الجمعة، ١١ شوال ١٤٤٥ هـ ، ١٩ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

صفحات مطوية من القضية الفلسطينية قبل قيام دولة إسرائيل (13)

ولم يذكر "دولة يهودية"، وهذه صورة مِن صور الغموض والتمويه، والمرحلية في تحقيق الهدف؛

صفحات مطوية من القضية الفلسطينية قبل قيام دولة إسرائيل (13)
علاء بكر
الثلاثاء ٠٢ سبتمبر ٢٠١٤ - ١٧:٥٩ م
1427

صفحات مطوية من القضية الفلسطينية قبل قيام دولة إسرائيل (13)

قراءة متأنية لـ"وعد بلفور"

كتبه/ علاء بكر

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد يلاحِظ مَن يطلع على نص "وعد بلفور" ويتأمله أن فيه دقة في إعداد ألفاظه، يحتاج الأمر معها إلى الإشارة إلى بعض عبارات صياغته وبيان ما وراءها.

فمن ذلك:

- أن الوعد جاء موجهًا إلى اللورد الصهيوني "روتشيلد" أحد اليهود البريطانيين، ولم يوجَّه إلى المنظمة الصهيونية العالمية أو إلى "حاييم وايزمان" الذي لعب دورًا كبيرًا في إصداره، وذلك أن "وعد بلفور" لم يكن على شكل معاهدة أو بروتوكول أو اتفاق دبلوماسي، ولم تكن أرض فلسطين بعد تحت حكم بريطانيا، بل ما زالت ضمن السلطة العثمانية.

كما أن المنظمة الصهيونية لم تكن الممثل الرسمي الشرعي لليهود وقتها، فليس لبريطانيا أن تتعامل معها بصفة رسمية، بل كان أكثر يهود الغرب ضد المنظمة الصهيونية التي تعادي ما هم عليه من اندماج في المجتمعات الغربية، بل كانت المنظمة الصهيونية تدعي الانقسام على نفسها بين لجنتها التنفيذية في برلين ثم كوبنهاجن، والتي كانت على اتصال بألمانيا، وبين مكتبها في لندن الملتزم بالرهان على بريطانيا، فكان للحركة الصهيونية أكثر من رهان؛ لذا جاء الوعد على شكل بيان موجَّه من الخارجية البريطانية إلى شخصية يهودية بريطانية لها مكانتها لدى يهود بريطانيا ويهود الغرب بسبب لقبه واسم عائلته، مما يقوي وضع الحركة الصهيونية بين يهود العالم.

لقد أرادت الحكومة البريطانية عبر اختيار اللورد روتشيلد وضع الغطاء العام المناسب لإخراج الوعد من نطاق الإطار الصهيوني المحدود الضيق واستقطاب يهود العالم حوله.

- جاء في نص "وعد بلفور" إقامة "وطن" قومي للشعب اليهودي في فلسطين، ولم يذكر "دولة يهودية"، وهذه صورة مِن صور الغموض والتمويه، والمرحلية في تحقيق الهدف؛ فاستعمال كلمة وطن وإخفاء كلمة دولة -مع أن هدف الحركة الصهيونية التي قامت من أجله هو إقامة دولة لليهود- يجنِّب اليهود كثيرًا من المتاعب، فذكر "الدولة" يعني سيادة على الأرض وسلطة، وحكم وإدارة، وهذا يثير تركيا التي تدخل فلسطين في نفوذها، كما يثير مخاوف العرب في فلسطين والمنطقة العربية، بل يخيف اليهود الذين يريدون الاندماج في أوطانهم التي يعيشون فيها في أوروبا الغربية.

وكلمة "وطن" تجنب الحركة الصهيونية كل هذه المحاذير؛ لما فيها من الغموض الذي يجعلها تستعمل في أكثر من معنى.

- ويلاحَظ وصف اليهود بأنهم شعب مع أن اليهود ليسوا في الحقيقة بشعبٍ، فاليهود مفرقون مشتتون من قرون طويلة؛ لا يربط اليهود الروس باليهود الأوروبيين أو باليهود العرب في اليمن "في آسيا" أو في المغرب "في إفريقيا" إلا الانتماء للديانة اليهودية، بينما جاء في "وعد بلفور" وصف أصحاب الأرض من الفلسطينيين العرب "الجماعات غير اليهودية الموجودة في فلسطين"، فلم يعتبرهم شعبًا، رغم كل ما يجمعهم من روابط عديدة من الدين واللغة والتاريخ والآمال، وامتداد جذورهم في هذه الأرض التي يعيشون فيها من مئات أو ألاف السنين، ما ليس موجودًا قطعًا عند هؤلاء اليهود المراد جمعهم من شتى بقاع الأرض شرقًا وغربًا، شمالاً وجنوبًا.

