الجمعة، ٢٠ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٩ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

(الحاكمية (2

قضية الحاكمية بين الغلو والتهميش- مناقشة كلام سيد قطب في شرك القبور وشرك القصور- ارتباط التحاكم إلى الشرع بتوحيد الإلهية والربوبية- كيد الشيطان في تزيين الباطل وإبطال الحق - تناقضات القانون الوضعي وأثره على المجتمع - تقسيم النظام لشرعي وإداري وضوابط النظام الإداري- قضية المجالس التشريعية

(الحاكمية (2
عبد المنعم الشحات
الأحد ٢٥ يناير ٢٠١٥ - ١٣:٥٤ م
1461

الحاكمية (2)

الشيخ/ عبد المنعم الشحات

ذكرنا في المرة السابقة مراجعة سريعة لما تم دراسته قبل توقف الدرس في شهر رمضان ، وذكرنا مقدمة عامة حول قضية الحكم لما أنزل الله وخطورة الحكم بغير ما أنزل الله ، ونشرع اليوم إن شاء الله تبارك وتعالى في تدارس هذه القضية من كتاب « فضل الغني الحميد » .  

يقول الشيخ ياسر : « الشرك في الحكم وهو الثالث من أنواع الشرك ( التي أوردها شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب : في هذا الباب ) وهو ما يتعلق بمسألة وجوب الحكم بما أنزل الله ، وتحريم الحكم بغير ما أنزل الله قال تعالى : ﴿ اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُون ﴾ [ التوبة : 31 ]

وعن عدي بن حاتم  ـ رضي الله عنه ـ  قال : « أتيت النبي  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  وفي عنقي صليب من ذهب » . قال : « فسمعته يقول : ﴿ اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ ﴾ قال : « قلت : « يا رسول الله إنهم لم يكونوا يعبدونهم » قال  ـ صلى الله عليه وسلم ـ : «أجل ، ولكن يحلون لهم ما حرم الله ؛ فيستحلونه ويحرمون عليهم ما أحل الله ؛ فيحرمونه , فتلك عبادتهم لهم » .

الشرح :

كان هذا من عدي بن حاتم  ـ رضي الله عنه ـ  قبل أن يسلم , أتى النبي  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  وفي عنقه صليب ، وكان لا يدرك أن من معاني العبادة : التحاكم وإعطاء حق التشريع ، فلما سمع النبي  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  يتلوا هذه الآية في حق اليهود والنصارى الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله ؛ استشكل هذا ، فبين له النبي  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  أن العبادة التي يعبدونها للأحبار والرهبان هي طاعتهم في خلاف ما أمر الله .

وذكرنا طرفًا من الأمثلة الواقعية لحدوث هذا عن اليهود والنصارى قديمًا وحديثًا حيث أعطوا لأحبارهم ورهبانهم حق النسخ والتبديل والعياذ بالله .

يقول الشيخ ياسر : « قال ابن كثير في « تفسيره » ( 349 / 2 ) : « وهكذا قال حذيفة ابن اليمان وعبد الله بن عباس وغيرهما  ـ رضي الله عنهما ـ  : « إنهم اتبعوهم فيما حللوا وحرموا » , قال السدي : « استنصحوا الرجال ، وتركوا كتاب الله وراء ظهورهم ؛ لهذا قال تعالى : ﴿ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـهًا وَاحِدًا ﴾ ( وما أمروا في شرعهم ، وما أمروا على ألسنة أنبيائهم إلا بأن يعبدوا إِلَـهًا واحدًا هو الله  ـ سبحانه وتعالى ـ  ) أي : الذي إذا حرم الشيء فهو الحرام ، وإذا حلله فهو الحلال ، وما شرعه اتبع ، وما حكم به نفذ ﴿ لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُون ﴾ ا . هـ .

الشرح :

أي : تنزه عن شرك هؤلاء المشركين الذي يشركون معه غيره في العبادة .

يقول الشيخ ياسر حفظه الله : « ومن المعلوم أن قضية إفراد  الله بالحكم وحده لا شريك له من أهم قضايا العقيدة وركن من أركان التوحيد».

الشرح :

قضية الحاكمية بين الغلو والتهميش :

هذه قضية قد تستأهل أن يفرد لها مجال طويل حيث صارت محل أخذ ورد بين كثير من الاتجاهات الإسلامية المعاصرة كما هو مشاهد ، وكما هو مسموع ، ويصل إلى أسماعكم الآن أن كثيرًا من الاتجاهات الإسلامية تجعل قضية الحاكمية هي الدين كله ، وحصل نوع من الغلو من هؤلاء في هذه القضية فقوبل بتطرف مضاد كما هو العادة أننا غالبًا ما نجد أن التطرف يولد التطرف المضاد ، فوجد من يحاول أن يهمش هذه القضية ، فالغلو في هذه القضية كان له كثير من المظاهر :

منها : تكفير عوام المسلمين بزعم رضائهم بالحكم بغير ما أنزل الله .

ومنها : إهمال كثير من القضايا العقدية الأخرى ، فحاول البعض أن يعالج هذا التطرف ، فعالجه بتطرف مضاد وهو تهميش هذه القضية .

أيضًا كان من نتاج غلو البعض في قضية الحاكمية : سعيهم إلى القصد إلى الحكم  بدون مقدمات يراعي فيها السنن الشرعية والكونية ، فكان هناك من المفاسد كثمن للوصول إلى الحكم أو المشاركة الرمزية فيه حتى ولو كانت ديكور لهذا النظام المخالف للشرع .

والعجيب أن الناس أحيانًا تفرح ونحن نقول : لا نرضى بتغيير حكم واحد من أحكام الشريعة ، وهناك أناس من الممكن أن ينفقوا أموالًا وأوقاتًا وجهدًا ، وربما تقام الأفراح لمجرد أن الإسلاميين أصبحوا ديكورًا ، ولكن ديكورًا بارزًا قليلًا بمعنى أنهم في النهاية لم يخرجوا عن كونهم ديكورًا لنظام طاغوتي مخالف لدين الله تبارك وتعالى ، ولكن القضية أن حجم هذا الديكور يختلف من مرة لأخرى .

وهذا الفرح الذي من أجله تقدم تنازلات عقدية ، وتقدم تنازلات في دين الله تعالى أيضًا، هذا أحد مظاهر الغلو ، فلو كانت القضية إما أن نطبق شرع الله أو لا, فهذه قضية تستأهل ، لكن القضية أن يكون معلومًا مسبقًا ، ولكل المشتركين في اللعبة أنها لعبة حتى أن اسمها هكذا أنها لعبة ، وأن المستهدف عشرة بالمائة أو خمسة عشر بالمائة ، و جاء الأمر والحمد لله فوق ما يتوقع لدرجة أنه بلغ عشرين بالمائة .

فماذا يفيد هذا الأمر ؟

هذا أحد جوانب الغلو في هذه القضية أن نقول : إن اهتمامنا بقضية تحكيم الشرع قد يصل إلى أن نرضى أن نكون ديكور لنظام غير شرعي لمجرد أننا من خلال هذا نقول وبصوت خافت جدًا أننا نريد أن نطبق الشرع ، وذلك لأن المعارض يتكلم على قدر حكمه وهذه هي أبجديات الديمقراطية ، فليس من حق كل شخص أن يتكلم بأكبر من حجمه ، وكل هذه أنواع من الغلو قوبلت كما ذكرنا كمحاولة لتخفيف حدة هذا الغلو من البعض الآخر بأن قضية الحاكمية قضية ليست من العقيدة ، بل هي من قضايا العمل وإلى غير ذلك من الأمور التي وجدت وللأسف الاتجاه الآخر الذي يحاول أن يقلل من أهمية هذه القضية ونعاني منه كثيرًا جدًا ؛ لأنه في الجملة ينتسب إلى القاعدة السلفية .

من الممكن أن تعيب على الاتجاهات الأخرى وتملك قدرة كافية على التعبير , أن هذا ابتداء منهج تجميعي لا يقول : اتباع الكتاب السنة بفهم سلف الأمة ، ولم ينتصر لقضايا الاعتقاد ، ولم ينتصر لقضايا تنقيح العبادة ، وتصحيح المعاملة ، وبالتالي هناك قدر كبير من الفروق ، لكن الإشكال أنه وجد من القاعدة السلفية الإجمالية من حاول معالجة التطرف بتطرف مضاد في الناحية الأخرى وهو أنه يقول أن هذه القضية ليست مهمة وعندما تسأله : كيف تكون هذه القضية غير مهمة ؟ وكيف تهمش هذا الشيء ؟

فيقول : ألم تر إلى من اهتموا بها إلى أي شيء وصلوا ، منهم من وصل للتكفير ، ومنهم من وصل للمداهنة من أجل الدين ، والانخراط في تحالف مع العلمانيين ، وتقديم مداهنات عن الدين .

فالقضية خطأ الممارسات من البعض سواء قل هذا البعض أو كثر ، وهذا لا يعطينا حق تبديل الشرع ، فالقضية أن كثيرًا من الناس يطالب بتطبيق الشرع ، ولم يطبقه على نفسه حتى الإسلاميين أنفسهم ، فربما تجد البعض منهم يعطي لنفسه حق أن يغير أولويات قضايا معينة ، أو يغير ترتيب قضايا معينة ، أو غير هذا من الأمور ، ولكن العدل والإنصاف أن نبين دين الله تبارك وتعالى بعيدًا عن الانحرافات الفردية أو الجماعية ، ثم تنبه أن هذه القضية مهمة وليس من مقتضيات أهميتها عمل كذا أو كذا .

وهنا يصبح الكلام منضبطًا ، أما أن ينكر أهمية قضية معينة كما هو واضح من الأدلة الشديدة الأهمية في كتاب الله تعالى وسنة النبي  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  ، فهذه قضية في غاية الخطورة .

الفرق بين تقييم الشخص ، وتقييم أفكاره أو ما نسب إليه :

أيضًا بعض الكتاب الإسلاميين من كثرة تشبعه بقضية أهمية تحكيم الشرع سلبًا وإيجابًا ، بمعنى اعتقاده بأن هذا شيء رئيسي في دين الله تعالى من جهة ، ومن جهة شعوره بخطورة التحكيم بغير شرع الله ؛ جعل يوازن بين أمور من الشرك فيقول : « شرك القبور وشرك القصور » وهذا مصطلح شاع جدًا عند الأستاذ سيد قطب : .

