الجمعة، ٢٠ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٩ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

(الحاكمية (7

بداية الحركة الإسلامية- قضية الاستحلال العملي...

(الحاكمية (7
عبد المنعم الشحات
السبت ٢١ فبراير ٢٠١٥ - ١٣:٥٢ م
1859

الحاكمية (7)

الشيخ/ عبد المنعم الشحات

[المحاضرة السابعة ]

نذيل الكلام في قضية الحكم بغير ما أنزل الله بمزيد من التفصيل في قضية تكررت الإشارة إليها أثناء شرح النقول عن أهل العلم في هذه القضية ، وهي قضية وجود نزاع واسع بين الاتجاهات الإسلامية المعاصرة في مسألة الحكم بغير ما أنزل الله ، ومتى يكون كفرًا أكبر ، ومتى يكون كفرًا أصغر ، وقد سبقت الإشارة إلى أن مبدأ أن الحكم بغير ما أنزل الله قد يكون أكبر في أحوال وقد يكون أصغر في أحوال ، يكاد يكون متفق عليه بين جميع من خاضوا في هذه المسألة ، وإنما الخلاف في بعض المسائل هل تدخل في الكفر الأكبر أم في الكفر الأصغر ؟ ويدور حولها جدل كبير جدًا بين الاتجاهات الإسلامية المعاصرة إلى الحد الذي يمكن أن تعتبر أنها من أكثر المسائل الخلافية شدة بين الاتجاهات الإسلامية المعاصرة .

وسبق أن ذكرنا أن هناك مواطن للاتفاق لا يكاد ينازع فيها أحد ، منها : أن الحاكم بغير ما أنزل الله إذا كان هذا عن استحلال بمعنى أنه يقول أنه يجوز له أن يحكم بغير ما أنزل الله ، أو تكذيب لحكم الله بمعنى أن يقول : إن الله تعالى لم يحرم كذا وهو معلوم من الدين بالضرورة كما لو قال : لم يحرم الزنا ، أو لم ينزل تشريعًا في الباب الفلاني من أبواب التشريع ، أو أن يأتي بتشريع مجمع على أنه مخالف لتشريع الإسلام فينسبه إلى الدين ، فهذا مما لا نكاد نعلم قائلًا بأنه لا يكون كفرًا أكبر ، فإنه يكاد يكون محل اتفاق أن هذه الأشياء كفر أكبر .

أيضًا يكاد يكون محل اتفاق ، وهنا نقول يكاد أيضًا لأن هناك من ينازع في مسألة أن من كان أصل التشريع عنده مستمد من دين الله تعالى ولكن يخالف عند التطبيق ، فيخالف في وقائع القضية المعينة ، أو يتهاون في ملاحقة العصاة مع أن لديه قدرة لأننا عندما نقول كلمة الحكم بما أنزل الله وضدها الحكم بغير ما أنزل الله ، ولا ينصرف الذهن فقط إلى النظام الإداري أو السياسي المعاصر الذي يفصل بين السلطات كما هو شائع في النظام الغربي ، فنحن نتكلم عن الأمراء الذي يحكمون بغير ما أنزل الله ، وإن لم يكونوا قضاة ، وعن القضاة الذين يحكمون بغير ما أنزل الله وإن لم يكونوا أمراء ؛ لأن الأمير أو الوالي سواء الخليفة الأعظم أو الوالي على إحدى البقاع له سلطات مطلقة في تطبيق دين الله تعالى كما هو النظام الإسلامي ، حيث أن ولي الأمر مسئول عن كل شيء من أول تطبيق الشرع في الأحكام وإقامة الصلاة وجمع الزكاة إلى رغيف الخبز ، إذ يجب أن يبحث هل يجد الناس طعامهم أم لا ؟ هل يجدون من يطببهم أم لا ؟ فهذه مسئولية شاملة وهو يوكل فيها [ من ينوب عنه ]، وهذا الأمر هذا خاضع لاختلاف الظروف والوقائع .

فالحاصل أننا نقول أن من الممكن أن يكون هناك تقاعس من أمير بلد معينة ، وهذا كان حاصل في أمراء بني أمية أن يكون عنده سلطة ويترك شاربي الخمور ، فهذا نوع من الحكم بغير ما أنزل الله ، أو نوع من امتناع تنفيذ حكم الله ، وهذا كفر أصغر كما ذكرنا ؛ لأن عنده في الحكم المعلن الذي يدعو إليه أن الخمر محرمة ، وأن شاربها يستحق الجلد ، ولكنه يتقاعس .

