة للستة : أبو داود ، والترمذي، وابن ماجة، والنسائي .

فإذا علمت أن مجموع الأحاديث المتعلقة بالعبادات في الكتب الستة حوالى عشرة آلاف حديث ، ومجموع الأحاديث المتعلقة بأبواب المعاملات فيها قريبًا من عشرة آلاف أيضًا ؛ علمت يقينًا أن الإسلام منهج حياة ، وأن الذين يريدون فصل الدين عن الحياة يجهلون حقيقة هذا الدين ، ويصادمون هذا الكم الهائل من الآيات والأحاديث ،
فهذه دواوين الإسلام الستة وسابعها مسند أحمد كلها تنطق بحقيقة واضحة ، وهي أنَّ الإسلام منهج حياة ، وأنه ليس مجرد علاقة روحية بين العبد وربه ، وهذه الحقيقة هي عقيدة إسلامية أكد عليها القرآن من أوله إلى آخره ، فما أكثر ما قرن الله في كتابه الكريم بين الإيمان والعمل الصالح ، ومعلوم أنَّ العمل الصالح هو كل عمل يوافق فيه العبد شرع الله يبتغي به وجه الله ، ولذلك قال الله تعالى : ( قل إنَّ صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين ، لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين ) ، وقال ـ عز وجل ـ : ( وما خلقت الجنَّ والإنس إلا ليعبدون ) ، والعبادة ليست مجرد الصلاة والصيام والزكاة والحج فقط ؛ وإنما هي تشمل جميع التصرفات والأعمال للإنسان ، فلو أنه وافق الشرع في بيعه وشرائه فهو عبد لله في هذا الأمر ، وكذلك جميع التصرفات لا ينبغي أن تخرج عن شرع الله وأحكامه ، وبهذا يحقق الإنسان العبودية لله ، ويحقق الشهادة التي لا يدخل أحد الإسلام إلا بها " أشهد أن محمدًا رسول الله " أي : أشهد أن الله ـ عز وجل ـ أرسل إلى البشرية نبيه محمدًا ـ صلى الله عليه وسلم ـ برسالة ، مضمون هذه الرسالة هو ما ذكرنا من عقائد وعبادات وأخلاق ومعاملات بجميع أحكامها التفصيلية والإجمالية .

ولذلك فمن أصول إسلامنا أن نعتقد أنَّ هذه الرسالة حكم علينا في حياتنا الشخصية .

وحكم بيننا كأفراد وجماعات .

قال الله ـ عز وجل ـ : ( وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك ) .

فجعل الأمر يدور بين حكم الله وحكم الهوى ، وسمى ترك الحكم ببعض ما أنزل الله فتنة .

وقال تعالى : ( أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكمًا لقوم يوقنون ) .

فقسَّم الحكم إلى قسمين : حكم الله وحكم الجاهلية .

وقال تعالى : ( ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل اليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيدًا ) .

فجعل التحاكم إلى غير ما أنزل الله تحاكمًا إلى الطاغوت ، ونفى الإيمان عمن يفعل هذا ، وأخبر أننا مأمورون أن نكفر بالطاغوت ، فلا نتحاكم إليه ونعتقد بطلانه ونبتعد عنه وننهى الناس عن الاقتراب منه ، فإنه من سبيل الشيطان الذي يريد أن يضلنا ضلالاً بعيدًا .

وقال تعالى : ( إن الحكم إلا لله أمر أن لا تعبدوا إلا إياه ) ؛ فأخبر أن الحكم لله وحده وأنهم عباده .

وهذا يبين لك معنى قول الله ـ عز وجل ـ : ( قل إنَّ صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين ، لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين ) .

وقول الله ـ عز وجل ـ : ( يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان ) .

أي اتبعوا جميع شرائع الإسلام ولا تتعدوها ؛ لأن تعديها إتباع لخطوات الشيطان .

وقال ـ عز وجل ـ : ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) .

وقال : ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون ) .

وقال : ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون ) .

فالواجب التحاكم إلى شرع الله ، لكن ما المقصود بشرع الله في عقيدة كل مسلم ؟ شرع الله هو ما ورد في كتابه وسنة نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، قال ـ عز وجل ـ : ( اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ) ، وقال الله لنبيه : ( ونزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ) ، وقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا : كتاب الله وسنتي " .

