الجمعة، ٢٠ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٩ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

الإخوان الأولون والإنصاف!

كان هذا هو ملخص رأيي الذي أدليت به إلى الإخوة الذين جاءوا يسألونني...

الإخوان الأولون والإنصاف!
عصام حسنين
الأربعاء ٢٣ أكتوبر ٢٠١٣ - ٠٠:٠٩ ص
3669
18-ذو الحجة-1434هـ   22-أكتوبر-2013      

كتبه/ عصام حسنين

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فمن أعظم أخلاق الإسلام "خلق الإنصاف" الذي هو العدل قولاً وفعلاً مع الموافق والمخالف، ومع العدو والحبيب، قال الله -تعالى-: (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى(الأنعام:152)، وقال -تعالى-: (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى(المائدة:8)، أي: لا يحملنكم بغض قوم على ترك العدل معهم.

ولا شك أن التجمُّل بهذا الخلق يجمل به العبد عند الله وعند الناس, فالناس يحبون المنصف ذا الأخلاق العالية، ويذمون الظالم المتجاوز في أعراض الآخرين، ويحسن الإنصاف أكثر إذا كان مع المخالف أو المعادي، ولا شك أيضًا أن هذا خلق كل صالح من المسلمين بخلاف الخوارج بطوائفهم الذين يستحلون دماء وأعراض وأموال المسلمين!

وإن العجب ليطول ممن ينتسب إلى العلم والدعوة وهو يستبيح عرض إخوانه المسلمين سبًّا وغِيبة ونميمة، وتشويهًا وصدًّا للناس عنه, وتربصًا للساقطة واللاقطة, وتناسوا الوعيد الشديد الذي ورد في ذلك! أو أن يكون من أهل البدع التكفيريين!

وإن من أكثر الناس الذين استبيحت أعراضهم هم علماء وشيوخ "الدعوة السلفية" القائمين على إدارتها، وإدارة حزبها السياسي "حزب النور".

وللجميع أقول:

لكل حزب رؤية سياسية في الإصلاح تختلف عن رؤى الأحزاب الأخرى حتى وإن قلنا بجوازها في الدولة الإسلامية التي يعلو أنظمتها شرع الله -تعالى- بتقديم برامج إصلاحية، والجميع يصب في مصلحة البلاد والعباد.

أما منطق "مَن لم يكن معنا فنحن عليه!": فليس بمنطق أهل العدل والإنصاف؛ فضلاً عن أهل الإسلام أصحاب السياسة الشرعية, وهو في رؤيته يسعى للتوافق مع مَن يوافقه في الرؤية، وهذا الذي ذكرتُه ذكره أمين عام جماعة الإخوان المسلمين في بيانه الأخير الذي رد على بيان الدكتور "صلاح سلطان" حيث قال: "لكل جماعة وحزب سياسي اجتهاداته بناءً على ما توفر لديه من معلومات!".

والسؤال: فلماذا أبحتم لكم الاجتهاد بما توفر لديكم من معلومات، وحرمتم علينا الاجتهاد بنفس المبررات والمعطيات التي ذكرتموها؟! ولماذا الحرب على المخالف وهو اجتهاد كما ذكرتم -خاصة من السلفيين وحزب النور-؟!

