الخميس، ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٨ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

إثبات توحيد الربوبية والرد على الملاحدة (1)

من الأمور المُجمَع عليها بيْن البشر الرغبة الشديدة في معرفة أصل نشأتهم وتكوينهم، وهو إجماع لا يكاد يوجد له أي استثناء

إثبات توحيد الربوبية والرد على الملاحدة (1)
عبد المنعم الشحات
الجمعة ١٧ أكتوبر ٢٠١٤ - ١٠:٥٨ ص
6544

إثبات توحيد الربوبية والرد على الملاحدة (1)

كتبه/ عبد المنعم الشحات

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فمن الأمور المُجمَع عليها بيْن البشر الرغبة الشديدة في معرفة أصل نشأتهم وتكوينهم، وهو إجماع لا يكاد يوجد له أي استثناء، بل حتى أولئك الملاحدة يدل سلوكهم على أن هذه القضية تشغل في تفكيرهم حيزًا ربما يكون أكثر مِن غيرهم، ومِن ثَمَّ اختلفوا في إجاباتهم "الإلحادية" على هذه الحاجة الفطرية.

وثمة إجماع آخر على أن كل الخلق مؤمنهم وكافرهم يقرون مِن حيث المبدأ أن لهم خالقًا، وهذا الإجماع له بعض الاستثناءات النادرة، وهذه الاستثناءات هم مَن يوصفون "بالإلحاد".

ورغم أن الإلحاد وهو العدول عن الحق، لا سيما فيما يتعلق بالله -عز وجل- يشمل مَن ينفي وجود الله، ومَن يقر بوجوده ويشرك معه غيره في الربوبية أو الألوهية أو يلحد في معنى أسماء الله وصفاته؛ إلا أن الإلحاد إذا أُطلق فالمراد به هؤلاء الذين جحدوا وجود الخالق -جلَّ وعلا-.

ولابد هنا مِن التنبيه على عدة أمور:

الأول: أن نسبة هؤلاء -كانت وما زالت- وفي أوج موجات تصاعدهم نسبة لا تكاد تُذكَر، وأن فظاعة قولهم وفحشه وغرابته هو ما يجعل اعتناق العشرات له أمرًا مثيرًا للدهشة والعجب؛ فضلاً عن اعتناق المئات له (ولا أظن أن العدد يتجاوز ذلك في البلاد الإسلامية وإن كانوا في غيرها قد يبلغون الآلاف أو الملايين!).

الثاني: أن المسلمين يوقنون أن أعظم ملاحدة التاريخ "فرعون" لم يكن يدين بالإلحاد حقيقة، وهذا بخبر الوحي (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا) (النمل:14)، وأن هذا اليقين الذي حدث بموجب الوحي في شأن العقيدة الحقيقية لفرعون يوجد معه غلبة ظن بأن "معظم" حالات الإلحاد هي حالات يبدي فيها الشخص خلاف ما يعتقد، وإنما يُظهِر إلحاده لأسباب مختلفة نتبينها في النقاط الآتية.

الثالث: أن كثيرًا من الملحدين صُدموا في بعض عقائد الدين الذي اعتنقوه؛ فلجأوا إلى نفي قضية الدين من جذورها بما فيها قضية الربوبية، وهذا يدل على أن مسألة اصطفاف كل الأديان لمواجهة الإلحاد أمر ليس جديًّا؛ فعلى الرغم من أن عقائد الكفار المقرين بالربوبية أهون شرًّا من عقائد الملاحدة، وأن عقائد المقرين بأصل الرسالات (أهل الكتاب من اليهود والنصارى) هي الأقل شرًّا على الإطلاق من بين عقائد غير المسلمين؛ إلا أننا ينبغي ألا نغفل أن من أهم أسباب الإلحاد ما في هذه الأديان مِن تحريفاتٍ مخالِفة للعقل، بل وللحس أحيانًا (مثل حديث العهد القديم عن الغنم التي تلد غنمًا منقطة إذا أكلت عشبًا على هذه الضفة!).