ولذلك فإنَّ الإشكال الحقيقي عند من يريدون فصل الدين عن الحياة هو في فهمهم لمعنى الإسلام ، فالإسلام عندهم مجرد علاقة روحية بين العبد وبين الله متمثلة في مجموعة من العقائد والعبادات والمعاني الروحية لا علاقة لها بالحياة ، وهذا خلل كبير في فهم الإسلام ، وأيضًا خلل كبير في استيعابهم لتاريخ أمة الإسلام ؛ فقد ظلت الشريعة الإسلامية هي النظام الذي يحكم المسلمين في شتى بقاع الأرض مئات السنين ، لم يقل أحد يومًا أنها تتناسب مع مكان دون مكان ، أو زمان دون زمان ، أو أنها تحول بين المجتمعات وبين الحضارة والرقي ، بل على العكس فإنها مكنت الشعوب التي تتحاكم إليها من صناعة حضارات أنارت الدنيا يوم كانت أوروبا في عصورها المظلمة .

ظلت المجتمعات الإسلامية في تقدم ورقي وازدهار في ظل الشريعة ، وكلما حدث انحراف عنها أصابهم التخلف والضعف وتحقق فيهم قول الفاروق عمر ـ رضي الله عنه ـ : " نحن كنا أذل قوم فأعزنا الله بهذا الدين ، ومهما ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله " .

بدأ الانحراف عن الشريعة في المجتمعات الإسلامية ، وبدأ الضعف والتخلف ، وفي نفس الوقت كان هناك صراع في أوروبا بين الكنيسة والملوك من جانب ، والشعوب من جانب آخر .

2- أصل قضية : ( فصل الدين عن الحياة ) .

في الوقت الذي كانت فيه المجتمعات الإسلامية في أوج ازدهارها وحضارتها ورقيها بسبب تمسكها بشريعتها والتزامها بها كانت أوروبا غارقة في عصورها المظلمة بسبب استعباد الملوك للشعوب عن طريق الكنيسة التي تتمسك بعقيدة محرفة تضفي القدسية على حكم هؤلاء الملوك بنظرية الحق الإلهي .

فاجتمع في نظام الحكم في أوروبا في ذلك الوقت الأمور الآتية :

1- نظام حكم ثيوقراطي ينطلق من عقيدة محرفة لا تؤسس لقواعد ثابتة وأصول محكمة يستنبط منها المجتهدون الأحكام ، بحيث لا يكون القساوسة منشئين لأحكام يضفون عليها صفة القدسية باسم الإله أو نيابة عن الإله ، بخلاف نظام الحكم في الشريعة الإسلامية ؛ فإن دور المجتهدين فيها أنهم يكونون كاشفين باجتهادهم عن الحكم الشرعي من خلال تلك القواعد الواضحة والأصول الثابتة في الشريعة الإسلامية التي يشترك معهم في النظر فيها غيرهم ، وله أن يخالفهم في اجتهادهم طالما التزم بهذه الأصول والضوابط ، وبالتالي لا يكون لقول أحد قدسية إلا للمصادر الصحيحة التي يدور حولها الاجتهاد وتبنى عليها القواعد والأصول .

2- نظام حكم زاوج بين الكنيسة والملك وجعل ما يصدر عنهما مقدسًا ؛ لأنه نيابة عن الإله أو باسم الإله .

3- نظام حكم يرسي قواعد استعباد العقول ، حيث كانت الكنيسة تحتكر الحق المطلق حتى فيما يتعلق بالعلوم التجريبية ، فإذا حدث وتوصل أحد العلماء لحقيقة علمية تخالف ما تتبناه الكنيسة كان جزاء ذلك العالم السجن والتعذيب أو القتل .

4- نظام حكم يعطي الحق للملوك والإقطاعيين في استعباد الشعوب والاستبداد بأموالهم باسم الكنيسة والحق الإلهي .

5- ظلت الشعوب في أوروبا في هذا الظلم والظلام والقهر والاستعباد حتى فاض الكيل ، وثارت تلك الشعوب على هذه المنظومة برمتها ، فصرخوا بأعلى أصواتهم : " اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس " ، ونادوا بفصل الدين عن الحياة ، وبجعل الحياة مادة فقط لا دخل للدين فيها ، ومن هنا بدأت أوروبا في التقدم المادي ، لكن صاحبه انحطاط روحي وأخلاقي مدمر .

