الجمعة، ٢٠ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٩ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

دروس من قصة الذي أمر أولاده بحرقه بعد موته (موعظة الأسبوع)

هذا القول كفر، ولكن تكفير قائله لا يحكم به حتى يكون قد بلغه من العلم ما تقوم به عليه

دروس من قصة الذي أمر أولاده بحرقه بعد موته (موعظة الأسبوع)
سعيد محمود
الثلاثاء ٢١ أكتوبر ٢٠١٤ - ١٨:٢٩ م
5662

دروس من قصة الذي أمر أولاده بحرقه بعد موته (موعظة الأسبوع)

كتبه/ سعيد محمود

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

الغرض من الموعظة:

- الوقوف على الفوائد والدروس من القصة، ومن أعظمها: "مسألة العذر بالجهل".

المقدمة:

- تمهيد بحكاية القصة إجمالاً، ثم ذكر الحديث: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (قَالَ رَجُلٌ لَمْ يَعْمَلْ حَسَنَةً قَطُّ لأَهْلِهِ: إِذَا مَاتَ فَحَرِّقُوهُ، ثُمَّ اذْرُوا نِصْفَهُ فِي الْبَرِّ وَنِصْفَهُ فِي الْبَحْرِ، فَوَاللهِ لَئِنْ قَدَرَ اللهُ عَلَيْهِ لَيُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا لا يُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ، فَلَمَّا مَاتَ الرَّجُلُ فَعَلُوا مَا أَمَرَهُمْ، فَأَمَرَ اللهُ الْبَرَّ فَجَمَعَ مَا فِيهِ، وَأَمَرَ الْبَحْرَ فَجَمَعَ مَا فِيهِ، ثُمَّ قَالَ: لِمَ فَعَلْتَ هَذَا؟ قَالَ: مِنْ خَشْيَتِكَ يَا رَبِّ وَأَنْتَ أَعْلَمُ، فَغَفَرَ اللهُ لَهُ) (متفق عليه).

مِن الدروس والفوائد:

1- الخوف من أعظم العبادات:

- الشاهد من القصة: قول الرجل: "مِنْ خَشْيَتِكَ يَا رَبِّ"، وفي الرواية الأخرى قال: "مَخَافَتُكَ يَا رَبِّ" (رواه البخاري).

- الخوف هو مطالعة القلب لعظيم عقاب الله ونقمته ممن عصاه؛ ولذا فحال الصالحين: (إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا) (الإنسان:10).

- ولأجله جعل الله التخويف من عذابه أحد مهمات الرسل: قال الله -تعالى-: (وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) (الأنعام:48).

من ثمرات الخوف:

- صاحبه في ظل العرش يوم شدة الشمس: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إِلا ظِلُّهُ: ... ) وفيه: (وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ، فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللهَ) (متفق عليه).

- صاحبه في أمنٍ يوم الخوف: قال الله -تعالى- في الحديث القدسي: (وَعِزَّتِي لا أَجْمَعُ عَلَى عَبْدِي خَوْفَيْنِ وَأَمْنَيْنِ، إِذَا خَافَنِي فِي الدُّنْيَا أَمَّنْتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَإِذَا أَمِنَنِي فِي الدُّنْيَا أَخَفْتُهُ يوم القيامة) (رواه ابن حبان، وحسنه الألباني).

- صاحبه مِن أسرع السالكين إلى الجنة: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ خَافَ أَدْلَجَ، وَمَنْ أَدْلَجَ بَلَغَ المَنْزِلَ، أَلا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ غَالِيَةٌ، أَلا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ الجَنَّةُ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني)، وروي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- عَلَى نَبِيِّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا) (التحريم:6)، تَلاهَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى أَصْحَابِهِ ذَاتَ لَيْلَةٍ، أَوْ قَالَ يَوْمٍ فَخَرَّ فَتًى مَغْشِيًّا عَلَيْهِ، فَوَضَعَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَدَهُ عَلَى فُؤَادِهِ، فَإِذَا هُوَ يَتَحَرَّكُ، فَقَالَ: "يَا فَتًى، قُلْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ"، فَقَالَهَا فَبَشَّرَهُ بِالْجَنَّةِ، فَقَالَ أَصْحَابُهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَمِنْ بَيْنِنَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أَمَا سَمِعْتُمْ قَوْلَ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-: (ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ) (إبراهيم:14).