وأنا ذاكر لكم مواقف إنصاف من أوائلكم في حق "عبد الناصر" الذي قال الأستاذ "محمود عبد الحليم" -رحمه الله- في ذمه ما يلي:"كراهيتنا لجمال عبد الناصر أمر مقرر ومفروغ منه وأسباب ذلك كلها تتصل بالله... وجمال عبد الناصر بلونا منه النفاق والكذب، والغدر والخديعة، والتجرد من الشرف والأخلاق!". ولم يمنعهم ذلك من الإنصاف معه، والتعامل معه بما فيه مصلحة البلاد والعباد، فمن ذلك ما ذكره الأستاذ "محمود عبد الحليم" من قول عبد الناصر للمرشد بعد (ثورة 52): "قد يقال لك: إن إحنا اتفقنا على شيء... إحنا لم نتفق على شيء!"، قال: "وكانت مفاجأة... فقد كان اتفاقنا أن تكون الحركة إسلامية ولإقامة شرع الله، واستمرت المقابلة في مناقشات أنهاها المرشد بقوله لجمال عبد الناصر: اسمع يا جمال... ما حصلش اتفاق، وسنعتبركم حركة إصلاحية... إن أحسنتم فأنتم تحسنون للبلد، وإن أخطأتم فسنوجه لكم النصيحة بما يرضي الله" (الإخوان المسلمون أحداث صنعت التاريخ:3/ 24).

ومن ذلك أيضًا: عندما قارب (معتقل 54) على الانتهاء: "اجتمع إخوان الهيئة التأسيسية الذين بالمعتقل وناقشوا قضية كان لابد من مناقشتها؛ تلك هي أنهم حين يخرجون إلى الحياة سيجدون مجتمعًا ذا صبغة معينة، وسيجدون حكومة هي وليدة الصراع الذي كان بينهم وبين الثورة، فما سيكون موقفهم منها، ومن هذا المجتمع؟ هل يقفون منها موقف المقاومة أم موقفًا سلبيًّا أم يتجاوبون معها؟!

وقد تمخض نقاشهم عن قرار مؤداه: أننا مهما كان رأْينا في الحكومة فإن الشعب الذي تحكمه هو شعبنا، ومسئوليتنا عن مصالحه لا تقل عن مسئوليتها؛ فعلينا أن نتعاون معها فيما يعود على هذا الشعب بالخير، منحِّين جانبًا ما بيننا وبينها من خلاف سياسي، وبذلك نكون في كل أحوالنا متجاوبين؛ فيما عدا الاتجاه السياسي" (السابق:3/ 453). وغيرها من المواقف كثير فيها إنصاف ونظرة للمصلحة العليا، وتقديمها على المصلحة الخاصة.

ومن ذلك أيضًا: ثناء الأستاذ محمود على عبد الناصر في موقفه من كسر حظر السلاح، وكان هذا الثناء وهو في السجن تحت وطأة التعذيب! وهذا -حقًّا- إنصاف عجيب لا تقوم به إلا النفوس التي تخلصت من مرادات أنفسها لمرادات الشرع الشريف!

يقول -رحمه الله-: "جريًا على أسلوب الطغمة الحاكمة في محاولة عزل المجتمع الإخواني عن الحياة كان محرمًا دخول الصحف إلى السجن، كما كان محرمًا وجود الراديو... إلا أننا فوجئنا في يوم من الأيام بفتح الزنازين ووجود جهاز الراديو بمكبر للصوت في فناء السجن، وسمعنا الإذاعة المصرية لأول مرة منذ وصولنا إلى عتبة هذا السجن، وقد توقعنا من هذا الإجراء المفاجئ أنهم يريدون أن يسمعونا خبرًا ذا بال، وكان ما توقعناه، فسمعنا المذيع يلقي إلى المستمعين في أسلوب ينم عن الزهو والتفاخر أن الرئيس جمال عبد الناصر استطاع أن يكسر احتكار السلاح، وموضوع احتكار السلاح موضوع قديم، وكان دائمًا إحدى الدعائم الأساسية التي يقوم عليها صرح السياسة الغربية، حيث كانت صلاتنا مقصورة على الكتلة الغربية دون الكتلة الشرقية التي لم نكن نعترف رسميًّا بها -ولم نعترف بها إلا قبيل الثورة-، وكانت سياسة الدول الغربية ألا تبيعنا من السلاح إلا ما تشاء لا ما نريد؛ حتى تضمن أن نكون في حدود معينة من القوة لا نتعداها لنظل دائمًا دائرين في فلكها.

