الجمعة، ٢٠ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٩ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

(نصيحة موضوعية للتيارات الجهادية (5

بعض أحكام الخروج- الحكم بغير ما أنزل الله

(نصيحة موضوعية للتيارات الجهادية (5
محمد إسماعيل المقدم
الاثنين ٠٩ فبراير ٢٠١٥ - ١٣:٢٩ م
2222

نصيحة موضوعية للتيارات الجهادية (5)

د. محمد إسماعيل المقدم

المحاضرة الخامسة

نعود إلى ما كنا بصدده من الكلام على بعض أحكام الخروج وكنا قد انتهينا إلى الكلام قضية الخروج بعدما فرقنا بين الجهاد في سبيل الله عند الإطلاق وأنه ينصرف شرعًا إلى قتال الكفار لإعلاء كلمة الله تبارك وتعالى وبين الخروج وذكرنا أن الخروج على نوعين:

- خروج على الحاكم الكافر أو المسلم الذي طرأت عليه الردة أو الكفر وذكرنا أن إمامة الكافر لا تجوز بحال، فلا يجوز أن يعين كافر أميرًا أو حاكمًا أو واليًا لقول الله تبارك وتعالى ﴿وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا﴾ [النساء: 141]  وقوله تبارك وتعالى﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾  [النساء: 59] يعني: من المسلمين.

وقال تعالى ﴿لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ [البقرة: 124] فالكافر لا يصح ولا تنعقد له ولاية ولا يجب له سمع ولا طاعة بحال من الأحوال فإمامة الكافر لا تصح بحال ولا تنعقد له ولاية على أصلًا.

وإن كان مسلمًا فطرأ عليه الكفر وجب عزله إن أمكن وإلا خرج عليه المسلمون إن قدروا على ذلك، فهذا فيما يتعلق بالكافر.

أما الحاكم أو الإمام الفاسق أو الظالم أو الجائر الذي هو باقٍ على أصل الإسلام لكنه يظلم أو يجور أو ينحرف فمذهب جمهور أهل السنة تحريم الخروج عليه ما لم يكفر وقد أجمع على هذا الطبقة المتأخرة من التابعين وحكينا وجود خلاف في الطبقة الأولى من السلف.

ثم إن لما وجدوا أن الخروج على الحاكم يترتب عليها من الفتن ما لا يحصى بل لم تنجح أي حركة من هذه الحركات في الخروج على الحاكم الظالم أو الجائر اتفقوا بعد ذلك على تحريم الخروج على الإمام المسلم الجائر.

يبقى السؤال المتعلق بهذه الجزئية وهو: من الذي يخرج؟

يقول: «إن الفعل يجب أن يخرج ممن يملك حق مباشرته شرعًا» فالأصل في الخروج أن يكون أمة بكاملها وليسوا آحادًا قلائل من الناس.

يقول الإمام الجويني في كتابه الرائع «الغياثي»: «الخروج على الحاكم الكافر كفرًا بواحًا قام عليه البرهان لا يطلق فيه للآحاد في أطراف العباد أن يثوروا» يعني لا تكون من آحاد الأمة المتفرقين في أطراف البلاد «فإنهم إن فعلوا ذلك لاصطلموا وأبيدوا» لقضي عليهم «وكان ذلك سببًا في زيادة المحن وإثارة الفتن ولكن إن اتفق رجل مطاع ذو  أتباع وأشياع ويقوم محتسبًا آمرًا بالمعروف ناهيًا عن المنكر وانتصب بكفاية المسلمين ما دفعوا إليه فليمض في ذلك قدمًا على الشرط المقدم في رعاية المصالح والنظر في المناجح وموازنة ما يندفع ويرتفع بما يتوقع». هذا خلاصة كلام إمام الحرمين في «الغياثي».

فالذي يتولى أمر الخلع أو أمر العزل أو أمر الخروج لا يكونون آحادًا من الناس وإنما الذي يتولى رأسًا هم أهل الحل والعقد الذين تكون الأمة تبعًا لهم وتمتثل أمرهم لأن الخروج ليس موقفًا عاطفيًا ولا نزوة عابرة حتى يكون ملكًا لعوام الناس وأمرٌ هذه خطورته يجب أن يكون وقفًا على أهل الحل والعقد لأن الخطاب في قوله -صلى الله عليه وسلم-: «إلا أن تروا كفرًا بواحًا» وقوله: «لا ما أقاموا فيكم الصلاة»

إنما هو للأمة، بل حتى القائلون بجواز الخروج على الإمام الفاسق الذين يوافقون المعتزلة ومن وافقهم- مع إيمانهم بهذا الأصل أنه يجوز الخروج على الإمام الفاسق خلافًا لجمهور أهل السنة فإنهم يرون أن هذا الخروج ليس لآحاد الناس.

فالمعتزلة يقولون: «إذا كنا في جماعة» كيان «وكان الغالب عندنا أنا نكفى مخالفينا» يعني: يترجح في ظنهم أنهم إذا خرجوا احتمال الظفر في الغالب نتيجة معطيات القوة والتمكين والعُدد والعَدد «عقدنا للإمام ونهضنا فقتلنا السلطان وأزلناه».

وقال قائلون: «إذا كان مقدار أهل الحق كمقدار نصف أهل البغي لزم قتالهم» بقوله تعالى ﴿الْآَنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا﴾ [الأنفال: 66].

وقال ابن حزم - ومعلوم عنه أنه يرى مذهب المعتزلة في الخروج على الحاكم الفاسق ومع ذلك يقول-: «وإن كانوا» أي: الخارجون «لا يرجون لقلتهم وضعفهم بظفر كانوا في سعة من ترك التغيير باليد».

إذن فحتى الذين خالفوا جمهور أهل السنة - وقالوا بجواز الخروج على الحاكم الجائر- يشترطون غلبة الظن بالظفر وإلا فإنهم يمنعونه.

إذن الخلاصة في قضية الخروج:

أنه إذا كان الحاكم مسلمًا فاسقًا ظالمًا جائرًا فإنه لا يجوز الخروج عليه، أما إذا كان كافرًا وخرج عليه بعض الناس فلا ينبغي في هذه الحالة وصف من خرج على الحاكم الكافر بأنه متطرف أو أنه إرهابي أو غير ذلك من الأوصاف التي تقال إلا إذا كان وحيدًا أو معه آحاد من الناس، ولا يجرم ولا يعتبر هذا غلوًا أو تطرفًا إلا إذا خرج وحيدًا أو معه آحاد من الناس فهؤلاء لا يوصفون بهذه الأوصاف وإنما ينكر عليهم من باب أنهم شددوا على أنفسهم بتحميلها ما لا تطيق.

فالغلو هنا ليس غلوًا نظريًا ولكنه غلو عملي، ليس غلوًا في الفهم أو في المبدأ أو في الفكرة لأنها توافق الشرع لكن الغلو غلو عملي تطبيقي وهو غلو من جهة الكيفية ومن جهة التوقيت وغير ذلك.