وذكرنا غير ما مرة أن سيد قطب له كثير من الحسنات ، وكثير من الفضائل ، أبرزها : حسن الصياغة الأدبية لكثير من قضايا الاعتقاد ، ومخاطبة العاطفة الإيمانية بطريقة جياشة وفياضة ، ولكن يبقى أننا دائمًا نحذر أن المبتدئ في طلب العلم أن يطلع على كتبه لكثرة ما فيها من انحرافات ، ولكن حسن ظن به أنها غير مقصودة ، ولكن هناك فرق بين أن تقيم فكرة ، وبين أن تقيم شخصًا ، فإن الفكرة قد تكون خاطئة سواء قيلت عمدًا أو عن غير عمد ، حتى لو كان التقييم لفكرة تاب صاحبها عنها فأحيانًا توجد بعض الأفكار التي تاب مؤسسوها منها كالمنهج الأشعري ، فقد رجع عنه مؤسسه وهو أبو الحسن الأشعري :  مع كون هذا المنهج له أتباع وأنصار كثيرون جدًا , فهل رجوع أبي الحسن الأشعري عن هذا المنهج يغير طريقة تقييم هذا المنهج أو معالجته ؟ !  لا يغير من الأمر شيئًا .

إذن فكتابات الأستاذ سيد قطب موجودة وفيها انحرافات ، وبالتالي ما في كتابته من خير وفائدة لا سيما المعالجة الأدبية العاطفية الفياضة لكثير من قضايا الاعتقاد والإيمان ونحو هذا ، فهذا لن يستطيع أن ينتفع به طالب العلم المبتدئ دون أن ينال من المفاسد الأخرى إلا من عنده دراية جيدة بمسائل الاعتقاد والمسائل التي أخطأ فيها : .

مناقشة كلام سيد قطب : في شرك القبور وشرك القصور :

ومن هذا أنه دائما ما كان يعقد تلك الموازنة بين شرك القبور وشرك القصور ، ويقول : « شرك القبور شرك قديم ساذج انتهى عصره ! ! » .

وهذا الكلام من الجهة الواقعية ليس له رصيد من الواقع يشهد له ، ناهيك عن الناحية الشرعية ، فمن جهة الواقع أن الدنيا ما زالت مليئة بالقبور والأضرحة ، ويوجد تحالف مستمر بين شرك القبور وشرك القصور ، فلم يوجد هذا من غير هذا والعكس أيضًا ؛ لأن دائما أصحاب شرك القصور على حد تعبيره يحتاجون إلى عدم وجود الدين ، أو إلى تفريغه من مضمونه , والآن أكبر قصر في الكرة الأرضية يقول : إن علاج الصحوة الإسلامية أن نعيد نشر الصوفية ، مع كونهم بروتستانت نصارى وليسوا من الصوفية ! ! ، لكن القضية أن هذه هي اللعبة المعروفة دائمًا أن المطلوب عدم وجود الدين وإن وجد فيكون دين مشوه محرف ، دين يقول كما يقول دينهم هم : « دع ما لله لله ودع ما لقيصر لقيصر » .

إذن فمن الناحية العملية شرك القبور موجود في كل بقاع الأرض ، وموجود بصورة لا يمكن إغفالها ، فهو موجود في كثير من أوساط الإسلاميين ممن عايشهم الأستاذ سيد قطب : ، ويعلم أن شرك القبور متغلغل في أوساط بعض الحركات الإسلامية ، وكيف أنه وجد من كان وصل لأن يقود حركة إسلامية كبرى وهو عنده كثير من بدع شرك القبور وهو : الأستاذ التلمساني والأستاذ سعيد حوى عفا الله عنه .

فالقضية هنا أن هذا موجود حتى في أوساط الإسلاميين ، والتحالف بين شرك القبور وشرك القصور موجود على مر التاريخ ، فلما ننظر في الشرع نجد أن قضية الغلو في الصالحين قضية وجد التحذير منها في الشرع كثيرًا ، ووجد أنها قديمة ، وأنها ستتجدد و« لا تقوم الساعة حتى تضطرب إليات  نساء دوس حول ذي الخلصة » وهو صنم كان لهم في الجاهلية ، فشرك الغلو في الصالحين ما زال موجود بكل مظاهره .

من جهة أخرى أن روح تقسيم الدين عمومًا لقضايا مهمة وقضايا غير مهمة هذا في حد ذاته كلام غير صحيح ومخالف لأمر الله تبارك وتعالى : ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً ﴾ ناهيك أن نأتي للعقيدة نفسها ونقسمها لقضايا مهمة وقضايا غير مهمة ونأتي للشرك الأكبر ، ونقول : هذه الصورة خطيرة وهذه الصورة غير خطيرة ، حتى ولو الكلام معتمد على نسب وجود واقعية ، فيبقى التحذير من هذه الأمور .

فسواء هذه الصورة أو تلك فالاثنان موجودان ، والاثنين في النهاية يصلوا إلى بعض أولًا من جهة التحالف ، فالتحالف موجود بين هذين المظهرين من مظاهر الشرك ، وإذا أتيت تنظر ستجد أن الحق واحد والباطل متعدد ، ولكن من جهة أخرى اعلم أن الباطل مع تعدده له إمام واحد وهو إبليس ، وبالتالي يجيش الجيوش ضد أهل الحق ، وحينما تكون المعركة مع أهل الحق يجعل أهل القصور وأهل القبور يشتركون ، ويجعل الشرق والغرب يتحد، ويجعل الديمقراطيين والاشتراكيين يتحدون حتى في التجارب التي لا تراها فكل الأحزاب مختلفة النزعات يريدون فقط أن ينتزعوا شيئًا من الإسلاميين .

ونحن وإن كنا نستنكر التجربة بكل ما فيها من مرارة ، وبكل ما فيها من تنازلات ، ولا نملك إلا أن تظل العاطفة دائمًا مع من ينتسب لدين الله تعالى ، وبالتالي تعجب عندما ترى ناسًا  أيديولوجيات ( ومعناها : تصورات ) مختلفة تمامًا فهؤلاء مثلًا ليبراليون وهؤلاء اشتراكيون ، ولكن يجتمعون حتى ينتزعوا بعض المقاعد من الإسلاميين ، فهذه هي الطبيعة أن الشيطان يؤز أهل الباطل لكي يتحالفوا ضد الحق ، وبالتالي كم ذكرنا التحالف دائما بين كل أهل الباطل ما دامت المعركة مع أهل الحق ، فهذا فيما يتعلق بقضية أنه من جهة الخطورة والوجود فكل هذه المظاهر موجودة ، وكلها خطيرة، وكلها ينبغي أن تبين ، فنحن نقول : إن هذه القضية من أهم قضايا العقيدة ، وأن هذا النوع من الشرك من أخطر أنواع الشرك .

فإن قيل : ما هي أهم قضايا العقيدة على الإطلاق ؟ أو ما هو أخطر أنواع الشرك على الإطلاق ؟

قيل له : هل لك في هذا فائدة ؟ فهذا كمن كان يختار موتة يموتها فهذا أمر لا يستحق البحث الكبير ، فالشرك مخرج من الملة وأنت تسأل ما هو أخطرها ؟ ! ! فهذا كلام لا يستحق البحث وأن يضيع فيه الوقت .

الحاصل أننا نقول : إن هذه القضية هي من أهم قضايا الاعتقاد ، وهذا النوع من الشرك من أخطر أنواع الشرك ، وكما ذكرنا المفاضلة الوهمية التي ينشغل بها أناس كثيرون من الإسلاميين : القطبيين والسرورين وغيرهم يرون أن قضايا شرك الحاكمية أخطر .

وبعض الاتجاهات الأخرى تقول : إن قضايا شرك القبور أخطر ، ولكن في الواقع أن هذا من الفريقين نوع من عدم الدراية بدين الله تعالى ، ومن عدم الإنصاف ، ومعرفة قضايا الاعتقاد، لا سيما كما ذكرنا أن الأمرين في النهاية يوصلون إلى بعض واقعيًا ، وحتى من الناحية الشرعية ؛ لأنهم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله ، فسوف تجدها في قضية الحاكمية موجودة وموجودة أيضًا في الغلو في الصالحين ، فهو يتخذ أحدًا ويخلع عليه بعض صفات الربوبية ، ويعطيه بعض حقوق الإلهية ، وهذه إما أن تكون طاعة في التشريع العام ، وهذا في قضية شرك الحاكمية ، وإما أن تكون خضوع وتذلل ونسك وهذا في قضية شرك القبور ، والاثنان في النهاية متقاربان جدًا ومتشابهان في أنه شرك ، وأنه إعطاء أحدًا من البشر بعض صفات الربوبية ، أو بعض حقوق الإلهية .

يقول الشيخ ياسر حفظه الله : « من المعلوم أن قضية إفراد الله بالحكم وحده لا شريك له من أهم قضايا العقيدة ، وركن من أركان التوحيد ، ومخالفتها من أعظم أسباب الشرك على ظهر الأرض ، وقد بينت هذه الآية الكريمة أن الحكم ، والتشريع، والتحليل ، والتحريم ، من أخص معاني الربوبية كما سبق بيانها » .

الشرح :

ارتباط التحاكم إلى الشرع بتوحيد الإلهية والربوبية :

يقول تعالى : ﴿ اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـهًا وَاحِدًا ﴾ هنا عبر بالربوبية وعبر بالإلوهية ، والعبادة ، وقد سبق بيان أن معاني الربوبية لغة وشرعًا تختلف عن معاني الإلوهية ، فالرب هو الذي يربي غيره بنعمه ، وهو أيضًا السيد الآمر الناهي الذي له حق الطاعة ، والإله هو المعبود ، وسبق أن بينا أن هنا تلازم بين قضايا الربوبية وقضايا الإلهية .

ولذلك أشرنا في مقدمة الكتاب إلى أن توحيد الربوبية توحيد علمي ، وتوحيد الإلوهية توحيد عملي ، فهذا علم ، وهذا عمل مترتب عليه ، والصحة هنا يلزم منها صحة هناك إلا عند من يعاند ، فمن الممكن أن يعاند شخص ويقول أن الله هو الرازق الخالق المدبر، ومع ذلك يسأل غيره ، فهذه معاندة ومكابرة تمليها عليه اعتبارات الانتصار لدين الآباء والأجداد ، وغير هذا مما يكون عند المشركين ، مما يجعلهم يقرون بقضية ولا يأتون بلازمها ، فإذا أقر أن الله هو الرازق الخالق المدبر فلماذا يسأل غيره ؟ ! وهذا من العجب أن يأتي بتوحيد الربوبية ثم يشرك في الإلهية ، فهذا نوع من أنواع التناقض الصارخ .

وقلنا أنهم غالبًا ما يتحايلون عليه بصورة أو بأخرى ، فبعد أن يقول : إن الله هو الرب ولا رب غيره ، ينقض هذا الكلام مرة أخرى ويقول : ولكنه فوض الأولياء في إدارة شئون الكون ، أو أن الأولياء يشفعون بغير إذن من الله ! ! إلى غير ذلك من الأمور التي تكون بمثابة نقض لاعترافه بتوحيد الربوبية ؛ لأن القضيتين متلازمتين ، والعقول والفطر لا تقبل أن يقول أن الله  هو مالك الملك ، ثم بعد ذلك يقول : « اذهب واسأل غيره » .

