الخميس، ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٨ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

(نصيحة موضوعية للتيارات الجهادية (3

إن من محاسن هذا الدين أن أحكامه جاءت متدرجة لم تنزل ولم تجيء دفعة واحدة ولكنها أتت نجومًا تتفاوت في نوعية الأحكام تبعًا لتفاوت المرحلة الزمنية

(نصيحة موضوعية للتيارات الجهادية (3
محمد إسماعيل المقدم
الثلاثاء ٢٧ يناير ٢٠١٥ - ١١:٣٨ ص
2877

نصيحة موضوعية للتيارات الجهادية (3)

د. محمد إسماعيل المقدم

سبق أن تكلمنا الأسبوع الماضي في قضية النسخ باعتبارها أحد القضايا التي يحصل فيها خلط للأوراق فيما يتعلق بقضية الجهاد وذكرنا أنه صح عن كثير من العلماء في الصدر الأول ومن المفسرين أنهم قالوا أن آية السيف نسخت كل موادعة ومسالمة قبلها. 

وبينا أنهم لا يقصدون بهذا النسخ رفع الحكم بحيث أنهم لا يجوز امتثاله بالكلية كنسخ إباحة الخمر أو نسخ الربا أو غير ذلك لكن المقصود بالنسخ معنى غير هذا المعنى وهو خلاف المعنى الاصطلاحي عند المتأخرين لمعنى النسخ لكننا لا نستطيع أن نغادر هذه النقطة قبل أن نناقش أيضًا بدعة من البدع التي اتسمت بها بعض الاتجاهات الغالية من القائلين بمرحلية الأحكام أو بدعة القول بأننا نعيش في العصر المكي.

إن من محاسن هذا الدين أن أحكامه جاءت متدرجة لم تنزل ولم تجيء دفعة واحدة ولكنها أتت نجومًا تتفاوت في نوعية الأحكام تبعًا لتفاوت المرحلة الزمنية، فغالبًا ما يأتي الحكم الشرعي الأشد متأخرًا عن الحكم الأخف كما وقع في تحريم الخمر ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا﴾ [البقرة: 219].

ثم المرحلة الثانية ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ﴾ [النساء: 43].

ثم المرحلة الثالثة قال -سبحانه وتعالى- في شأن الخمر وغيرها من المنهيات ﴿فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [المائدة: 90] أمر بالاجتناب.

فلم ينزل التحريم دفعة واحدة بل نزل متدرجًا مراعاة لأحوال الناس، فهذا التفاوت في مرحلة التشريع جاء على مرحلتين أولاهما: المرحلة المكية والثانية المرحلة المدنية، ومرد هذا التفاوت في الأحكام بين المرحلتين يرجع إلى التفاوت في الظروف التي عاشها النبي -صلى الله عليه وسلم- وصحابته الكرام في هاتين المرحلتين.

فبينما كانت المرحلة المكية مرحلة ضعف وعدم تمكن وكانت مرحلة غلبة وقهر للكفار، كانت المرحلة المدنية على العكس من ذلك مرحلة القوة والدولة والاتساع.

وقد اهتم العلماء بهذه القسمة قسمة الآيات القرآنية إلى: الآيات المكية والآيات المدنية- وهذا أحد علوم القرآن الأساسية: معرفة المكي والمدني، وهذه الدراسة داخلة في باب تاريخ التشريع الإسلامي، وبمتابعة هذا النوع من علوم القرآن يتحقق ويتحصل كثير من الفوائد:

منها: أن يتميز الناسخ عن المنسوخ، فإذا ورد حكمان أحدهما مكي والآخر مدني في موضع واحد وكانا متعارضين فإنه بمعرفة التاريخ يصار إلى القول بنسخ المتأخر للمتقدم وفقًا للقواعد الأصولية التي وضعها العلماء لدفع التعارض بين النصوص أو للحكم بقيام النسخ عند عدم إمكان الجمع بينها.

أيضًا من فوائد هاتين المرحلتين:

معرفة أساليب الدعوة إلى الله -عز وجل- وأن لكل مقام مقالًا ومراعاة مقتضى الحال بحيث يعطي الإنسانَ علمُهُ بالمكي والمدني منهجًا شرعيًا لقراءة الخطاب في الدعوة إلى الله -عز وجل- واهتمامات التربية والتهذيب وغير ذلك.

من هذه الفوائد أيضًا:

معرفة تدرج الأحكام والحكمة من التدرج في التشريع وذلك يترتب عليه الإيمان بسمو الإسلام وكماله لأنه يراعي مراتب التلقي والتدرب في تربية الأمم والشعوب.

ومهما حاولنا أن نستنبط الفوائد التي تستفاد من معرفة المكي والمدني فإننا جزمًا نقطع بأنه لا يمكن أن يكون من ثمرات معرفة المكي والمدني القول بترتيب أحكام المرحلية والتدرج على الناس.

فلا يصح أبدًا أن يأتي رجل ويقول نحن نعيش في المرحلة المكية لأننا نعيش في عهد استضعاف فلا دولة ولا سلطان ولا قوة للمسلمين إذن فنحن في المرحلة المكية فينبغي أن نتعامل مع الأحكام الشرعية تمامًا كما كانت في المرحلة المكية ونأخذ بأحكام العهد المكي فما لم يكن قد حرم في المرحلة المكية لا نحرمه فتبقى الخمر حلالًا وغير ذلك من الأحكام التي نسخت فيما بعد في المدينة!.

فهذا كلام باطل بالإجماع قطعًا لا يشك في ذلك لأن العلماء متفقون على أنه لا يجوز اعمل بالمنسوخ، ما دام حكم الله -عز وجل- وقضى بحكم نهائي نسخ بالمعنى الاصطلاحي أن يرفع الحكم المنسوخ تمامًا حتى لا يجوز امتثاله مرة ثانية- ما مضى قبله [لم يجز العمل به].

لماذا نصف موضوع المرحلة المكية والمدنية في هذا الباب بأنها بدعة؟

لعدة أسباب:

أولها: أن استنباط الأحكام الشرعية يكون من الأدلة الشرعية وفق القواعد الأصولية التي بينها العلماء في كتب أصول الفقه.

ليس من أدلة التشريع ولا من قواعد الاستنباط النظر في الزمان ومقابلته بالعهد المكي والعهد المدني ثم القياس على نظيره.

فالقياس لا يتم بالنظر إلى الزمان هل كان هذا الحكم موجودًا في المرحلة المكية ثم نحن الآن في مرحلة تشبه المرحلة المكية فنطبقه!

فالقياس لا يتمك على أساس الزمان وإنما يتم على أساس الحكم النهائي الذي صدر من الله -سبحانه وتعالى- فهذا الذي يقاس عليه عند القياس.

كذلك في العهد المكي كان الضلال يعم جميع الأرض في هذا العهد مع استضعاف جميع المسلمين وعدم تمكنهم من إعلان دينهم أما عروض الاستضعاف الذي تمر بها الدعوات التجديدية فإنها عروض محددة الزمان والمكان فلا يمكن أن تعيش البشرية كلها في ضلال لسابق الوعد من الصادق المصدوق -صلى الله عليه وسلم- أنه لا تزال طائفة من أمته -صلى الله عليه وسلم- على الحق منصورة.

فلا يمكن أن يعود هذا العهد الذي كان فيه اضطهاد شامل للدعوة بحيث لا يقدر المسلمون على الجهر بدينهم.

أيضًا العهد النبوي مكيه ومدنيه عهد تشريع ولم يكن الدين قد اكتمل بعد بل كانت تستجد مناسبات فيستجد نزول آيات وأحاديث وتحدث حوادث جديدة فتنزل بعض الآيات أو يقول النبي -صلى الله عليه وسلم- حديثًا يقرر به حكمًا من الأحكام وهذا في مرحلة نزول الوحي.

أما بعد وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- وانتقاله إلى الرفيق الأعلى فقد كمل الدين وانسد تمامًا باب التشريع ولم يبق هناك مجال لتحليل أو تحريم إلا على أساس النصوص أو استنباطًا من النصوص كما هو معلوم.

ونحن نحتاج إلى هذا التنبيه لأن بعض الناس قد يتصور من الكلام في الأسبوع الماضي إذا لم ينتبهوا جيدًا يتصورون أننا نقول بموضوع المرحلة المكية!

لا، هذا نسميه بدعة وضلالة ولا يجوز بحال من الأحوال أن بموضوع المرحلية في التشريع ونقيس زماننا على الزمن المكي فنطبق أحكام العهد المكي حتى ولو كانت منسوخة.