فالغلو ليس بسبب الخروج نفسه وإنما بسبب أنهم شددوا على أنفسهم وحملوها ما لا تطيق ويزداد الأمر شدة إذا ترتب على ذلك إراقة دم محرم في سبيل لا شيء أو في سبيل مضرة حاصلة أو في سبيل مضرة غالبة أو في سبيل مصلحة قليلة وفي هذه اللحظة يتوجه الإنكار بقدر وقوع هذه المخالفات.

وإذا قلنا بوجوبه فإنه كأي واجب يسقط بالعذر كعدم الاستطاعة فإذا كانوا المسلمون قلة غير مستطيعة فالقلة المستطيعة داخلة تحت قوله ﴿لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ [البقرة: 286] وتحت قوله تعالى ﴿فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ وتحت قوله -صلى الله عليه وسلم-: «لا يذل المرء نفسه» فقالوا: «وكيف يذل المرء نفسه؟!» فقال: «يتعرض من البلاء لما لا يطيق».

فالخارجون وهم قلة ليجاهدوا هؤلاء متعرضون من البلاء لما لا يطيقون، وهنا يتوجه بل يتوجب أن نعود لمدارسة فصول التاريخ الإسلامي حتى نأخذ العبر من جميع محاولات الخروج تقريبًا وأنه لا يترتب عليها غالبًا إلا الفتن وإراقة الدماء في غير مصلحة.

لكن هنا أمر مهم جدًا على أساس القول بحرمة الخروج على الإمام الجائر هل يعني ذلك القول بحرمة الخروج على الإمام الجائر هل يعني ذلك السلبية أمام الباطل؟ هل عدم الخروج معناه أن يهجر الناس الحق ويكونوا سلبيين أمام الباطل؟

نقول: هذا غير صحيح بل هو فهم خاطئ لأن إظهار الشرع وإعلاء كلمته واجب على المسلم حتى وإن قتل دون ذلك، حتى وإن قتل بسبب جهره بالحق والدفاع عن الحق فإنه من أفضل الأعمال الصالحة لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر» إذن مع السلطان الجائر - أي: المسلم الفاسق- فإنه ينكر عليه بالكلام فقط دون الخروج المسلح.

إذن لا يوصد باب التغيير لكن باب التغيير باليد وبالنصيحة باللسان مفتوح على مصراعيه ويرغب فيه لقوله: «أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر» وللحديث إذا صح الحديث-: «سيد الشهداء حمزة ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله».

فهذا لا يعني أن أهل السنة كانوا سلبيين إزاء الحاكم الجائر المسلم لكن أيضًا يجاهدونه بلسانهم وبقول الحق.

أيضًا حرمة الخروج على الإمام المسلم الجائر لا تعني تعطيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فبين أدلة تحريم الخروج وبين أدلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عموم وخصوص، فأدلة تحريم الخروج خاصة، وأدلة الأمر بالمعروف عامة، فيأمر وينهى ويصبر على الفتنة يقول تعالى ﴿وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ﴾ [لقمان: 17]

وأيضًا في حديث عبادة بن الصامت في حديث بيعة الصحابة النبي -صلى الله عليه وسلم-: ««بايعنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على السمع والطاعة ، في العُسر واليُسر، والمنْشَط والمكْرَه، وعلى أثَرَةٍ علينا، وعلى ألا نُنازع الأمر أهْلَهُ» إلى أن قال: «وعلى أن نقول الحق أينما كنا لا نخاف في الله لومة لائم» مع قوله: «بايعناه على السمع والطاعة وألا ننازع الأمر أهله» أي مع عدم الخروج على الحاكم الجائر وفي نفس الوقت تضمنت البيعة: «وعلى أن الحق حيثما كنا لا نخاف في الله لومة لائم».

أيضًا هنا أمر مهم جدًا أنه لا يوجد تلازم بين تكفير الحاكم والخروج عليه فلا يشترط إذا قلنا بكفر الحاكم أن يجب الخروج عليه مهما كانت الظروف والأحوال بل لا بد من مراعاة والأحوال حتى مع القول بالوجوب.

فليس كل حاكم كفر كفرًا بواحًا يلزم المسلمين الخروج عليه مهما كانت الظروف والأحوال بل الخروج عليه يستلزم اتباع السياسة الشرعية في ذلك شأنه شأن إنكار أي منكر من المنكرات، فكما لا يجوز إنكار المنكر بمنكر ولا إزالة منكر يترتب على السعي في إزالته منكر أعظم منه فكذلك الحال في منع منكر الحاكم الخارج على الدين المعلن بالكفر.

فمع الحكم بكفره فإن الخروج عليه بالسيف يستلزم أن يكون الخروج عليه مؤديًا إلى إزالة منكره أي لا بد أن يكون خروجًا مثمرًا دون أن يحدث ما هو شر من ذلك كأن يأتي من هو أعظم منه شرًا وبلاءًا على المسلمين.

إذن فالخروج عبارة عن إجراء المقصود منه شفاء المرض وإزاحة العلة عن الأمة الإسلامية أما إذا كان يترتب عليه بقاء الشر بل استفحاله ومضاعفته واستباحة الحمى والحرمات واجتلاب البلاء دون أي جدوى لم يجز لأحد أن يقول الخروج جائز وأن العلماء قالوا يجوز الخروج على الحاكم الكافر أو واجب مع غض النظر عن الظروف والأحوال والعواقب التي تترتب عليه كما ذكرنا من قبل، فإن الإسلام لا يعرف أن يعمل الإنسان تصرفًا دون النظر في عواقبه.

إذن فيما يتعلق بالحاكم الكافر فإننا نفرق بين الحكم وبين الفتوى أما الحكم الشرعي فهو اعتقاد وجوب الخروج عليه إذا كان كافرًا.

أما الفتيا فهي إنه لا يجوز تنفيذ هذا الواجب إلا وفق السياسة الشرعية بمعنى أنه لا يزال منكره بمنكر وأن لا يترتب على إزالة هذا المنكر منكر أعظم منه.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية : تعالى: «ومن هذا الباب إقرار النبي -صلى الله عليه وسلم- لعبد الله ابن أُبي وأمثاله من أئمة النفاق والفجور لما لهم من أعوان».

أي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- راعى هذه القاعدة وكان بإمكانه أن يقتل عبد الله بن أبي وهو يعلم أنه من رءوس المنافقين الكبار ومواقفه المخزية ضد الإسلام والمسلمين معروفة ومع ذلك امتنع النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو المؤيد بالوحي عن قتله نظرًا للعواقب قال: «لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه»

إذا قتله وهو في الظاهر يظهر أنه مسلم فستنتشر الشائعات في الجزيرة العربية ويتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه وأن من يضم إلى دينه فإنه يغر به فيقتله فسدًا لهذه الذريعة امتنع من قتله مع أنه مستحق لذلك حينما استأذنه عمر في قتله.