ملخص لما سبق :

وقد قدمنا مرارًا توضيح معنى قولنا : « قضية » لأنه قد يسبب لبسًا كثيرًا ، ومعنى « قضية معينة » ليس أننا نقول : « قضية واحدة » فنحن لا نقصد العدد ، بل نقصد الجنس ، فهو حينما يطبق الحكم وقائع القضية فالتشريع الذي ينادي به ، والذي يقول أنه يطبقه  هو شرع الله تبارك وتعالى .

وقلنا أن عندنا حكم شرعي وفتوى وحكم قضائي ، والحكم القضائي والفتوى قريبان جدًا من بعضهما من جهة أنه إسقاط للحكم الشرعي على الوقائع ، فالحكم الشرعي فيه أن الزنا محرم ، ويثبت بالاعتراف أو بشهادة أربعة شهود عدول ، وأن عقوبته الرجم إن كان محصنًا ، والجلد إن كان بكرًا ، فالحكم الشرعي من الواضح أنه مليء بالتفاصيل ، وهناك تفاصيل أكثر من ذلك ، فالزنا يطلق على أشياء كثيرة ، فهناك زنا يوجب الحد ، وتفاصيل أخرى عندما نريد أن نثبته على شخص معين هل اعترف أم لا ؟ ولو لم يعترف هل هناك أربعة شهود عدول أم لا ؟ إلى غير هذا ، وفي النهاية من سلطة القاضي أن يبحث كل هذه الجزئيات ، ويقول الحكم في النهاية : هذا يرجم ، وهذا يجلد ، وهذا فعل شيئًا ليس من الزنا الذي يوجب الحد ، فيعذر ،وهذا لم تثبت عليه تهمة أصلًا فيطلق سراحه .

فكل هذه أشياء يمكن أن يقولها القاضي وهو متعبد شرعًا بأن يطبق الحكم الشرعي على الواقع تمامًا ، فإذا تلاعب هو لشهوة أو لهوى أو لرشوة ويكون الشهود عدول ، ويقول أنهم ليسوا بعدول إلى غير ذلك ، فهذا حكمه أنه قد حكم بغير ما أنزل الله ، وما فعله  كفر أصغر وهذا يكاد يكون متفق عليه ونقول يكاد يكون متفقًا عليه ؛ لأن البعض يقول : إن هذه الوقائع إذا تكررت فإنها تدل على الاستحلال ممن يؤصلون لقضية الاستحلال العملي ، وهذه بدعة لم يقل بها أحد من السلف ، فليس هناك شيء اسمه استحلال عملي ، وإلا فهذا يفتح باب التكفير على مصرعيه .

ونقول لمن يقوله : ضع لنا ضابطًا بين فعل المعصية وبين استحلالها بالعمل ، وهكذا ترد المسألة إلى الهوى المحض فإذا كان هذا ساخطًا على شخص يقول : هذا استحل المعصية !! بدون أن يكون بينه وبين الفاعل لها فرق يذكر ، فهذه قضية لا بد من النظر فيها .

فأصل مسألة الانحراف في التطبيق العملي تعتبر كفرًا أصغر يكاد يكون متفق عليها ، وقد يتحايل عليها البعض مرة أخرى ويقول أنها إذا تتكرر كان كفرًا أكبر من باب أنها استحلال عمل ، ويبقى هنا مواطن الخلاف الكبيرة ، وهي المسألة التي تهمنا بدرجة كبيرة جدًا وهي مسألة التبديل ، أو بمعنى آخر : هل نحن مضطرون إلى أن نفرق بين التبديل والاستحلال فنقول : إن الحاكم بغير ما أنزل الله يكفر كفرًا أكبر إذا كان مستحلًا ، وأما سوى ذلك حتى ولو أتى بقوانين غير شرعية ولكن لم ينسبها إلى الشرع ولم يدعِّ أن هذا جائز له أن هذا يعد في الكفر الأصغر ؟! وبذلك تدخل حالة التبديل دخلت في الأصغر ، وهذا كلام لبعض المعاصرين يقول أنه يكفر إذا استحل وما سوى ذلك أصغر .

