السبت، ١٢ شوال ١٤٤٥ هـ ، ٢٠ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

بين "توفيق الحكيم" و"عبد الناصر"!

هذا السجن الذي عاشته مصر والذي تتوق إليه بعض النفوس التي لا تستطيع أن تعيش حياة الحرية ينبغي أن يُغلق أبدًا،

بين "توفيق الحكيم" و"عبد الناصر"!
عصام حسنين
الاثنين ٢٨ أكتوبر ٢٠١٣ - ٢٣:٠٥ م
2704
24-ذو الحجة-1434هـ   28-أكتوبر-2013      
عدد الزوار: 43

كتبه/ عصام حسنين

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد كان "عبد الناصر" عضوًا في التنظيم السري للإخوان -كما قدمنا-، وقد قام بالثورة مع الضباط الأحرار بمساندة الإخوان إلا أنه انقلب عليهم.

ويذكر لنا الأستاذ "محمود عبد الحليم" مجمل هذا الصراع في النقاط الآتية، فيقول -رحمه الله-:

"1- نشأته في أحضان الإخوان المسلمين.

2- قيامه "بالثورة" في حماية الإخوان المسلمين بعد التعهد بجعلها لحساب الإسلام.

3- نجاح "الثورة" والتملص من العهد.

4- محاولات لاحتواء هيئة الإخوان المسلمين وتطويعها لإدارة "عبد الناصر" وأهوائه بوسائل... منها:

أ- اللف والدوران حولها.

ب- إنشاء هيئات ضرار بجانبها.

ج- استغلال قيادة النظام الخاص في افتعال فتن داخلية.

د- إصدار قرار بحل الهيئة واعتقال المرشد العام، وقيادات الهيئة مع تسويء سمعتها باللجوء إلى الكذب.

5- فشل كل هذه الجهود، واضطرار "عبد الناصر" للتظاهر بالإذعان مع تنويم الإخوان مستغلاً في ذلك ما هو معروف عنهم من تمسكهم بعهودهم؛ حيث دبَّر في ظل ذلك مظاهرات مأجورة قلبت الوضع وجعلته في موقف القوة وجعلت الإخوان في موقف الضعف.

6- محاولة لتدارك الموقف بعد أن أخذ في التدهور السريع في محاولة للحصول على هدنة يسترد الإخوان فيها أنفاسهم، ويراجعون فيها خططهم على ضوء واقع جديد، وفشل هذه المحاولة.

7- محاولة "عبد الناصر" خلع المرشد العام، وتسخير وسائل الإعلام لنشر الأكاذيب عن الإخوان، مع حرمان الإخوان من جميع وسائل النشر.

8- فشل هذه المحاولة وظهوره بنفسه على المسرح.

9- استخدامه جميع وسائل البطش والإرهاب عام 1954م؛ مما لم يسبق له مثيل بقصد إبادة الهيئة، مع تسخير جميع وسائل الدولة وإمكاناتها في ذلك!

10- أحكام الإعدام والسجن المؤبد "وبآلاف السنين!" على مختلف أفراد الإخوان، مع استعمال كل أساليب التعذيب حتى الموت!

11- إعادة الكَرة مرة أخرى عام 1965م، وكانت الأولى لحساب الغرب، أما هذه المرة فكانت لحساب السوفيت، وفي هذه المرة كانت على أوسع نطاق وبوسائل تعذيب وإبادة مستحدثة للقضاء هذه المرة لا على الإخوان المسلمين فقط، بل على كل مَن يمتون إلى الفكرة الإسلامية بسبب مِن قريب أو من بعيد" (الإخوان المسلمون أحداث صنعت التاريخ: 3/ 556).

هذا مجمل انقلاب "عبد الناصر" على الإخوان، وقد كان له آثاره السيئة على تاريخ مصر منذ الثورة إلى يومنا هذا بتحويل مصر إلى سجن كبير لجميع المصريين يُفتح تارة ويغلق أخرى، فقد كان "عبد الناصر" مثالاً للحاكم المستبد الذي يغضب من كلمة: "لا"، وكان حلمه إذا حكم مصر أن يحرك البلد بزر كما يريد!