3- صناعة النخب التي تتبنى فصل الدين عن الحياة :

حرص قادة الغرب على نقل هذه النظرية الخبيثة ( نظرية فصل الدين عن الحياة ) إلى العالم العربي والإسلامي ، فتم استثمار حركة الاستشراق بأن قام الكثير من المستشرقين بالقدوم إلى بلادنا للتنقيب في تراثنا واستخراج الأغاليط والأكاذيب ، وعمل الأبحاث المتنوعة منها ، والعودة بها إلى بلادهم ، ووضعها كمراجع في جامعاتهم .

ثم تلا هذا حركة التغريب ، حيث كانت ترسل البعثات من نوابغ شبابنا لنيل درجات الماجستير والدكتوراه من الجامعات الغربية ، وهناك تمسخ عقول الكثير منهم، فيعودون ناقمين على عقيدتنا وشريعتنا وتاريخنا وتراثنا وأمتنا .

يعودون وأكبر همهم فصل الدين عن الحياة بالكلية ، معتقدين أن شرط التقدم والرقي والحضارة إنما هو الفصل الكامل بين الدين والحياة .

وبمجرد عودتهم تفتح لهم جميع أبواب التأثير من التدريس في الجامعات ، والمشاركة في وسائل الإعلام ، وتنهال عليهم الأوسمة والنياشين من الداخل والخارج ، ويشاد بهم في كل المنتديات حتى يصبحوا نجومًا ـ مزيفة ـ في بلادنا ، ويكونوا النخب الفكرية والسياسية التي يكون لها تأثيرها في عقول شبابنا ؛ ليتمكنوا من إعادة صياغة أفكارهم وتصوراتهم ، ويبثوا في عقولهم تلك السموم الفكرية التي تصادم عقيدتنا وهويتنا وديننا وشريعتنا .

4- صراع النخب العلمانية والليبرالية على مواد الهوية في الدستور :

مع أنَّ العلمانيين والليبراليين يعلمون تمامًا أن نظريتهم القائمة على ( فصل الدين عن الحياة ) تصادم صراحة معظم نصوص الكتاب والسنة ، بل تقوم على استبعاد أكثر نصوص الكتاب والسنة من الشريعة وجعلها كأن لم تكن ، وكأن الله لم يخاطبنا بها ؛ إلا إنهم يحاولون جاهدين أن لا يظهروا بهذه الصورة الفجة المصادمة لعقيدة هذا الشعب المتدين بطبعه المحب لدينه وشريعته المعظم لكلام الله وكلام رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، لذلك فإنهم يحاولون تسويق نظريتهم بطريقة ملتوية تقوم على الخداع والكذب .

وهذا يتضح من خلال محاولاتهم المستميتة لإلغاء مواد الهوية في الدستور بأساليب يحاولون من خلالها بمكر ودهاء تجنب مصادمة الإرادة الشعبية المحبة لدينها وهويتها ، لكن إذا استعرضنا ما يدور بين الفريقين فيما يتعلق بالهوية لظهر أمرهم واضحًا جليًا للداني والقاصي بإذن الله ـ عز وجل ـ .

مواد الهوية هي تلك المواد التي تتعلق بـ :

1- نظام التشريع، وهي أهم تلك المواد .

2- علاقة الحريات بقيم المجتمعات .

3- نظام الأسرة والأسس التي تقوم عليها .

4- المواد التي تؤكد على اللغة العربية .

5- المواد التي تشير إلى بعض الأحكام الشرعية كالزكاة والوقف والشورى مثلاً :

أولاً : المواد المتعلقة بنظام التشريع، وهي (2/ 219/ 4 ):

المادة (2) : الإسلام دين الدولة ، واللغة العربية لغتها الرسمية ، ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع .

المادة (219) : مبادئ الشريعة الإسلامية تشمل أدلتها الكلية وقواعدها الأصولية والفقهية ومصادرها المعتبرة في مذاهب أهل السنة والجماعة .

نظام التشريع الذي يعتقده كل مسلم هو ما كان مصدره الكتاب والسنة بما ترسخ من قواعد أصولية وفقهية المعتبرة في مذاهب أهل السنة والجماعة على مدار ألف وأربعمائة عام .

والمقصود بالكتاب القرآن الكريم بجميع آياته دون انتقاء أو إقصاء بحجة أو بأخرى .