ومِن ثَمَّ فمن المهم أن نتحدث عن الإسلام في مواجهة الإلحاد، وليس عن كل مَن صدَّق بوجود الله في مواجهة الإلحاد، لاسيما وأن هذه اللغة قد توهِم أن كل مَن أقر بالربوبية فهو مؤمن؛ بينما الإيمان الشرعي لابد فيه مِن الإيمان بتفرد الله بالربوبية وبالإلهية، والإقرار لمحمد -صلى الله عليه وسلم- بالرسالة.

الرابع: أن بعض الملاحدة الذين ارتدوا عن الإسلام إلى الإلحاد يكون لهم شبهات جزئية في بعض العقائد، ومِن أشهرها: القضاء والقدر أو في بعض الحكم التشريعية أو في بعض ما يتسامعونه من مرويات السيرة، وربما نفـَّرهم مِن الإسلام بدع وخرافات ظنوها من الإسلام، وهي ليست منه في شيء.

وهذا يقتضي أمورًا:

أ‌- تنقية الدين مِن البدعة والخرافات التي ليست منه؛ لوجوب رد البدع والمحدثات في ذاتها (مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ) (متفق عليه)؛ ولأن وجودها يغذي تيار الإلحاد على النحو الذي بيَّـنَّا، ولعلنا ندرك مِن هذا أحد أغراض الغرب في إصراره على بقاء الصوفية بما يحمله تراثها مِن خرافات كممثلة -بل وربما ممثلة وحيدة- للإسلام.

ب‌- على العلماء والدعاة أن يهتموا بإزالة الشبهات في كل جزئية مِن الجزئيات، وعدم ترك الشباب فريسة لهذه الشبهات التي ربما استثمرها شياطين الجن والإنس لإضلال صاحبها إلى أبعد مدى.

ت‌- على كل مسلم تَعرض له شبهة أن يبحث عن إجابتها مِن عالِمها، ويدعو الله أن يوفقه إلى الإجابة الشافية عليها، وإلى أن يحصل له ذلك؛ فليحذر على نفسه مِن فخاخ الشيطان، وأن يشك في "اليقينيات" عقابًا للمجتمع الذي رفض أن يجيبه عن أسئلته فإنه لا يضر إلا نفسه؛ فإن الله لن يحاسبه على أمور عجز عن معرفتها، ولكن سيحاسبه على حق علمه ثم جحده "وأعظمه إثبات وجود الرب الخالق -جلَّ وعلا-".

الخامس: أن معظم مَن يلجأون للإلحاد يلجأون إليه فرارًا من ربقة الالتزام بالشرائع، ولذلك تجد أن معظم المجموعات الإلحادية تروِّج لنفسها عن طريق الفواحش أكثر من الترويج عن طريق الفكرة، ومع هذا فلن يعدم مَن انضم إلى هذه الأفكار بعض الشبهات، والتي لابد من إزالتها والجواب عليها؛ بالإضافة إلى العلاج من الشهوات التي هي المصيدة الرئيسية لكثير منهم.

تضافر الأدلة على إثبات وجود الله -عز وجل-:

وهذا الإجماع الذي أشرنا إليه حاصل لأسباب: أهمها تضافر الأدلة على إثبات وجود الله -عز وجل-، وهذه الأدلة تشمل جميع أنواع الأدلة "العقلية والنقلية"، ولكن لابد هنا أن نشير إلى أنه غلب علينا الحديث عن ثنائية العقل والنقل في حين أن الحديث عن العقل يضم في طياته الحديث عن مصادر أخرى نحتاج إليها بشدة عند الحديث عن إثبات وجود الله -عز وجل-، وهي: "الفطرة، والحس"؛ فحصل بذلك تضافر الأدلة مِن: "الوحي - والفطرة - والعقل - والحس".

1- دلالة الوحي:

وهي دلالة قد يُعترض عليها بأنها لا تصلح للاحتجاج على منكِر الربوبية مِن جهة أنهم لا يقرون بالوحي، ومع هذا فهي صالحة لذلك إذا اعتبرنا أدلة صدق الأنبياء، وأنها متى ثبتت دلت على صحة جميع ما أتوا به، ومِن ثَمَّ يمكن أن تكون الموضوعات التالية هي حجج في باب إثبات وجود الله -عز وجل-.