وهذا يحكيه لنا الأستاذ "محمود" عندما اجتمع "عبد الناصر" بمجموعة من الإخوان بعد الثورة في بيت "عبد القادر حلمي"... وبعد الانتهاء من طعام الغداء: "جلس عبد الناصر يتحدث عن هيئة التحرير وعن رغبته أن تنصهر داخلها جماعة الإخوان المسلمين؛ لتكون تنظيمًا قويًّا وجنح جمال، وقال بخبث: أنتم عصاة... فناداه فريد عبد الخالق: يا جمال، إنني أري الجو ينذر بصدام ليس من مصلحة أحد في البلد أن يقع... وكنت بذلك أشير إلى رغبته في أن تنصهر جماعة الإخوان داخل هيئة التحرير، وكذلك لعدة مواقف اعتبرناها عدائية، وكانت مظاهرها حذف الرقابة جميع بيانات الجماعة وعدم نشرها في الصحف.

فأجابني: أعملكم إيه... ما أنتم عصاة... !

تعجبت لرده، وقلت له مستنكرًا: عصاه! دي كلمة كبيرة يا جمال... عصاه ليه... هل نحن نقف موقفًا عدائيًّا من الأهداف الوطنية للثورة ومصلحة البلد؟! إننا نريد تحقيق الديمقراطية وعودة الحياة النيابية.

فأجابني بسرعة: ما أنتم كده بتحرجوني... طالبين انتخابات حرة... يعني عايزين النحاس باشا يرجع تاني وتعود نفس الأوضاع... أنا بقول لكم: ادخلوا هيئة التحرير وتولوا أنتم أمرها، وتصبح هي مسرح نشاطكم... وأنتم بترفضوا.. عايزين إيه أمال؟ فقلت له: اسمع يا جمال... إحنا بنصارحك، الديمقراطية لا بديل لها، وأنت يجب أن تكون عندك الثقة في أن الشعب سيتمسك بك ولن يرضي عنك بديلاً... أما أن تتشكك في ذلك فهذا أمر غريب فعلاً... لماذا تتشكك؟!

أما بالنسبة لدخولنا هيئة التحرير، فليس هناك تعارض من أن تقود أنت التنظيم السياسي عن طريق هيئة التحرير ونبقي نحن دعاة للتربية الإسلامية، أما رأيك أن تندمج الجماعة مع هيئة التحرير فهذا بالضبط أشبه بمن يضع زيتًا وماءً في زجاجة ويحاول أن يمزجهما ببعض... مش ممكن أبدًا يمتزجان... ومن الأفضل للإسلام وللبلد ولكَ أن نبقي بعيدين عن السياسة ومؤيدين لك كحركة إسلامية... والتزام الحكمة وضبط النفس يمكن أن يكون جسرًا لتعبر من فوقه الأزمة... وليس من هدفنا نهائيًّا أن ننافسك في الحكم فنحن لا نريد الحكم؛ ولذلك لا أرى أي سبب للتصادم وعدم تقبل النصيحة، وخاصة أن المرشد قال لك عند بدء الخلاف بالحرف الواحد: يا جمال، عندما تشعر بضيق من الإخوان بلغني وأنا أسلمك مفتاح المركز العام ونقفلها حتى لا تقع فتنة.

وصمت جمال للحظات... وأحسست أنه لا يجد ما يرد به... وفجأة تكلم ليكشف لي بما في داخل نفسه، وقال: اسمع يا فريد... أقولك اللي في نفسي وأخلص... أنا عندي فكرة مستولية عليَّ ولا أعرف إذا كانت غلط ولا صح... ؟!

أنا عايز في خلال سنتين ثلاثة أوصل إلى إني أضغط على زر... البلد تتحرك زي ما أنا عايز... وأضغط على زر... البلد تقف...

فضحكت وقلت له: إحنا بقالنا 27 سنة بنعمل لتربية نشءٍ من المسلمين يفهم الإسلام فهمًا متكاملاً ويعمل على هدى منه، ولا نقول رغم ذلك: إننا بلغنا درجة إن إحنا نجمع الإخوان في لحظة ونفرقهم في لحظة... اسمع يا جمال: أنت بتفكر وكأنك ضابط في معسكر يصدر الأمر فينفذ في الحال، لكن تغيير مسار المجتمعات لا يمكن إلا في جو من الحرية والديمقراطية؛ يسمحان بازدهار المفاهيم الصحيحة والقيم السليمة، فأصر على رأيه قائلاً: الحقيقة... ده اللي سيطر على تفكيري.