فقوله : « وما سوى ذلك » إحدى صوره أن يأتي بقانون عام ، وليس وقائع قضية في التطبيق ولكن كتشريع عام فيقول : نحن نقضي بأن الزنا حرية شخصية ، وإذا سئل لا يقول أن هذا من دين الله ، ولكن يقول : هذا مخالف للدين ، وهذا إثم ، فلا يقول أنه من الدين ، ولا يقول أنه مباح ؛ فلا أحد من هؤلاء يصف من يفعل هذا بأنه ليس كفرًا أكبر ، فهذا يأتي بتشريع عام ، وهذه القضية التي فيها خلاف كبير جدًا .

ويقول بعض المعاصرين : إن الكفر الأكبر إذا استحل ، ويعرف هذا الاستحلال بأنه إما أنه ينسب هذا التشريع الجديد إلى الشرع كذبًا على الشرع ، وإما أن يدعي أن من حقه أن يأتي بهذا التشريع ، قال : وأما سوى ذلك ولو بدل وأتى بتشريع عام يقرره في الناس بدون أن ينسبه إلى الشرع أو يدعي جواز هذا الشرع ولكن يقول إنها معصية ، وإنه سيتوب منها أو غير هذا ، فهذا عندهم من الكفر الأصغر من حيث النوع ، وهذه قضية مهمة جدًا ؛ لأنهم قالوا كفر أكبر من حيث النوع وامتنعوا عن تكفير المعين لكان الخطب هينًا .

         والاحتمال الثاني - طريقة الطرح الأخرى والتي صرنا عليها- أن من بدل الأحكام الشرعية ونعني بالتبديل أنه يقول أن الحكم الذي يحكم به بين الناس هو أن الزنا حلال أو أنه عقوبته القتل مطلقًا ، فهذا تبديل وهذا تبديل ، وهو أن يأتي بحكم شرعي في مسألة من المسائل ويقول : إن الحكم الذي يقضَى به بين الناس هو كذا سواء أنسبه إلى الشرع أم لم ينسبه ، فلا عبرة بهذه التفاصيل ، وهكذا تكون حالة الاستحلال والجحود وحالة التبديل داخلة في الأكبر ، ويكون الأصغر في القضية المعينة .

ويتحصل من هذا العرض أن نقطة الخلاف فيمن بدل دون أن ينسب هذا التبديل للشرع أو يدعي أن هذا التبديل يَحِلُ له ، فهذه هي نقطة الخلاف الرئيسية التي تدور بين اتجاهات تدعي السلفية .

وهناك نقاط خلاف تكاد تكون خارجة عن الاتجاهات التي تدعي السلفية ، وهي قضية تكفير المعين ، فيوجد شبه اتفاق بين الاتجاهات السلفية - أو المنتسبة للسلفية- أن هناك فرق بين النوع والعين  بغض النظر عن الخلاف في الصورة المختلف فيها بينهم في دخولها في الأكبر أو الأصغر ، أو حتى الصورة المتفق عليها أنها من الأكبر فهذه تحتمل فرق بين النوع والعين ، وأنه يمكن أن  يكون المعين معذورًا .

بينما يثور الخلاف على تكفير المعين مع اتجاهات التكفير والتوقف ن وبدرجة ما مع اتجاهات السروريين  لأنهم يمكن أن ينازعوا في لزوم تكفير المعين ، فبعضهم يقول : ليس هناك عذر بالجهل ، ولا عذر بالتأويل ، وليس هناك  فرق بين النوع والعين ، وبعضهم يقول في قضية الحاكمية خاصة وهؤلاء هم السرورية فمن الممكن أن تجد أنه يقبل الكلام على العذر بالجهل في أي قضية إلا قضية الحاكمية ، فيقول في قضية الحاكمية خاصة : الحجة بها قائمة على كل أحد !! .

وهذا من عدم الإنصاف لأنه لو اعتبرت الشبهة في مسائل شرك القبور ، فالشبهة في مسائل الحاكمية أشد ؛ لأن هناك مثقفين كما يدعون يدندنون ليل نهار على أنهم يفهمون الإسلام الحقيقي الذي لم يأت بشريعة ملزمة ، وعلى الأقل هناك طائفة كبيرة من المثقفين تدعي أن هناك موانع كثير تجعل الكلام على تطبيق الشريعة الآن كلامًا نظريًا ، بل إن اتجاهات إسلامية عريضة واقعها العملي أصبح كذلك ويقترب واقعها النظري منه ، فواقعها العملي أنه يقول : نحن نتفهم الظروف الدولية ، ونحن نتفهم الاعتبارات الأخرى ، ولن نطالب بتطبيق الشريعة الآن !! إلى غير هذا .