أما مراحل الجهاد فقلنا أنها منسوخة لكن ليس بمعنى النسخ الذي هو رفع الحكم بحيث لا يجوز امتثاله بالكلية وإنما قلنا أن هذا الاصطلاح عند السلف يراد به معانٍ عدة: كالبيان بعد الإجمال، التخصيص بعد التعميم، الإبهام بعد الإيهام الذي قد يفهم من بعض النصوص كما بينا في الأسبوع الماضي.

قد تمر بالمسلمين حالات ضعف وعدم قدرة على الجهاد في زمن من الأزمان أو بلد من البلدان كأن يكون مثلًا عدد المسلمين يسيرًا في مقابل الكفار ولا سلطان لهم فيعذرون بترك الجهاد مؤقتًا ويؤمرون بالاستعداد وأخذ الأهبة حتى تتحقق لهم القدرة ومأخذ الحكم هنا  ﴿فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾

ففي كل مرحلة تستطيع الأمة شيئًا لا تستطيعه في المرحلة الأخرى فحسب أحوال الأمة يختلف الحكم بوجود هذه المرحلة أو تلك.

كذلك مأخذ هذا  الحكم المتعلق بتفاوت قدرة الأمة على الجهاد قوله تبارك وتعالى ﴿لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ [البقرة: 286] فالقاعدة الشرعية المقررة أنه لا تكليف بما لا يطاق.

فمأخذ الحكم هنا في قضية الجهاد هنا بالذات ليس في موضوع العهد المكي أو العهد المدني كما ذكرنا أن هذا ليس موضوعه النسخ الاصطلاحي لكن مأخذه هنا قوله تعالى ﴿فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ وقوله ﴿لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ [البقرة: 286]         

ولو فتحنا باب الكلام في المرحلية بمعنى أننا نبحث في الزمن وننظر بأوضاعنا الشبيهة بالمرحلة المكية إذن سنأخذ أحكام المرحلة المكية.

لو فتح هذا الباب سيفتح بابًا عظيمًا جدًا من الفساد العريض وهذا لا يقول به إلا مارق من الدين لأنه سيترتب على الكلام بمرحلية الأحكام تضييع فرائض من الدين يعد تركها كفرًا بالله -عز وجل- فيكفي أن يعلم أن الصلاة لم تفرض إلا في أواخر العهد المكي وكذلك الصيام لم يفرض إلا في السنة الثانية من الهجرة، الحج والزكاة وسائر فرائض الدين لم تنزل إلا في العهد المدني.

فلو أخذ بهذه المرحلية وجعلت أصلًا من أصول الإسلام لكان من أول مقتضياتها تضييع هذه الفرائض والقول بعدم وجوبها، فالصلاة والصيام والزكاة كلها غير واجبة لأننا في العهد المكي وهلم جرًا لينفتح باب خطير جدًا من الفساد العريض في الأرض.

من ذلك أيضًا أنه سيحصل ارتكاب كثير من الحرمات المقطوع بحرمتها واستحلال هذه المحرمات بسبب الأخذ بموضوع بالمرحلية الزمنية في الأحكام، فمثلًا الخمر لم ترحم تحريمًا قاطعًا إلا في المدينة ولو قلنا بموضوع المرحلية لشرب الناس الخمر لأنهم مازالوا في المرحلة المكية ولم تكن قد نسخت الخمر!.

ولا يصح أبدًا أن يجعل موضوع المرحلية بهذا المفهوم طريقًا وأصلًا من أصول الأحكام لأن الأحكام الشرعية ليست نتاج رأي بشري أو عقل بشري بل كل أصل من أصول الأحكام الشرعية مقرر بكثير من الدلائل.

وقد وقع انحراف من بعض الناس في هذا العصر في موضوع المرحلية وبالذات الاتجاهات الغالية التي أسست فكرها على فكر الخوارج فوجد من قال بموضوع مرحلية الأحكام فقالوا وهذا نص كلامهم-:

«من العقيدة أن يؤخذ الدين على صورته التي نزلت على النبي -صلى الله عليه وسلم- فنأخذ الأحكام على مراحل كما كان متبعًا في أول الإسلام وهو البدء بما نزل في مكة بالنسبة لعهد الاستضعاف الذي نعيش فيه حاليًا.

فإذا تمكنت الجماعة من الوصول إلى السلطة وحكمت بالإسلام أخذت بما نزل في المدينة لأنها في عهد التمكين أما العصر الذي نعيش فيه فهو عصر استضعاف».

هذا القول كله مبني على أصل مهم عندهم وهو القول بتكفير المجتمع وأن هؤلاء الناس الذين يعيشون في وسطهم كفار فلما قالوا بتكفيرهم وبدؤوا بهذا الأصل الذي ابتدعوه واخترعوه من أن الأصل في كل الناس في بلادنا أنهم كفار  مشركون وأن أهل الكتاب أفضل منهم كما كانوا يصرحون أحيانًا!.

فبناء على هذا الأصل واجهتهم مشكلة خطيرة وهي أنه إذا كان الناس في هذا المجتمع كفار فكيف ينبغي أن يتعاملوا مع مجتمع الكفار فجعلوا هذه المرحلية هي المفزع الذي يلجئون إليه ويخرجون به من هذا المأزق الذي وقعوا فيه ولذلك اضطروا أن يفصلوا موضوع المرحلية بطريقة لا تحتمل اللبس.

فيمكن أن يفهم بعض الناس من العبارة التي نقلناها عنهم أنهم يقصدون المرحلية في الجهاد بالذات التي نوافقهم فيها كما بينا هذه المسألة آنفًا.

لكنهم اضطروا بعد ذلك أن يوضحوا هذا الأمر أكثر حتى يواجهوا هذه المشكلة: إذا كان المجتمع كافرًا فكيف نتعامل مع هذا المجتمع الكافر؟!

ففرخت لهم هذه البدعة ما يأتي من الأحكام:

أولًا: قالوا: «يجوز الزواج بالكافرات!» في زعمهم.

أي يكون أحدهم متزوجًا من امرأة يكفرها وهذا حاصل ومعروف فيبقى معها وهي مشركة في نظره لا يهودية ولا نصرانية وكان المفروض كما في الآية ﴿وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ﴾ [الممتحنة: 10]

فيقول: لا، هذه مرحلة متأخرة ونحن الآن في هذه المرحلة المكية فيجوز لنا أن نمسك بعصم الكوافر فتبقى معه زوجته الكافرة بحجة أننا في حالة استضعاف فتطبق أحكام المرحلة المكية.

كذلك سيعانون في قضية اللحوم والذبائح إذ كيف يأكلون ذبائح الكفار؟! فاضطروا  أيضًا أن يفرعوا على هذا أنه يجوز أكل ذبائح الكافرين.

من ذلك أيضًا أن هذه بلاد كفار وأنهم في بلاد كفار فلا تجوز الصلاة صلاة الجمعة ولا صلاة الجماعة- فيهجرون المساجد ويهجرون صلا الجمعة والعيدين لأن هؤلاء كفار وهم لا يشاركون الكفار في أعيادهم وسبق أن ناقشنا هذا الكلام بالتفصيل الكبير في بحث «الكفر والإيمان» وذكرنا أنهم يسمون المساجد «معابد الجاهلية!» فهذه معابد يعبد فيها أهل الجاهلية غير الله -سبحانه وتعالى-!.

أيضًا مما قالوه: في هذه المرحلة نكف الأيدي ونتوقف عن الجهاد.

وهذا بلا شك فيه شيء من الحق لكن بينا مأخذ هذا الحكم.

فالجواب كما بينا آنفًا أن هذه المرحلية ليست من أصول التشريع الإسلامي وليست من طرق استنباط الأحكام من أدلتها.

ولو سلمنا أن المرحلية يمكن أن تكون مستندًا للتشريع فهذا إنما يطبق عند وقوع الاستضعاف مثل ما كان في العهد المكي، ولا يصح أن يطبق العهد المكي على أحوالنا الآن لاختلاف حال مجتمعاتنا عن هذا الحال.

فالمجتمع المكي كان مجتمعًا جاهليًا كافرًا أما المجتمعات التي طبقوا عليها هذه الأحكام فهي مجتمعات مسلم غير كافرة ما زال الأصل في الناس هو الإسلام.

كذلك الاستضعاف الذي كان موجودًا في العهد المكي كان مانعًا من أداء الطاعات حتى العبادات الفردية ما كان يستطيع أن يؤديها فكان مجرد الجهر بالقرآن فقط أمرًا صعبًا للغاية ومؤديًا إلى الإيذاء.