فأتممت حديثي قائلاً: إذا كان كده... فلا فائدة من نصيحتي أو نصيحة غيري، وهذا شيء مؤسف جدًّا... والذي سيحكم لك أو عليك هو التاريخ!

وانتهي بذلك حديثنا... وانصرف جمال مع إخوانه، وبقينا نتناقش ونضحك عن رغبته أن يضغط على زر فتتحرك البلد كما يريد، ويضغط على زر فتقف البلد... كنا نعتقد أنه يحلم، ولكنه استطاع فعلاً أن يحقق الحلم بعد ذلك" (السابق: 3/ 28).

هذا الحلم الذي صار حقيقة يكلمنا عنه الأديب "توفيق الحكيم" الذي نزله "عبد الناصر" منزلة "الأب الروحي" لـ"ثورة 23 يوليو"؛ بسبب "عودة الروح" التي أصدره الحكيم عام 1933م، ومهَّد به لظهور "البطل المنتظر" الذي سيحيي الأمة من رقادها، ومنحه "جمال عبد الناصر" عام 1958م قلادة الجمهورية، وحصل على جائزة الدولة التقديرية في الآداب عام 1960م، ووسام العلوم والفنون من الدرجة الأولى في نفس العام، ولم يُذكر أن "عبد الناصر" منع أي عمل لـ"توفيق الحكيم"، حتى عندما أصدر "السلطان الحائر بين السيف والقانون" في عام 1959م، و"بنك القلق" عام 1966م، حيث انتقد النظام الناصري ودافع عن الديمقراطية!

ووصل الأمر أن "عبد الناصر" كان يستقبل "الحكيم" في أي وقت وبغير تحديد لموعد، وهو ما أكده "الحكيم" نفسه في جريدة "الأهرام" في 15 مارس 1965م.

وبعد وفاة "عبد الناصر" عام 1970م وأثناء تأبين "الزعيم" سقط "توفيق الحكيم" مغمى عليه وهو يحاول تأبينه، وبعد أن أفاق قال خطبة طويلة من ضمنها: "اعذرني يا جمال... القلم يرتعش في يدي، ليس من عادتي الكتابة والألم يلجم العقل ويذهل الفكر، لن أستطيع الإطالة، لقد دخل الحزن كل بيت تفجعًا عليك؛ لأن كل بيت فيه قطعة منك... لأن كل فرد قد وضع من قلبه لبنة في صرح بنائك!.

إلا أن "الحكيم" في عام 1972م أصدر كتاب "عودة الوعي" مهاجمًا فيه "جمال عبد الناصر" بعنف...‏ وقد ترتب على "عودة الوعي" ضجة إعلامية؛ حيث اختزل "الحكيم" موقفه من التجربة الناصرية التي بدأت كما ذكر: يوم الأربعاء 23 يوليو 1952م حتى يوم الأحد 23 يوليو 1973م، واصفًا هذه المرحلة بأنها كانت مرحلة عاش فيها الشعب المصري فاقد الوعي، مرحلة لم تسمح بظهور رأي في العلن مخالف لرأي الزعيم المعبود!

وأعلن في كتابه أنه أخطأ بمسيرته خلف الثورة بدون وعي قائلاً: "العجيب أن شخصًا مثلي محسوب على البلد هو من أهل الفكر قد أدركته الثورة وهو في كهولته يمكن أن ينساق أيضًا خلف الحماس العاطفي، ولا يَخطر لي أن أفكر في حقيقة هذه الصورة التي كانت تُصنع لنا، كانت الثقة فيما يبدو قد شلت التفكير... سحرونا ببريق آمال كنا نتطلع إليها من زمن بعيد، وأسكرونا بخمرة مكاسب وأمجاد، فسكرنا حتى غاب عنا الوعي... أن يري ذلك ويسمعه وألا يتأثر كثيرًا بما رأي وسمع، ويظل على شعوره الطيب نحو عبد الناصر! أهو فقدان الوعي؟! أهي حالة غريبة من التخدير؟!" (ويكيبيديا: الموسوعة الحرة).

"وفي 29-7-84 بجريدة الأهرام تحت عنوان: "ثرثرة مع الحكيم على فراش المرض" وهو نقاش يديره الأستاذ "صلاح منتصر" مع الأستاذ "توفيق الحكيم" ينشره في حلقات أسبوعية بمناسبة ذكرى ثورة 23 يوليو 1952، وكان دور هذه الحلقة الرابعة من النقاش يدور حول كتاب "عودة الوعي" الذي أصدره توفيق الحكيم بعد وفاة عبد الناصر.