يقول شيخ الإسلام: «ومن هذا الباب إقرار النبي -صلى الله عليه وسلم- لعبد الله بن أُبي وأمثاله من أئمة النفاق والفجور لما لهم من أعوان فإزالة منكره بنوع من عقابه مستلزم إزالة معروف أكثر من ذلك بغضب قومه وحميتهم ، وبنفور الناس إذا سمعوا أن محمدًا يقتل أصحابه».

حتى الإمام ابن حزم وهو كما ذكرنا من المتحمسين لرد المفاسد بالقتال بل يعد الإمام ابن حزم : السكوت عند القدرة - يعني عدم الخروج الحاكم الجائر- ظلمًا من الساكت غير أنه يلتزم هذه القاعدة.

فيقول : تعالى: «فإذا كان أهل الحق في عصابة يمكنهم الدفع ولا ييئسون من الظفر» احتمال النصر«ففرض عليهم ذلك» يعني أن يخرجوا «وإن كانوا في عدد لا يرجون» يعني: لقلتهم وضعفهم «الظفر كانوا في سعة من ترك التغيير باليد».

إذن حينما نقول أن أئمة اتفقوا على مشروعية الخروج على الإمام الذي طرأ عليه الكفر لا بد أن تستصحب القواعد الشرعية الضابطة لهذا الأمر وأعظمها وأهمها أن لا يزول المنكر بمنكر  أعظم منه.

وهنا نحتاج أن نتعرض لمسألتين:

الأولى: أنواع الحكم بغير ما أنزل الله تبارك وتعالى أيها يكون كفرًا ومتى لا يكون كفرًا؟

ورد في القرآن الكريم نص صريح في وصف الحاكم بغير الله ما أنزل تبارك وتعالى بأنه كافر فقال تبارك وتعالى ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾ [المائدة: 44]

وقال تبارك وتعالى في الآية الأخرى ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [المائدة: 45]

وقال ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [المائدة: 47]

اختلف العلماء في تفسير هذه الآيات وفي القوم الذين أنزلت فيهم هذه الآيات وإجمال هذه الأقوال:

القول الأول: أن المقصود بالآية اليهود الذين حرفوا كتاب الله وبدلوا حكمه.

القول الثاني: أن المقصود بالكافرين في قوله ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾ يعني من المسلمين، فإذا كانوا مسلمين ففعلوا ذلك صاروا كافرين.

وبـ«الظالمين» اليهود، وبـ«الفاسقين» النصارى.

القول الثالث: أن المراد كفر دون كفر وظلم دون ظلم وفسق دون فسق وسبق أن بينا بالتفصيل هذا في دروس «التكفير».

أما القول الرابع فهو أن هذه الآية نزلت في جميع الناس وهي مراد بها جميع الناس مسلمهم وكافرهم.

أما القول الخامس فهو أن معنى الآية: من لم يحكم بما أنزل الله فهو كافر، فأما الفسق والظلم فهو للمقر به، أي: الذي يؤمن بحكم الله لكنه يمتنع من تطبيق حكم الله كمعصية من المعاصي العملية فهذا يوصف بالظلم والفسق أما الكافر فهو الذي لا يحكم بحكم الله جاحدًا حكم الله تبارك وتعالى.

لكن الظاهر والراجح والله تعالى أعلم في هذه الآية لأنه من غير المقبول والممتنع أن يسمي الله -سبحانه وتعالى- الحاكم بغير ما أنزل الله كافرًا ولا يكون كافرًا فهو يسمى كافرًا لأن الله سماه كافر حتى على قول من يقول: كفر دون كفر لكن يسمى كافرًا بل هو كافر مطلقًا فلا بد أن يمسى كافرًا إما كفر عمل وإما كفر اعتقاد.

أما تخصيص اليهود والنصارى أو غيرهم فإن هذه الآية عامة في كل من حكم بغير ما أنزل الله تبارك وتعالى فنزولها بسبب معين لا ينافي هذا العموم لأن العبرة بعموم اللفظ وليست بخصوص السبب لقوله تعالى ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ﴾ فهذا شرط والشرط صيغة من صيغ العموم ﴿بِمَا أَنْزَلَ اللهُ﴾ تعم كل ما أنزل الله ﴿فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾ فيه اختصاص وحصر للكفر فيهم.

تول الرد على القائلين بأن هذه الآية نزلت في بني إسرائيل خاصة حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه- حيث قال لما سمع بعض الناس يقولون أن هذه الآية فقط في النصارى: «نعم الإخوة لكم بنو إسرائيل إن كانت لهم كل مرة ولكم كل حلوة كلا والله لتسلكن طريقهم قدر الشراك».

فالحق أن الحكم بغير ما أنزل الله كفر منه ما هو كفر عمل ومنه ما هو كفر اعتقاد يقول الإمام ابن أبي العز الحنفي : تعالى مفصلًا أحوال الحاكم: «إنه» أي: الحاكم «إن اعتقد أن الحكم بما أنزل الله غير واجب، وأنه مخير فيه، أو استهان به مع تيقنه أنه حكم الله  فهذا كفر أكبر.

وإن اعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله، وعلمه في هذه الواقعة» يعني في واقعة معينة «وعدل عنه مع اعترافه بأنه مستحق للعقوبة، فهذا عاصٍ، ويسمى كافرا كفرا مجازيًا، أو كفرًا أصغر».

زاد الشيخ محمد بن إبراهيم : تعالى الأمر تفصيلًا فأوضح أحوال الحكم ونختصر كلامه لأنه كلام منضبط في هذه القضية وإن كنا قد سبق أن تكلمنا كثيرًا في قضية الحكم بغير ما أنزل الله.

وباختصار شديد ننصح الإخوة بالرجوع إلى كتاب الدكتور عمر الأشقر «الشريعة الإلهية لا القوانين الوضعية» فإنه من أفضل الكتب التي ألفت في هذا الباب، كذلك كتاب «نظرية السيادة» للدكتور صلاح الصاوي يمكن أن يراجع أيضًا في نفس الموضوع.

يقول الشيخ محمد بن إبراهيم : تعالى: «إن الآية الكريمة تتناول الكفرين: كفر الاعتقاد وكفر العمل، فأما الأول وهو كفر الاعتقاد فهو أنواع:

النوع الأول: أن يجحد الحاكم بغير ما أنزل الله أحقية حكم الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- فهذا جحود لما أنزل الله من الحكم الشرعي ولا نزاع فيه بين أهل العلم.

وهذا لا شك فيه لأنه يجحد حكم الله كما حصل من زياد بري في الصومال لما جحد صراحة آيات المواريث وقال هذا كلام انتهى ولا وجود له الآن وأن المرأة مثل الرجل فهذا جحود لقوله تعالى ﴿لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ [النساء: 11] فهذا خروج من الملة لا نزاع في هذا ولا نقاش فيه.

فمن ألأصول المتقررة المتفق عليها بين أهل العلم أن من جحد أصلًا من أصول الدين أو جحد فرعًا مجمعًا عليها أو أنكر حرفًا مما جاء به الرسول قطعيًا فإنه كافر الكفر الأكبر الناقل عن الملة. هذا هو النوع الأول وهو كفر أكبر وهو الجحود.