والواقع الذي نحن فيه لا يطابق العهد المكي من كل هذه الوجوه، فخلاصة الكلام أن ما ذكرناه في قضية الجهاد لا علاقة له بالنسخ وبينا الأساس والمأخذ الذي يبنى عليه هذا الكلام، أما الأحكام التي نسخت فلا يجوز العمل بها بحجة أننا في المرحلة المكية وأرجو أن يكون الأمر اتضح بهذه وكان لا بد لنا من هذا التنبيه.

الآن ندلف إلى نقطة أخرى ونعود إلى الموضوع الأساسي وهو موضوع الجهاد، وذكرنا في الأسبوع الماضي أن الجهاد لا يختلف عليه اثنان من المسلمين وكنا نود أن نفصل لأن قضية الجهاد قضية حيوية جدًا يكفي أن يصفه الرسول -صلى الله عليه وسلم-: بأنه ذروة سنام الإسلام يعني أعلى مراحل الإسلام هي الجهاد في سبيل الله تبارك وتعالى.

وما من شك أن الخلط في الأوراق - الذي ذكرنا حاله من قبل- أدى إلى خوف الناس من كلمة الجهاد حتى حصل عندهم نوع من الرعب منها أو سوء فهمها فنحتاج إلى أن نتكلم بالتفصيل عن:

أهداف الجهاد وغاياته- هل انتشر الإسلام بالسيف؟- ما هي أحكام الجهاد مع الكفار؟ وغير ذلك.

فهذا سنرجئه قليلًا حتى نركز على الموضوع الذي نتناوله الآن حتى لا نضل الطريق في التفريعات والتشعيب.

لكننا ذكرنا من قبل أن الاختلاف الآن في تسمية بعد التصرفات جهادًا لأننا إذا أطلقنا اسم الجهاد على هذه التصرفات ترتب عليها من الأحكام ما يصادم الشرع.

وكما ذكرنا من قبل أن التاريخ الإسلامي لم يشهد قتالًا دون تمايز الصفوف وانحياز أهل الإسلام إلى إمامهم وإلى علمهم وسنزيد الأمر وضوحًا بعد في الكلام على الدعوة قبل القتال وغير ذلك من الأحكام لأن الجهاد تقوم به أمة بكاملها وليس أفرادًا بهذه الصورة التي يقولها بعض الناس.

أيضًا أشرنا إلى موضوع التسمية وخطورة التلبيس في موضوع التسمية على مفاهيم الناس في هذا الباب.

ذكرنا ابتدءًا أنه لا يجوز بحال من الأحوال ذم الجهاد بل هو محمود في كل أحواله والجهاد ثابت كما هو معروف في القرآن والسنة وإجماع العلماء فكونك تسمي المعاني الشرعية بألفاظ منفرة أو انتقاص أو فيها ازدراء فهذا بلا شك يخدش الإيمان فتسمية القوة بالعنف والله -عز وجل- يقول ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ﴾ فالقوة يسمونها عنفًا حتى ينفروا الناس منها.

كذلك تسمية الالتزام بالدين أو الدعوة إلى الدين بالإرهاب فهذا أيضًا مما لا يجوز، وإن كان هناك نوع من الإرهاب تمارسه كل دول العالم فكل دولة تقوي نفسها حتى ترهب أعداءها كي لا يطمعوا فيها، لماذا تقوم الدولة بمناورات عسكرية بين الوقت والآخر؟ حتى تذكر مثلًا أننا مستعدون لصد أي عدوان، وكل دولة تفعل ذلك، فماذا المسلمون بالذات حينما يمتثلون قوله تبارك وتعالى ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآَخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ﴾ الآية [الأنفال: 60].

فالإرهاب لأعداء الله وأعداء الدين أما أن يطلق على الأحكام الشرعية «الإرهاب» فهذا بلا شك لا يصدر إلا من المنافقين الذين في قلوبهم مرض والذين نعرفهم في مثل هذه الصيغ من لحن القول ﴿وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ﴾ [محمد: 30]

فإطلاق اسم الجهاد على الأعمال التي تنسب أحيانًا إلى الجماعات الإسلامية فيه نظر كما أشرنا لأن الجهاد محمود على كل حال وهو عند الإطلاق ينصرف إلى قتال الكفار لإعلاء كلمة الله -عز وجل- والمعاونة على ذلك.

بينما استعمال القوة في الخروج على الحكام مذموم في بعض الأحوال وليس محمودًا على الإطلاق، فقد يمدح في بعض الأحوال ويذم في الأحوال الأخرى كما سنبين إن شاء الله تعالى.

فهذه الأعمال إذا أردنا توصيفها وتكييفها فقهيًا فهي أقرب ما تكون لقضية الخروج على الحاكم وليس قضية الجهاد وبينهما فرق كبير.

وكلم «الخروج على الحاكم» لا يعبر عنها كل العلماء بنفس المصطلح فكلمة الخروج يعبرون عنها بعبارات أخرى فأحيانًا يعبرون عنها بالسيف كما يقو الإمام الطحاوي مثلًا «ولا نرى السيف على أحد من أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- إلا من وجب عليه السيف».

أو كما يقول الأشعري: «اختلف الناس في السيف على أربعة أقاويل» فالمقصود بكلمة السيف الخروج بالقوة على الحاكم.

وأحيانًا يعبرون عنها بكلمة أخرى هي: «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» فنقول مثلًا: «بنى المعتزلة مذهبهم على خمسة أصول: التوحيد والمنزلة بين المنزلتين وكذا وكذا ثم يقولون في النهاية: والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» والمقصود به بالذات هنا الخروج على الحاكم بالقوة فهم يوجبونه وهذه من المسائل التي يخالفهم فيها عامة أهل السنة كما سنبينه إن شاء الله فيما بعد.

فهذا الخروج كما ذكرنا ليس له حكم واحد بل يختلف بحس من يُخرج عليه وبحسب قصد الخارج فلا يسمى جهادًا بل هو خروج وقتال، ولا ينبغي التسامح والتساهل في إطلاق هذه التسميات لأنه إذا قيل: «جهاد» نزلت عليه على النصوص الواردة في الجهاد وترتبت على تسميته أحكام الجهاد وهذا خطأ فاحش.

وسبق أن ذكرنا من قبل أننا إذا تأملنا القرآن الكريم وجدنا أن الله -سبحانه وتعالى- لم يسم أي حرب دائرة بين مسلمين ومسلمين جهادًا ولا تجد القرآن يعبر عن القتال بين طائفتين من المسلمين بأنه جهاد إنما يعبر عن بأنه قتال يقول تبارك وتعالى ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ لم: تجاهدوا وإنما ﴿اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى﴾  ﴿فَقَاتِلُوا﴾ ولم يقل: فجاهدوا ﴿ فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ﴾ ﴾ [الحجرات: 9].

فسمى الإصلاح بينهما - الذي قد يصل إلى حد سل السيوف لتأديب الفئة الباغية- قتالًا مع أنه محمود لكن سماه قتالًا، ولذلك كما أشرنا من قبل أن قتال الفئة الباغية له أحكام تفترق تمامًا عن أحكام الجهاد ويذكرها الفقهاء في باب مستقل.

نزيد هذا الأمر وضوحًا فنقول:

إن الجهاد عند الإطلاق شرعًا تنصرف إلى قتال الكفار لنصرة الإسلام وإعلاء كلمة الله  كما في حديث عمرو بن عبسة -رضي الله عنه- قال: «قال رجل: «يا رسول الله ما الإسلام؟» وفيه أنه قال: «فأي الإيمان أفضل؟» قال: «الهجرة» قال: «فما الهجرة؟» قال: «تهجر السوء» قال: «فأي الهجرة أفضل؟» قال: «الجهاد» قال: «وما الجهاد؟» قال: «أن تقاتل الكفار إذا لقيتهم» قال: «فأي الجهاد أفضل؟» قال: «من عقر جواده وأهريق دمه».

وقد يطلق الجهاد في النصوص الشرعية على غير قتال الكفار لكن لا يكون على الإطلاق - أي: ليس هو الجهاد الاصطلاحي-.

كقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «المجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه».

كذلك قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لذلك الرجل الذي استأذنه في الجهاد: «أحي والداك؟» قال: «نعم» قال: «ففيهما فجاهد» رواه البخاري. فسمى بر الوالدين جهادًا.