والمقصود بالسنة كل ما ورد صحيحًا عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مما دون في دواوين الإسلام ( البخاري ، مسلم ، الترمذي ، ابن ماجه ، أبو داود ، النسائي ، مسند أحمد ، وغيرها ) دون التفاف على بعضها أو إقصائه بطريقة أو بأخرى .

فالمسلم يعتقد أنه يجب عليه الرجوع إلى الكتاب والسنة في جميع شئون حياته " تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدًا : كتاب الله وسنتي " .

لكن الذين يريدون فصل الدين عن الحياة لا يقبلون هذا ، ولذلك كان الإصرار من غلاتهم على حذف المادة الثانية بالكلية ، ويقولون : إن الدولة لا دين لها ، إلا إنهم حين وجدوا التفاف الإرادة الشعبية حولها تراجعوا خطوة ووجدوا ثغرة في هذه المادة يمكنهم من خلالها فرض نظريتهم بفصل الدين عن الحياة حتى مع وجود المادة الثانية ، تلك الثغرة هي لفظة مبادئ ؛ لأنَّ لفظة مبادئ أمكن من خلالها إخراج أكثر الأحاديث الصحيحة بل يكاد يكون كلها ومعظم آيات الأحكام من أن تكون المصدر الرئيسي للتشريع ؛ حيث فسرت بأنها تعني : " ما كان قطعي الثبوت قطعي الدلالة " ، وقطعي الثبوت هو المتواتر ، ومع أن الأحاديث الصحيحة تبلغ عشرات الآلاف إلا إن المتواتر منها لا يزيد على ثلاثمائة حديث فقط ، وبالتالي تخرج معظم السنة من أن تكون مصدرًا رئيسيًا للتشريع . وقطعي الدلالة ما لا يحتمل إلا معنى واحدًا ، ومعلوم أن ألفاظ القرآن والسنة ألفاظ عربية ، والألفاظ العربية حمالة أوجه ، وبالتالي يخرج معظم الأحاديث المتواترة ، وأكثر آيات الأحكام من أن تكون المصدر الرئيسي للتشريع ، وبهذا يتم فعلاً فصل الدين عن الحياة بمنع معظم الكتاب والسنة من أن يكون المصدر الرئيسي للتشريع .

لذلك كان الإصرار الواضح من جموع الشعب المصري حين علم بهذه الحقيقة أن تستبدل بلفظة مبادئ لفظة أحكام ، أو أن تحذف لفظة مبادئ دون بديل ويكون نص المادة " الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع " .

إلا أن الذين يريدون فصل الدين عن الحياة أصروا إصرارًا عجيبًا على بقاء هذه اللفظة بحجج واهية ، فقلنا لهم : أنتم لا تريدون الشريعة ، قالوا : لا بل نريدها ، قلنا لهم : فسروا لنا كلمة مبادئ بما يصدق كلامكم هذا ويثبت أنكم حقًا لا تريدون إقصاء الشريعة ، ومع المكاشفة منا للأمر وإيضاحه بكل الصور لم يستطيعوا أن يقاوموا ، فوافقوا على تفسير الأزهر للفظة مبادئ وأقروها في مادة مستقلة (219) ، وهي المادة التي تشن عليها الآن حملة شعواء لحذفها مرة أخرى ، وهو ما لا يرضاه الشعب المصري ولن يقره أبدًا ، هذه المادة تبين بوضوح أن مبادئ الشريعة تشمل :

الأدلة الكلية والمصادر : وهي الكتاب والسنة والإجماع والقياس والعرف والمصالح المرسلة والاستحسان والاستصحاب ... وغيرها من أدلة الأحكام المعتبرة في مذاهب أهل السنة والجماعة .

والمقصود بمذاهب أهل السنة والجماعة تلك المذاهب الفقهية المعروفة والمشهورة والتي يدرس معظمها الآن في الأزهر كمذهب أحمد ومالك والشافعي وأبى حنيفة وغيرهم ، وهذه المذاهب فيها من التراث الفقهي من الثراء والتنوع الكم الهائل الذي يجعل من يتصدى لسن القوانين يجد من السعة والبدائل ما لا يوجد في نظام حكم آخر ، فالنص على مذاهب أهل السنة والجماعة فيه توسعة من جهة ، وفيه أيضًا منع لدخول المذاهب المنحرفة كالشيعة وغيرهم مما يحفظ على مصر وحدة النسيج المجتمعي ، فلا تتحول مع مرور الزمن إلى عراق أو سوريا أو لبنان جديدة .