النوع الثاني: أن يعتقد أن حكم غير الله أحسن.

أي أنه يقول هذه الآية في القرآن وعلى العين والرأس وهذا كلامه الله الذي أنزله لكنه يعتقد أن غير حكم الله - كالقوانين الفرنسية والبلجيكية وغير ها من قوانين الكفار- أحسن وأتم وأشمل لما يحتاجه الناس عند التنازع إما مطلقًا وإما بالنسبة إلى المستجدات من الحوادث وهذا لا ريب أنه كفر لتفضيله أحكام المخلوقين على حكم الحكيم الحميد، هذا أيضًا لا نقاش فيه.

النوع الثالث: أن لا يعتقد كونه أحسن من حكم الله لكن يعتقد أن حكم القوانين الوضعية مثل حكم الله فيسوي بين الله وبين خلقه في التشريع فهذا كالنوعين الذي قبله في كونه كافرًا الكفر الناقل عن الملة لما يقتضيه ذلك من تسوية المخلوق بالخالق والمناقضة والمعاندة لقول الله تبارك وتعالى ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى: 11] ولقوله ﴿أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ﴾ [الأعراف: 54]

فما دام هو الذي خلق فهو الذي يأمر ويشرع، هذه الأنواع الثلاثة كلها كفر ناقل عن الملة بلا شك.

أما النوع الرابع فهو أن يعتقد جواز الحكم لما يخالف حكم الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- فلا يقول أن حكم غير الله أحسن من حكم الله أو مثله لكنه يقول: يجوز أن أحكم بشرع غير شرع الله من غير أن يقول مثله أو أفضل منه لكنه يجوز ويعتقد إباحة الحكم بما يخالف حكم الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- فهذا يصدق عليه ما يصدق على من قبله لاعتقاده جواز ما علم بالنصوص الصريحة الصحيحة القاطعة تحريمه.

أما النوع الخامس فهو أعظمها وأشملها وأظهرها معاندة للشرع ومكابرة لأحكامه ومشاقة لله ولرسوله -صلى الله عليه وسلم- وهو جعل محاكم غير شرعية مراجعها كلها من غير الشرع من القوانين الملفقة من شرائع شتى وقوانين كثيرة كالقانون الفرنسي والبريطاني وغير ذلك.

فهذه المحاكم الآن في كثير من أمصار المسلمين يحكم حكامها بينهم بما يخالف حكم الكتاب والسنة فأي كفر فوق هذا الكفر؟! وأي مناقضة للشهادة بأن محمدًا رسول بعد هذه المناقضة؟!.      
فهذه من أخطر أنواع الكفر وهي شائعة في معظم أو في كثير من بلاد المسلمين الآن وهي أولًا: تعطيل الشريعة الإسلامية تمامًا فلا يرفعون راية الشريعة كما في بعض البلاد ثم تقع منهم انحرافات جزئية أو عملية بل تسقط راية الشريعة تمامًا حتى أغلقت المحاكم الشرعية، وفرضت المحاكم الوضعية الكفرية على الناس فرضًا، ثم يعاقب ويمتحن كل من أراد تغيـير شيئًا من هذه النظم كما هـو معلـوم.

فكل من يسعى في تغيير هذه الأشياء يتهم بجملة من التهم أولها المحاولة والسعي إلى قلب نظام الحكم بالقوة المسلحة وتغيير النظم الأساسية للمجتمع، فيعتبرون تغيير النظم الأساسية للمجتمع من الأمور العظام التي يمتحن ويعاقب كل من ارتكبها حتى ولو كان ذلك من أجل تطبيق حكم الله -سبحانه وتعالى- فهذا ما من شك فيه أنه الكفر الأعظم بل هو أخطر أنواع الكفر فأي معاندة لدين الله -سبحانه وتعالى- أقوى من هذا؟!.

ومعروفة قصة المستشار عبد الحميد غراب : تعالى وقد توفي من أشهر قليلة حينما حكم في قضية رجل مخمور بالجلد طبقًا للشريعة فعزل من منصبه وحصل تحكيم وكان أحد أعضاء اللجنة التي تشكلت لمحاسبته قاضٍ نصراني والقصة معروفة وموجودة في كتابه المهم: «أحكام شرعية إدانة للقوانين الوضعية» للمستشار محمود عبد الحميد غراب : تعالى.

فمعروف هذا الوضع ويوم أن يحاول أحد أن يحكم بما أنزل الله فإنه يعاقب على ذلك لأنه خالف الدستور فلا شك أن المسلم إذا اعتقد جواز مثل هذا لا يصير مسلمًا وعلى إيمانه العفاء.

أما النوع السادس فهو ما يحكم به كثير من رؤساء العشائر والقبائل والبوادي من عاداتهم التي يتوارثونها ويحكمون بها بناء على حكم الجاهلية وإعراضًا عن حكم الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- وهذا للأسف موجود في كثير من البوادي حتى هنا في مصر في البوادي والصحراء توجد القبائل التي تقدس سوالف البوادي وقوانين العشيرة التي ورثوها عن آبائهم وأجدادهم وإن كانت مصادِمة مصادَمة صريحة لشرع الله تبارك وتعالى فهذا أيضًا داخل في الكفر الاعتقادي الأكبر.

فهذه خمسة أنواع من الكفر الذي يخرج من الملة:

أولها: جحود الحاكم ما أنزل الله من الحكم الشرعي.

ثانيها: أن يعتقد أن حكم غير الله أحسن وأكمل وأفضل من حكم الله.

ثالثها: أن يعتقد أن حكم غير الله مساوٍ لحكم الله أو مثله.

رابعها: أن يعتقد جواز الحكم بما يخالف حكم الله ورسوله.

خامسها: رفض الحكم بالشرع واستبداله بالقوانين الوضعية الكافرة وامتحان من طالب بتحكيم الشرع.

سادسها: ما يحكم به رؤساء العشائر والقبائل والعادات المتوارثة إعراضًا ورغبة عن حكم الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-.

النوع الثاني من الكفر المتعلق بالحكم بغير ما أنزل الله هو كفر العمل في ضوء هذا الكلام لا يكاد يختلف أحد من أهل السنة وأهل العلم في أن عامة البلاد الإسلامية التي تحكم بهذه الأنواع أو بحاكم يعتنق إحدى هذه المواقف الستة التي ذكرناها ما يختلفون أن النظام بلا شك كافر ويوصف بالكفر وإلا فما هو الوصف الذي يستحقه إذا كان يتبنى نبذ الشريعة الإسلامية ويفرض القوانين الوضعية على الناس فرضًا وتحكيم هذه القوانين فيهم وامتحان ومعاقبة من يطالب أو يحاول إقامة شرع الله تبارك وتعالى وابتلاؤه بالسجن والقتل ونحو ذلك فماذا تسمى هذه النظم؟!