وقبل إذاعة هذا النبأ علينا كان قد تسربت إلينا أنباء عقد مؤتمر باندونج، وقد نوقشت أنباء هذا المؤتمر على أساس ما تصل إلينا من قصاصات من الصحف تحمل بعض أنبائه، ولم تكن صورة هذا المؤتمر واضحة في أذهاننا؛ لأن الدول التي اشتركت فيه لم تكن تبلورت مواقف كثير منها بعد، ولكننا مع ذلك لم نحسن الظن به؛ لأن الدول الشيوعية الكبرى كانت مشتركة فيه، وقد لاحظنا أن رئيس وزراء الصين شوايين لأي -وهو أحد دهاقين السياسة- كان محتفيًا بجمال عبد الناصر احتفاءً أحسسنا أن له مغزى، وأن له هدفًا، وكانت الصين لا تزال بعد حليفة لروسيا، وكانت يدها اليمني كما يقولون، ويبدو أننا كنا على صواب في نظرتنا إلى هذا المؤتمر... فقد تمخض هذا المؤتمر عن قرارات رائعة، ولكنها جميعًا كانت حبرًا على ورق، مثل: وثيقة حقوق الإنسان التي أصدرتها الأمم المتحدة، أما النتائج العملية المحسوسة التي أسفر عنها فكانت فتح أبواب مغلقة في وجه الشيوعية الدولية.

وجاءت خطوة كسر احتكار السلاح مفاجأة لنا وللعالم كله، وبدا بها "جمال عبد الناصر" بطلاً تاريخيًّا حيث صار أول حاكم لمصر استطاع أن يخرج ببلده من النطاق المضروب عليها من الغرب، إذ وصل السلاح الذي تريده مصر إليها من تشيكوسلوفاكيا أولاً ثم من روسيا بعد ذلك، ولا شك في أن هذه الخطوة أغضبت دوائر الغرب قاطبة باعتبارها إفلاتًا من قبضتها، ووقف الإخوان في السجن حائرين أمام هذه الخطوة يريدون أن يصلوا فيها إلى رأي، وكثرت المناقشات حولها، واختلفت الآراء... ولاحظت أن أكثر الاختلاف كان ناشئًا من تحكيم العاطفة بدلاً من تحكيم العقل والمنطق!

وجاءني فريق من الإخوان يسألونني الرأي في الموضوع فكانت إجابتي على الصورة التالية: أولاً: نحن الإخوان المسلمين كنا أول من دعا منذ عام 1937م إلى تسليح الجيش وتسليح الأمة بأحدث الأسلحة متحدين في ذلك إرادة الحكومة المصرية والقصر والإنجليز، مثيرين بذلك الدهشة والاستغراب في أوساط الأحزاب المصرية بما فيها حزب الوفد، وقد نشرت جريدة "المصري" حديث المرشد العام حسن البنا في ذلك الموضوع على أنه إحدى المفاجآت والأعاجيب -وقد أشرنا إلى ذلك في الجزء الأول من هذه المذكرات-.

ثانيًا: كراهيتنا لجمال عبد الناصر أمر مقرر ومفروغ منه، وأسباب ذلك كلها تتصل بالله، ولكن هذه الكراهية لا تمنعنا من الثناء على عمل نافع إذا صدر عنه، فكراهيتنا لشخصه لا تحملنا على الغض من كل ما يصدر عنه من عمل؛ لأن المسلم يجب أن يكون متخلقًا بخلق القرآن الذي يقول: (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ(المائدة:8).

ثالثًا: إذا نظرنا إلى العمل في ذاته وجدناه عملاً نافعًا؛ لأنه إخراج للبلاد من الدائرة المفرغة التي تدور فيها منذ بدء الاحتلال البريطاني، وتقوية الجيش وتسليحه بأسلحة حديثة أمر مطلوب شرعًا، وهو مطلبنا من قديم نحن الإخوان.