2- القواعد الأصولية والفقهية ، وهذه بمثابة الضوابط التي تضبط اجتهاد المجتهدين في حكم ما يطرأ من حوادث لا سابق لها ، وهذه القواعد فيها من السعة والتيسير ما يدل حقًا على أن هذه الشريعة يسر كلها ، ولذلك قال الله ـ عز وجل ـ : ( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ) ، وقال : ( يريد الله أن يخفف عنكم ) ، ومن تلك القواعد : ( الأصل في المعاملات الحل والأصل في الأشياء الإباحة ) ، فكل معاملة وكل شيء مستحدث جديد مباح غير ممنوع ما لم يخالف دليلاً من الكتاب أو السنة .

مادة الأزهر ودور هيئة كبار العماء : نصت المادة الرابعة في إحدى فقراتها على " ويؤخذ رأى هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف في الشئون المتعلقة بالشريعة الإسلامية " .

لما كان لابد من الرجوع إلى الخبراء عند اختلاط الأمر على غير المتخصصين فيما يتعلق بدقائق الشريعة كان إصرارنا على أن يكون ذلك الخبير هو مؤسسة محترمة لها مكانتها العالمية ، وهي مؤسسة الأزهر من خلال هيئة كبار العلماء ؛ حتى لا يترك الأمر لتشدد متشدد أو تساهل متساهل أو من ليس بأهل ، حتى لا يقول قائل : " نحن نخاف من المتشددين أن يفرضوا علينا إرادتهم " ، ومن هنا كان إصرارنا على النص على هيئة كبار العلماء ، إلا إن الذين يريدون فصل الدين عن الحياة اعترضوا على مجرد أخذ رأي هيئة كبار العلماء ، وقالوا أن هذا يؤدي إلى ما يسمى بولاية الفقيه ، وهم يعلمون جيدًا أن ولاية الفقيه تختلف عن هذا تمامًا ؛ فإن ولاية الفقيه التي يمثلها نظام الحكم في إيران تبنى على أن المرشد الإيراني (الفقيه) يخبر بالأحكام عن الإمام الغائب ـ الذي في السرداب كما هو في عقيدتهم الباطلة ـ ، والإمام الغائب يخبر عن الوحي ، فالفقيه أو المجتهد في ولاية الفقيه منشئ للحكم وليس فقط كاشفًا له في ضوء قواعد أو أصول ثابتة ، ولذلك فالأحكام في ولاية الفقيه لها قدسية مستمدة من كون هذا الفقيه يخبر عن الإمام الذي يخبر عن الوحي ، أما المجتهد في منظومة الحكم الإسلامي فإنه كاشف فقط من خلال القواعد الشرعية التي يشترك معه في فهمها غيره وقد يخالفه ، وليس لأحدهما قدسية ، بل قد يكون هذا الخلاف من باب الإثراء والتنوع .

ثانيًا : الموازنة بين الحريات وقيم المجتمعات :

الذين يريدون فصل الدين عن الحياة يريدون إطلاق الحريات بلا ضابط ولا رابط ، وهذا لا يمكن أن يقبل به عاقل فضلاً عن أن يكون متدينًا بطبعه كالشعب المصري ، ولهذا كان الخلاف حول الفقرة الأخيرة من المادة (81) : " تمارس الحقوق والحريات بما لا يتعارض مع المبادئ الواردة في باب الدولة والمجتمع " .

هذه العبارة بالذات خرجت بإجماع لجنة الحقوق والحريات بتأسيسية 2012 ، والتي كان يرأسها المستشار إدوارد غالب ، وكان ممثلاً فيها الأزهر والكنيسة والجيش والشرطة وخمس نساء وأحزاب الوفد والحرية والعدالة والنور والمستقلين ، وكان هذا بعد نقاش طويل حول كل مادة من مواد الحريات التي إذا أطلقت بدون ضوابط أدت إلى فوضى .

من أمثلة ذلك : ما دار من نقاش عند وضع مادة : " حرية العبادة مكفولة " قلنا لهم : بهذا الإطلاق سيأتي عبدة الشيطان ويطالبون بحقهم في إظهار عبادتهم وعبدة بوذا وأصحاب الحسينيات والبهائيين وغيرهم ، وهذا سيؤدي إلى فتن يجر إليها شبابنا ، ومصر في غنى عنها ، وهذا لا يرضاه أي وطني مخلص فضلاً عن كونه مسلمًا ، فكان الجواب من بعض الليبراليين بكل وضوح : " ما المانع أن يعبد بوذا من أراد أن يعبده ، وأن يعبد الشيطان من أراد أن يعبده ؟ ألسنا بلد حرية ؟ " ، وهنا ظهروا على حقيقتهم ، فتم التصويت بأغلبية ساحقة لصالح الضبط ومنع الإطلاق .