فالنظم بلا شك كنظام في مجمله كافر ليس له وصف بعد ذلك، أما آحاد الناس فهذه قضية أخرى سنتعرض لها عما قريب إن شاء الله.

 النوع الثاني: كفر العمل وهو الذي لا يخرج من الملة:

وهذا يكون في حاكم يحكم في دولة إسلامية ترفع راية الشريعة الإسلامية فيأتي هذا الحاكم سواء في قضية أو عشرة قضايا أو ألف قضية وهو إنسان متبع لهواه في أي معصية وهو يعرف حكم الله ويرفع راية التحاكم إلى شرع الله فلا ينبذها ولا يرفضها لكنه إنسان فاسق يأخذ الرشوة ويحكم بغير ما أنزل الله، ويجامل بالمحسوبية أصدقاءه أو معارفه أو الذين ينتفعون لديه أو مجرد اتباع هوى أو شهوة أو غفلة أو أي شيء من هذه الأسباب فهذا يسمى كفرًا لكنه كفر عملي لا يخرج من الملة وهو المقصود بقولهم: «كفر دون كفر».

وذلك بأن تحمل الحاكم شهوته وهواه على الحكم في القضية بغير ما أنزل الله مع اعتقاده أن حكم الله ورسوله هو الحق الواجب تحكيمه واعترافه على نفسه بالخطأ ومجانبة الهدى فهذا إن لم يخرجه من الملة فإنه معصية عظمى أكبر من الكبائر أكبر من الزنا وشرب الخمر والسرقة واليمين الغموس وغيرها فإن معصية سماها الله تبارك وتعالى في كتابه كفرًا أعظم من معصية لم يسمها الله تعالى كفرًا.

إذن أول ما نستفيده من هذا الكلام:

أنه لا يصح إطلاق القول بتكفير الحاكم بغير ما أنزل الله دون النظر إلى التفصيل الذي ذكرناه، ونحن الآن نتكلم في القواعد الشرعية وما نتكلم في الجانب التطبيقي، فلا بد حينما نريد أن نحكم على نوع الفعل وهو الحكم بغير ما أنزل الله، ولا بد أن تنتبهوا إلى أن تعطيل شرع الله جريمة، عدم بما أنزل الله جريمة كبرى والحكم بغير ما أنزل الله أكبر فهنا جريمتان: تعطيل شرع الله أولًا، ثانيًا: الحكم بغير شرع الله.

إذن ينبغي أن لا يطلق القول بأن الحاكم بغير ما أنزل الله كافر كفرًا أكبر حتى ينظر في الأنواع التي ذكرناها فهناك كفر عملي وكفر اعتقادي، والكفر الاعتقادي هو الذي يخرج من الملة - كنوع-، كذلك الكفر العملي.

الأمر الثاني: تكفير المعين إذا كان يكفر كفرًا اعتقاديًا:

فمن المعروف أن من قواعد أهل السنة والجماعة أنه لا يكفر المعين حتى لو كان الفعل الذي يفعله كفرًا إلا باستيفاء شروط وانتفاء موانع ولأجل هذا دائمًا يركز العلماء في هذه الجزئية على أن يتم إقامة الحجة أو محاكمة مثل هذا الشخص على يد القاضي الشرعي أو الحاكم المسلم بمعنى أن يكون إنسان له سلطة حتى يتمكن من استيفاء الشروط.

فقد توجد أعذار تنقل الحكم من الكفر الأكبر إلى الكفر الأصغر حتى ولو كان الفعل نفسه من الكفر الأكبر وهذا ما نشير إليه بعبارة: «التفريق بين كفر النوع وكفر العين» فهذه قاعدة محفوظة عند الإخوة:

أنه قد تحول حوائل دون تكفير المعين بعد الحكم على فعله بأنه كفر وهي كما ذكرنا من قبل: الجهل، والإكراه، والتأويل.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية : تعالى: «كذلك النجاشي هو وإن كان ملك النصارى فلم يطعه قومه في  الدخول في الإسلام بل إنما دخل معه نفر منهم ولهذا لما مات لم يكن هناك أحد يصلى عليه ... ونحن نعلم قطعا أنه لم يكن يمكنه أن يحكم بينهم بحكم القرآن والله قد فرض على نبيه بالمدينة أنه إذا جاءه أهل الكتاب لم يحكم بينهم إلا بما أنزل الله إليه وحذره أن يفتنوه عن بعض ما أنزل الله إليه ... وكثيرا ما يتولى الرجل بين المسلمين والتتار قاضيا بل وإماما وفى نفسه أمور من العدل يريد أن يعمل بها فلا يمكنه ذلك بل هناك من يمنعه ذلك ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها.

وعمر بن عبد العزيز عودي وأوذي على بعض ما أقامه من العدل وقيل إنه سم على ذلك فالنجاشي وأمثاله سعداء في الجنة وان كانوا لم يلتزموا من شعائر الإسلام ما لا يقدرون على التزامه بل كانوا يحكمون بالأحكام التي يمكنهم الحكم بها».

وقد كان النجاشي ملكًا للحبشة ومع ذلك ما استطاع أن يقيم فيهم حكم الله بدليل أنه لما مات ما وجد من يصلي عليه وصلى عليه المسلمون في المدينة حينما نعى إليهم النبي -صلى الله عليه وسلم- النجاشي في اليوم الذي مات فيه.

وتوجد في العصر الحاضر نماذج من هذا قريبة جدًا من هذا الوضع:

منها: عبد السلام عارف وكان معروفًا بمشاعره الإسلامية وأثنى عليه من يعرفونه من قادة العمل الإسلامي في ذلك الوقت ومعروف ما انتهى أمره به وهو قتله عن طريقه إسقاط الطائرة وهي الطريقة المفضلة عند القوم.

فقد كان رئيسًا لجمهورية العراق ومعلوم أنه ممن تصدوا لعبد الناصر حينما أصدر الحكم بإعدام سيد قطب : تعالى ولكن الخبيث لم يرتدع ولم يعمل حسابًا لأحد.

الشاهد هذا أنموذج من الناس الذين يعلم أن فيهم صلاح وخير ولكن كان عاجزًا عن التغيير.

منهم إلى عهد قريب الرئيس ضياء الحق : تعالى فهذه عملة نادرة في حكام هذا الزمان أن يوجد رجل بمثل هذا الإخلاص للإسلام كما تحدث كثيرون مما يعرفونه عن قرب أنه كان مخلصًا للإسلام وانتهى بنفس الطريقة المفضلة عند أمريكا وأذنابها.

ففي هذه الحالة قد يكون الحكم الظاهر مخالفًا للشرع ليس لأن الحاكم هو واحد من الأنواع الستة الذين ذكرناهم لكن لأنه لا يقدر لوجود أي نوع من الضغوط أو الإكراه أو التأويل أو الجهل كما ذكرنا.