أ‌- دلائل النبوة.

ب‌- إعجاز القرآن.

ت‌- حاجة البشرية للإيمان باليوم الآخر.

ث‌- حاجة البشرية إلى تشريع، وإلى منظومة أخلاق.

- كما أن الوحي قد أورد على الملاحدة أدلة مِن: "الفطرة، والعقل، والحس"، ويكون الاحتجاج عليهم بها بمقتضى كونها أدلة فطرية أو عقلية أو حسية.

2- دلالة الفطرة على وجود الله -عز وجل-:

قدَّمنا أن الحديث على الفطرة غالبًا ما يأتي في ثنايا الحديث عن العقل بالإضافة إلى أن الاتجاهات العقلانية المحضة لا تعرِّج كثيرًا على الفطرة أو تنفي وجودها حتى نازع في وجودها بعض رموز علم الكلام مِن المسلمين، مع أن الفطرة سابقة على العقل وبدونها لا يمكن أن يصبح العقل حجة، فإن الأمور التي يسميها البعض بالبديهيات العقلية مثل أن الكل أكبر من الجزء هي في الواقع مستند للنظر العقلي وليس نتيجة له، وهي جزء من الفطرة التي تجعل الطفل الرضيع يتلمظ طلبًا للثدي، وتجعل الطير يرقد على البيض إلى غير ذلك من المظاهر التي سوف يأتي الكلام عنها لاحقًا -إن شاء الله-.

وفي قضيتنا هذه لابد مِن التعويل الكبير على الفطرة حيث إن هذه هي القضية الأم والبديهية الأولى في نفس كل أحد؛ ولذلك جاء الوحي بالإرشاد ببديهية ما يتعلق بالإيمان بالله -تعالى-، فقال الله -عز وجل-: (أَفِي اللَّهِ شَكٌّ) (إبراهيم:10)، وهو يشمل عدم الشك في استحقاقه للعبادة، ويتضمن بطريق الأولى عدم الشك في ربوبيته.

وبيَّن أن مِن أدلة صدق هذه البديهة "الفطرة"، فقال: (فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (الروم:30).

ومعنى عدم تبديلها يشمل عدة معانٍ...

منها: أنه لا يستطيع أحد حتى إن تغيرت فطرته أن يبدلها بالكلية، وأن يكتم كل آثارها، بل تبقى دائمًا ملحة عليه، قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في بيان أن الفطرة قد تتغير: (كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، أَوْ يُنَصِّرَانِهِ، أَوْ يُمَجِّسَانِهِ) (متفق عليه)، ولكن هذا ليس تبديلاً كاملاً، بل تبقى الفطرة -كما ذكرنا- كامنة ملحة على صاحبها.

ومِن المواطن التي تَظهر فيها تلك الفطرة: "الشدائد" حيث تغيب الترتيبات المصطنعة المنمقة، وتتعامل النفس على سجيتها، قال الله -تعالى-: (وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا) (الإسراء:67).

ونحن نأخذ من هذا الطرح القرآني أننا معشر المؤمنين بالقرآن علينا أن نتلو هذه الآيات على الملاحدة "وإن لم يكونوا قد آمنوا بالوحي"؛ ليتدبروا في أنفسهم، ويروا هل يحصل ذلك منهم؛ فيعلموا أن خالقهم قد فطرهم على معرفته؟ أم لا فيستمروا في غيهم؟! وسوف يأتي لهذه القضية مزيد بيانٍ في مقالات لاحقة -بإذن الله-.

3- دلالة العقل:

استعمال دلالة الفطرة في إثبات وجود الله -عز وجل- أفضل وأوضح وأعلى شأنًا، فإنه يجعله من الضروريات، بل مِن البديهيات -وهو كذلك-، ومع هذا يصر الكثيرون على أن يلجوا باب الأدلة العقلية على وجود الله، وهو أمر لا بأس به إذا كان هذا لا يخل بمنزلة دليل الفطرة.