وهنا توجه إليَّ هؤلاء الإخوة بسؤال آخر فقالوا: أما وهذه الخطوة خطوة نافعة؛ فلماذا لم يقدم عليها أحد من حكام مصر السابقين، وأقدم عليها جمال عبد الناصر؟

فكانت إجابتي على سؤالهم هذا كما يلي: جمال عبد الناصر بالرغم من أننا بلونا منه النفاق والكذب، والغدر والخديعة، والتجرد من الشرف والأخلاق، فلا نستطيع أن ننكر أن فيه لمحة من عبقرية، وأن له طموحًا يفوق كل تصور، وهو يعلم أن الذي منع سابقيه من الإقدام على هذه الخطوة هو خوفهم من الفشل دون إتمامها؛ لأنهم سيواجهون العالم الغربي كله، والرجل إذا كان له مجد شعبي يحرص عليه، يحسب ألف حساب لكل خطوة يقدم عليها؛ لأن مخاطرته إذا لم يكتب لها النجاح فلن تودي به وحده، بل ستودي به وبمن وراءه ومن هو مرتبط بهم، أما إذا لم يكن له مجد شعبي فعلي أي شيء يخشي إذا هو فشل؟ وتوضيح ذلك أن الذين حكموا مصر قبل جمال عبد الناصر أحد رجلين: إما رجل ارتبط بالشعب وهو الوفد، وإما رجل ارتبط بالملك وهم الأحزاب الأخرى، فأما الوفد فإنه كان يمثل تراثًا شعبيًّا ضخمًا تم بناؤه في عشرات السنين، وتحت وطأة ظروف قاسية، فإقدامه على مثل هذه الخطوة مخاطرة إذا قدر لها الفشل تحطم هذا البناء، وضاع هذا التراث العزيز، وأما الأحزاب الأخرى فما كان لها أن تقدم على خطوة فيها إغضاب المستعمر الذي هو سند القصر الذين هم سدنته وخدمه.

لهذا رأى جمال عبد الناصر أمامه فرصة سانحة إذا أقدم عليها ففشل فلن يخسر شيئًا؛ لأنه هو نفسه لم يكن شيئًا حتى يقال إنه فقد شيئًا، كالمفلس إذا قامر يقامر وهو مطمئن؛ لأنه إما أن يكسب فيغتني من العدم، وإما أن يخسر فلا تضيره الخسارة، والمثل العربي يقول: "أنا الغريق فما خوفي من البلل؟!".

كان هذا هو ملخص رأيي الذي أدليت به إلى الإخوة الذين جاءوا يسألونني... ويبدو أن هؤلاء الإخوة أذاعوا هذا الرأي في أنحاء المعتقل حتى وصل إلى أسماع جبهة إخواننا الكبار، الذين ساءهم أن يصدر هذا الرأي عني، فأرسلوا إليَّ يطلبون الالتقاء بي، وتم الالتقاء بهم، وكان الأخ البكباشي "معروف الحضري" أشدهم غضبًا، ولم أكن من قبل على صلة بالأخ معروف، فكانت هذه أول مرة نلتقي فيها ونتعارف، وفهمت من إخواننا هؤلاء أنهم كانوا يريدون ألا يصدر عني ما فيه إطراء لعمل يأتيه رجل فعل بنا ما فعل مهما كان العمل في ذاته جليلاً! وقد رددت عليهم بأن هذا يتعارض مع الخلق الإسلامي الذي قرره القرآن الكريم، وقرره عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- حين التقى بالرجل الذي قتل أخاه ضرارًا، وكان الرجل قد أسلم فقال له عمر: والله لا أحبك حتى تحب الأرض الدم، فقال له الرجل: وهل يمنعك هذا أن تؤدي إليَّ حقي؟ قال عمر: لا. قال الرجل: فلا عليك إذن فإنما يبكي على الحب النساء!