إذن قد يكون للحاكم في بعض الأحوال من الأعذار ما ينقل الحكم من حيز الكفر الأكبر إلى الكفر الأصغر وعامة علماء أهل السنة اليوم في هذا الزمان مع أنهم متفقون تمامًا على كفر الحاكم بغير ما أنزل الله أو بالقوانين الوضعية على اعتبار التفصيل الذي ذكرناه من قبل لكن أغلبهم يتوقف في تكفر المعين منهم.

أي أن أهل السنة نوعان في هذا الزمان:

بعض يكفر الحاكم بعينه وأغلبهم يتوقفون في تكفير المعين وإن وصفوا النظام والحكم بأنه كفر بلا شك فيكفرون النوع ويتوقفون عن تكفير المعين منهم.

في سير الأئمة وأحوالهم ما يدل على هذا الذي ذكرناه:

فالإمام أحمد : تعالى كان يقول بكفر الجهمية ومن قال بخلق القرآن هو وجمهرة كبيرة من أهل السنة ولكنهم مع ذلك عاشوا تحت ولاية الخلفاء العباسيين الذين دعوا إلى بدعة القول بخلق القرآن وعاقبوا العلماء بسبب ذلك بالضرب [والسجن والقتل].

ومع ذلك لم يخرج هؤلاء الأئمة - الإمام أحمد وغيره من إخوانه الأئمة- ولم يوجبوا الخروج بل كانوا يعتقدون إمامتهم وإيمانهم مع إنكارهم ما قالوه من الباطل الذي هو كفر عظيم وإن لم يعلموا أنه كفر بل تأولوا فأخطئوا.

ولذلك لما ناظر الإمام الشافعي حفصًا الفرد - من أئمة المعطلة في مسألة خلق القرآن- قال له الإمام الشافعي: «كفرت بالله العظيم» فكفره ولم يحكم بردته بمجرد ذلك، ولو اعتقد ردته وكفره لسعى في قتله.

وأفتى العلماء بقتل دعاتهم مثل غيلان القدري والجعد بن درهم وجهم بن صفوان وغيرهم وصل الناس عليهم ودفنوهم مع المسلمين وصار قتلهم من باب قتل الصائل لكف ضررهم لا لردتهم.

 يقول شيخ الإسلام ابن تيمية : تعالى في سياق كلامه على تكفير الخوارج والرافضة ممن يقول بالكفر ويفعل أفعالًا هي من جنس أفعال الكفار: «الصحيح أن هذه الأقوال التي يقولونها التي يعلم أنها مخالفة لما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم- كفر وكذلك أفعالهم التي هي من جنس أفعال الكفار بالمسلمين هي كفر أيضا ... لكن تكفير الواحد المعين منهم والحكم بتخليده في النار موقوف على ثبوت شروط التكفير وانتفاء موانعه.

فإنا نطلق القول بنصوص الوعد والوعيد والتكفير والتفسيق ولا نحكم للمعين بدخوله في ذلك العام حتى يقوم فيه المقتضى الذي لا معارض له».

إذن هذه قاعدة مهمة جدًا يبينها ويوضحها شيخ الإسلام: «فإنا نطلق القول بنصوص الوعد والوعيد» أي: تقول: من فعل كذا فهو كافر، من قال كذا فهو كافر، من فعل كذا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين وهكذا حسب النصوص فتطلق القول في الوعد والوعيد والتكفير والتفسيق فهذا تكفير النوع وهذا يطلق فيه العمومات.

أما تكفير العين شخص معين باسمه فلان ابن فلان فالحكم بكفره: « ولا نحكم للمعين بدخوله في ذلك العام حتى يقوم فيه المقتضى الذي لا معارض له».

يعني: ينبغي كما ذكرنا وعبر شيخ الإسلام بعبارة أخرى: «لا بد من استيفاء الشروط وانتفاء الموانع» وهذا هو مسلك عامة أهل السنة.

عمومًا مسلك أهل السنة في هذا الزمان وإن كانوا يحكمون على أغلب الحكومات - التي هي معروفة بعد الحكم بما أنزل الله والحكم بغير ما أنزل الله- أنها كافرة كفرًا أكبر كجهات أو كنظام.

أما تكفير الآحاد فينبغي أن يوكل إلى أهل العلم وأهل الحل والعقد ونكتفي نحن طلبة العلم بالكلام في تكفير النوع وإطلاق الكلام أما تحديد العين فهذه وظيفة القضاء الشرعي أو الإمام أو علماء المسلمين.

وهذا ليس شفقة عليهم فإننا نبغضهم في الله ونتمنى أن يكونوا كفارًا كأبي جهل وأبي لهب حتى يعاقبهم الله على ما يفعلونه بالأمة لكن خوفًا على أنفسًا نحن أن تجرأ على الله بالقول بغير علم، ولا نتمنى أن يكونوا كفارًا حبًا في وقوع الكفر بل ندعو الله أن يهديهم إلى لإسلام.

بقيت مسألة مهمة جدًا ولها علاقة بنفس الموضوع:

وهي مسألة حكم المتبوعين (الشعب) المحكومين بغير ما أنزل الله -سبحانه وتعالى-:

بعض الناس يتأثرون بأهل البدع من الخوارج الجدد كجماعة التكفير والهجرة وغيرهم من بعض الإطلاقات التي يطلقونها ويترتب عليها مقولات خطيرة كما سبق أن ناقشنا ذلك في قضية دار الإسلام ودار الكفر [فيطلقون] بدون تفصيل ما دامت البلاد تحكم بغير ما أنزل الله إذن فأهلها كفار ويصير الأصل فيهم أنهم كفار لأنهم راضون.

المحكومون بغير ما أنزل الله على نوعين:

النوع الأول: المطيعون لمتبوعيهم المتبعون لهم فيما هم عليه.

فالشعب ينقسم إلى قسمين:

القسم الأول: مطيعون لهؤلاء المتبوعين وهؤلاء نوعين:

النوع الأول: العالمون بأن متبوعيهم قد بدلوا دين الله فيتبعونهم على التبديل ويعتقدون تحليل ما حرم الله وتحريم ما أحل الله اتباعًا لهؤلاء المتبوعين مع علمهم بمخالفتهم للإسلام فهذا كفر بالله -عز وجل- وقد جعله الله تعالى شركًا يقول تبارك وتعالى ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [التوبة: 31]

وفي الحديث المروي عن عدي بن حاتم - وفيه ضعف- أنه قال: «أتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- [وفى عنقي صليب من ذهب قال فسمعته يقول ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ﴾ قال: «قلت: «يا رسول الله إنهم لم يكونوا يعبدونهم». قال :« أجل ولكن يحلون لهم ما حرم الله فيستحلونه ويحرمون عليهم ما أحل الله فيحرمونه فتلك عبادتهم لهم»].

وسئل حذيفة -رضي الله عنه-: «أرأيت قول الله تعالى ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ ﴾؟ قال: «أما إنهم لم يكونوا يصومون لهم ولا يصلون لهم ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئًا استحلوه وإذا حرموا عليهم شيئًا أحله الله لهم حرموه فتلك ربوبيتهم».