وفي نفس الوقت الفطر أيضًا لا يمكن أن تقبل أن هناك مخلوقًا عاجزًا ضعيفًا حادثًا بعد أن لم يكن ، ثم يقول أنه مالك الملك ، فالحيلة الشيطانية أن يقول أن الله هو مالك الملك ، وقد أعطى أحدًا من خلقه سلطة التصرف في هذا الملك ، وبذلك يكون قد أقر بإقرار ، ثم تراجع عنه مرة أخرى ، وهذه طريقة الباطل ، فإنه ليست لعبة الديمقراطية فقط التي فيها هذا، ولكن [ هذا شأن ]  كل ما سوى الحق لا بد أن تجد فيه هذا التناقض قال تعالى : ﴿ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا ﴾ [ النساء : 82 ]

فلا بد أن تجد أن الباطل لا يمر إلا بألاعيب وحيل ، فهذه هي الحيلة أن يقول أن الله تعالى هو مالك الملك فبالتالي كان المنتظر أن يرتب على ذلك أنه وحده هو الذي يسأل ، وهو وحده الذي يدعى ، فإذا به يقول : إن الله  ـ عزوجل  ـ  قد فوض أمر الكون إلى فلان لأننا أحقر من أن نسأل الله رغم أن الله  ـ عزوجل  ـ  هو الذي أمرك أن تسأله ، ومهما كنت عاصيًا ، ومهما كنت معرضًا عنه، يرضى عنك إن سألته ، ويغضب عليك إن سألت غيره ، يقول : « نحن أقر من أن نسأل الله » فمن أين أنت جئت بهذا الإلزام وبهذا الالتزام ؟ من عند نفسه ، [ وليس هذا من شرع الله في شيء ] .

فهذا بالنسبة لمعاني الربوبية المتعلقة بالخلق والرزق والإحياء والإماتة ، أما ما يتعلق بقضية التشريع ، فإن إعطاء حق التشريع ، وحق الأمر والنهي هذا من معاني الربوبية ، فإن من معاني الرب : السيد الآمر الناهي الذي له حق الطاعة ، فحينما نقول أن الله هو الذي له حق الأمر والنهي ، وهو الذي له الطاعة المطلقة ، فهذا توحيد ربوبية ، ويترتب على هذا أن نتحاكم إلى شرعه وحده ولا نتحاكم إلى شرع غيره ، وهذا توحيد إلهية ، فالشرك الربوبية يؤدي إلى الشرك في الألوهية .

وأيضًا من الممكن أن تجد شخصًا معه توحيد ربوبية ، وفي نفس الوقت لا يلتزم بتوحيد الإلهية المناظر له ، وهؤلاء هم أفحش الناس ، عندما يأتي شخص ويقول أن شرع الله تعالى غير ملزم والعياذ بالله ، فهذا شرك في الربوبية والعياذ بالله ، وهذا أفحش من شرك المشركين ، فهذا شرك العالمانيين الأقحاح .

وقد تقدم ذكر العلمانية وما فيها ، وشرك هؤلاء في غاية الفحش يقولون أن أمر الله غير ملزم لنا والعياذ بالله ، فهذا يشرك في الربوبية ، فمن معاني الربوبية أن الله هو الرب أي : السيد الآمر الناهي ، الذي له حق الطاعة .

فمن يقول أن الله هو الرب أي : السيد الآمر الناهي الذي له حق الطاعة فهذا يلزمه أن يتحاكم إلى شرعه ، فتوحيد الإلهية فرع على توحيد الربوبية في هذه الجزئية.

ومن المتصور أيضًا أن يأتي شخص ويقول أن الله هو السيد الآمر الناهي الذي له حق الطاعة ، ثم لا يتحاكم إلى شرعه ، ويقول : أن الله تعالى لم يلزمنا بشرع أصلًا وهذا من أفحش أنواع الكفر , فهو لم يقل أن الله تعالى ليس هو الرب ، ولكن مقتضى كلامه التكذيب بنصوص قطعية في القرآن والسنة تلزم بالتحاكم إلى شرع الله تعالى مما ذكرنا طرفًا منها .

وبعضهم يقول أن الله تبارك وتعالى لو كان له أمر ؛ لكان واجب الاتباع ، ولكن الله تعالى لم يأمرنا إلا بالصلاة والزكاة ، وأما ما سوى ذلك فلا , فلم يأمر ولم ينه في أنواع الأموال ، والفروج ، والأعراض ، وأن الله تعالى لم يأمر في هذا ، ولم يشرع في هذا  شـرع .

وبعضهم يقول أن كل الوقائع التي نزل بها القرآن وحكم فيها النبي  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  في السنة كانت على هذه الوقعة بمعنى أنه حصل موقف فنزل حكم ، مع أنه ينزل بلفظ عام فما فائدة أن ينزل بلفظ عام ؟ فلو أن هناك موقف لن يتكرر وليس له حكم العموم وكان من الممكن أن يقال فيه : « افعل » أو « لا تفعل » , ثم تعدل عن هذه الأربع حروف إلى أربع آيات أو أعشر آيات أو عشرين آية إذن فمن يفعل هذا بغير فائدة فهو عبث ينزه عنه القرآن ، وقد تقدم مبحث أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب في الكلام على علوم القرآن .

ومع العلم أن كثيرًا من الأحكام نزلت بلا سبب أصلًا فكيف يقال : إن هذه في الواقعة التي نزلت فيها مع أن كثيرًا منها نزلت قبل أن يوجد لها واقعة ؟ ! ناهيك عن إجماع الأمة على هذا الأمر ، فعمومًا قد يوجد من يقول أن الله تعالى أمره ملزم ويجب طاعته ؛ إلا أنه سيأتي بعد ذلك ويقول أنه ليس له في تشريعات الحياة والعياذ بالله .

أو يقول : الأوامر التي نزلت كلها كانت مقيدة بزمن , وكل هذا خلاف الإجماع وهو كفر والعياذ بالله وأيضًا سيأتي أن الحيل الأخرى [كاستدلالهم ] بقوله   ـ صلى الله عليه وسلم ـ : « أنتم أعلم بأمور ديناكم » فهذا لو فهموا لعلموا أن هذا فيما ليس له نص تشريعي صريح ، وقد تقدمت الإجابة على هذه الشبهات في مناقشة قضية العالمانية .

إذن فهذه القضية لها تعلق بالربوبية في شقها العلمي ، ولها تعلق بالإلهية في شقها العملي، ولذا جاءت الآية فيها ذكر الربوبية وذكر الإلهية قال تعالى : ﴿ اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُون ﴾ [ التوبة :31 ] .

يقول الشيخ ياسر: «وقد بينت هذه الآية الكريمة أن الحكم، والتشريع، والتحليل، والتحريم، من أخص معاني الربوبية كما سبق بيانها، وبين الرسول  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  أن المتابعة على الحكم عبادة، وأن التعبد لله تعالى بالتحاكم إلى شرعه توحيد، ومخالفة ذلك: شرك، وككل قضايا العقيدة والتوحيد كثر ذكر هذه المسألة في كتاب الله  ـ عزوجل  ـ ».

الشرح:

فليست القضية أن هذه القضية أختصت ببيان أشمل من غيرها، بل لو أنصفت لوجدت أنها مثل غيرها، ناهيك عما بيناه من التلازم بين القضيتين: قضية شرك الحكم، وقضية شرك الغلو في الصالحين، وبين تقاربهما حتى في المعنى من أن كلاهما خلع لصفات الربوبية على البشر، وإعطائهم حقوق من حقوق الإلهية.

يقول الشيخ ياسر: «قال تعالى مبينًا أن من اتخذ أحدًا مشرعًا فقد جعله لله شريكًا سواء كان أفرادًا أو جماعة ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللهُ﴾ [الشورى: 21].

الشرح:

أو كانت (هيئة اعتبارية) كأن يعطي هيئة معينة حق التشريع ويقول : لم أعط حق التشريع لأحد بعينه .. كيف وقد صنع هيئة تشريعية؟! فيكون من جملة هؤلاء الذي قال الله تعالى عنهم : ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللهُ﴾.

يقول الشيخ ياسر: «وذم المشركين من قريش أعظم الذم في شأن تشريعات وضعوها من قبل أنفسهم في أمر بعض الزروع والبهائم فقال تعالى: ﴿وَجَعَلُواْ لِلهِ مِمِّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُواْ هَـذَا لِلهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَـذَا لِشُرَكَآئِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَآئِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِلَى اللهِ وَمَا كَانَ لِلهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَآئِهِمْ سَاء مَا يَحْكُمُون﴾ [الأنعام: 136] إلى قوله تعالى: ﴿وَمِنَ الإِبْلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ وَصَّاكُمُ اللهُ بِهَـذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِين﴾ [الأنعام: 144] فانظر كيف حكم بظلمهم وشركهم وضررهم من أجل تشريعات البهائم؟!».

الشرح:

كيد الشيطان في تزيين الباطل وإبطال الحق :

      هذه تشريعات وضعها المشركون من مشركي العرب في أحوال معينة للبهائم، يقولون: إن هذه البهائم تكون وقفًا على الآلهة، فالبهيمة التي تلد مرتين مثلًا، أو الذكر الذي يكون بعد أنثى إلى غير ذلك من تفاصيل لا نحتاج إلى استحضارها وذكرها كثيرًا.

فالحاصل أنهم اخترعوا أمورًا في شأن البهائم وسبحان الله! كما ذكرنا تجد الشيطان في أمور عجيبة جدًا في كثير من المواقف لا يكون لها تفسير إلا إن الشيطان يأتي عند الحق ويصد الناس عنه، وكأن الناس تبخل بأمور شرعية، وحق يفرضه الله عليهم وهي أمور يسيرة، كان المفروض أن تطيب بها نفوسهم، لا سيما والله تعالى هو الذي رزقهم هذا الرزق، وهو الذي أمرهم أن يخرجوا جزء منه، فتجد أنواعًا من البخل والشح، لكن حينما يأتي أحبارهم ورهبانهم أو كبراؤهم يقولون لهم مثلًا : عندما البهيمة تلد أكثر من مرة فهذه تتركها للآلهة فيتركها، ولا توجد أنواع من المعارضة, فللشيطان رغبة كبيرة في أن يصد الناس عن الحق، وأن يتركهم يتمادون في الباطل.

فمن الممكن أن تجده في الباطل يضحي بأموال، ويضحي بأمور، والشيطان لا يصده عن هذا، ولكن يصده عن اتباع الحق، وحتى في الأمور التشريعية العملية عند المسلمين تعجب غاية العجب، فكم شبعنا من الاستهزاء والسخرية من إخراج زكاة الفطر طعامًا وأننا هكذا نرجع إلى  العصور الوسطى وإلى غير ذلك من الأمور، وشرع الله تعالى أن نخرجها طعامًا والله تعالى أعلم بما يحكم.