لكن لفظ الجهاد إذا أطلق فالمارد به قتال الكفار لإعلاء كلمة الله ولا ينصرف إلى غير قتال الكفار إلا بقرينة تدل على المراد كما في الحديثين السابقين.

يقول الإمام ابن رشد : تعالى: «وجهاد السيف قتال المشركين على فكل من أتعب نفسه في ذات الله فقد جاهد في سبيل الله إلا أن الجهاد في سبيل الله إذا أطلق فلا يقع بإطلاقه إلا على مجاهدة الكفار بالسيف حتى يدخلوا في الإسلام أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون».

مما يدل على أن الجهاد إذا أطلق ينصرف إلى قتال الكفار أيضًا:

حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: «جاء رجل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «فقال: «دلني على عمل يعد الجهاد؟» قال: «لا أجده» قال: «هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تدخل مسجدك فتقوم ولا تفتر وتصوم ولا تفطر؟» قال: «ومن يستطيع ذلك؟!» قال أبو هريرة: «إن فرس المجاهد ليستن في طُوَلِهِ فيكتب له حسنات».

والطول: هو حبل تشد به قائمة الدابة وتمسكها طرفها وترسلها ترعى في الطرف الآخر.

فهذا الحديث دليل واضح على أن المراد بالجهاد إذا أطلق جهاد الكفار لا مجاهدة النفس لأن الصيام والقيام هو من جهاد النفس ومع هذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «لا أجد ما يعدل الجهاد» فهو هنا أراد المعنى الاصطلاحي للجهاد.

أيضًا عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: « قيل: «يا رسول الله أي الناس أفضل؟» فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «مؤمن يجاهد في سبيل الله بنفسه وماله»  قالوا: «ثم من؟» قال: «مؤمن في شعب من الشعاب يتقي الله ويدع الناس من شره». رواه البخاري.

فالمؤمن الذي يعتزل في الشعاب مجاهد لنفسه ومع هذا ذكره قسيمًا للمجاهد بنفسه وماله فدل على أن الجهاد إذا أطلق انصرف إلى قتال الكفار.

من ذلك أيضًا حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-  أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «من آمن بالله وبرسوله وأقام الصلاة وصام رمضان كان حقا على الله أن يدخله الجنة جاهد في سبيل الله أو جلس في أرضه التي ولد فيها»  فقالوا: «يا رسول الله أفلا نبشر الناس؟» قال: «إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض» رواه البخاري.

نلاحظ أنه -صلى الله عليه وسلم- سمى من جلس في أرضه غير مجاهد مع أنه يجاهد نفسه على الصلاة والصيام وغير ذلك من التكاليف الشرعية، فكل آية وكل حديث ورد فيه فضل الجهاد فالمراد به هذا النوع من الجهاد جهاد الكفار لإعلاء كلمة الله تبارك وتعالى ولا تحمل على جهاد النفس.

كذلك علماء الإسلام من المحدثين والفقهاء إذا بوبوا في كتبهم للجهاد فالمراد به جهاد الكفار القتالي لا مجاهدة النفس، فإذا فتحت كتاب الجهاد في أي كتاب من كتب الفقه أو الحديث فلن تجد فيه إلا الجهاد بمعنى قتال الكفار.

ثم نذكر نماذج في أخطاء الناس في إطلاق الجهاد على غير مسماه الشرعي:

أول ذلك: ما يقع من الصوفية فإن جهاد النفس عند الصوفية أكبر على الإطلاق من جهاد الأعداء استنادًا إلى الحديث الضعيف: «قدمتم خير مقدم،  وقدمتم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر».

ومعروف أن هذا الحديث فيه يحيى بن العلاء قال ابن حجر: «رمي بالوضع» وقال الدارقطني: «متروك» وقال أحمد: «كذاب يضع الحديث».

فبنى الصوفية كلامهم على هذا الحديث وإن كان للحديث - لو صح- معنى شرعي صحيح وسليم فإن الإنسان لا يخرج إلى الجهاد في سبيل الله إلا إذا جاهد نفسه على أن يفارق أهله ووطنه وماله فهناك تلازم بين نوعي الجهاد.

لكن الصوفية يستدلون به على إبطال الجهاد الشرعي وقصر الجهاد بكل شعبه على الاجتهاد في الأذكار والأدعية والأوراد ونحو ذلك.   

 ولهم مغالطات كعادتهم في تزيين الباطل بإظهاره في لبوس الحق ببعض العبارات المنمقة كقولهم: إن من يموت من شدة الاجتهاد في العبادة وهو يعبد الله في المحراب أفضل ممن يقتل في سبيل الله -سبحانه وتعالى- في الجهاد، وعبارتهم في ذلك: «شهيد المحراب أفضل من شهيد القتال، هذا قتيل العدو وذاك قتيل الحبيب».

فيعتبرون أن تصفية الباطن أكبر وأعظم من تصفية الأرض وتطهيرها من الشرك وأهله، لكن إن قلنا: إن تصفية الباطن وسيلة إلى تصفية الأرض من الشرك وأهله فنعم يقبل هذا المعنى لكن لا يحل الوقوف عند الوسيلة دائمًا وأبدًا.

فلو تخيلت إنسانًا يتوضأ كلما فرغ من الوضوء شرع في وضوء جديد وهكذا حتى تفوته الفريضة فيكون قد وقف عند الوسيلة التي هي شرط للعبادة التي تأتي بعدها فهو يتوضأ لأجل أن يصلي ثم ينشغل به حتى يضيع الصلاة فهذا ليس من الفقه.

فكون الصوفية يركزون على تصفية الباطن على حساب الجهاد الشرعي الصحيح فهذا بلا شك من المؤاخذات الكبيرة فمن فهم أن الجهاد الأكبر هو جهاد النفس بالمعنى الصوفي وزعم أنه كيف يتشوق الأصغر ويسعى إليه مع أنه قائم بالجهاد الأكبر؟! فهذا له حظ وافر من قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «من مات ولم يغز ولم يحدث به نفسه مات على شعبة من نفاق» فهذا التصرف سماه النبي -صلى الله عليه وسلم- شعبة من نفاق.    

من النماذج الأخرى في موضوع محاولة إخضاع نصوص الجهاد لاصطلاح طارئ ومحدث:

ما يحصل من إخواننا في جماعة التبليغ فهم مع همتهم ونشاطهم في الدعوة إلى الله -سبحانه وتعالى-  فإنهم لا يقنعون - حين يرغبون الناس في هذا النشاط- بأن يستدلوا بالنصوص الدالة على فضيلة الدعوة إلى الله -عز وجل- حتى يضموا إليها النصوص الواردة في فضل الجهاد والخروج في سبيل الله تبارك وتعالى حتى ساووا بين الأمرين فصار الخروج المتعارف عليه عندهم هو الخروج للجهاد الوارد في مثل قوله تبارك وتعالى ﴿إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي﴾ [الممتحنة:1]

ومثل قوله تبارك وتعالى ﴿وَسَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ﴾ [التوبة: 42]  وقوله ﴿لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا﴾ [التوبة: 47]  وقوله تبارك وتعالى ﴿فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا﴾ [التوبة: 83] 

وقوله ﴿انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا﴾ [التوبة: 41] حتى حملوا عليه قوله تعالى ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ [آل عمران: 110]  «أخرجت» بهذه الكيفية المعروفة عليه عندهم.

فما من شك أن الخروج للدعوة نوع من الإيجابية لكن نحن الآن نناقش موضوع خلط الأوراق والتلبيس لأنه أحيانًا يأتي منهم ناس يقيم الحجة على مخالفيه بأنه منافق أو نقص عن واجب الدعوة ويستدل بالآيات التي في الجهاد ويحمل نصوص الخروج  في القرآن على هذا الخروج الاصطلاحي الطارئ عندهم فهذا بلا شك يحدث بسببه تشويه لمفهوم ولمعاني الجهاد.

كذلك حصر سبيل إصلاح المسلمين في الخروج المصطلح عليه عند التبليغيين وبالتالي انتقاص من لم يشاركهم فهم ولم يخرج معهم وازدراء عمله ولو كان أعلى العلماء قدرًا بناء على أن الصحابة خرجوا للدعوة لا للقتال ولذلك يبدؤون الكفار بالدعوة كما أنهم يقولون أن الدعوة وسيلة لإعادة الجهاد والوسائل لها حكم المقاصد.