سئل أبو العالية : تعالى: «كيف كانت الربوبية في بني إسرائيل؟» فقال: «كانت الربوبية أنهم وجدوا في كتاب الله ما أمر به ونهوا عنه فقالوا: «لن نسبق أحبارنا بشيء فما أمرونا به ائتمرنا وما نهونا عنه انتهينا لقولهم» فاستنصحوا الرجال ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم».

فهذه الربوبية في بني إسرائيل يعني: طاعتهم في استحلال الحرام وتحريم الحلال وهم يعلمونه أن هذا تبديل لحكم الله فيوافقونهم على هذا الكفر فهم مثلهم.

والذين يقولون بأن الشعب ككل كافر يستدلون بقوله تعالى ﴿وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ﴾ [الأنعام: 121] وإن أطعتم الحكام فإنكم لمشركون، ولا ينبغي الاستدلال بالآية هنا على الإطلاق بل لا بد من توضيح الحكم المقصود بها.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية : تعالى في شرح معنى هذه الآية: «من اتبع في العمل فقط فلم يستحل الحرام كان فاسقًا، ومن اتبع في الاعتقاد باستحلال الحرام وتحريم الحلال كان كافرًا»

فمن يوافقهم - مع اعتقاده للتحريم- لأن هذا يتمشى مع هواه فهذا عاصٍ فاسق، أما من اتبعهم في الاعتقاد فهذا كافر.

ويقول الإمام أبو بكر بن العربي : تعالى: «إنما يكون المؤمن بطاعة المشرك مشركا إذا أطاعه في الاعتقاد؛ فإذا أطاعه في الفعل وعقده سليم مستمر على التوحيد والتصديق فهو عاص فافهموا [ذلك في كل موضع]».

إذن الطاعة الواردة في قوله ﴿وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ﴾ هذه شرك لأنها طاعة في الاعتقاد في حل ما ذبح لغير الله فإن كان يزعم أهل فارس أن الميتة حلال وأن الله قد ذبحها بسكين من ذهب وكتب ذلك إلى العرب فمن وافقهم في ذلك الاعتقاد استحلال الحرام- كان مشركًا.

ويقول شيخ لإسلام ابن تيمية : تعالى في تفسير قوله تعالى﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ﴾ قال: «هم على وجهين : أحدهما: أن يعلموا أنهم بدلوا دين الله فيتبعونهم على التبديل فيعتقدون تحليل ما حرم الله [وتحريم ما أحل الله اتباعا لرؤسائهم مع علمهم أنهم خالفوا دين الرسل فهذا كفر وقد جعله الله ورسوله شركا - وإن لم يكونوا يصلون لهم ويسجدون لهم - فكان من اتبع غيره في خلاف الدين مع علمه أنه خلاف الدين واعتقد ما قاله ذلك دون ما قاله الله ورسوله؛ مشركا مثل هؤلاء.

والثاني: أن يكون اعتقادهم وإيمانهم بتحريم الحلال وتحليل الحرام] ثابتا لكنهم أطاعوهم في معصية الله كما يفعل المسلم ما يفعله من المعاصي التي يعتقد أنها معاص؛ فهؤلاء لهم حكم أمثالهم من أهل الذنوب». وليسوا أهل كفر وردة.

فهذا معنى ﴿وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ﴾ يعني طاعة اعتقاد في الشرك وعلى ضوء هذا أيضًا نفهم قوله تعالى أيضًا ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ﴾ [محمد: 26] فلو أطاعوهم في بعض الأمر طاعة اعتقادية في الشرك فهم مشركون.

 الضرب الثاني: المطيعون مع إيمانهم واعتقادهم بتحريم الحلال وتحليل الحرام ثابتا لكنهم أطاعوهم في معصية الله فهؤلاء لهم حكم أمثالهم من أهل الذنوب لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إنما الطاعة في المعروف» والحديث الآخر: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» فأولئك ارتكبوا معصية بطاعتهم فيما حرم الله.

وقال أيضًا -صلى الله عليه وسلم-: «على المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره إلا أن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة».

يقول ابن القيم: «وفي الحديث دليل أن على من أطاع ولاة الأمر في معصية الله كان عاصيا وأن ذلك لا يمهد له عذرا عند الله بل إثم المعصية لاحق له وإن كان لولا الأمر لم يرتكبها وعلى هذا يدل هذا الحديث».

لكن مجرد الطاعة في العمل لا يكون بها التكفير إنما التكفير في الطاعة في العمل مع الاعتقاد، يطيعهم مع موافقتهم في الاعتقاد بتحليل الحرام أو بتحريم الحلال.

هذا هو القسم الأول بنوعيه: المطيعون للحكام، فإن كانت الطاعة في الاعتقاد فهي كفر أكبر، وإن كانت في الاتباع والانقياد فقط مع اعتقاد الحرام فهذه معصية وكفر عملي.

النوع الثاني - من الشعب ومن المتبوعين-: المنكرون غير الراضين:

فليس وجود الإنسان في بلد تحكم بغير ما أنزل الله دليلًا على أنه يوافقهم في الاعتقاد أو يوافقهم حتى في المعصية والانقياد.

وهؤلاء بنص حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- غير آثمين فضلًا عن أن يكونوا كافرين وهو الإنسان الكاره لهذا الوضع غير الراضي عنه، لكن قد يناله شيء من الإثم إذا كان هناك منكر يقدر على تغييره فلا يغيره.

يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «يستعمل عليكم أمراء فتعرفون وتنكرون فمن كره فقد برئ ومن أنكر فقد سلم ولكن من رضي وتابع» فقالوا: «يا رسول الله ألا نقاتلهم؟» قال « لا ما صلوا ».

يقول النووي: « ومعناه من كره ذلك المنكر فقد برئ من إثمه وعقوبته وهذا في حق من لا يستطيع إنكاره بيده ولا لسانه فليكرهه بقلبه وليبرأ ... وفيه دليل على أن من عجز عن إزالة المنكر لا يأثم بمجرد السكوت بل إنما يأثم بالرضا به أو بأن لا يكرهه بقلبه أو بالمتابعة عليه».

هذه صور الإثم في هذه الحالة، وكما ذكرنا من قبل إنكار المنكر بالقلب لا يعذر فيه مسلم بل هو فرض عين على كل مسلم أما المنوط بالاستطاعة فهو اليد واللسان كما بينا من قبل.

يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إنه سيكون بعدي أمراء من دخل عليهم فصدقهم في كذبهم وأعانهم على ظلمهم فليس مني ولست منه وليس يرد علي الحوض ومن لم يدخل عليهم ولم يصدقهم في كذبهم ولم يعنهم على ظلمهم فهو مني وأنا منه وسيرد على الحوض».