ثم إن هذا له حكمة وهي إغناء الفقراء عن السؤال في هذا اليوم، وهذا عند كثير من الناس في غاية العجب، ثم ترى الآن هيأة لها مؤسساتها و ..و.. واسمها بنك الطعام وهي تقول في دعاياتها الإعلامية أن الطعام هو آكد حقوق الإنسان، وبالتالي هي كمؤسسة خيرية قامت من أجل توفير الطعام، فأتونا بطعام عيني من زكاة الفطر ولم يستهزئ أحد بهم والدعايا كانت في رمضان في الصحف أن هؤلاء من حقهم من الصدقات ومن زكاة المال ليشتروا بها طعامًا للفقراء، وبالطبع سألوا العلماء الرسميين فكانت الفتاوى بالتأييد التام لهذا الأمر، رغم أن زكاة المال تخرج مالًا، ولا يجوز أن تشتري بها طعامًا، وعندما نأتي ونقول هذا نريده في زكاة الفطر، وهي تخرج مرة في العام، ولها حكمة وهي أن الفقير الذي كان صائمًا يجد عنده طعامًا يوم العيد، ثم إننا نعطيه طعام يكفيه ما شاء الله وفيه زيادة أيضًا وهو نفسه يخرج زكاته.

فقد تصل إلى فقير ولا تصل آخر فهذا إن أعطيته زكاة منها أو من غيرها طالما عنده قوت يوم العيد هو نفسه سيخرج زكاة، وهذه الوسيلة التي تضمن أن يكون عند كل أحد يوم العيد طعام، فالفقير نفسه أتاه أكثر من طعام يوم العيد فيبحث هو عن فقير غيره فيعطيه الزكاة، وهذا له حكمة معينة؛ لأنه من الممكن أن يفيض الطعام، فالشرع فيه أن تعطيه من طعام مدخر كي يكفيه يوم العيد، وما زاد يكفيه إلى ما شاء الله وهكذا.

فيشترون بزكاة المال طعامًا ولم يعترض عليهم معترض بل نشر التأييد التام، فلماذا كان الأمر مثيرًا للسخرية عندما قلنا أن زكاة الفطر تخرج طعامًا، ولم يسخروا عندما قالوا: إن زكاة المال طعامًا؟

فالشيطان يريد أن يصد الناس عن اتباع الحق، فيضع عراقيل في اتباع الحق، ويزين الانحراف مهما كانت درجته، فكبراء العرب وضعوا هذه التشريعات التي فيها ظلم للعباد في أموالهم، ناهيك عما فيها من الشرك ومع ذلك اتبعها هؤلاء.

يقول الشيخ ياسر: «فانظر كيف حكم بظلمهم، وشركهم، وضلالهم، من أجل تشريعات البهائم، فكيف بتشريعات البشر في دمائهم، وأموالهم، وأعراضهم، وأبضاعهم، وهم الذين كرمهم الله تعالى؟! نعوذ بالله من الشرك والخذلان.

وقال تعالى: ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُون﴾ [المائدة: 44] .

وعن ابن عمر بأن اليهود جاءوا إلى رسول الله  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  فذكروا له أن رجلًا منهم وامرأة زنيا,فقال لهم رسول الله  ـ صلى الله عليه وسلم ـ : «ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟» فقالوا: «نفضحهم ويجلدون» قال عبد الله سلام: «كذبتم إن فيها الرجم، فأتوا بالتوراة؛ فنشروها فوضع أحدهم يده على آية الرجم، فقرأ ما قبلها وما بعدها، فقال له عبد الله بن سلام: «ارفع يديك»، فرفع يده؛ فإذا آية الرجم، فقالوا: «صدقت يا محمد فيها آية الرجم»، فأمر بها رسول الله  ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فرأيت الرجل يحني على المرأة يقيها الحجارة».

الشرح:

واقع اليهود:

هذه القصة فيها كثير من الفوائد:

فيها أن اليهود ولعلنا أسلفنا قبل هذا في درس التفسير أن اليهود الذين كانوا في مدينة رسول الله  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  كانوا أمثل يهود الأرض، فإن الله  ـ عزوجل  ـ  سلط على اليهودِ الرومَ؛ فطردوهم من بيت المقدس، وهذا كان بسبب كفرهم، وقتلهم الأنبياء، فكان هذا عقب قتل يحيى وزكريا عليهما السلام، والهم بقتل عيسى u فرفعه الله إليه، وعلى ما يذكرون هم في تاريخهم في سنة سبعين ميلاديًا أي: بعد ثلاثين سنة تقريبًا أو أربعين سنة من رفع عيسى u تسلط الروم على اليهود مع إن محاولة قتل عيسى u كانت بالتضامن بين اليهود والرومان، فاليهود ذهبوا إلى الروم، وقالوا لهم أنه يدعي أنه ملك اليهود المنتظر الذي سوف يحررهم من استعماركم، فكانت المحاولة لقتله  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  فرفعه الله إليه، ثم انقلب الروم على اليهود في سنة سبعين ميلاديًا، فشردوهم، وقتلوهم، وطردوهم، وخربوا المسجد الأقصى، وجعلوه إسطبلًا للخيول ومحلًا للقاذورات حتى طهره عمر  ـ رضي الله عنه ـ  بعد ذلك، وللأسف إن هذا البيت ملك للمسلمين وحدهم لأنه أنشئ على التوحيد، ولا يوجد موحد غير المسلمين.

فالقضية هنا ليست قضية جنس ولا عرق، وإذا قبلنا نحن بالمبادئ الدولية التي تقول بالجنسيات والعصبيات والقوميات، فيلزمنا إذن أن نقر بحقهم في هذا البيت، ولذلك أيضًا نقول: إن الاتجاهات الإسلامية التي تُضطر إلى أن تقبل بعض المعطيات الباطلة، نقول: لهم إن الباطل لا يقف عند مكان واحد, فلما تقبل أنت بمعطيات السياسة الدولية، فهذه المعطيات منها: الاعتراف بالقوميات والجنسيات كأساس لتقسيم الناس، وليس تقسيم الناس إلى مسلمين وكفار، فهم من ناحية التاريخ، ومن ناحية القوميات، فهذا البيت بناه أنبياء بني إسرائيل جزمًا.

لذلك العجب ممن يقول: إن حق العرب في هذا البيت وأن فلسطين كان يسكنها العمالقة، والعمالقة أقرب نسبًا إلى العرب منهم إلى بني إسرائيل فهذا كلام في غاية السفه.

ولكن نحن نقر أن من بناه هم أنبياء بني إسرائيل، ولكننا أحق بأنبياء بني إسرائيل منهم، فمن يعترف بأن العبرة بالقومية وليست الدين، ثم يرجع ويقول: ليس لكم حق، سيجد نفسه متناقضًا، فإن القضية لو كانت قومية سيكون على هذا المبدأ لهم، وإنما القضية قضية دين.

لذلك فإن هذا البيت أنشئ على التوحيد، وبناه أنبياء الله فنحن أولى به، ومن جهة أخرى - كمواثيق دولية - بداية تاريخهم يبدأ من التاريخ الحديث, فلما في هذه فقط يريدون أن يبدؤوها من فجر التاريخ، رغم أن واقع الحدود الدولية وغيرها يبدأ عندهم من الحرب العالمية الأولى، أو من الحرب العالمية الثانية، ولا يبدأ من قبل ذلك؟! فلماذا يختارون لهذه ميعاد لبدايتها خاص بها؟! وإلا فنحن لو رجعنا مائة سنة؛ لوجدنا أن الأرض كلها كانت لنا تقريبًا.

فلو كانت القضية بحقوق تاريخية فلما هذا بالذات الذي تريدون أن تبتدئوه من فجر التاريخ؟ ثم إن الفريقين: اليهود والنصارى ضيعوا هذا البيت، فاليهود لم يجاهدوا من أجله، ولكنهم تركوه والنصارى حتى خربوه، وجعلوه محلًا للقاذورات ومكانًا للحيوانات حتى جاهد المسلمون من أجله وحتى فتحوه وطهروه، ثم بعد ذلك كل منهما يقول: لنا حق!! مع إن حق المسلمين في هذا المكان آكد باعتبار العقيدة وهذا هو الأصل.

فالقضية أن اليهود تشرذموا بعد هذا الحدث، فذهب بعضهم إلى أوروبا، وذهب بعضهم إلى أواسط آسيا, وأمثلهم طريقة من علمائهم قالوا: نذهب إلى البلد التي فيها نبي آخر الزمان، فذهبوا إلى مدينة النبي  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  التي كانت تسمى وقتها «يثرب» ينتظرون بعثة النبي  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  فلما بقوا في المدينة أحسوا بالأمن والأمان، واشتغلوا بالتجارة، والربا، وصنع السلاح، ومارسوا مهنتهم القديمة من تحريض الناس بعضهم على بعض؛ لكي ينتفعوا هم بالمشاجرات والمنازعات ونحو هذا، وغيروا أهدافهم، فهم كانوا ذاهبين بغرض انتظار النبي المنتظر ولكن قبيل بعثته بدؤوا يغيرون اتجاههم، وبدؤوا يتمسكون بالحياة الدنيا والأمان الذي أمنوه، وبالتالي بدؤوا في سياسة تحريف الدين.

 ومن جملة ما حرفوه أن المنتظر من بني إسرائيل، وصدقوا هذه الكذبة حتى ظنوا أن الله تعالى يمكن أن يمضي لهم هذا الكذب، فالحاصل أن التوراة التي يحكي القرآن عنها، ويحكي بعض الصحابة عنها، ويحكي بعض علماء اليهود الذين أسلموا ككعب الأحبار ووهب بن منبه ستجدها مختلفة عن التوراة الغربية التي بقيت الآن، فالتوراة الغربية كان التحريف فيها أشد فالتوراة الغربية الموجودة إلى يومنا هذا والتي يؤمن بها اليهود ويؤمن بها النصارى كجزء من كتابهم أي جزء من الكتاب المقدس أشبه بكتاب جنسي تاريخي يرسخ لفكرة أن اليهود هم شعب الله المختار، وأن بقية الشعوب هم حمير شعب الله المختار.

وهذا الكتاب تتضح فيه الصنعة البشرية، بل والصنعة البشرية الانهزامية، وبعض الباحثين من غير المسلمين قالوا: إن أي باحث أدبي تاريخي سيلمس بوضوح الروح التي كتبت بها التوراة في صورتها الأخيرة, فدائمًا أدب فترات الهزيمة, - يعني: القصص والحكايات-  تتكلم عن مجد تاريخي فيه كثير من المبالغات، ويكثر فيها الإيماءات الجنسية، وغيرها كنوع من التعبير عن الإحباط، وهذه السمات التي كتبت بها التوراة على هذا النحو.