أنموذج آخر وهو الأنموذج الذي نناقشه الآن وهو استعمال التيارات الجهادية لاصطلاح الجهاد في هذا الباب أيضًا ولسنا نعني حينما نقول التيارات الجهادية التي تطلق كلمة الجهاد على بعض المسالك الخاصة التي تحصل لا نعني بذلك أي جماعة تجاهد جهادًا شرعيًا كما كان الحال في مرحلة من المراحل في بلاد الأفغان في أفغانستان وكان هناك كيان متميز وجيش وراية على ما كان في الأمر من عيوب ومشاكل فكان المسلمون يواجهون كفارًا ملاحدة شيوعيين فكان هناك تميز في الراية والأمة بسائرها من خلفهم تؤيدهم.

كذلك جهاد المسلمين في البوسنة والهرسك مع ضعفه وضآلته لكنه كان جهادًا شرعيًا بلا شك فجهد الدفاع من فروض الأعيان في هذه الحالة.

لكننا نعني بما نتكلم فيه الآن هذه الجماعات الناشئة في بعض البلاد والتي تجتهد في سلوك مسالك معينة تختلف فيها الأنظار وترمي إلى الخروج على الحاكم فمن المغالطة البينة ومن خلط الأوراق إطلاق اسم الجهاد بمعناه الشرعي خاصة وأن سلوك هذه الجماعات يترتب عليه في الغالب بعض الآثار السلبية على ساحة الدعوة، فخلع وصف الجهاد على هذه المسالك وهذه التصرفات يترتب عليه مسالك غير حميدة.

وكما أشرنا من قبل أن موضوع العواطف ليس له وزن في هذا الأمر، كذلك أيضًا المصالح العاجلة لا ينبغي لها أن يكون لها هذا الوزن الذي يحصل عند الناس، فالناس ينظرون أحيانًا إلى بعض الأشياء كأنهم يشاهدون مسرحية أو مباراة ويشجعون فريقًا وهذا كل شيء!

كما حدث أثناء حرب الخليج حيث حدث تصعيد لمشاعر المسلمين بطريقة بحيث صار من المسلمين من يقول خلصونا من صدام ودمروا العراق وأريحونا! فحصل نوع من الانطباع والتهيئة النفسية بأن يندفع الإنسان بعاطفته المستثارة نحو شيء فيه حتفه وهلاكه.

كذلك فيما يتعلق بهذه الأشياء نحن لا ننظر إلى العواقب العاجلة التي تثير الإعجاب أحيانًا فلا ينظر الإنسان في العواقب العاجلة وإنما ينظر في مرمى أعمق وأبعد من ذلك.

من هذه الآثار:

تسويغ المخالفات الشرعية الجسيمة مثل إراقة دماء المسلمين وبعض الناس قد يقول نحن نحارب حكومة لا تحكم بالإسلام وتحارب الدعوة وكذا وكذا فنقول: في هذا القتال تحصل إراقة دماء محرمة يقينًا إلا إذا كنت تكفر الناس فتكون قد ضللت ضلالًا جديدًا، أنت تكفر الجنود والعساكر فهذه مصيبة كبرى لا يشعر بها الإنسان نتيجة الجهل، فهو يقاتل المسلمين وفي سبيل مصلحة موهومة أو قليلة أو مغمورة في جانب المفاسد التي تقع، كمثال بعض الحوادث التي وقعت أخيرًا وقتل فيها حوالي اثنا عشر مدنيًا من الذي سيسأل أمام الله -سبحانه وتعالى- عن دماء هؤلاء الأبرياء؟ هل هذه الدماء كصبابة ماء يتصابها أحدنا؟! أم أن هذه الدماء لها حرمة عند الله -سبحانه وتعالى-؟!

إن من أعظم الحرمات عند الله -عز وجل- دماء المسلم وهي محرمة بيقين فما ينبغي أن تستحل هذه الدماء إلا بيقين فلا بد أن تكون لديكم بصيرة ولا تستفزنكم العواطف لكن تبصر.

قلنا من قبل نحن في دار ابتلاء والآخرة هي دار البصير فلا بد أن تبذل أقصى ما تستطيع كي تكون على بصيرة من كل خطوة تسلكها وكما ذكرنا من قبل ليس كل ما يصلح غيرنا يصلح مع نحن وضربنا لذلك مثالًا وهو مثال الإضراب عن الطعام نعم هذا مسلك من المسالك لتحصيل بعض المصالح عند غير المسلمين لكن هل هذا مسالك شرعي؟! أن يضرب الإنسان عن الطعام حتى يموت أو حتى تتضرر صحته!

إذن ينبغي التبصر قبل أن تمشي وأن تكون على يقين لأنك إذا توقفت عن الاندفاع حتى تحصل العلم الذي يجعلك على بصيرة أهون من أن تندفع وتتهور في شيء لا تستطيع أن تستدركه فقد يفعل الإنسان فعلًا يظن أنه سينغمس به في الجنة في طرفة عين وما يدريك فقد تنغمس في النار؟!.

فلا بد أن تكون على بصيرة فنحن الآن في دار ابتلاء وامتحان خاصة في زمن الفتن الذي نعيشه الآن أما الآخرة فهي دار ظهور النتائج كما قال بعض السلف أظنه ابن مسعود-: «أنتم في زمان خيركم فيه المتعجل المسارع في الأمور وسيأتي عليكم زمان خيركم فيه المتثبت المتوقف لكثرة الشبهات».

فإراقة دم المسلم وهذا سنفصل فيه فيما بعد إن شاء الله- أمر خطير جدًا فيسمون هذا جهادًا ويأتون بأحكام الجهاد ويطبقونها تطبيقًا عجيبًا جدًا على هذا الواقع فإذا قلت له : «دماء المسلمين» فيقول لك: «يبعثون على نياتهم» الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال: «يغزو جيش الكعبة حتى إذا كانوا ببيداء من الأرض خسف بأولهم وبآخرهم» ثم لما سئل أن في هذا الجيش عابر السبيل والمكره فقال: «يهلكون مهلكًا واحدًا ويصدرون مصادر شتى» أي: يبعثون على نياتهم.

نعم ، لكن هل تأكدت أنت هذا العقاب عقاب إلهي؟! أي: يدخل في الأفعال الكونية القدرية ولا يدخل في الأفعال الشرعية الإرادية فهذا فعل الله، من الذي يخسف؟ الله -سبحانه وتعالى-، ولأن البيلة تعم عندما تأتي ﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً﴾ [الأنفال: 25].   

كذلك إذا قلت: دماء المسلمين وما ينبغي أن تراق بهذه السهولة وهذه البساطة فيحتج عليك بموضوع التترس ومسألة التترس تختلف تمامًا عن الواقع الذي نحن فيه الآن، فالتترس عبارة عن مواجهة جيش الكفار لجيش المسلمين وعند الكفار بعض الأسرى من المسلمين فإذا لم يبادئهم المسلمون بالقتال فسيهجم عليهم هؤلاء المشركون ويصطلموهم تمامًا ويبيدوهم.

فيتترس الكفار بالمسلمين أي: يضعونهم كترس ودرع ووقاء بشري بحيث إذا رمى المسلمون سهامهم أو رماحهم أصابوا إخوانهم الأسرى فهذه هي مسألة التترس.

فقال العلماء: أنه إذا خشي على المسلمين أن يصطلموا وأن يبادوا إبادة كاملة في مثل هذه الحالة جاز لهم قتل الترس في سبيل المحافظة على الأمة الإسلامية أو الكيان الإسلامي كله.

هل الوضع الذي نحن فيه الآن هو مسألة التترس هذه؟! هل هو نفس الوضع؟! الوضع مختلف تمامًا وسنزيد ذلك تفصيلًا إن شاء الله وننقل كلام العلماء فيه.

الشاهد أن إطلاق كلمة الجهاد تجعلنا نغض النظر ولا نلتفت إلى هذه المخالفات الشرعية الجسيمة، لأن اسمه جهاد فهل ينكر أحد الجهاد أو أن يطعن فيه والله -سبحانه وتعالى- ورسوله -صلى الله عليه وسلم- يأمران بالجهاد؟!.

فهذه هي خطورة الأمر لأنه ليس كلامًا فقط بل يترتب عليه آثار خطيرة جدًا كما ذكرنا موضوع التسمية في حد ذاتها:

أول هذه المخاطر:

تسويغ المخالفات الشرعية كإراقة الدم الحرام باسم الجهاد.       

ثانيًا: تأثيم من يخالفونهم في هذه القناعة ووصفهم بأنهم ينكصون عن الجهاد وأنهم من الخوالف إلى آخره.