وعند مناقشة مادة "حرية الإبداع" قلنا لهم : سنطرح عليكم أمرًا نخافه ، فأمنونا منه ، وهو أنه بإطلاق حرية الإبداع سيكون من حق المنتج أن ينتج فيلمًا عاريًا لا تستطيع الدولة منعه ، وبإطلاق الحرية الشخصية سيكون من حق ابني أو ابنتي أن يذهبا لمشاهدة ذلك الفيلم ، فماذا أصنع ؟ وماذا يصنع غالب الشعب المصري الذي يرفض هذا ولا يرضاه دينًا ولا خلقًا ؟ وهل يقبل أهل الريف بسمتهم المتمسك بأصوله الدينية والأخلاقية هل يقبل أن تمشي في شارع قريته فتاة عارية لا تستطيع الدولة بل ولا زوجها ولا أبويها منعها من هذا بحجة الحرية الشخصية المطلقة ؟!!

وبعد نقاشات طويلة وأبحاث قدمها أعضاء حزب النور وغيرهم اتفق الجميع على وضع مادة ضابطة للباب وكان نصها : " تمارس الحقوق والحريات بما لا يتعارض مع المقومات الواردة في باب الدولة والمجتمع بهذا الدستور " ، هذه المقومات تشمل المقومات الدينية والأخلاقية والنظام العام .

العجيب أن أصحاب نظرية فصل الدين عن الحياة قالوا بعد ذلك : إن هذه المادة هي كارثة الحريات في الدستور ، مما يدلك على أنهم فعلاً لا يريدون أن يروا أثرًا للدين أو القيم في واقع الحياة .

ثالثًا : نظام الأسرة وما تقوم عليه من ثوابت :

إن الذين يريدون فصل الدين عن الحياة لهم تصور آخر للأسرة غير الذى يعرفه عامة المصريين، وإليك هذه المقارنة بين التصور لنظام الأسرة في النظريتين :

أولاً : مم تتكون الأسرة ؟

عند من يتمسكون بالهوية تتكون من رجل وامرأة ، وعند من يريدون فصل الدين عن الحياة تتكون من رجلين أو امرأتين أو رجل وامرأة ولا يشترط بينهما العقد .

ثانيًا : كيف تتكون الأسرة ؟

عند من يتمسكون بالهوية : عن طريق الخطبة الشرعية وعقد الزواج الشرعي ، وعند من يريدون فصل الدين عن الحياة : عن طريق العقد المدني الذي يبيح للرجل أن يتزوج رجلاً وللمرأة أن تتزوّج امرأة أو بدون عقد أصلاً ، فيعايش الرجل المرأة التي يريد ويبدآن أسرتهما ، ومتى أرادا أن يعقدا عقداً ، وهم طبعًا لا يصرحون بهذا ، وإنما يريدون فتح الباب له بطريقة أو بأخرى ، مع العلم أن بعضهم في حين غفلة منه يصرح بهذا .

ثالثًا : الحقوق والواجبات بين الزوجين :

عند من يتمسكون بالهوية : القوامة للرجل فهو الذي ينفق على زوجته ويرعاها ويحنو عليها ، وهي تطيعه وتربي أولاده وتعاونه في شئون حياته ، وعند من يريدون فصل الدين عن الحياة : الرؤوس متساوية ، فلا قوامة للرجل على المرأة .

رابعًا : الحصول على الأولاد : عند من يتمسكون بالهوية : ليس له إلا طريق واحد ، وهو الطريق الشرعي المعروف ، وعند من يريدون فصل الدين عن الحياة : عن طريق التبني أو تأجير الأرحام أو أن يزرع أحد الرجلين رحمًا .