2- العذر بالجهل عقيدة أهل الحق:

- الشاهد من القصة: "فَوَاللهِ لَئِنْ قَدَرَ اللهُ عَلَيْهِ..." قال العلماء: "إن الرجل اعتقد ما يستحق به التكفير، وإنما عذر بجهله" (فتح الباري 6 / 522، مجموع الفتاوى 11/ 410).

- الجهل مانع من المؤاخذة في الدنيا والآخرة: قال الله -تعالى-: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (الإسراء:15)، وقال -تعالى-: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ) (التوبة:115)، وقال عن أهل النار: (كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ . قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ) (الملك:8-9).

- بُعد البيئة عن العلم والعلماء من أسباب الجهل: عن عائشة -رضي الله عنها- أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَعَثَ أَبَا جَهْمِ بْنَ حُذَيْفَةَ مُصَدِّقًا فَلاجَّهُ رَجُلٌ فِي صَدَقَتِهِ، فَضَرَبَهُ أَبُو جَهْمٍ فَشَجَّهُ، فَأَتَوُا النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالُوا: الْقَوَدَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (لَكُمْ كَذَا وَكَذَا) فَلَمْ يَرْضَوْا، فَقَالَ: (لَكُمْ كَذَا وَكَذَا) فَلَمْ يَرْضَوْا، فَقَالَ: (لَكُمْ كَذَا وَكَذَا) فَرَضُوا، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (إِنِّي خَاطِبٌ الْعَشِيَّةَ عَلَى النَّاسِ وَمُخْبِرُهُمْ بِرِضَاكُمْ) فَقَالُوا: نَعَمْ، فَخَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ فَقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (إِنَّ هَؤُلاءِ اللَّيْثِيِّينَ أَتَوْنِي يُرِيدُونَ الْقَوَدَ، فَعَرَضْتُ عَلَيْهِمْ كَذَا وَكَذَا فَرَضُوا، أَرَضِيتُمْ؟) قَالُوا: لا، فَهَمَّ الْمُهَاجِرُونَ بِهِمْ، فَأَمَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يَكُفُّوا عَنْهُمْ، فَكَفُّوا، ثُمَّ دَعَاهُمْ فَزَادَهُمْ، فَقَالَ: (أَرَضِيتُمْ؟) فَقَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: (إِنِّي خَاطِبٌ عَلَى النَّاسِ وَمُخْبِرُهُمْ بِرِضَاكُمْ) قَالُوا: نَعَمْ، فَخَطَبَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالَ: (أَرَضِيتُمْ؟) قَالُوا: نَعَمْ. (رواه أحمد وأبو داود، وصححه الألباني).

قال ابن حزم -رحمه الله-: "وَفِي هَذَا الْخَبَرِ عُذْرُ الْجَاهِلِ، وَأَنَّهُ لا يَخْرُجُ مِنْ الإِسْلامِ بِمَا لَوْ فَعَلَهُ الْعَالِمُ الَّذِي قَامَتْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ، لَكَانَ كَافِرًا؛ لأَنَّ هَؤُلاءِ اللَّيْثِيِّنَ كَذَّبُوا النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَتَكْذِيبُهُ كُفْرٌ مُجَرَّدٌ بِلا خِلافٍ، لَكِنَّهُمْ بِجَهْلِهِمْ وَأَعْرَابِيَّتهمْ عُذِرُوا بِالْجَهَالَةِ، فَلَمْ يَكْفُرُوا" (المحلى 10/ 410).

- التأويل ولو في مجتمع ينتشر فيه العلم مِن أسباب الجهل: حديث معاذ بن جبل وسجوده للنبي -صلى الله عليه وسلم-، وفيه: أَنَّهُ أَتَى الشَّامَ فَرَأَى النَّصَارَى يَسْجُدُونَ لأَسَاقِفَتِهِمْ وَقِسِّيسِيهِمْ وَبَطَارِقَتِهِمْ، وَرَأَى الْيَهُودَ يَسْجُدُونَ لأَحْبَارِهِمْ وَرُهْبَانِهِمْ وَرُبَّانِيهِمْ وَعُلَمَائِهِمْ وَفُقَهَائِهِمْ، فَقَالَ: لأَيِّ شَيْءٍ تَفْعَلُونَ هَذَا؟ قَالُوا: هَذِهِ تَحِيَّةُ الأَنْبِيَاءِ -عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ-، قُلْتُ: فَنَحْنُ أَحَقُّ أَنْ نَصْنَعَ بِنَبِيِّنَا، فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِنَّهُمْ كَذَبُوا عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ كَمَا حَرَّفُوا كِتَابَهُمْ، لَوْ أَمَرْتُ أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لأَحَدٍ لأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا مِنْ عَظِيمِ حَقِّهِ عَلَيْهَا" (أخرجه أحمد والحاكم، وقال الهيثمى: رجاله رجال الصحيح).