ثالثًا: ازدراء سائر الوظائف الدعوية كطلب العلم والدعوة وغير ذلك والنظر إليها بعين الحقارة والازدراء، وهذا معروف في كثير ممن يسلكون هذه المسالك اشتهر بعضهم  باحتقار العلماء وسبهم والطعن فيهم وهذه من أعظم وأخطر المسالك في أي كيان أن يبنى على سب العلماء واحتقارهم وازدرائهم وسوء الظن بهم وإطلاق الألسنة فيهم.

أيضًا من خلط الأوراق الذي يترتب عليه كثير من العناء في الواقع الذي نعيشه ما يتعلق بحكم الديار، أن بلادنا هذه بلاد كفار أو ديار كفار وسحب.

وسأنقل لكم كلامًا لثلاثة من الباحثين في هذا المجال، قد يحصل اختلاف مع بعضهم في بعض القضايا الجزئية أو التعبيرات الشديدة ولكن لن يخلو الكلام من فائدة:

أول هذه النماذج يقول بعض الباحثين وهو يناقش بعض المشاكل التي تعاني منها الدعوة في هذا الزمان فيقول تحت عنوان: «مشكلات الدعوة»:

«ليس في للدعوة إلى الإسلام بحد ذاتها مشكلات، وإنما تنبع المشكلات من جهل من قد يمارس الدعوة إلى الإسلام، يدعو الناس إليه دون أن يتبصر بأحكامه، مكتفيًا بالاعتماد على صدق عواطفه ومحبته للإسلام، وإذا اكتفى المسلم في الدعوة إلى الإسلام بالعواطف التي يعتز بها بعيدًا عن الاهتمام بدقائق علومه وأحكامه طبقًا لما دلت عليه نصوص القرآن والسنة الصحيحة ولما اتفق عليه أئمة المسلمين وسلفنا الصالح رضوان الله تعالى عليهم فإن عواطفه ستنأى به عن كثير من حقائق الإسلام وأحكامه التي تضمنها كتاب الله أو أرشدتها إليه سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- أو اقتبسها منهما أو من أحدهما السلف الصالح من أئمة المسلمين اجتهادًا فتلاقت كلمتهم عليه، إذ العواطف ما لم تلجم بلجام العلم وقواعده ستتحول إلى سلاح بيد النفس وغوائلها، سواء أعلم صاحب هذه العواطف ذلك أو لم يعلم.

ومن هنا ينبع ما نسميه مشكلات الدعوة وهي تتفاوت في السوء والخطورة حسب سوء نتائجها وآثارها.

فأخطرها تلك التي تأتي بنقيض ما يتوخاه الداعي من سعيه وعمله، أي تأتي بنتيجة هي أنها تزيد الناس بعدًا عن الإسلام وضيقًا به إذ تثير في نفوسهم صورًا وأخيلة باطلة عنه فيحكمون عليه من خلال تلك الصور التي ثبتت أو نبتت في أذهانهم من أخطاء أولئك الدعاة».

ثم عرض مشكلة التكفير، ثم ثنى بالكلام على مشكلة أو مسألة دار الكفر ودار الإسلام يقول: «وهي أيضًا تنبثق عن السبب ذاته - سبب الجهل بأحكام الشريعة الإسلامية- ثم ترك النفس على سجيتها في أن تتصور ما تشاء على النحو الذي تريد، ثم إطلاق الأحكام الخطيرة باسم الإسلام وشرعه على بلاد الله -عز وجل- والحكم على جميعها أو أكثرها بأنها دور كفر أو حرب، فما هي حقيقة الحكم الشرعي في هذه المسألة؟

يجب أن تعلم قبل كل شيء السبب الذي دعا أئمة الشريعة الإسلامية إلى تصنيف البلاد كلها إلى قسمين أو ثلاثة أقسام».

أي أن تقسيم العالم إلى دار حرب ودار إسلام أو دار كفر ودار إسلام لا يعنينا نحن سواء القائمين بالدعوة أو المدعوين- لأن هذه من قضايا السياسة الشرعية التي مرجعها إلى أهل الحل والعقد أو الإمام المسلم الذي يحكم الدولة الإسلامية فهي من باب: «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه».

فهذه لا تخص نحن تمامًا كقضايا تكفير الأعيان فتكفير العين إلى القاضي الشرعي أما نحن فنكفر النوع فقط لأن القاضي هو الذي بأتي بالشخص فيسأله: ماذا قلت؟ وعندك ماذا من الأعذار؟ ويحقق معه ويطبق عليه حكم الله إن ثبتت عليه ردة وغير ذلك.

فنحن لا نسأل أمام الله عن هذه الأشياء لأنها لا تدخل في اختصاصنا فليست مما يعنينا الآن، وموضوع دار الحرب ودار الإسلام من قضايا السياسة الشرعية وليست مجالًا مفتوحًا لكل الناس يدلي فيه بدلوه.

يقول: «إن السبب في ذلك» يعني: السبب في إحداث العلماء لهذا الاصطلاح لأن كلمة «دار الحرب ودار الإسلام» مصطلح حادث ليس موجودًا في القرآن ولا في السنة.

ولذلك لا بد أيضًا أن نلتفت حينما نتكلم في هذه القضية إلى الواقع الذي تكلم فيه العلماء بهذا الكلام ومن أجله قسموا هذه التقسيمات؛ لأنهم كانوا يتعاملون مع واقع معين هو واقع عزة المسلمين وقهرهم للبلاد وفتحهم للأمصار فاحتاجوا إلى هذا التقسيم ووضعوا الضوابط.

يقول: «يجب أن نعلم أولًا السبب الذي حدا أو دعا أئمة الشريعة الإسلامية إلى تصنيف البلاد كلها إلى قسمين أو ثلاثة أقسام إن السبب في ذلك هو الحاجة إلى وضع مقياس يتبين المسلمون على أساسه الفرق بين البلاد التي يشرع قتال أهلها ولا تجوز الإقامة فيها في أعم الأحوال، والبلاد التي يجب الدفاع عنها وقتال من يريد اقتحامها بأي أذى أو سوء، فكان أن استخرجوا من أوامر الله -عز وجل- في كتابه، ومن هدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما صح من سنته، هويتين لا تخرج بلاد الله -عز وجل- أن تمتاز بواحدة منهما:

الهوية الأولى: دار الإسلام.

والهوية الثانية: دار الحر أو دار الكفر.

هذه الثانية إما أن يقوم بينها وبين المسلمين موجب من موجبات القتال فتسمى عندئذ دار حرب، وإما أن يقوم بينها وبين المسلمين موجب من موجبات السلم فتسمى دار الأمان.

حديثنا يتعلق بدار الإسلام: ما هي؟- وكيف أصبحت دار إسلام؟- وهل يمكن أن تعود دار الإسلام لسبب ما في حكم الشريعة الإسلامية إلى دار كفر؟

يقول: «تلتقي كلمة أئمة المذاهب الإسلامية الأربعة على أن البلدة تصبح دار الإسلام إذا دخلت في منعت المسلمين وسيادتهم بحيث يقدرون على إظهار إسلامهم والامتناع من أعدائهم فإذا تحققت فيها هذه الصفة بسبب الفتح عنوة أو صلحًا أو نحو ذلك أصبحت دار إسلام وسرت عليها أحكامها من وجوب الدفاع عنها والقتال دونها والهجرة إليها ثم إن هذه الهوية لا تنفك عنها وإن استولى الأعداء بعد ذلك عليها».

فيمكن أن نقول فلسطين دار الإسلام على أساس هذا الكلام مع وجود الأعداء مستولين عليها في فترة الحروب الصليبية أو الآن لكنها مسروقة أو محتلة أو مستعمرة لكن لا يخلو عنها وصف دار الإسلام.

يقول: «فيجب على المسلمين بذل كل ما يملكون من جهد للذود عنها وطرد الأعداء منها وإقامة أحكام الله فيها».

يقول ابن حجر الهيتمي في كتابه «تحفة المحتاج» نقلًا عن الرافعي وغيره من أئمة الشافعية: «إن دار الإسلام ثلاثة أقسام: قسم يسكنه المسلمون، وقسم فتحوه وأقروا أهله عليه بجزية ملكوه أولًا، وقسم كانوا يسكنونه، ثم غلب عليه الكفار».

فجعل القسم الذي كان يعيش فيه المسلمون ثم غلب عليه الكفار أحد أقسام دار الإسلام.