لكن الذين كانوا في المدينة كان عندهم توراة فيها كثير من الحق حتى إن آية الرجم كانت حتى ذلك الوقت موجودة في أيدي اليهود ولكن كان التحريف في أوله يبدأ نظري بدون توثيق، ثم بعد ذلك يوثق، فكان اليهود الذين في المدينة في ذلك الوقت معظم تحريفهم في نسبة أمور إلى الله قبل أن يحرفوا الكتاب، وساعدهم على ذلك أنهم عندهم في أديانهم - وهذا يشترك فيها اليهود والنصارى - نوع من التدرج, سلم وظيفي معين, فليس في إمكان كل أحد أن يتعلم الدين، وهذه قضية خطيرة جداً منحتهم فرصة تحريف الدين أكثر من مرة فهذا ما حدث لهم.

فهناك طائفة معها التوراة تستطيع أن تغير فلو جلسوا واتفقوا فإنهم يستطيعون أن يغيروها بدون أي إشكال، ففي أول الأمر بدؤوا يحرفون وينسبون إلى التوراة أحكامًا ليست فيها، وأما باقي الناس فلا يقرؤون، وطبعاً الآن حتى لو قرؤوا فهناك عقيدة كاذبة اعتنقوها، وهي أن الأحبار والرهبان لهم حق النسخ والتبديل كما أشارت الآية إلى ذلك.

فلما فشا الزنا فشا في أشرافهم والزنا عقوبته الرجم في شريعة موسى u وفي التوراة [فثقلت عليهم العقوبة فبحثوا عن حكم أخف من هذا الحكم في نظرهم].

وللأسف كل ما ينتقد الكفار على الدين الإسلامي الآن تجد أنه موجود أضعافه عندهم، فلو كانت الحدود وحشية فهي موجودة في التوراة، ولو كان الجهاد وحشية فإنه موجود في التوراة، وليس الجهاد الموجود عندهم في التوراة المحرفة لتكون كلمة الله هي العليا، ولكنه جهاد محرف.

ونحن نوقن أن الجهاد الذي أنزل على موسى u كان لتكون كلمة الله هي العليا، ولكن الجهاد المحرف أن جعلوا هدف الجهاد ليسود شعب الله المختار، ويستباح فيه كل أحد، وتسفك فيه الدماء، وتنتهك فيه الأعراض، وتقتل النساء والذرية، ويباد الزرع، وكل هذا موجود، ولكن هم يعتمدون على أن كتبهم لا يقرؤها أحد, لا بني ملتهم ولا المسلمين, والقرآن بفضل الله موجود في أيدي كل الناس.

لكن ينبغي هنا أن ننتبه أن وجود القرآن في أيدي كل الناس دون أن يعرفوا معناه، ودون أن يعرفوا تفسيره أصبح في هذا خطورة، إذن فلا بد للمسلمين أن ينتبهوا لهذه القضية، وأن يتعلموا دينهم؛ لأن الجاحدين كانوا لا يصلون إلا أمام العالم كانوا لا يقدرون على الكلام؛ لأنه يعلم أنه لا يقدر أن يتكلم إلا إذا ذهب على الأقل إلى مسجد، وكانت مساجد المسلمين حالها أفضل من حالها الآن، وكانوا هم الذين يقولون: لا نريد الكلام، ولا نريد مناقشة، لكن الآن هناك قنوات كثيرة في النت وغيرها، ويعرفون أنه سيستأثر ببعض ضعاف المسلمين، فبدؤوا الآن يقولون نريد مناقشة، ويطلبون أن يكون هذا في هذه الأماكن، فينبغي على المسلمين أن يأخذوا حذرهم من هذه القضية.

فنقول: كان عندهم الرجم وهذا من الحق الموجود في التوراة، ووجود في القرآن، فلو كانت هذه وحشية، لماذا يكون الانتقاد على القرآن فقط؟!, وهي بفضل الله ليست كذلك كما سنبين , ولكن لأن كل هؤلاء مجرمون تأخذهم رأفة بالمجرمين، لكن لو كانوا بالفعل يستشعرون معنى الفضيلة، ومعنى حاجة المجتمع إلى استئصال بذور الفتنة، وبذور الفساد؛ كانوا سيعلمون أن هذا الحكم رادع، وأن الغرض من العقوبة كما أشرنا في المرة السابقة أن تكون عقوبة رادعة كافية، فالعقوبة غير الرادعة ليس لها قيمة، والعقوبة التي يمكن أن يُردع بعيرها، فهذا فيه نوع من التعدي والزيادة، وهذه وتلك ينزه عنها دين الله تبارك وتعالى.

فانظر إلى خبثهم لما فشا الزنا قالوا نخفف العقوبة، وهنا مسألة اجتهادية في دين الله  ـ سبحانه وتعالى ـ  وهي أنه: لو صارت العقوبة الشرعية في زمن الأزمان غير رادعة وبدأ الناس يتساهلون هل يجوز أن نزيد إليها تعذيرًا، أم أن التعذير لا يجمع مع الحد؟!، فإن هناك جرائم لم يضع الشرع لها حدًا؟

والجواب أنه يمكن أن يضع الإمام فيها تعذيرًا، والتعذير عقوبة أخف من الحد، وهي عقوبة اجتهادية، إذن هل من الممكن في زمن معين أن نضيف إلى الحد تعزيرًا في عقوبة فيها حد؟! فهذه مسألة اجتهادية.

لكن انظر هنا إلى المسلك العكسي أنه لما انتشرت الفاحشة قالوا: «نخفف العقوبة!!» فهنا يظهر أنه لا توجد غيرة على الدين، ولا حتى على مصالح المجتمع، فذهبوا لتخفيف العقوبة من الرجم إلى الجلد والتحميم؛ لأن في الرجم الموت، بل إن الرجم من أشد أنواع الموت ألمًا، والجلد ليس فيه موت، فقالوا: تكون العقوبة الجلد والتحميم فهذه فضيحة رغم أن دين الله تعالى ليس فيه هذا الأمر.

فإن الذنب إما أنه يستحق أن يستأصل نهائيًا من المجتمع فيقتل، وإما أن يأخذ عقوبة رادعة، ثم تفتح له الباب للتوبة، إما هؤلاء فيطوفون بهما على حمار مقلوب، ويحممون وجوههم بالطين كنوع من الفضيحة والإهانة، ويطوفون بهم في الطرقات فلما حدث هذا في زمن النبي  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  وزنا رجل وامرأة منهم فقالوا : «اذهبوا إلى هذا النبي» يعنون النبي  ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فإنه قد بعث بالحنيفية السمحة، ودائمًا  آفة اليهود الرئيسية جهلهم بالله، وسوء ظنهم به  ـ سبحانه وتعالى ـ ، فهم كذبوا على الله  ـ عزوجل  ـ ، في قولهم أن الله  ـ عزوجل  ـ  وعدهم أنه سيكون منهم نبي آخر الزمان!!.

ثم بعد ذلك صدقوا هذا الكلام أن الله  ـ عزوجل  ـ  من الممكن أن يستجيب لهذا التحريف، وكذبوا على الله أنهم لن تمسهم النار إلا أياماً معدودات، ثم صدقوا هذا الكلام، فهم لما حرفوا الكتاب؛ قالوا: إن هذا النبي الجديد بعث بالحنيفية السمحة، فربما يكون الله  ـ عزوجل  ـ  نزل هذا الحكم عليه، وانظر إلى كم التناقضات في هذا الموقف، هل هو نبي أو ليس بنبي؟ ولو كان نبيًا لم لا تتبعوه؟! وإذا  لم يكن نبيًا فماذا سيفيدكم لو وافقكم؟ ما الذي ستعدونه لكي تقولوه لله تعالى؟

لذا نقول: إن قضية معرفة الله لها أهمية كبيرة، وكذا معرفة الأسماء والصفات، فإن مشكلة اليهود الرئيسية التشبيه، فإن المنقدح في عقلهم الباطن أن صفات الإله قريبة من صفات البشر، ولذلك لما حرفوا التوراة؛ وضعوا فيها: التعب، والإعياء، والفقر، وغيرها من الصفات التي لا تليق بالله تعالى، فهذه هي العقلية والنفسية اليهودية.

أين حمرة الخجل؟:

فقالوا: اذهبوا إلى هذا النبي فقد بعث بالحنيفية السمحة، فإن حكم لكم به فخذوه، وقولوا حكم لنا به نبي، وإن لم يحكم لكم به؛ فاحذروا، فالقضية لو لم يحكم إذن فهو - والعياذ بالله - رجل كذاب فلم ذهبتم له أولًا؟!

فلما أتوا إلى النبي  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  قال: «ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟!»،  وهذه القضية أيضاً قضية مشكلة، ولن نقول تفصيلها الآن، وهي: هل معنى ذلك أنهم إذا أتوا ليتحاكموا إلينا نحيلهم إلى كتبهم؟! وذلك لأن النبي  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  قال: «ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟» أم أن هذا الحكم خاصة؛ لأن التوراة التي في أيديهم فيها الحكم الموافق للقرآن؟

فالظاهر أن الأمور الظاهرة في الشوارع والطرقات لما يتحاكموا إلينا فيها نحكم بينهم بما أنزل الله، والذي نحن متأكدون منه أن الله تعالى أنزله ما في أيدينا، أما ما في أيديهم فلا ندري فيما لم يبلغنا، فهم إذا تحاكموا إلى كبرائهم فنحن لا نبحث ولا نفتش عن هذا.

فلما قال لهم   ـ صلى الله عليه وسلم ـ : «ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟» لأنه  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  أراد أن يبين لهم أنه نبي صادق من عند الله فهو يعرف التوراة رغم أنه  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  كان أميًا لا يقرأ ولا يكتب، ورغم أنهم كانوا مستأثرين بالتوراة، حتى لم يعرفها عوامهم، وهو يعلم  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  أنهم أتوا باحثين عن الحكم المخفف، فأخبرهم أنهم عندهم في التوراة الرجم فلم يسألون؟ وكالعادة الكذب حتى آخر لحظة، فطريقهم الكذب إلى النهاية، فقالوا: لا يوجد رجم إنما نفضحهم ويجلدون، ولكن كان عبد الله بن سلام قبل أن يسلم من كبارهم، ومن علمائهم، فقال: «كذبتم إن فيها الرجم» فأتوا بالتوراة فنشروها.

وهنا ما زالت محاولات الكذب، وذلك حتى بعد أن أخبرهم أن فيها الرجم، إذن فقد جاءه الوحي فما فائدة أن يضع يده ليحجب آية الرجم؟!، ولكن ظنوا أنه لعل الوحي يتأخر عليه، أو لعله لا يخبره، وهذه هي النفسية اليهودية التي تحكم عقائدهم حتى رغم وجود عبد الله بن سلام، ولكن ظنوا أنه من الممكن أن ينسى، وهكذا محاولات كذب حتى النهاية، ولا يوجد عندهم نوع من الخجل.