وقد أشار الوحي إلى هذا النوع مِن الاستدلال بقوله -تعالى-: (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ) (الطور:35).

وهي جملة وجيزة بليغة دارت حولها آلاف الجمل والكلمات مِن الفلاسفة والمتكلمين مِن جميع الأمم ليقدِّموا براهين على ما سموه علة كل شيء أو وصفوه بأنه واجب الوجود إلى غير ذلك من الفذلكات التي يصمم البعض ألا يؤمن إلا بها!

وهذا الكلام فيه حق وباطل، ولكن الخطر الأكبر أن نظن أن هذا هو الدليل الوحيد، فمن عجز عن فهمه أو شعر أن فيه شيئًا من الغموض لا يليق بقضية مصيرية كهذه كفَر بأصل القضية، وهذا للأسف أحد أبواب الإلحاد، فينبغي أن يُنتبه لذلك.

4- دلالة الحس:

وهذه الدلالة غير ممكنة في حق الله -تعالى- بصورة مباشرة، ولكن لابد فيها مِن شيء من النظر العقلي فيكون إدراك الخلق بالحواس، ثم الاستدلال بما فيه مِن إتقان وتنوع على الخالق -عز وجل-، وهو نوع أكثر القرآن مِن استعماله، ومنه قوله -تعالى-: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (فصلت:53).

وهو ما عبَّر عنه الأعرابي بلغته، فقال: "البعرة تدل على البعير، والأثر يدل على المسير، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج... ألا تدل على العليم الخبير؟!".

وقد عبَّر عنه المئات مِن علماء العلوم الطبيعية المعاصرين، ومنهم مَن أسلم، ومنهم مَن اكتفى بإثبات الربوبية كما سيأتي شيء من هذا -بإذن الله-.

بيْن العلوم التجريبية والعلوم العقلية:

اعتمدت أوربا مدة كبيرة مِن تاريخها على العقل القائم على البديهيات العقلية، وعلى الحس المباشر، واعتمدت مدة على الوحي، واعتمدت مدة ثالثة على العلوم التجريبية والتي تقوم على المشاهدات الحسية الموضوعية وإجراء التجارب المعملية عليها، وإعمال العقل في ربط الأشياء ببعضها، وهي المرحلة التي حققت فيها أوربا الطفرة الكبرى في اكتشاف نواميس الكون واستثمارها، فظن الأوربيون أن هذا يمثِّل انتصارًا للعلم التجريبي، وأنه يجب ألا يؤمنوا إلا لما صدر عنه!

وهنا لابد من عدة وقفات:

الأولى: تبقى الفطرة دائمًا فوق جميع هذه المناهج وأصلاً لها.

الثانية: لا يمكن تجاوز المنهج العقلي؛ وإلا لأدى لاضطراب العالم، واقتصار الفلاسفة على ملاحظاتهم السطحية هي عيب فيهم، وليست عيبًا للعقل الذي تدل (الفطرة) على أنه أصدق ميزان للأمور (بعدها).

الثالثة: الوحي يحتاج إلى الفطرة والعقل لتمييز صدق أو كذب مَن يدعي الوحي، ثم متى ثبت بهما صدقُ أحدٍ في أن الوحي ينزل عليه؛ صار هذا الوحي هو أعلى طرق الإثبات وأفضلها، وآفة الأوربيين أنهم لم يستعملوا فطرهم وعقولهم في قضية معرفة صدق مَن يدعي الوحي؛ فصدقوا (دعوى الإلهام للقساوسة، وكتبة السيِّر الذين رفعوا كتبهم إلى منزلة الإنجيل المنزَّل مِن عند الله!).

الرابعة: نجاح العلوم التجريبية لا يعني صلاحياتها لبحث كل شيء، وإنكار الأمور التي لا تثبت بها حتى ولو كانت ثابتة بما هو أعلى منها كقضية الربوبية الثابتة بالفطرة والعقل، بل وبالحس -كما بيَّـنَّا، ولا يُعترض على هذا بأن قضية الربوبية لم تثبت بالحس المباشر، بل كان بطريق إدراك الآثار؛ فإن كثيرًا مِن العلوم التجريبية قائمة على هذا، ومن أهمها: الجاذبية والمغناطيسية والكهربية، والتي عليها مدار الحضارة الحديثة، وكل هذه الأمور شواهد لكل منها آثار مادية ملموسة فاستدل بها عليها، وإن كانت الظاهرة ذاتها غير خاضعة للحواس.