يقول: «وهذا ما يقرره سائر المذاهب الأخرى الحنابلة والمالكية والحنفية كلهم ذهبوا إلى أن المعول في تسمية الأرض بدار الإسلام أن يمتلك المسلمون فيها السيادة لأنفسهم بحيث يملك المسلم أن يستعلن فيها بأحكام الإسلام وشعائره» هذا الكلام فيه نظر سنبينه إن شاء الله بعد ذلك.

«ثم إن هذه السمة لا تنحسر عنها بعد ذلك لأي عارض من عدوان وضعف ونحوه».

أي أنه مال إلى مذهب موجود ضمن خلافات العلماء في هذه القضية فمن العلماء من يقول أن البلد إذا صارت بلد إسلام لا يزول هذا الوصف أبدًا مهما كان، فيعتبرون الأندلس مثلًا حتى الآن دار إسلام.

يقول بعد كلامٍ: «فإذا تأملت في هذا الذي اتفق عليه أئمة المسلمين من معنى دار الإسلام أدركت أن تطبيق عموم الأحكام الشرعية واجب يترتب على أولئك الذين تضمهم دار الإسلام وليس شرطًا  لا بد منه تسمية الأرض دار إسلام».

هذا التعبير مهم جدًا ودقيق فيقول أن تطبيق الأحكام الشرعية واجب على المسلمين الذين يعيشون في دار الإسلام وليس شرطًا في الحكم بأنها دار إسلام. فهذا حكم وضعي (الشرط) أما الواجب فهو حكم تكليفي.

فيقول: إن تطبيق الأحكام الشرعية واجب على الذين تضمهم دار الإسلام وليس تطبيق هذه الأحكام شرطًا في تسميتها دار إسلام لكنه واجب على المسلمين.

يقول: «وانظر إلى بعد ما بين التصورين وإلى أثر الجهل في الخلط الذي من شأنه أن يعكس الأمر وأن يأتي بنقيض الأهداف المطلوبة.

وإن أمر الجهل أيضًا يهون لو كانت المشكلة مشكلة جهل فقط إذن لأمكن أن تزول المشكلة كلها عن طريق العلم لكن الذي هو أخطر من الجهل عصبية تتحكم بمجامع النفس يجعل منها صاحبها غذاء لأنانيته وأفكاره الشخصية فلا يفيد شيء من العلم وبراهينه وأفكاره معها بحال.

لا يزال بعض المسلمين ممن يهمهم أمر المسلمين يصرون على أن يعرضوا عن كل ما قد ذكره الأئمة واتفقوا عليه في معنى دار الإسلام ويلحون على أن يضعوا للكلمة معنى آخر يتفق مع ميولاتهم وأهوائهم وهو أن دار الإسلام هي التي يكون فيها المجتمع مجتمعًا إسلاميًا ويكون جميع ما يطبق فيها من الأحكام مأخوذًا من كتاب الله وسنة النبي -صلى الله عليه وسلم- فإن لم يتم فيها ذلك كله كما هي الحال اليوم في معظم بل ربما في كل بلاد المسلمين- فهي دار حرب».

يعني إما أن يمتثل الناس كل أحكام الشريعة وإلا فهي دار حرب.

يقول: «فهي دار حرب وإن خالف ذلك إجماع أئمة المسلمين كلهم ولم يجدوا من يؤيدهم إلا الخوارج الذين انفردوا بالذهاب إلى أن البلدة التي تقع فيها كبائر الذنوب تتحول من دار إسلام إلى دار حرب».

وجدنا في بعض عصور الخلافة الإسلامية أنواعًا من المعاصي والبدع والضلالات وما أخرجها ذلك عن وصف دار الإسلام.   

يقول: «أيهم أدعى إلى القيام بواجب هذا الدين في أعناقنا أن نقول أن هذه البلاد قد أصبحت دار حرب فنستريح عندئذ من كل مسئولية ولا نحمل أنفسنا واجب القيام باسترداد أرض ولا برد عدو ولا بالنهوض بواجب حسبة أي: أمر بمعروف أو نهي عن منكر- ولا بتجميع الناس إلى جمعة أو جماعة أو مشورة لأمر الإسلام والمسلمين أم نقول كما أجمع السلف أن هذه البلاد ما تزال ديار إسلام».

هذا ليس محل إجماع، أنا أحكي كلام لكن هناك بعد التحفظات كما قدمنا ذلك.

«أم نقول كما أجمع السلف أن هذه البلاد ما تزال ديار إسلام ولأنها قد دخلت ذات يوم تحت سيادة المسلمين وسلطانهم فلن تعود عنها هذه السمة إلى يوم القيامة؟

فهي إذن أمانة الأجيال في أعناقنا وأن علينا أن نسترد ما استلبه العدو منها كفلسطين وغيرها وأن نحرر ما وقع منها تحت سلطان المستعمرين والمتسلطين وأن نسعى جميعًا سعينا لنمد رواق الحكم الإسلامي عليها ولنقيم المجتمع الإسلامي فيها.

على أن الحكم بتحول هذه الديار الإسلامية إلى ديار كفر أو حرب يستوجب من القائلين بذلك أن يرحلوا عنها ويهاجروا إلى حيث يطيب لهم أن يسموه دار إسلام فإلى أين يهاجرون؟

وأين هي تلك الدار التي تسمى اليوم دار إسلام في نظرهم؟ وهل يمكن العثور عليها في بعض بقاع أوربا أو بعض جهات أمريكا؟!!

ثم ما هي مصلحة الدعوة الإسلامية في أن تنشغل أذهان شباب المسلمين بهذه المسألة وأن نحشو أفكارهم بيقين أن معظم ديار المسلمين اليوم ديار حرب وكفر؟!

ما الذي يتحقق من مكاسب الدعوة الإسلامية والنصر الإسلامي إن هم تبنوا هذا الشذوذ وقبلوا أن يكونوا ورثة للخوارج في ذلك؟

وما الذي يفوتهم من تلك المكاسب والثمرات إن هم استقاموا على اليقين الذي استقام عليه أجيال المسلمين إلى يومنا هذا وأيقنوا أن كل أرض شرفها الله بالفتح الإسلامي لن يرتد عنها هذا الشرف إلى يوم القيامة وأن واجب الأجيال المسلمة حراستها والذود عنها وإشادة بنيان المجتمع الإسلامي فوقها؟!

خطيئة ربما وقع فيها أحدهم إذ ظن أن كلمة دار الإسلام عنوان على المجتمع الإسلامي الذي يرقى إلى درجة القدوة والتأسي وأن الفقهاء إنما قصدوا بالكلمة هذا المعنى فقرر بناء على هذا الوهم أن بلادنا اليوم ليست على هذا المستوى ولا قريبة منه فهي إذن دور كفر وليست دور إسلام!.

ولو علم هذا المتوهم أنها ليست أكثر من شرف أو طابع تتميز به الأراضي والبلاد التي دخلت في حوزة المسلمين يومًا ما وملكوا فيها السيادة على أنفسهم ووظائفهم الدينية لكي ينهضوا بواجب حراستها مع الزمن ولكي يقوموا بخدمة الإسلام والمسلمين فيها؛ إذن لما عرج على هذه الكلمة بأي مناسبة، ولما أقحم نفسه وأقحم الناس في تخبط لا حاجة إليه ولا جدوى منه.

ولكن ما بال الذين أتيحت لهم أن يعرفوا الحقيقة لا يعودون إليها؟! وما بالهم يأبون إلا أن يجعلوا من تلك الخطيئة أو لمبدأ من مبادئ الإسلام تحشى به أذهان الناشئة وعقولهم؟!».

وهذا ملاحظ، فرب أخٍ لعله بدأ يصلي من أيام قليلة تجده فورًا يحاول أن يفتح سؤالًا في دار الإسلام ودار الحرب ونحن في ديار كفر أم في ديار إسلام ويقفز لهذه القضايا الخطيرة وهو بعد لم يحسن كيف يصلي؟! أو كيف يتطهر؟!

فهذا أمر في منتهي الخطورة، وهذه القضية من قضايا السياسة الشرعية وليس لها هذه الحساسية لأنها غير منصوص عليها في القرآن والسنة كما ذكرنا من قبل.

يقول: «ما أكثر ما سألني صغار في مناسبات شتى عن أرض الإسلام وأرض الكفر، وهل هم يعيشون الآن على الأولى منهم أم الثانية؟!

