الجمعة، ٢٠ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٩ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

لا تصنعوا الجبابرة!

كثير من الشعوب والأمم والطوائف تساهم في صنع الطواغيت والجبابرة، وتحويل البعض ... إلى فرعون عنيد

لا تصنعوا الجبابرة!
ياسر برهامي
الخميس ١٤ نوفمبر ٢٠١٣ - ٢٠:٢٢ م
2351
11-محرم-1435هـ   14-نوفمبر-2013      

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فعن أبي سعيد -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا، فَسَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ فَدُلَّ عَلَى رَاهِبٍ، فَأَتَاهُ فَقَالَ: إِنَّهُ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا، فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ: لَا، فَقَتَلَهُ، فَكَمَّلَ بِهِ مِائَةً، ثُمَّ سَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ فَدُلَّ عَلَى رَجُلٍ عَالِمٍ، فَقَالَ: إِنَّهُ قَتَلَ مِائَةَ نَفْسٍ، فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، وَمَنْ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ؟ انْطَلِقْ إِلَى أَرْضِ كَذَا وَكَذَا، فَإِنَّ بِهَا أُنَاسًا يَعْبُدُونَ اللهَ فَاعْبُدِ اللهَ مَعَهُمْ، وَلَا تَرْجِعْ إِلَى أَرْضِكَ، فَإِنَّهَا أَرْضُ سَوْءٍ، فَانْطَلَقَ حَتَّى إِذَا نَصَفَ الطَّرِيقَ أَتَاهُ الْمَوْتُ، فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلَائِكَةُ الْعَذَابِ، فَقَالَتْ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ: جَاءَ تَائِبًا مُقْبِلًا بِقَلْبِهِ إِلَى اللهِ، وَقَالَتْ مَلَائِكَةُ الْعَذَابِ: إِنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ، فَأَتَاهُمْ مَلَكٌ فِي صُورَةِ آدَمِيٍّ، فَجَعَلُوهُ بَيْنَهُمْ، فَقَالَ: قِيسُوا مَا بَيْنَ الْأَرْضَيْنِ، فَإِلَى أَيَّتِهِمَا كَانَ أَدْنَى فَهُوَ لَهُ، فَقَاسُوهُ فَوَجَدُوهُ أَدْنَى إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي أَرَادَ، فَقَبَضَتْهُ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ(رواه البخاري ومسلم واللفظ له).

كثير من الشعوب والأمم والطوائف تساهم في صنع الطواغيت والجبابرة، وتحويل البعض ممن أذنب وأخطأ -مع أنه في قلبه حب الخير- إلى فرعون عنيد؛ بسبب الجهل أحيانًا، ودفعه إلى الظلم والسكوت عليه أحيانًا أكثر.

وفي قصتنا التي ذكرنا هنا في هذا الحديث العظيم الشأن كانت البلد التي نشأ فيها هذا الرجل التائب أرضَ سوء تسبَّب أهلها في طغيانه وجبروته قبل توبته؛ حيث لم ينكروا عليه قتل التسعة والتسعين نفسًا!

ومسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالضوابط الشرعية التي تجلب الخير وتزيده، وتمنع الشر أو تقللـه من أهم سمات الأمة الإسلامية: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ(آل عمران:110).

وفي القصة -أيضًا- بيان سبب آخر من أسباب تحول مَن في قلبه شيء من الدين إلى جبار عنيد, هو هذا الراهب الجاهل الذي ظن أن مواجهة قاتل التسعة والتسعين نفسًا بفتوى جاهلة ظالمة تسد أمامه باب التوبة المفتوح عند الله - نوع من الجرأة في الحق والثبات عليه، والتضحية من أجله؛ فهو يعلم جبروته وظلمه، ومع ذلك لم يحسن أن يقول له القول اللين الذي هو في الحقيقة الموافق للشرع لا المداهن فيه كما يظنه البعض!

فلا يلزم أن يكون التغليظ دائمًا هو سبيل الوعظ، بل قد يكون في كثير من الأحيان -خصوصًا مع مَن خفـَّت ديانته وورعه- سببًا في نفرته؛ وذلك لما شاهد مِن فظاظة وغلظة: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ(آل عمران:159)؛ فضلاً عما قد يفعله البعض مِن مزيدٍ من التهييج لهذا القاتل بسبِّه أو شتمه أو السخرية منه أو إعطائه مبررًا للقتل بنوع من الاعتداء والبغي على مَن لا يستحق ذلك.

وأشد ما في هذه الفتوى الباطلة بعد القول على الله بغير علم، وتضييق الواسع الذي وسعه الله: التعرض لإذهاب بقية الدين التي في قلب الرجل الذي جاء يسأل عن التوبة بإخباره أنه لا نصيب له في الدين، ولا في الدار الآخرة... بالكذب على الله في ذلك؛ فيدفعه العناد وحب الانتقام "مع قلة الورع" إلى مزيدٍ من البطش والعدوان، ولربما -إن لم يقيض الله له الرجل العالم الفقيه اللين القول- صار هذا الرجل من أهل العذاب.

ولذا كان أمر التكفير للمسلمين من أعظم ما يجلب كراهية المسلمين وسخطهم، ونفرتهم ممن يفعل ذلك، ولربما كان سببًا لنفرتهم من الدين كله، فإذا اجتمع معه سفك الدماء بغير حق "ولو كان بتأويل" فإنه يصير في هذه الحالة من أعظم أسباب دفع الظالم إلى مزيدٍ من الظلم بدلاً من الأخذ بيده إلى التوبة والدين, وأن ينمي ما في قلبه من حب الخير.

فليتعظ أبناء العمل الإسلامي في دعوتهم إلى الله، وفي مجتمعاتهم المليئة بأنواع العصاة والظلمة "لكن في قلوبهم حب الخير وتعظيم الدين"؛ فلابد أن نستثمر ذلك ونفتح لهم باب الرجاء في حديثنا معهم، ولا نغلق بابًا فتحه الله للتوبة حتى مع الذنوب العظام: كالقتل العمد للعدد الكبير، وبالتأكيد يكون ذلك مع نهي الظالم عن ظلمه، والقاتل عن مزيد القتل، والمعتدي الباغي عن اعتدائه وبغيه بما قال الله لموسى وهارون -عليهما السلام-: (اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى . فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى(طه:43-44).


www.anasalafy.com
موقع أنا السلفي

تصنيفات المادة