أما الأخ معروف فكان اعتراضه منصبًا على ما وصفت به عبد الناصر في هذا التصرف من أنه عبقري، وقد غضب أشد الغضب من وصفي جمالاً بالعبقرية في هذا التصرف، وقال: كيف تصف بالعبقرية رجلاً لا وفاء عنده ولا خلق ولا شرف... ولم يستطع الأخ معروف أن يستسيغ أن يكون إنسان موصوفًا بالذكاء والتفوق الفكري والنضج العقلي، وهو في نفس الوقت فاقد كل ما يتعلق بالنفس من صفات خلقية: كالصدق، والوفاء، والمروءة، والشرف... !

ثم أخذ يدلل على صواب رأيه وخطأ رأيي، فقص عليَّ القصة التالية فقال: "بايعنا الأستاذ الإمام حسن البنا على المصحف والمسدس باعتبارنا عسكريين في عام 1941م، وكان معنا في المبايعة جمال عبد الناصر، وكانت تربطني بجمال صداقة شخصية وعائلية، كما كانت تربطنا كلينا رابطة صداقة من نفس الدرجة بالأخ عبد المنعم عبد الرءوف الذي اختير مسئولاً عن تنظيم الإخوان في الجيش، ثم علمنا أن جمال أنشأ تنظيمًا آخر خاصًا به لا يتقيد بمقاييس الإخوان، وحاول استغلال صداقته لي في جذبي إلى تنظيمه فرفضت، وحاول إغرائي بكل وسائل الإغراء ولكنه فشل، فلجأ إلى أسلوب الإحراج بأن انتهز فرصة مناسبة من المناسبات فدعاني إلى حفلة في منزله فوجئت بأنها تضم أعضاء تنظيمه، وقدمت المرطبات، ثم وقف جمال ليتكلم فرحب بالذين لبوا الدعوة وشكرهم ثم خصني بالشكر، وقال: وأبشركم بانضمام الأخ معروف الحضري إلى تنظيمنا... ففهمت في الحال أن الحفل إنما أقيم وافتعلت له المناسبة، وكان المقصود منها إحراجي ووضعي أمام أمر واقع، ولكنني بالرغم من المفاجأة ومن الإحراج الذي أحكمت حلقاته حولي تمالكت أعصابي وشكرت جمالاً على تقديره لي وشعوره نحوي، وأبديت اعتذاري بأنني لا أستطيع أن أتخلي عن تنظيمي، ولا أستطيع أن أعمل في تنظيمين معًا... وكانت هذه آخر محاولة لجأ إليها لجذبي إلى تنظيمه، ولكنني عرفت بعد ذلك أنها لم تكن آخر ما في جعبته من أساليب!

ثم جاء جمال بعد ذلك إلى منزلي، وأفهمني أنه يريد أن يسر إليَّ بحديث خاص دفعه حبه لي إلى الإفضاء به إليَّ، فقال لي: يا معروف: هل بينك وبين عبد المنعم سوء تفاهم؟ قلت: لا، فأبدي تعجبه وقال: إذن فلمَ هذا الكلام الذي يقوله عنك؟ يبدو أنه يخشى على منصبه في التنظيم من وجودك فيه، لقد كنا معًا بالأمس، وجاءت سيرتك فقال: أنا لا أستخف دم هذا الشخص؛ لأنه يعمل في هذا التنظيم لشخصه، وسأحاول بتره من التنظيم. يقول معروف: ووقع مني كلام جمال موقع المفاجأة، وكدت أشك فيه لولا أنني في أول لقاء لي مع عبد المنعم لاحظتُ أنه معرض عني، وينظر إليَّ شزرًا؛ مما أكد لي صدق جمال فيما نقله إليَّ، فما كان مني -وأنا بشر- إلا أن قابلت إعراضه بإعراض وتجاهله لي بتجاهلي له، واستمر الخصام بيني وبين عبد المنعم لا أكلمه ولا يكلمني حتى قامت الثورة، وجمعني وإياه السجن الحربي حيث اعتقلنا جمال، فأخذنا نستعيد الأحداث ونتعاتب، وفي هذه اللحظة فقط فهمنا أن جمالاً استطاع أن يوقع بيننا بأن أسر إلى كل منا على انفراد حديثًا مختلفًا يوغر صدر كل منا على أخيه، وقد نجحت حيلته في شل حركتنا بعد أن يئس من اجتذابنا إلى تنظيمه".