وقد كفر بعض الناس عامة الشعوب الإسلامية بدعوى اتباعها لمن يحكم بغير ما أنزل الله وطاعتها لهم حيث قالت بعض هذه الجماعات: «إن المسلم يرتد كافرًا مشركًا متى أطاع من لم يحكم بما أنزل الله!!» والتبع والطاعة والاتباع يكونان -حسب ما قالوا- بالعمل دون النظر إلى النية والاعتقاد وقالوا: «إن الشخص متى عمل عملًا مما دعا إليه الآمر بغير ما أنزل الله فإنه يكون مطيعًا ومتبعًا له ومتخذًا له ربًا من دون الله -عز وجل- سواء عمل العمل وهو معتقد خطأ أن الآمر إنما أمر بحكم الله به أو عمل لأمر الآمر وهو عالم أن الأمر يخالف حكم الله أو علم أنه يأمر بخلاف حكم الله...» إلى آخره.

استدلوا بقوله تعالى ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ﴾ [التوبة: 31] فقالوا: الاتباع كان هو العمل بما قال الأحبار والرهبان دون النظر إلى الاعتقاد فقالوا: هذه هي الطاعة يعني اتباعهم وطاعتهم بغض النظر هل اعتقدوا أم لم يعتقدوا.

والرد على هذا الاستدلال هو أن هذه الآية الكريمة يقصد بها اتخاذهم الأحبار والرهبان أربابًا بطاعتهم في تحليل الحرام وتحريم الحلال وهذا اعتقاد وليس مجرد عمل ويوضح هذا تفسير الآية بالحديث حديث عدي بن حاتم وبقول التابعي أبي العالية كما حكينا عنه.

فهذه النصوص تبين أن هذا الشرك الذي وقع في نبي إسرائيل إنما هو وضعهم الأحبار والرهبان مقام الله -عز وجل- في التحليل والتحريم وإعراضهم عن أوامر الله -عز وجل- وليس في الآية ما يدل على أنها في بني إسرائيل كلهم بل القرآن يدل على خلاف ذلك كقوله تعالى ﴿لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آَيَاتِ اللَّهِ آَنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ﴾ [آل عمران: 113].

أيضًا استدلوا بقوله تبارك وتعالى ﴿إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ﴾ [التوبة: 37] فقالوا: إن النسيء عمل وقد حكم الله بكفر مرتكبيه.

والجواب أن هذه الآية يبين الله -عز وجل- أن النسيء زيادة في الكفر الواقع فهم أصلًا كفار ويزيدهم النسيء كفرًا.

يقول ابن العربي: «في هذه الآية بيان لما فعلته العرب من جمعها بين أنواع الكفر ، فإنها أنكرت وجود الباري ، فقالت : ﴿وَمَا الرَّحْمَنُ﴾ [الفرقان : 60]  وأنكرت البعث، فقالت ﴿قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ﴾ [يس : 78]. وأنكرت بعثة الرسل، فقالت ﴿فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ﴾ [القمر : 24]. وزعمت أن التحريم والتحليل إليها، فابتدعت من ذاتها مقتفية لشهواتها التحريم والتحليل، ثم زادت على ذلك كله بأن غيرت دين الله، وأحلت ما حرم، وحرمت ما أحل تبديلا وتحريفا».

فكون النسيء زيادة في الكفر إنما هو لوقوع التحليل والتحريم يقول الله -عز وجل- ﴿يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾ أيضًا هي مسألة استحلال ما حرمه الله تعالى بالنسيء.

استدلوا أيضًا بقول الله تبارك وتعالى ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32)﴾ [آل عمران: 31-32]

قالوا: فالاتباع هو العمل هو العمل بما جاء به النبي -صلى الله عليه وسلم- ومن لم يفعل لم يتبع ومن لم يتبع فقد تولى عنه ومن تولى عنه فهو من الكافرين.

والآية هنا دعوة إلى الاتباع المطلق للنبي -صلى الله عليه وسلم- وللانقياد لشرعه والتولي هو الإعراض الكلي عن دعوة النبي -صلى الله عليه وسلم- وليس المقصود هنا التولي عن آحاد الأعمال إذ ليس كل من عمل عملًا غير متبع فيه النبي -صلى الله عليه وسلم- يعد متوليًا عن أمر الله -عز وجل- مطلقًا يقول الطبري في قوله ﴿قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ﴾:

«قل يا محمد لهؤلاء الوفد من نصارى نجران: أطيعوا الله والرسول محمدًا، فإنكم قد علمتم يقينًا أنه رسولي إلى خلقي، ابتعثتُه بالحق، تجدونه مكتوبًا عندكم في الإنجيل، فإن تولَّوا فاستدبروا عما دعوتهم إليه من ذلك، وأعرضوا عنه، فأعلمهم أن الله لا يحبُّ من كفر بجحد ما عرف من الحق، وأنكره بعد علمه».

وأصل الإيمان كما هو معروف تصديق وانقياد فلا بد من وجود التصديق في القلب والانقياد العام للإسلام.

فيمكن المسلم أن يعلن بالشهادتين أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله التصديق ولا بد أن تتضمن أيضًا الانقياد أي أنه يقبل شرعه ولا يستنكف عن اتباعه فهذا الاتباع العام بأصل الإيمان وأصل الرسالة ولا يقدح في ذلك وجود بعض المعاصي العملية وإلا آل الأمر إلى تكفير كل مرتكب لمعصية لأنه يعتبر متوليًا عن طريق النبي -صلى الله عليه وسلم- ويستدلون كما فعل الخوارج ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا﴾يعني: عن طاعة الرسول ﴿فَإِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ﴾ فالكلام هنا في الاتباع المطلق للنبي -صلى الله عليه وسلم-.

كذلك استدلوا بقول الله تبارك وتعالى ﴿وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ﴾ [الأنعام: 121]

قالوا: الطاعة المقصودة هي الأكل مما حرم الله، بصرف النظر عن عقيدة الآكل فإذا كان المسلم يرتد مشركًا إذا أطاع في أكل قطعة من اللحم فكيف إذا أطاع فيما هو أعظم من ذلك؟!.

نقول كما أشرنا من قبل وفصلنا فيما نقلناه من كلام ابن تيمية وابن العربي هذه الآية واردة في تحليل الميتة فالقضية ليست مجرد عمل بل قضية استحلال الحرام وتحريم ما حرم الله تبارك وتعالى.

يقول القرطبي: « قوله تعالى : ﴿وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ﴾ أي: في تحليل الميتة ﴿إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ﴾ .

فدلت الآية على أن من استحل شيئا مما حرم الله تعالى صار به مشركا. وقد حرم الله سبحانه الميتة نصا ؛ فإذا قبل تحليلها من غيره فقد أشرك».

[هنا نقص في الشريط الرابع يقارب ثلاث دقائق وبه تنتهي هذه المحاضرة والله أعلم].

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

ربما يهمك أيضاً

رسالة من غريق
1904 ١٢ يناير ٢٠١٧
آداب التخلي -3
2385 ٠٨ ديسمبر ٢٠١٦
آداب التخلي -2
1859 ٠١ ديسمبر ٢٠١٦
البيع بالتقسيط
2834 ١٧ نوفمبر ٢٠١٦
السيرة البازية
1468 ١٠ نوفمبر ٢٠١٦