الجمعة، ٢٠ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٩ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

تأملات في قصة التضحية

وإن كان قد ابتلانا بأمور فقد صرف عنا من السوء ما لو علمناه لاخترنا ما اختار لنا؛ فلا نيأس، ولا نحزن، ولا نكون في ضيق؛ فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون

تأملات في قصة التضحية
ياسر برهامي
الأحد ٢٧ أكتوبر ٢٠١٣ - ٢٠:٠٣ م
2102
23-ذو الحجة-1434هـ   27-أكتوبر-2013     

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فأكتب إلى إخواني بعد رحلة الحج المباركة راجيًا من الله القبول لي ولكم ولكل المسلمين، سائلاً الله أن يقر أعينكم بلقائه، وترضى نفوسكم بقضائه، وتحمد قلوبكم وألسنتكم نعماءه، فإنه -عز وجل- إن حرمنا من أشياءٍ فقد منَّ علينا بأضعافها، وإن كان قد ابتلانا بأمور فقد صرف عنا من السوء ما لو علمناه لاخترنا ما اختار لنا؛ فلا نيأس، ولا نحزن، ولا نكون في ضيق؛ فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون.

ومن آيات الله في الحج: انجذاب حجاج بيت الله الحرام لكي يؤدوا مناسكهم، متذكرين إرث أبيهم إبراهيم -عليه السلام-، متبعين لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكذلك تضحية الملايين من المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، متبعين أيضًا لسنة إبراهيم -عليه السلام- ولسنة نبيهم -عليه الصلاة والسلام-.

فالحنفية السمحاء هي التي بُعث بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهي الميل إلى الله والإعراض عن سواه، قال الله -عز وجل-: (وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لإِبْرَاهِيمَ . إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ . إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ . أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ . فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ . فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ . فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ . فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ . فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ . مَا لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ . فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ . فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ . قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ . وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ . قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ . فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَسْفَلِينَ . وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ . رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ . فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ . فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ . فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ . وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ . قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ . إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ . وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ . وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ . سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ . كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ . إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ . وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ . وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ(الصافات:83-113).

وقد ذكر الله -سبحانه- نبيه إبراهيم -عليه السلام- بعد ذكر نوح -عليه السلام- فقال: (وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لإِبْرَاهِيمَ(الصافات:83)، وكم بيْن نوح وإبراهيم -عليهما السلام- من السنين؟! ومع ذلك، ورغم تباين المكان والسنين... ذكر الله أن إبراهيم من شيعة نوح؛ أي: على دينه ومنهاجه، فالأنبياء دينهم واحد كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (الأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ لِعَلاتٍ: دِينُهُمْ وَاحِدٌ، وَأُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى(رواه مسلم وأحمد واللفظ له).

وأمتنا أمة واحد؛ قال الله -تعالى-: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ(الأنبياء:92)، وهذا أمر يظهر جليًّا في الحج؛ إذ يأتي الناس مِن كل فج عميق على اختلاف الأوطان والألوان والألسنة في لباس واحد، ونداءٍ واحد، ومكان واحد ملبين نداء ربهم!

"
هذه الوَحدة يريد أعداؤها تمزيقها؛ ليتمكنوا من الأمة، لكنها -بفضل الله- لا تموت؛ ولو اجتمع عليها مَن بأقطارها
"

هذه الوَحدة لأمة الإسلام عبر الزمان والمكان لابد من الشعور بها، والحض عليها بوحدة المنهج، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ، وَتَرَاحُمِهِمْ، وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى(رواه البخاري ومسلم).

وهذه الوَحدة يريد أعداؤها تمزيقها؛ ليتمكنوا من الأمة، لكنها -بفضل الله- أمة لا تموت؛ ولو اجتمع عليها مَن بأقطارها، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ، لا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كَذَلِكَ(رواه مسلم)، وفي رواية: (لا تَزَالُ عِصَابَةٌ مِنْ أُمَّتِي يُقَاتِلُونَ عَلَى أَمْرِ اللهِ، قَاهِرِينَ لِعَدُوِّهِمْ، لا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ، حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ(رواه مسلم)، وفي رواية: (حَتَّى يُقَاتِلَ آخِرُهُمُ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ(رواه أحمد وأبو داود، وصححه الألباني).

يخبر -تعالى- عن إبراهيم -عليه السلام-: (فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ . مَا لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ) قالها مستهزئًا بها، غاضبًا من قومه الذين يعبدونها، وهم يعلمون أنها لا تنطق! (فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ) أسرع بتكسيرها إلا كبيرًا لهم؛ فهو يريد كسرها في قلوبهم كما يريد كسرها كأحجار، وضربها باليمين؛ لأنها أقوى في التكسير (فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ) أي: يسرعون (قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ . وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ) فالله خالق كل صانع وصنعته، وهو خالق أفعال العباد خيرها وشرها، كما قال -تعالى-: (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ(القمر:49)، فقالوا: (ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ) بنوا له بنيانًا ليحبسوه في النار (فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَسْفَلِينَ) وكل كائد لدين الله فلابد أن تكون كلمته السفلى، وكلمة الله هي العليا، وكل كائد بعباد الله المؤمنين فلابد أن يكون من الأسفلين في الدنيا (وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلا فِي ضَلالٍ(غافر:25)، ويُكتب كتابه في برزخه في سجين في الأرض السفلى، ويكون يوم القيامة في دركات الجحيم.