فرأيت أن أنقل منه فقرات تكون خاتمة لهذا الفصل: يقدم الأستاذ صلاح منتصر لنقاشه مع الحكيم بهذه المقدمة: لماذا كتب توفيق الحكيم "عودة الوعي"؟! لماذا قال عن عبد الناصر ما قاله بعد أن مات، وهو الذي منحه حيًّا أرفع الأوسمة وأعلاها؟! ماذا يقول لعبد الناصر عندما يلتقي به في الآخرة؟! ثم وجَّه إليه السؤال: ما الذي بهذا المفهوم أردتَ أن تقوله في "عودة الوعي"؟

الحكيم: أن تفتح الملفات... أن يكون هناك نقد موضوعي للنظام الذي استقبلته بالحماسة، والذي تحول شيئًا فشيئًا إلى نظام بوليسي، وأدى إلى هزيمة منكرة من عدو صغير، هزيمة أي دولة عسكريًّا ليست مصيبة، ولكن المصيبة الأعظم والأكبر والأخطر في هزيمتنا من إسرائيل هي أن البرلمان المفروض فيه أن الشعب اختاره ليسأل ويستجوب، لم يجرؤ نائب واحد من أفراده أن يقف ويقول: إنه مع حبنا وإجلالنا العميق لزعيمنا، فإننا في إطار حبنا له وإخلاصنا له وللثورة فإننا نريد أن يوضح لنا أمرًا واحدًا: كيف وقعت الهزيمة؟

مجرد سؤال يلقيه نائب واحد بكل الاحترام... لم نسمعه... وبدلاً من ذلك فإن الذي حدث في مجلس الشعب عندنا بعد الهزيمة... هو الرقص؟! نعم... نائب يرقص!

إذن كنا وكان نوابنا في حالة وعي غائب، أو في نظام جعل الناس يعتادون الهتاف والتصفيق، وغاب عنهم الوعي بضرورة السؤال والمناقشة.

سؤال: ماذا تقول لعبد الناصر عندما تلتقي به في الآخرة؛ لو سألك في هذا اللقاء عن أخطائه في الحكم... فماذا سوف تقول له؟!

الحكيم: سأقول له: إنك حاولت أن تكون أبًا يفعل ما لا يجوز أن يفعله الأب، عندما يحدد لابنه كل خطواته، ماذا يأكل وماذا يشرب؟ ومن يحب ومن يكره، ومن يتزوج؟ وماذا يقرأ، وماذا يقول؟ وأين يسهر، ومَن يصادق، ومن يعادي؟!

سأقول له: إنك جعلت البلد في إطار من صنع عبد الناصر، وهذا أدي بنا إلى فقد شخصيتنا، ووصل بنا إلى فقد وعينا! وعندما وقعت الهزيمة لم يجرؤ واحد على الوقوف وتوجيه مجرد سؤال بسيط عن سبب ما حدث!

وسأقول له أيضًا: إنك حجبت قراءة تاريخ مصر عن الشعب، وإنك أمسكت تاريخ مصر وضغطته ووضعته في جيب الثورة، وهذا أضعف شخصية مصر، بينما كانت مسئوليتك أن تثقف الشعب وتعلمه وتجعله يختار الطريق الذي يريده" (الإخوان المسلمون أحداث صنعت التاريخ: 3/ 559-5560).

هذا السجن الذي عاشته مصر والذي تتوق إليه بعض النفوس التي لا تستطيع أن تعيش حياة الحرية ينبغي أن يُغلق أبدًا، وأن يتطلع الشعب إلى حياة الحرية التي اكتسبها بثورة "25 يناير"، وأن يطالب بذلك من خلال الوسائل التي تحقق المصالح، وليس بمفسدة أكبر!

وأنا أرجو الله الكريم أن يديم علينا نعمة عبادته والدعوة إليه بحرية، وأن يتداركنا برحمته، وألا يؤاخذنا بذنوبنا وبما يفعله السفهاء منا، وألا ينزع هذه النعمة من العباد والبلاد، وأن يوفقنا لمراضيه حتى لا تنزع منا بذنوبنا. اللهم آمين.


www.anasalafy.com
موقع أنا السلفي

تصنيفات المادة

ربما يهمك أيضاً