وقد أرهقت المسألة أذهانهم وبلبلت قلوبهم وقد كان الأحرى أن يشغلوا أنفسهم بدلًا عن ذلك بتجويد تلاوات القرآن ومعرفة شيء من أحكام الحلال والحرام وكيفية أداء العبادات.

إن الناشئة اليوم في مجال التوجيه والدعوة إلى التحلي بالإسلام إلى أكثر من تبصيرهم بحقائق الإسلام بالمنطق والبرهان وأخذهم بعد ذلك بأسباب السلوك والاستقامة على المنهج الإسلامي السليم وذلك باتباع السبيل الذي ذكرناه.

كل ما تحشى به أدمغتهم وراء ذلك- سواء من أحكام التكفير للناس وغير ذلك أو من هذا الحديث الذي لا طائل تحته من دار الحرب ودار الإسلام-.

أقول: كل ذلك من اللغو الباطل الذي لا يفيدهم قربًا من الله -عز وجل- ولا يغنيهم بثقافة أو فضلًا عن أنه يفقدهم إشراقات قلوبهم ويملؤها بالكدورة وعكر الجدال والمناقشات التي لا طائل من ورائها ويقتل أوقاتهم الثمينة دون ربح أو فائدة».

هذا باختصار بعض الكلام في هذه القضية، وقد بقي نوع من الإشارة في هذا نختم به الكلام اليوم ونتم الكلام إن شاء الله الأسبوع القادم في موضوع دار الإسلام ودار الكفر وما تبقى من النقاط.

هذا الكلام للشيخ عبد الرحمن عبد الخالق حفظه الله أنقله من باب الاطلاع على وجهات نظر شتى وليس معناه أننا نتبنى بالضبط كل ما يقال لأن الكلام أحيانًا يكون فيه شدة كما في الكلام السابق الذي ذكرناه في غير موضعها أو أن يدعي أحد الإجماع على شيء وليس محل إجماع كما سنبين إن شاء الله.

فهذا أحد الآراء فقط يعني موضوع أن المسلمين إذا دخلوا دارًا صارت دار إسلام إلى الأبد هذا ليس محل إجماع كما ذكر الباحث الذي نقلنا كلامه فهذا فقط رأي واتجاه في الفقه الإسلامي كما سيأتي إن شاء الله.

للشيخ عبد الرحمن عبد الخالق كتاب «فصول في السياسة الشرعية» تكلم عن هذه القضية، أسرد هذا الكلام وأحاول أن لا أعلق حتى وإن كان هناك تحفظ على بعض التعبيرات كما نبهنا.

يقول: «لا شك أن القول بأن ديار الإسلام الآن وأوطانه ديار حرب قول فاجر ليس عليه دليل من كتاب أو سنة أو فقه أو عقل أيضًا وذلك للأسباب الآتية:

أولًا: أنه لا يجوز أن تكون هناك دار إلا إذا كان هناك دار إسلام والقائلون بأن ديار الإسلام الآن ديار حرب نسوا أن يذكروا لنا أين دار الإسلام وذلك أن ديار الكفار لا تمسي ديار حرب إلا لوجود ديار إسلام تعلن الحرب عليها وتحوز المسلمين وتحميهم.

أما إذا انعدمت دار الإسلام التي تحمي المسلمين وتدافع عنهم وينطلق منها جحافلهم وجيوشهم فإنه ينعدم أيضًا وجود دار حرب لأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لم يسم مكة دار حرب عندما كان يسكنها قبل الهجرة بل لم يفرض الله عليه الحرب إلا بعد أن تكونت ووجدت دار الإسلام أولًا.

وعلى الذين يقولون: إن الدار الفلانية دار حرب أن يوجدوا دار الإسلام أولًا كما أوجدها الرسول دون قتال أو سفك».

إذن هذا رأي الشيخ عبد الرحمن أن هذا التقسيم كأنه يعتبره الآن ملغي باعتبار أن هذا التقسيم غير قابل للوجود إلا إذا كانت هناك دار إسلام في مقابلة دار الحرب

حتى تعلن الحرب عليه وهذا قد يكون فيه نظر أيضًا وإلا فماذا نسمي إسرائيل الآن وهي في حرب مع المسلمين أو الصرب مثلًا وغيرهم؟!.

يقول: «ثانيًا: إن القول بأن ديار الإسلام وأوطانه الآن ديار حرب معناه أن يتحول المسلمون إلى مجموعة من اللصوص والقتلة والمنافقين والمجرمين وهذا ما حدث بالفعل مع الذين نادوا بذلك فقد تحولوا بالفعل إلى قتلة بلا هدف ولا سياسة ولصوص يسرقون ويغتصبون».

كأنه يحكي عن اتجاهات التكفير التي وجدت في مرحلة السبعينات وبالفعل ترتب على قولهم بأن البلاد دار كفر أو دار حرب كثير من انتهاك الحرمات كما سيبين.

يقول: «بل استطاعوا أيضًا استدراج الفتيات البريئات من أهلهم المسلمين بحجة أنهم كفار وتزوجوا بهن دون ولاية أو تسجيل عقود، بل قال لي بعض هؤلاء: «لو تمكنت من مال أي شخص ولو كان يصلي ولو كان من أنصار السنة وأهل التوحيد لسرقة ماله واغتصبت زوجته لأن كل هؤلاء ليسوا مسلمين ونحن في دار الحرب ومالهم مباح!».

وسألته وكنا في مدينة بنها وتعداد سكانها ربع مليون نسمة» اعتقد أنه الآن أكثر بكثير «تعلم في هذه المدينة مسلمًا؟! قال: «لا» فانظر مقدار هذا الفهم، وقلت له أيضًا: «ما يمنعك من أخذ مال غيرك واسترقاق أطفاله وسبي نسائه؟ قال: «لأنني غير ممكن فقط!» أي لأني لا أملك تنفيذ ما اعتقد به من إباحة أموال ونساء هؤلاء».

أقول وهذا كلام الشيخ-: «لا شك أن القول بأن ديار المسلمين اليوم وأوطانهم ديار حرب يجعل ممن يقولون بهذا القول مجموعة من المنافقين والقتلة والمجرمين.

ثالثًا: بالرغم من فظاعة وشر القول بأن ديار المسلمين الآن ديار حرب إلا أن أصحاب هذا القول أيضًا متناقضون.

فالمعروف أن دار الحرب لا تقام فيها الحدود الشرعية فمن شرب الخمر مثلًا لا يجلد ومن سرق لا تقطع يده وهذا أمر متفق عليه بين الفقهاء وذلك حتى لا يلحق المسلم الذي يقع في معصية من المعاصي التي تستوجب حدًا حتى لا يلتحق بالكفار، وللأسف إن أصحاب الفهم الجديد يتعللون عند مواجهتهم بالقول» لماذا تفعلون كذا وكذا من هذه الأشياء؟

«يقولون نحن نريد أن نقيم الحدود! فكيف تقوم مثل هذه الحدود والحال أنتم تقولون أننا في دار حرب!» فكيف تقيمون الحدود في دار حرب «وكذلك لا يجوز إقامة حد في إلا بتعيين إمام وقاضٍ وشهود وتمكين المتهم من الدفاع، فكيف يكون قتل شخص ما أو سرقة محل ما إقامة للحدود؟!

لا شك أن ديار المسلمين الآن وأوطانهم هي ديار إسلام ما دام أهلها مسلمون وإن غلب بعض أنظمة الكفر عليهم وهم مطالبون بطاعة الحق فقط ومأمورون بمعصية أنظمة الكفر وقوانينه لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وهم مأمورون بالسعي والجهاد بكل معاني الجهاد التي شرحناها للوصول إلى تطبيق شرع الله -سبحانه وتعالى- كاملًا واتباع السياسة الشرعية في سعيهم وجهادهم هذا هو الين القويم والصراط المستقيم».

فهذا نصف الكلام المتعلق بدار الحرب ودار الإسلام بقي كلام يسير وبقيت أيضًا بعض النقاط نرجو أن نحاول أن نفرغ بسرعة من هذا البحث لكن فيما يبدو سيمتد أيضًا قليلًا مرتين أو أكثر والله أعلم.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

ربما يهمك أيضاً

رسالة من غريق
1904 ١٢ يناير ٢٠١٧
آداب التخلي -3
2385 ٠٨ ديسمبر ٢٠١٦
آداب التخلي -2
1859 ٠١ ديسمبر ٢٠١٦
البيع بالتقسيط
2833 ١٧ نوفمبر ٢٠١٦
السيرة البازية
1467 ١٠ نوفمبر ٢٠١٦