وهنا قال لي معروف: فهل مثل هذا الرجل الذي يستبيح الكذب، ويوقع بين الناس ويسعي بينهم بالنميمة... يقال عنه: إنه عبقري؟!

فقلت له: يا أخي معروف... العبقرية صفة تتصل بسرعة الخاطر، وإحكام التدبير، وبُعد النظر، وبراعة التخطيط للوصول إلى الأهداف التي يسعى صاحبها للوصول إليها، ولا تتصل بالأخلاق، والنبل والوفاء، والمروءة والضمير... فقد يكون الرجل عبقريًّا وليس على شيء من الخلق والضمير، وقد يكون الرجل وفيًّا صادقًا نبيلاً، ولا نصيب له في العبقرية، وقد يجمع بعض الناس بين العبقرية والخلق؛ هؤلاء هم الذين جمعوا أطراف الكمال الإنساني وهم القلة دائمًا، وأنا حين وصفتُ جمالاً بالعبقرية وصفته وأنا أعلم أنه من الصنف الأول الذي ليس له نصيب من خلق ولا دين، ولا شرف ولا ضمير، واسمح لي يا أخي معروف أن أقول لك: إنك بما قصصته الآن عليَّ، قد أضفت برهانًا آخر على عبقرية جمال كما أضفت برهانًا جديدًا على سذاجتنا، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "المؤمن كيس فطن"(1)، وعمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يصف نفسه فيقول: "لست بالخبَّ، ولكن الخب لا يخدعني".

هذه قضية عرضت لنا في أثناء وجودنا بهذا السجن أردت بإيرادها أن أثبت أن حيوية الإخوان لم تستطع كل أساليب القهر والكبت والإذلال أن تحتويها، ولا أن تنال منها ولا أن تُحد منها، ثم إنني قصدت عرضها على جمهور القراء ليناقشوها وهم متمتعون بالحرية كما ناقشناها ونحن تحت وطأة ظروف قاسية، ربما كان لها بعض التأثير في حكمنا على الأمور، وقد قرأت في هذه الأيام في كتاب "جمال عبد الناصر" للأستاذ "أحمد أبو الفتح" في صفحة 262 ما يمس هذا الموضوع حيث يقول: "إن صفقة الأسلحة في الحقيقة كانت بمثابة العصا السحرية التي مست قلوب الشعوب العربية فحولتها بسرعة فائقة إلى حب وتقدير، بل تقديس لشخص جمال عبد الناصر، لقد كانت الأسلحة الروسية نقطة تحول حاسمة في سياسة عبد الناصر، فقد أوضحت له معنى لم يكن يعرفه من قبل، ورسمت له الطريق نحو زعامة لم يصل إليها أي زعيم عربي من قبل، لقد أوضحت له معنى: وهو أن مشاعر العرب يمكن إثارتها وكسبها عن طريق مناهضة الغرب والوقوف في وجهه".

وقد رأيت أن أنقل رأي الأستاذ "أبو الفتح" في هذا الموضوع، لأن الأستاذ "أحمد أبو الفتح" وإن كان ليس من الإخوان المسلمين فإنه من الكتَّاب المنصفين، وقد ناله من ظلم جمال عبد الناصر وغدره مثلما نالنا" (الإخوان المسلمون أحداث صنعت التاريخ 3/ 445-450).

فهل مِن معتبر؟!

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) حديث موضوع، لا يصح عن النبي -صلى الله عليه وسلم-.


www.anasalafy.com
موقع أنا السلفي

تصنيفات المادة

ربما يهمك أيضاً