الفطرة بين إقامة الحجة والإفحام:

قدَّمنا أن الأدلة قد تضافرت على إثبات قضية الربوبية مِن الفطرة والعقل والحس (والوحي مرشد لنا إلى ذلك كله)، وأن دليل الفطرة هو آكدها وأعلاها وأوضحها، ولكن وإذا كان دليل الفطرة بهذه الدرجة من الوضوح والسلاسة والإقناع؛ فلماذا إذن يُعرِض عنه معظم المشتغلين في الرد على الملاحدة؟!

الواقع أن مَن يطلب إفحام الخصم فلا يكاد يوجد دليل غير الدليل العقلي الذي يسير بصاحبه إما إلى الإذعان أو مخالفة القطعيات العقلية، وهي طريق أغرتْ كل مناظر أن يبحث عنها مهما كانت وعرة، حيث يمكن للمخالِف إذا احتججتَ عليه بالفطرة أو حتى بالحس المجرد أن يكابر ويعاند كما فعل "فرعون"، وكما في المثل القائل: "عنز ولو طارت!"، ولكن مَن يطلب هداية الناس لا يطلب إفحامهم في المقام الأول بقدر ما يقصد إيضاح الحق لهم حتى إن كابروا وعاندوا بعد ذلك، وهذا مما يوجب علينا أن نسلك هذا الطريق في دعوة هؤلاء القوم.

خاتمة:

مما سبق يتبين لك أن أكثر الأمثلة انطباقًا على حال الملاحدة قول القائل:

كالعيس في البيداء يقتلها الظمأ والماء فـوق ظـهـورها محـمـولُ

فالفطرة ما زالت داخلهم لم يقدروا على طمسها، ويبحثون عن شيء يسكتونها به؛ فتارة يلجأون إلى السكوت التام واللا أدرية فلا يطيقون؛ فيهربون منها إلى دعوى الصدفة! ثم يخجلون فيفرون مِن كل هذه الدلائل الفطرية والعقلية إلى افتراضات "داروين" زاعمين أن هذا مِن باب العلم التجريبي، وهو لا يستند إلى حس أو عقل أو تجربة كما سنبيِّن.

وإذا كان حال هؤلاء كتلك العيس البائسة؛ فالعجب ممن يأتيه هؤلاء البؤساء وهو على نهر جارٍ فيخبرونه بخططهم في البحث عن الماء، وسرابهم الذي يتجارى بهم في كل وادٍ فأراد أن يقيم الحجة عليهم، فقام معهم في متاهاتهم وبيدائهم وسرابهم! والواجب عليه أن يصر على أن الذي أمامهم هو النهر الذي تراه أعينهم وتعتبر بآثاره عقولهم، وبعد أن يبيِّن لهم ذلك؛ فإن لم يقتنعوا فإن شاء أن يُعرِض عنهم؛ فله ذلك، وإن شاء أن يقوم معهم فيبين لهم أن ما يبحثون عنه هو السراب بعينه؛ فهو أحسن.

ولذلك فعلى كل مَن يريد أن يواجِه الإلحاد أن يقرر الفطرة السوية في إثبات الخالق، ثم يستدل على وجوده بأنواع الحجج العقلية "لا سيما تلك التي استعملها القرآن"، ثم يطوِّف بهم في النفس والآفاق، ثم ومِن باب التنزل في المناقشة يأتي على نظريات "داروين" وغيرها بالنقض.

وعكس هذا الترتيب ينزِّل المسألة مِن درجة القطعيات إلى درجة وجهات النظر، وهو عين ما يريده الملاحدة.

وسوف نتناول في المقالات القادمة -إن شاء الله- هذه الحجج، ثم نعرِّج بالنقض على نظريات الملاحدة.

والله المستعان.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com