فكثيرًا ما تنظر لكلام المشركين فتقول أين حمرة الخجل؟ لا تسأل عن عقل ولا عن دين؛ لأنه لا يوجد دين، بل دين مشوه محرف، ولا يمكن أن يورث صاحبه خلقًا حسنًا، فتسأل: أين حمرة الخجل؟ هل هناك أحد عاقل عنده بقية من خجل يقدر على كل هذا الكذب؟ فتتساءل دائماً عندما يعيبون على الإسلام ويعيبون على النبي  ـ صلى الله عليه وسلم ـ : أين هي حمرة الخجل؟

قال: «فوضع أحدهم يده على آية الرجم، فقرأ ما قبلها وما بعدها» فقال هل عبد الله بن سلام  ـ رضي الله عنه ـ : «ارفع يدك فرفع يده؛ فإذا آية الرجم» فقالوا: «صدقت يا محمد»، فأمر بهما  ـ صلى الله عليه وسلم ـ فرجما فطبق فيهم حكم الله تبارك وتعالى.

وقال ابن عمر ب: «فرأيت الرجل يحني على المرأة يقيها الحجارة» ... سبحان الله ! العشق المحرم له أثر بالغ في نفس صاحبه، فها هو ذا يموت وهي معه أيضًا، ولكن هذا مؤثر فيه أثرًا بالغًا - والعياذ بالله.

يقول الشيخ ياسر: «سبحان الله! إذا كان الله سبحانه قد حكم على اليهود ومن حذا حذوهم بالكفر من أجل تغيير حكم الرجم إلى الجلد والتحميم - وهو نوع عقوبة -، فكيف بمن يجعل الزنا حرية شخصية إذا كان برضاء الطرفين، ويرى الرجم وأمثاله من أحكام الله: كالقطع في السرقة، والقصاص، والجلد، وغيرها - شريعة غاب, ووحشية منافية لحقوق الإنسان؟! ومن يطالع قانون العقوبات المصري؛ يرى أن ما فعله اليهود والكافرون - وهم سبب تنزيل الآيات - كان أهون بكثير مما يفعله مشرعو زماننا.

وإليك بعض الأمثلة من قانون العقوبات المصري:

- (مادة 267) من واقع أنثى بغير رضاها؛ يعاقب بالأشغال المؤبدة، أو المؤقتة (أي: إن كان برضاها فلا يعاقب).

- (مادة 273) لا يجوز محاكمة الزانية إلا بناء على دعوى زوجها، إلا إذا زنى الزوج في المسكن المقيم فيه مع زوجته, كالمبين في المادة 272, فلا تسمع دعواه عليها (يعني: إذا زنا كل منهما في مسكن الزوجية؛ فلا تصح المطالبة بالمحاكمة).

- (مادة 274) المرأة المتزوجة التي ثبت زناها، يحكم عليها بالسجن لمدة لا تزيد عن سنتين, لكن لزوجها أن يوقف تنفيذ هذا الحكم برضائه معاشرتها له كما كانت.

- (مادة 275) ويعاقب أيضًا الزاني بتلك المرأة بنفس العقوبة.

- ( مادة 277 ) كل زوج زنى في منزل الزوجية, وثبت عليه هذا الأمر بدعوى الزوجية؛ يجازي بالحبس مدة لا تزيد عن ستة أشهر. (أي: أنه إذا كان خارج منزل الزوجية، أو لم تطلب محاكمته فليست جريمة).

ووالله إني لا أدري ما أقول في هذا الكفر البواح، والشرك البين سوى: «إنا لله وإنا إليه راجعون, وحسبنا الله ونعم الوكيل».

الشرح:

تناقضات القانون الوضعي وأثره على المجتمع:

كل القوانين في البلاد العربية مأخوذة عن القانون الفرنسي، وهو أبو القوانين في العالم تقريبًا، وهو مصدر كل الشرور بعده، حيث بالغ في الحرية الفردية، وقيدها في حدود ضيقة جدًا، بأن لا تضر المجتمع, فالقانون الفرنسي قائم عقب الثورة الفرنسية التي دشنت للعالمانية، إذن فلم يكن هناك أي اعتبار للدين، بل لو شئت قلت: إن كان هناك حرص على مصادمة الدين، بمعنى أنك لو أتيت مثلًا إلى قضية كقضية الزنا، فالقاعدة التي اعتبرها القانون الفرنسي أن الحرية الشخصية معظمة جدًا لا تقيد إلا متى جارت على حرية الآخرين، فالقاعدة عندهم أن حريتك تنتهي عند حدود حرية غيرك.

فلو طبقنا هذه القاعدة؛ لوجدنا أن الزنا من أشد العدوان على المجتمع، والخمر كذلك، وقد اضطروا للتناقض في الخمر حيث يبيح تعاطيها، ولكن لا يبيح قيادة السيارة، ولا السير في الطريق العام لمن هو في حالة سكر بينٍّ، ولكن كيف سيعلم من يسكر أنه وصل إلى سكر بين أو غير بين؟! وكيف تبيح له أن يسكر والسكر إذهاب للعقل؟! ثم حال سكر صار مخاطبًا بحكم عندهم، وبتكليف قانوني عندهم وهو أنه لا يقود السيارة، ولا يسير في الطريق العام!!.

فهذا كما ترى تناقض من أشد أنواع التناقض بالضبط تمامًا كمن لا يمنع الزنا إذا كان برضاء الطرفين، إذن فالطبيعي أن أي شيء علق على رضى الطرفين كيف سيتم؟ بالطبع أن يكون هناك إيجاب وقبول، فطرف يعرض والثاني يقبل أو يرفض، فمثلًا البيع والشراء مباح في دين الله، ومباح في كل هذه الأوضاع.

فطبيعي أن من حقك أن تطلب شراء بضاعة معينة بسعر معين، ومن البائع أن يرفض، فلو أن السعر الذي عرضته لم يرض البائع، أو العكس البائع يضع سلعة، وأنت لا ترضى بسعرها، فهذا لا يمكن للقانون أن يقول أن هذا جريمة، فإن عرض أحد الطرفين فوافق الآخر فلا حرج، وتتم الصفقة، وإذا لم يوافق أصبح هذا الأمر كأن لم يكن، فكيف يسمح بشيء معين برضا الطرفين بينما لو طلبه أحد الطرفين، ورفضه الآخر يعتبر جريمة؟! .

فجريمة التحرش الجنسي جريمة من أكثر الجرائم القانونية اضطرابًا، ولذلك تجد أن الحكم غالبًا يكون بالبراءة، حتى إن كلينتون أخذ فيها براءة، رغم إنها كانت على شاشات التلفاز، وذلك لأنها قضية معضلة جدًا في الوضع القانوني، فلو تأملنا أن في هذا الأمر شيء برضا الطرفين!!.

إذن فمقتضى ذلك أنه يجوز لأحد الطرفين أن يطلب، والثاني يوافق أو يرفض، وكان الذي ينبغي بناء على قواعدهم أن تكون هذه جريمة عندما يستخدم القوة في فرض الموافقة على الطرف الآخر، لكن عندهم أن مجرد العرض يعتبر تحرش، لأنه اعتداء على حرية الطرف الآخر، ولو وافق فلا حرج!! فما كل هذه التناقضات؟!، ومع ذلك اضطروا لأن يرتكبوها لأنهم لديهم رغبة عارمة في مخالفة دين الله تعالى.

خلاصة القانون الفرنسي وما يتفرع عنه من قوانين أن عندهم جريمة التحرش الجنسي كما ذكرنا جريمة غامضة جدًا والذي يرتكبها غالبًا يأخذ براءة نتيجة التناقض الموجود في أصل القوانين.

وأيضًا جريمة الخيانة الزوجية، وهذه جريمة يعتبرونها في حق الطرف الآخر فقط، بمعنى أن الزوج يكون خائنًا لزوجته، والزوجة خائنة لزوجها، وبالتالي تسقط برضا الطرف الآخر، أو بوقوعه في نفس الجريمة، فيكون هو خائن، وهي خائنة، وهنا لا يستطيع أحدهم أن يرفع الأمر على الثاني، أو بالاغتصاب وهذه أشد الجرائم عندهم، وليس هذا من جهة الاعتداء على الأعراض، ولكن من جهة الاعتداء على الحرية الشخصية!!.

وبالتالي أيضًا عندهم من ضمن الأشياء الغريبة في القانون الفرنسي، وما يتفرع عنه من قوانين أنه لو زنت امرأة فاجرة مع رجل مرة برضاها ثم رفضت في الثانية - لاعتبارات غير شرعية – فاغتصبها، فالحكم فيها أنها قضية اغتصاب كاملة، فلو حكم بالإعدام يعدم هذا الشخص؛ وذلك لأن القضية عندهم ليست قضية انتهاك الأعراض، وإنما قضية الاغتصاب فقط.

وأيضًا من باب إن الفطر مسيطرة على الناس فقالوا: إن مواقعة أنثى برضاها وهي دون 18 سنة فهذا يعتبر عندهم جريمة؛ لأن الأهلية عندهم تعطى على مراحل، وقد تكلمنا قبل ذلك في درس الأصول على موضوع الأهلية في الشرع، وبينا أن الأهلية عندنا تكون كاملة عند البلوغ، ولكن الأهلية عندهم تكون على مراحل: فأهلية تصرف المرأة في عرضها يعطيها لها على 18 سنة، وأهلية تصرفها في مالها يعطيها لها على 21 سنة، فانظر إلى كم التناقضات الكبيرة جدًا، وللأسف تجدها منقولة في القوانين الوضعية بحذافيرها من القانون الفرنسي والعياذ بالله.

فهذا كله نتيجة تعظيم الحرية الشخصية على حساب الدين، ولم يحاول أن يقيد الحرية الشخصية إلا في نطاق محدود جدًا، وهو العدوان الصارخ على حق المجتمع!!، رغم أن إفساد الأعراض هدم لكيان الأسرة!!، وهذه المجتمعات الآن تطالب بإيقاف الإباحية، وترغيب الناس في تكوين الأسر، فهذه المجتمعات تعاني من بوادر الانهيار، نتيجة انهدام نظام الأسر في هذه المجتمعات، فبناء على قاعدتهم كان الذي ينبغي أن يحرموا هذه الأمور؛ لأنها عدوان على حق المجتمع، ولكن الحرص على الباطل، والحرص على مصادمة الدين، وهدم كل الأسس الأخلاقية التي تربى عليها الناس قبل هذا, كان دافعًا لهم لهذا الأمر والعياذ بالله.

يقول الشيخ ياسر: «قال الشيخ الشنقيطي في «أضواء البيان» (4/83): «إن الذي يتبعون القوانين الوضعية التي شرعها الشيطان على ألسنة أوليائه مخالفة لما شرعه الله  ـ عزوجل  ـ  على ألسنة رسله صلى الله عليهم وسلم, أنه لا يُشك في كفرهم، وشركهم, إلا من طمس الله بصيرته وأعماه عن نور الوحي مثلهم».

الشرح:

الكلام على النوع والعين ننبه عليه دائمًا  كلما تكلمنا على أن من فعل كذا فقد كفر، ومن فعل كذا فقد أشرك، فهذا من حيث النوع.

وأما تطبيق الحكم على المعين فيلزم ثبوت شروط وانتفاء موانع، كما تأتي الإشارة إليه بعد ذلك إن شاء الله.