- خفاء العلم ولو مع مصاحبة العلماء سبب للجهل: حديث عائشة -رضي الله عنها- وفيه قصة خروج النبي -صلى الله عليه وسلم- ليلاً من بيته إلى مقابر البقيع وانطلاقها على أثره، ثم رجوعها وانطلاقها أمامه، فلما دخلت الفراش، قال: (مَا لَكِ يَا عَائِشُ؟ حَشْيَا رَابِيَةً؟) قَالَتْ: قُلْتُ: لا شَيْءَ، قَالَ: (لَتُخْبِرِينِي أَوْ لَيُخْبِرَنِّي اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، فَأَخْبَرْتُهُ، قَالَ: (فَأَنْتِ السَّوَادُ الَّذِي رَأَيْتُ أَمَامِي؟) قُلْتُ: نَعَمْ، فَلَهَدَنِي فِي صَدْرِي لَهْدَةً أَوْجَعَتْنِي، ثُمَّ قَالَ: (أَظَنَنْتِ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْكِ وَرَسُولُهُ؟) قَالَتْ: مَهْمَا يَكْتُمِ النَّاسُ يَعْلَمْهُ اللهُ؟ قَالَ: (نَعَمْ... ) (رواه مسلم).

قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "هذا القول كفر، ولكن تكفير قائله لا يحكم به حتى يكون قد بلغه من العلم ما تقوم به عليه الحجة التي يكفر تاركها" (مجموع الفتاوى: 11/ 411-413).

3- خطر التسرع في التكفير:

- تمهيد: إذا كان الجهل مانعًا مِن تكفير مَن جاء بالكفر؛ فمن باب أولى عدم تكفير مَن جاء بالكبائر جاهلاً؛ فلا يجوز لأحد أن ينسِبَ لمسلم شيئًا لم يفعله أو لم يعتقده (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا) (الأحزاب:58).

- أخطر ذلك أن ينسِبَ مسلمًا إلى الكفر لمجرد الشبهة: عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "لَقِيَ نَاسٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ رَجُلاً فِي غُنَيْمَةٍ لَهُ، فَقَالَ: السَّلامُ عَلَيْكُمْ، فَأَخَذُوهُ فَقَتَلُوهُ وَأَخَذُوا تِلْكَ الْغُنَيْمَةَ، فَنَزَلَتْ: (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا) وَقَرَأَهَا ابْنُ عَبَّاسٍ: (السَّلامَ) (النساء:94)" (متفق عليه).

- الترهيب مِن تكفير المسلم بذكر الآثار المترتبة على ذلك كعناوين: "إباحة دمه - حبوط عمله - فسخ عقد زواجه - لا تؤكل ذبيحته - لا يعامل كموتى المسلمين - ماله يصير فيئًا - يخلد في جهنم".

4- الحذر من الاغترار بعفو الله "بين يدي الكلام عن العذر بالجهل":

- الذي يغفر هو الذي يعذب أيضًا: قال الله -تعالى-: (نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ . وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ) (الحجر:49-50).

- احظر الاستهانة بالذنوب: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (عُذِّبَتِ امْرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ سَجَنَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ فَدَخَلَتْ فِيهَا النَّارَ، لا هِيَ أَطْعَمَتْهَا وَسَقَتْهَا إِذْ حَبَسَتْهَا، وَلا هِيَ تَرَكَتْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الأَرْضِ) (متفق عليه).

- الخوف يبعث على العمل لا التراخي: (رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ) (النور:37).

فاللهم املأ قلوبنا منك خوفًا وعلمًا.

www.anasalafy.com

موقع أنا السلفي

 

تصنيفات المادة