قال -عليه السلام-: (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ).

لما فارق وطنه عوَّضه الله الأرض المقدسة!

ولما فارق قومه عوَّضه الله صحبة الأنبياء من ذريته.

ولما ضحى بنفسه حفظه الله، ووقاه، ونجاه من النار!

ولما عزم على التضحية بإسماعيل فداه الله بذبح عظيم، وأعطاه ولدًا آخر نبيًّا هو إسحاق -عليه السلام-!

وقد طلب إبراهيم -عليه السلام- هذا الطلب في أول خروجه كما يَظهر من الآيات، واستجاب الله له على كبر: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ(إبراهيم:39)

"
فلا يستعجل العبد إجابة الدعوة فإن الله يؤخرها ليسمع تضرعه وإلحاحه.. فلا تستعجلوا ولا تتركوا الدعاء، فإنه يستجاب للمرء ما لم يعجل
"

.

فلا يستعجل العبد إجابة الدعوة فإن الله يؤخر إجابتها ليسمع تضرعه وإلحاحه، وكل بلاء الأنبياء كان يأتي الفرج فيه في اللحظة الأخيرة، فحين ألقى إبراهيم -عليه السلام- في النار أتى الفرج في آخر ثوان وهو في الطريق ليهوي في النار، وفي ذبح ولده جاء الفرج لما تلَّه للجبين!

ولوط -عليه السلام- جاءه الفرج في صورة بلاء وهم الأضياف، وكان أشد يوم عليه -اليوم العصيب- يوم مجيء الفرج؛ فلا تستعجلوا ولا تتركوا الدعاء، فإنه يستجاب للمرء ما لم يعجل، قال الله -تعالى-: (فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ . فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ... ) وهذا يكون فيه تعلق الوالد بولده أشد، وشعور الأب تجاهه أشد (قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى) فهو يخاطب ابنه (يَا بُنَيَّ) فهو لم ينسَ بنوته، وهذا يستوجب مزيدًا مِن الشفقة... وممَن؟!

مِن إبراهيم -عليه السلام- الذي هو من أشفق الناس بالخلق وأحلمهم، وهو الذي أجاب أباه الذي قال له: (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا(مريم:46)، بقوله: (سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا(مريم:47)، وهو الذي قال في دعائه: (فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ(إبراهيم:36)، وهو الذي يجادل في قوم لوط الذي هم مِن أحط الأقوام، وجرائمهم من أفظع الجرائم، ومع ذلك... يريد تأخير العذاب عنهم؛ لعلهم يتوبون!

ويجادل بوجود لوط -عليه السلام- فيهم ليدفع عنهم العذاب؛ فكيف بشفقته على ولده النجيب الحليم، الذي رُزقه على كبر، وكان بِكرَه؛ فله معزة ومحبة خاصة؟!

ثم هو يرى أنه يذبحه، ووالله إنه لمنام أمره شديد، فكيف بفعله؟!

وهو يريد من ابنه أن يطيع الله من نفسه لا كرهًا، فقال: (فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى) ولم يقل: "ماذا أفعل؟"؛ لأنه لابد أن يستجيب لأمر الله، ولكنه يريد أن يكون الولد معه في التسليم والطاعة، وهكذا تكون التربية، وليس التوجيه بالأوامر العسكرية والغلظة الشديدة، وكان الولد عند حسن ظن أبيه مؤمنًا مسلمًا لأمر الله، قال: (يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ)، وإن صبره بمشيئة الله (وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلا بِاللَّهِ(النحل:127)، فاصبروا عباد الله وما صبركم إلا بالله، ولا تحزنوا، ولا تكونوا في ضيق (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ(النحل:128)

"
أحسنوا في عبادة ربكم ومع الخلق ينجيكم الله مِن كل كرب
"

.

(فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ) استسلما لأمر الله، وذكر إبراهيم الله عند الذبح، وشهد إسماعيل شهادة الموت، يشهد أن لا إله إلا الله، يموت عليها، ووضعه على وجهه وجبينه؛ لكي لا يرى وجهه وهو يذبحه -فلم يلزمه الله بذلك-، وبدأ بالذبح... فجاء الفرج في اللحظة اللحظة الأخيرة (وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ . قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا)، (إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ)، فليس خاصًا بإبراهيم، بل كل محسن كذلك يُجزى، وينجيه الله.

فأحسنوا في عبادة ربكم ومع الخلق؛ ينجيكم الله مِن كل كرب.


www.anasalafy.com

موقع أنا السلفي

تصنيفات المادة