تقسيم النظام لشرعي وإداري وضوابط النظام الإداري:

يقول الشيخ ياسر: «ثم قال : (4/84): «اعلم أنه يجب التفصيل بين النظام الوضعي الذي يقتضي تحكيمه الكفر بخالق السماوات والأرض، وبين النظام الذي لا يقتضي ذلك، وإيضاح ذلك أن النظام قسمان: إداري، وشرعي.

أما الإداري الذي يراد به ضبط الأمور، وإتقانها على وجه غير مخالف للشرع، فهذا لا مانع فيه، كتنظيم شئون الموظفين، وتنظيم إدارة الأعمال على وجه لا يخالف الشرع، ولا يخرج من قواعد الشرع مع مراعاة المصالح العامة».

الشرح:

هنا مساحة متروكة للناس، والعلماء دائمًا يمثلون لها بكتابة عمر  ـ رضي الله عنه ـ  أسماء الجند في الدواوين وغيرها، ويصدق هذا الوصف في زماننا على قوانين المرور، وعلى غيرها من الأمور الإدارية التي يراد بها ضبط الأمور، وتحقيق العدل، واشتراط توثيق العقود مثلًا، كعقود الزواج، والطلاق، والبيوع، وغيرها بهيئة معينة، وأمام جهة معينة، فكل هذه من أنواع الأمور الإدارية التي ينطبق عليها هذا التفصيل الذي أشار إليه العلامة الشنقيطي :، فلا بأس أن يجتهد الناس فيما يصلحهم.

وهذه تكأة اتخذها العلمانيون وغيرهم لكي يجوزوا الخروج على شرع الله جملة وتفصيلًا، فكون هناك مساحة مأذون فيها فهذا لا يعني أن الحبل قد صار على الغارب، بل إن المساحة المأذون فيها لا بد من التأكد أنه مما أذن الله تعالى فيه، ومما عفا الله عنه، أو أحال الناس على أن يجتهدوا فيه مع مراعاة القواعد الشرعية العامة، أي أن الكلام في المرور، والكلام في القوانين الإدارية  لن ينفك عن مراجعة شرعية؛ لأنه لا بد من وجود مراجعة شرعية لكثير من الأمور؛ فيجب أن تراعى الضوابط الشرعية والمصالح الشرعية العامة.

فعلى سبيل المثال في قوانين المرور الغربية التي هي جزء من النظام العلماني، وجزء من النظام المعظم للحرية الشخصية،  و هذه ليست موجودة - والحمد لله - في بلاد المسلمين كبقية التزام بالشرع، فعندما يقع مثلًا حادث سيارة فقتلت رجلًا فالذي يتأكد منه هل الطريق طريق السيارة وأم طريق المشاة؟ فقط!

إذن لو كان هذا الرجل  يسير في طريقه والآخر هو الذي مر أمامه لا يبحث هل كان بوسعه أن يتفاداه أم لا؟! لأن عندهم أن هذا حقه، وقد استخدمه، والثاني – المقتول- قد أساء، فدمه هدر، وليس الأمر كذلك - بفضل الله- في بلاد المسلمين، بل حتى وسائل المواصلات التي لها حقوق عالية جدًا مثل القطارات التي لها طريق مخصص تمامًا حتى إنهم يعبرون عنه بكلمة «حرم» وإن كان استخدام في هذه الكلمة في غير الحرم الذي حرمه الله سوء أدب مع الله، فعندما يقولون: حرم القطار أي أن هذه المنطقة محرمة، لا يسير فيها إلا القطار، فالذي ينبغي أن يستخدموا أي لفظ آخر؛ لأن هذا ابتذال لهذا المعنى، وإن كان المعنى صحيح، وليس هناك ما يمنع من الناحية الإدارية أن تقول المصلحة: إن هذا الطريق مخصص للقطار، فلا ينبغي أن تمشي فيه لا سيارات ولا مشاة ولا غير ذلك.

فهذا مثلًا فرق، إذ في بلاد المسلمين يُنظر هل كان بإمكان السائق أن يتفادى إلحاق الضرر بالآخر رغم خطئه أم لا؟! فإذا كان بإمكانه أن يتفاداه، ولم يفعل فإنه يجرم ولكن هم عندهم لا [يجرم].

إذن فهذه القوانين البسيطة لا تستطيع أن تسلخها عن البيئة والثقافة - والبيئة والثقافة هذه مصطلحاتهم ولكن مصطلحاتنا نحن العقيدة - فلا يمكنك أن تفصلها عن العقيدة التي هي جزء منها، وبالتالي فالنظم الإدارية رغم أن مساحة الاجتهاد فيها أوسع إلى حد ما إلا أن الأمر ليس مطلوقًا هكذا بلا تحكيم للشرع، ناهيك عن أنه يستدل بهذا على أن الأمور تفتح على مصراعيها، ويُصادَم شرع الله تبارك وتعالى والعياذ بالله.

وكفرع على هذا نقول: إن التعامل الإداري، كأن يعمل الإنسان موظف ليس فقط في بلاد المسلمين التي فيها تحكيم لغير الشرع، وهذه قضية فيها كثير من ناحية الكلام على أعيان الناس، ففيها كثير من الاجتهادات نتيجة وجود شبهة الإكراه، ونتيجة وجود فتاوى تضمن أن من الممكن التدرج، ونتيجة ... ونتيجة...

إذن فالوضع مختلف، لكن نقول حتى لو بلاد كفر صريحة وعمل الفرد هناك في أي بلد من هذه البلاد مدرسًا مثلًا في مدرسة تابعة لوزارة  تشرف عليها، فماذا يعمل؟ إذا كان يؤدي شيئًا شرعيًا، وتطبق عليه قوانين إدارية حتى ولو كانت من وضع الكفار فهذه لا إشكال فيها.

ونحن نقول هذا الكلام لأن جماعات التكفير وغيرهم يكفرون عموم المجتمع، فيبدأ بتكفير الحكام، كأن هذه مسألة محسومة  نوعًا وعينًا، ثم يفرع على ذلك أن أي شيء يحصل فيه على تعامل رسمي يعتبر ذلك اعترافًا [بالكفر]، رغم أن التعامل الإداري مع الكافر المحض الذي لا يشك في كفره ليس كفرًا ولا رضا بكفر، حتى لو عمل نظامًا للعمل، بمعنى أنه  لو عمل شخص [مسلم] عند كافر مثلًا في محل وقال له: نظام العمل عندنا من الساعة كذا إلى الساعة كذا، ولو تأخرت يخصم منك كذا، وسواء سمى هذا قانونًا أو لم يسمه قانونًا، فالعبرة ليست بالتسمية، وإنما العبرة بالمسمى.

إذن فوجود قوانين إدارية في مؤسسات مملوكة لمسلمين أو لكفار أو لغيرهم أو لمسلم عاصٍ أو .. كل هذا لا يمنع المسلم أن يعمل فيها، ومن هذا حتى أعلى درجات الوظائف، كأن يكون الإنسان وزيرًا فهذا ليس فيه إشكال من الناحية النظرية.

فقديمًا كانوا يقولون لو أن التتار استولوا على بلاد المسلمين، وجاء [منهم من] يريد أن يعين شخصًا قاضيًا لناحية معينة، فقال شيخ الإسلام لا مانع أن يكون قاضيًا رغم أن التتار كفار، فقال: يستوزر لهم، لكن مع أمر مهم جدًا ننبه عليه لمن يقرأ هذه الفتاوى وهو أن النظام قديمًا قبل نشأة الإدارة الحديثة كان التفويض فيه عامًا، فعندما يأتي بشخص ويقول له ستكون قاضيًا في هذه البلد فهو الذي يشرع، وهو الذي يحكم، وهو الذي ينفذ، فلو حكم قاضٍ مسلم بشرع الله سيحكم بشرع الله، ولو يحكم بغيره، سيحكم بغيره، ولو قال له: تولَّ أمر توزيع الأموال فسيكون متوليًا لهذا الأمر من ألفه إلى يائه.

فتطبيق هذه الفتاوى على واقع آخر مختلف يكون فيه إقرار بالباطل، ومعاونة عليه، ويكون دوره محدودًا جدًا، ويلتزم بتشريعات مخالفة لشرع الله يجب عليه أن يطبقها، ويعمل عليها، فتطبيق هذه الفتوى على ذلك تطبيق لها في غير واقعها، لكن لو تصورنا أن هناك وظيفة إدارية، أو وظيفة عامة سيتولاها مسلم، ويطبق فيها العدل، فهذا أمر لا إشكال فيه، ولو كان معه يسير من الظلم، فستكون العبرة وقتئذ بالأغلب، وهذا أقصى كلام يمكن أن يحمل عليه كلام شيخ الإسلام ابن تيمية.

وهو مخالف تمامًا للواقع المعاصر الذي هو منظومة متكاملة، وفيها نظريًا أن السلطة التنفيذية كلها حتى رأسها مقيد بالقوانين المخالفة، أو القوانين التي تأتي إليه من قبل السلطة التشريعية.

فنقول: العمل الإداري لدى مسلم، أو لدى كافر، أو حتى لو  قلنا: لدى شخص فاسق، أو شخص مرتكب للكفر ولم نكفره بعينه، ولن تختلف القضية إذا كان [يجوز] لدى الكافر الأصلي، فإن كان العمل عمل  إداري، وله لوائح إدارية، فلا إشكال فيه، ونقول هذا ردًا على جماعات التكفير التي تكفر عموم الناس لمجرد أنهم يتولون وظائف في مؤسسات لها لوائح إدارية.

[خلاصة المسألة:]

فإن كان العمل في ذاته مباح؛ فليس لنا دخل بمن وضع هذه اللوائح، فلو افترضنا مسلمين يعيشون في بلاد الكفر الآن، فنحن ننصحهم أن يرجعوا، لكن إن كان ولا بد وأرادوا من شخص أن يدرس الدين لأبناء المسلمين فيرفض فتكون النتيجة أن يأتوا بمدرس كافر يدرس لهم، وهذا يحدث في بعض الجاليات الإسلامية أن يكون مدرس الدين الإسلامي كافر، فلو كان هناك شخص مسلم مقيم  في هذه البلاد وأمامه فرصة ليعمل هو هذا العمل، فليعمل ولو طبق عليه قانون إداري مثل أن يأتي في وقت معين، وأن يذهب في ميعاد معين، ويقبض راتبه يوم كذا، فكل هذا ليس فيه إشكال حتى ولو كانت إدارة المدرسة كافرة، أو أنه يعيش في بلد كلها إدارة كافرة.