- يشير "وعد بلفور" إلى حقوق هذه الجماعات غير اليهودية في فلسطين "المدنية والدينية"، ولا يذكر لهم أي حقوق سياسية، فهم ليسوا شعبًا، وبالتالي فليس لهم أي حقوق سياسية، ليس لهم إدارة شئونهم بأنفسهم، ولا حق تقرير مصيرهم على أرضهم، فلقد سلبهم الوعد كل ذلك!

بينما أعطى "الوعد" اليهودَ هذه الحقوق السياسية، وحفظها لهم حتى في بلادهم التي جاءوا منها إلى فلسطين واحتاط لها! فالإنجليز والصهاينة لا ينظرون للفلسطينيين كشعب أو أصحاب أرض لهم كيان وحقوق، وذلك بموجب النظرة الاستعمارية التي على ضوئها صيغ هذا الوعد.

إن الحركة الصهيونية منذ نشأتها تتصرف باعتبار أن شعب فلسطين لا وجود له، وتتجاهله تجاهلاً تامًّا، بل زعمتْ وصورت للأوروبيين أن فلسطين أرض خالية من السكان، تنتظر مَن يملؤها مِن يهود العالم! مع أن عدد سكان فلسطين وقتها قد تعدى 700 ألف فلسطيني، لكنهم لا وزن لهم عند هؤلاء المستعمرين.

ولذلك رفضت إنجلترا بشدة طلب فرنسا إضافة عبارة "الحقوق السياسية" على "الحقوق المدنية والدينية" عند إدخال "وعد بلفور" ضمن وثيقة الانتداب البريطاني في "عصبة الأمم" حيث رفضها "لويد جورج" رئيس الحكومة البريطانية رفضًا كليًّا، فالحقوق السياسية تعني فيما تعني حق تقرير المصير الذي نادى به الحلفاء أثناء الحرب العالمية الأولى، وتعني عاجلاً أو آجلاً تكوين سلطة ممثلة للشعب الفلسطيني ككل الشعوب، حتى في ظل الانتداب أو إشرافه، وهذا كله مرفوض عند هؤلاء المستعمرين.

لذا قال "بلفور" ذات يوم: "لا نستطيع الأخذ بعين الاعتبار أماني المجتمع القائم -أي المجتمع الفلسطيني- فنحن نسعى عن قصد إلى إعادة تركيب مجتمع آخر، وإلى التأسيس في آخر المطاف من أجل أكثرية مستقبلية أخرى".

وكتب أيضًا يقول: "لقد أقدمت الدول الأربع الكبرى على تعهدات تجاه الصهيونية، وسواء كانت الصهيونية عادلة أو غير عادلة، حسنة أم سيئة، فهي تجد جذورها في تقاليد غارقة في القدم، كما تجدها في حاجات الحاضر وفي آمال المستقبل، وكل ذلك أهم بكثير من رغبات 700 ألف عربي يعيشون اليوم في هذه البلاد القديمة". ولا يخفى ما في هذا الكلام من المغالطات وخلط الأمور!

ويقول "هيربرت صموئيل" في الذكرى الثانية لـ"وعد بلفور" عام 1919م: "كان هدفنا تحويل فلسطين في أقصر وقت ممكن إلى كومنولث يحكم نفسه كليًّا بنفسه في ظل أكثرية يهودية مقيمة في البلاد".

- يلاحَظ في "وعد بلفور" تعهد الحكومة البريطانية بأنها ستبذل كل جهودها لتسهيل تحقيق هذه الغاية "أي إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين"؛ فلم تكتفِ بريطانيا بتقديم هذا الوعد، ولكن تعهدت ببذل كل الجهد لتنفيذه، وبذلت بالفعل كل جهودها حتى تَحقق؛ فأدخلت هذا الوعد الجائر ضمن وثيقة الانتداب في "عصبة الأمم" في يوليو 1922م، وبَنَت عليه كل سياستها خلال ربع قرن من الزمان من الحكم البريطاني المفروض على فلسطين؛ حيث أن وثيقة الانتداب تعطي بريطانيا الحق -بل توجب عليها- إقامة وطن لليهود في فلسطين بصورة علنية رسمية، وهي صادرة من "عصبة الأمم" بموافقة الدول الكبرى بضغط من بريطانيا بدون أي مواربة أو حياء!

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

تصنيفات المادة