خامسًا: الحقوق والواجبات للأولاد :

عند من يتمسكون بالهوية : العلاقة الأسرية تحكمها الآداب الشرعية مدى الحياة ، ولذلك فالابن ابن ، والبنت بنت ، والأبوان لهما حقوق الطاعة على أولادهما بالمعروف ، وعند من يريدون فصل الدين عن الحياة : إذا بلغ الأولاد السن فهم مواطنون كالوالدين ، حتى لو كانوا من نكاح صحيح ، وإذا استخدم الوالدان حق التربية على الأولاد سمي ذلك عنفًا وحوسبا عليه ، بل يمنع الوالد من تزويج ابنته قبل إحدى وعشرين سنة أو ثماني عشرة سنة ، ولا يحق له منعها من ممارسة حياتها بالصورة التي تحبها هي حتى العلاقات الجنسية ، وعلى الدولة أن توفر لها الجنس الآمن ، أي الذي لا يسبب حملاً ولا أمراضًا من خلال تدريس الثقافة الجنسية وتوفير موانع الحمل وحق الإجهاض وتوفير سبل الوقاية من الأمراض الجنسية .

سادسًا : ما يترتب على النظريتين .

يترتب على التمسك بالهوية حفظ الأنساب وحسن تربية الأولاد وحفظ حقوق الوالدين والأجداد وتوفير الحياة الكريمة لهم من قبل أولادهم مهما بلغت سنهم ، فيلتف حولهم الأولاد والأحفاد ، وتتعاقب الأجيال المترابطة ، وتتوارث الفضائل ، ولما كانت الأسرة هي وحدة بناء المجتمع فإن المجتمع المكون من مثل هذه النوع من الأسر الفاضلة المتماسكة مجتمع فاضل متماسك .

أما ما يترتب على فصل الدين عن الحياة في نظام الأسرة فالتفكك الأسري والانحطاط الأخلاقي الناتج عن عدم التربية السليمة ، وفقدان الانتماء وعدم الشعور بالمسئولية تجاه الأسرة والمجتمع ، ولما كانت الأسرة هي وحدة بناء المجتمع فإن المجتمع يصير مهلهلاً يتهاوى في أوحال الرذيلة يومًا بعد يوم ، ويكون الصراع فيه على المادة والشهوة ، وتغيب معاني الفضيلة ومكارم الأخلاق ، ومجتمع كهذا مهدد بالانهيار والزوال .

ولذلك تجد المحاولات الشديدة من طرف من يناصرون الهوية لمنع تضمين الدستور ألفاظًا وموادَّ لها مدلولات غربية تفتح الباب على مصراعيه للانحلال والتفكك الأسري وإن كان ظاهرها لا يفهم منه هذا ، وهذا من التدليس الذي يمارسه أنصار فصل الدين عن الحياة ، فمن هذه الألفاظ : " منع العنف البدني والمعنوي بالمرأة والطفل ـ منع الاتجار بالنساء ـ إطلاق المساواة بين الرجل والمرأة ـ إطلاق الحريات دون ضابط " وألفاظ وعبارات أخرى كثيرة ظاهرها فيه الرحمة وباطنها من قبله العذاب ، وهي تحتاج إلى بسط في مقال آخر .

وقبل أن أختم المقال أقول للقارئ الكريم : لعلك عرفت الآن ما سر إصرار القوم على حذف المواد الآتية :

مادة (44) : يحظر الإساءة لجميع الأنبياء والمرسلين ، ومن قبل هذا كان في مسودة دستور       2012 : تحظر الاساءة للصحابة وأمهات المؤمنين فصمموا على حذفها .

2- حذف لفظة "الشورى" التي كانت في المادة السادسة .

3- حذف مادة (11) : ترعى الدولة الأخلاق والآداب والنظام العام ، والمستوى الرفيع للتربية والقيم الدينية والوطنية ، والحقائق العلمية ، والثقافة العربية ، والتراث التاريخي والحضاري للشعب ، وذلك وفقًا لما ينظمه القانون .

4- حذف مادة (12) : تحمي الدولة المقومات الثقافية والحضارية واللغوية للمجتمع ، وتعمل على تعريب التعليم والعلوم والمعارف .

5- مواد إحياء الوقف (25) : تلتزم الدولة بإحياء نظام الوقف الخيري وتشجيعه .

وينظم القانون الوقف ، ويحدد طريقة إنشائه وإدارة أمواله ، واستثمارها ، وتوزيع عوائده على مستحقيها، وفقًا لشروط الواقف .

6- مادة الزكاة التي كانت في إحدى مسودات دستور 2012 ، صممت تلك القوى وقتها على حذفها .

www.anasalafy.com

أنا السلفي