يقول الشيخ ياسر نقلًا عن الشيخ الشنقيطي: «وأما النظام الشرعي المخالف لتشريع خالق السماوات والأرض فتحكيمه كفر بخالق السماوات والأرض، كدعوى أن تفضيل الذكر على الأنثى في الميراث ليس بإنصاف، وأنهما يلزم استواؤهما في الميراث، وكدعوى أن تعدد الزوجات ظلم، وأن الطلاق ظلم للمرأة، وأن الرجم، والقطع ظلم ونحوهما أعمال وحشية لا يسوغ فعلها بالإنسان، ونحو ذلك، فتحكيم هذا النوع من النظام في أنفس المجتمع، وأموالهم، وأعراضهم، وأنسابهم، وعقولهم، وأبدانهم، كفر بخالق السماوات والأرض، وتمرد على نظام السماء الذي وضعه خالق الخلائق لها، وهو أعلم بمصالحهم  ـ سبحانه وتعالى ـ  أن يكون معه مشرع آخر علوًا كبيرًا» ا.هـ.

الشرح:

نقل الشيخ ياسر نقولًا كثيرة عن الشيخ الشنقيطي، ثم نقولًا عن ابن كثير في هذه القضية، وهذه القضية تحتاج لتفصيل لأننا سنرجع نفصل مرة أخرى، ونقول أن الحكم بغير ما أنزل الله أحيانًا يكون كفرًا أكبر، وأحيانًا يكون كفرًا أصغر، وهناك أشياء كثيرة نحتاج لبيانها، وهذه أيضًا من الأمور التي فيها خلاف كثير بين كثير من الاتجاهات الإسلامية الآن.

وفي الواقع أن ما ذكرناه من الآيات والنقول عن العلماء في هذه المسألة كنا نبين بها أصل القضية، وأنها من أهم قضايا الاعتقاد، وأصل خطورة الشرك فيها، وأنه من أعظم مظاهر الشرك، ولكن ستأخذ النقول التي يذكرها الشيخ هنا منحى الكلام التفصيلي في الحكم في هذا الأمر .

قضية المجالس التشريعية:

أما في الكلام على الانتخابات فهناك بحوث موجودة مثل بحث «السلفية ومناهج التغيير» فيمكن الرجوع إليه، ونحن نفضل ما أشرنا إليه، لكن لا نريد أن يفتن الناس بالتنازلات التي قدمها بعض الإسلاميين في هذا الأمر، وأيضًا لا نريد أن يفتن الناس بالانتصار الرمزي الذي يحدث، والإفراط في الآمال العريضة التي يمكن أن يفرط فيها البعض، مع عدم إخفائنا أنا كنا نود أن لا يشترك الإسلاميون في هذه اللعبة التي لا يحسنوا أيًا من مفرداتها, ابتداء من سلاح المال لسلاح البلطجة إلى سلاح المداهنات.

وللأسف اضطر الإسلاميون أن يتقنوه، ونحن نوقن أنهم يتأولون أنهم مضطرون إلى هذا، ونحن نشدد أنه لا يوجد أبدًا أي حالة يسمح فيها بالمداهنة في الدعوة العامة بأن ننشر الباطل على الناس، ثم نقول: سوف نصحح!! حتى التصحيح ولو وصل إلى الناس سيقولون إذن يكفي فقط إثبات أن هناك من يدعوا إلى الباطل ويصر عليه وهناك من يدعوا للباطل حتى تمر الأمور ثم يتراجع ووقتها يقال عن الإسلاميين أنهم انتهازيون كغيرهم!!، وأظن أنهم وقتها لن يقولوا: كغيرهم بل سيقولون أن الإسلاميين انتهازيون فقط، أما الآخرون الذين رسبوا فإنهم رسبوا لأنهم حافظوا على مبادئهم ونحو هذا.

ولكن الآن بعد أن دخلوا وحيث أن كثيرًا من الناس يشاركون، فنحن نسر أن هؤلاء الذي شاركوا كان معظمهم في الأعم الأغلب مؤيد للإسلاميين، وهذا شيء لا تملك نفسك من أن تتعاطف مع هذا الأمر، أو أن تعتبره مؤشرًا جيدًا، فالثمن الذي يدفع باهظ جدًا، والتجربة مريرة جداً، والجهود المبذولة فوق مستوى طاقتنا - كإسلاميين جميعًا، ولا نتكلم عن دعوة دون دعوة أخرى- فإننا نجد أن المصالح شبه منعدمة؛ لأنه ما زالت الخيوط مدارة بحنكة، والقضية لن يكون إلا كالديكور، والديكور أحيانًا يحتاج أن يكون قويًا.

وأنا أذكر ولا أريد أن أخوض في تفاصيل أكثر من ذلك لكن هذا مثال ** وكل لبيب بالإشارة يفهم** كنت ذات مرة مع أحد التجار، واتصل به شخص يعرض عليه أحدهم عرضًا تجاريًا معينًا فقال له: لا الحاج لا يمكن أن يوافق على مثل هذا والرجل هو صاحب المكان، وهذا الحاج والده - أظن والله أعلم أنه رجل طيب جدًا- وأنا لا أعرف التفاصيل كلها، فلما  ناقشته قال لي: عندما لا أريد الشيء فأقول الحاج غير موافق، وعندما أكون مريدًا له فمن المؤكد أن يكون الحاج كذلك، فأحيانًا الحاج الذي في يده الأمور يحتاج أن لمن يرفض حتى يقول: الناس رافضة لهذا الأمر، وإذا  كان يريد هذا الشيء فلن يسمح لمن يرفض بالكلام.

فهناك حسابات معقدة كثيرة جدًا تكون في القضية حتى إن حجم الديكور له حساباته أيضًا، وللأسف نحن نسطح الأمور في كثير من الأحيان، ففي أحيان كثيرة البعض يحتاج إلى أشخاص يرفضون ويقول وقتها: الناس رافضة!! وأوقات أخرى لو قال الناس جميعًا: «لا» وهو موافق فلا يعتبر رأيهم.

فليت أن الأمر بلا ثمن إذن فسنقول وقتها: إذا لم نكسب شيئًا فلن نخسر شيئًا، لكن كما هو مشاهد الثمن باهظ جدًا، وبالتالي نمتنع عن بحث ما وراء ذلك، فإن قيل: إذا لم يكن هناك ثمن؟! نقول: نحن لا نعيش في كوكب آخر [والأوضاع السياسية لا تخفى على أحد] فمثلًا في الكويت إلى الآن يقولون: نحن لا نقدم ثمنًا، فما رأيكم؟! هناك فالقضية جديرة بأن تبحث، وهم هناك مختلفون مع عدم وجود ثمن، ومع وجود مصالح حقيقية، لكنهم مختلفون نتيجة هل نحن كإسلاميين حجمنا الآن يسمح بأن ننشغل هذا الانشغال، وما زالت الناس لم تتربى؟!.

فهذه قضية مهمة وقد ذكرنا قبل ذلك تخيل أن الدنيا وردية تمامًا، وأن هناك أغلبية هل نتمكن من فرض الحجاب على المسلمات؟! هل نتمكن من منع التلفاز؟! هل نتمكن من منع الإنفاق على المنتخب القومي ونقول للناس أن هذه الأموال لا تنفق على الكرة؟! انظر أنت كم شخصًا يذهب لمشاهدة المباريات، وكم عنده من الاستعداد أن يجلس من الساعة الثامنة صباحًا لكي يحجز مكانًا في المباراة التي ستبدأ الساعة الثامنة ليلًا !!! هل تستطيع أن تقول لهؤلاء: أنا سألغي الكرة؟!.

فانظر كيف يكون رد فعلهم، فإنا سندخل في مثل هذا الشيء، فللنظر إلى ما هي الثمرات المترتبة عليه، فسنجد أشياء بسيطة جدًا، فلو قال الناس: نعم لو فرضنا الحجاب الكل سيرتديه، ولو منعنا الدخان لن يغضب الناس، ولو منعنا التلفاز لن تغضبوا، وها نحن أولاء نتكلم عن أشياء بسيطة جدًا لا نتكلم عن أشياء فيها أموال ومصالح، وأشياء من تلك الأشياء الصعبة جدًا .. لا .. نحن نتكلم في أشياء بسيطة جدًا عن عوام الناس الذين يؤيدون الإسلاميين.

فالإسلاميون يصلون بأصوات أناس عندهم تليفزيونات، وعندهم تبرج، ويسمعون أغاني، ويشربون الدخان، فهذه الأشياء هل سنتركها  أم سنمنعها؟ وهي أشياء بسيطة بالنسبة لغيرها,ولو تركنا هذه الأشياء فكيف سنتصرف فيما هو أخطر من ذلك إذا لم نكن قد قدرنا على مثل هذه الأشياء فهل ستكون النتيجة أن نتركها كلها؟!.

ففي تركيا وصل الإسلاميون، ثم أصدروا تصاريح بغاء فلم يقدروا أن يغيروا هذا الأمر، فالمسألة في غاية التعقيد، فقبل أن نتكلم نصف كلمة لا بد أن نعلم الثمن باهظ جدًا، وهو التحالف مع العالمانيين، ومداهنة اليهود والنصارى، والإقرار بمبادئ [العالمانية]، فكيف أقول: إنني سأطبق الشريعة وأن وهذا سيكون من خلال الديمقراطية والديمقراطية أعلى شيء فيها الشعب ثم الدستور ثم القانون؟! وفي الدستور أن الشريعة هي المصدر الرئيسي للتشريع، والدستور حاكم على القانون والشعب على الدستور وهذا هو ترتيب الديمقراطية: شعب، دستور، قانون، فلو قلت: أريد أن أجعل القانون يخضع للدستور، وأنت من خلال الديمقراطية تخضع الدستور للشعب فماذا لو قال: لا أريد الشريعة كيف ستتصرف؟!

ولو سألت كل إخواننا سيقولون: لا , سيكذب هذا الكلام، متى سيكذب ؟حتى ولو كذب فسنظهر بصورة الانتهازي، و هل سيسمع كل الناس التكذيب؟!

فالمفاسد كثيرة وكبيرة والثمن باهظ قبل أن يكون هناك أي شيء، ولو لم يكن هناك ثمن سنقول: إذن سنجرب، أما عندما يطلب منك الثمن مقدمًا فما الذي تريد أن تجربه؟!  لكن في النهاية نقول: الحمد لله رغم كل الذي نقوله فنحن نستبشر بهذه العاطفة التي عند الناس، ولكن نقول: إن هذه العاطفة لا نريد أن تبقى عاطفة، فإن هؤلاء الذين عندهم عاطفة لو حاربتهم في أهوائهم، لن يرضوا بك، فانظر [حتى لا] نظل في حلقة مفرغة.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

ربما يهمك أيضاً

الولاء والبراء -12
1564 ٢٧ يناير ٢٠١٦
الولاء والبراء -11
1704 ١٨ يناير ٢٠١٦
الولاء والبراء -10
2032 ١١ يناير ٢٠١٦
الولاء والبراء -9
2028 ٠٤ يناير ٢٠١٦
الولاء والبراء -8
1665 ٢٨ ديسمبر ٢٠١٥
الولاء والبراء -7
1429 ٢١ ديسمبر ٢٠١٥