إذن فقضية تكفير المعين داخلة في مساحة الخلاف ، ولكن بفضل الله ربما داخل الاتجاهات المنتسبة إلى السلفية تكاد تكون متفقًا عليها ، ولكن الإشكال في الاتجاه السروري أنه أيضًا معدود من ضمن الاتجاهات السلفية رغم أنه قطبي أكثر منه سلفي ، وبالتالي ستجده من الممكن أن يوافق على العذر بالجهل ، ولكن في قضية الحاكمية لأن لها مكانة كبيرة جدًا عند الاتجاه القطبي ، فإما ينقض كل ما وافق عليه من العذر بالجهل و... و... ، وإما أن يقول في هذه القضية بالذات لا يوجد عذر بالجهل ، وقد تجد كلامًا فيه اضطراب تناقض ، أو يدعي أن الحجة بها قائمة على كل أحد وهذا من عدم الإنصاف كما ذكرنا .

والقضية الأخطر وتعتبر بدعة غليظة جدًا واضحة ، وهي تعميم القول بالتكفير المحكومين فأولًايقول الحكام كفار نوعًا ثم عينًا ، فمن حيث النوع قلنا أن هناك صورًا كثيرة داخلة ، فصورة التبديل الشائعة في العالم الإسلامي هي من الكفر الأكبر نوعًا ، ثم إن الصورة التي هي بدعة ضلالة هي سحب هذا الحكم بالتكفير على المحكومين بذرائع كثيرة :

منها : أن الديار انقلبت ديار كفر ، منها : أن عموم الناس راضون إلى غير ذلك مما لا مجال لتفصيله الآن ، وهذه بدعة في غاية الغلظة شدد العلماء النكير عليها ، وبها تقول جماعات التكفير وجماعات التوقف ، وإن كان على خلاف في التفاصيل بينهم .

بناء على هذا العرض لجزئيات هذه القضية يتبين ما هو المتفق عليه والمختلف فيه نقول بين الاتجاهات الإسلامية المعاصرة مع إننا قررنا مثلًا فيما قررنا أن هناك إجماع نقله الحافظ ابن كثير على أن تبديل الشرع - وإن لم ينسبه للشرع - وهو أن يأتي بتشريعات من غير الشرع فيجعلها ملزمة - إن هذا كفر بواح لا شك فيه دون أن يعول على نسبة هذا الأمر إلى الشرع ، ولكننا نتكلم من حيث الواقع الآن .

فهذه هي جزئيات القضية والخلافات الدائرة فيها ، وهذا التوصيف العام للمسألة ، والخلاف الدائر فيها ، والمسألة طويلة جدًا ، وفيها أخذ ورد ، والغرض المقصود هنا ذكر أهم ما تنضبط به المسألة .

فمن أهم منا ينبغي أن يتفطن إليه هنا - وقد سبقت الإشارة إليه مرات كما ذكرنا- فنحن هذه المرة نضع النقاط على الحروف في بعض الجزئيات ، ومعظم الكلام قد مر في ثنايا شرحنا للآيات والنصوص الواردة في القضية  وكلام العلماء فيها ، ولكن نعرضها الآن في قالب متسق مع بعضه في هذه الجزئية الخلافية خاصة :

أشرنا عدة مرات في قضية التفريق بين الحكم والفتوى وعدم التفريق بينهما يؤدي إلى كثير من الخلط واللبس ، فلا بد أن نقرر الأحكام بعيدًا عن التأثر بالواقع ، وعندما تبحث أي مسألة لا تبحثها وأنت تحت ضغط واقع معين ؛ لأن هذا الكلام سوف يؤثر بالحتم واللزوم على البحث هذه جزئية .

وجزئية أخرى عندما تنقل كلام عالم من العلماء انظر : هل فصل بين الحكم والفتوى أم قال الفتوى مرة واحدة ؟! فإذا كان فصل فقد أغناك ، وقلنا أن كثيرًا من فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية يسلك فيها : هذا المسلك فيقرر الأحكام ثم يشرح الواقع ، ثم يطبق الحكم على الواقع ، كما في فتوى التتار المشهورة ، ولذلك لا يقول أحد : إن فتوى التتار كيف تأخذون أحكامًا من فتوى التتار ؟! .

فنقول : أنها كانت [ - وجميع فتاوى شيخ  الإسلام : -] منهجًا علميًا متكاملًا ، ففتوى التتار سئل فيها شيخ الإسلام عدة مرات عن التتار ، وأجاب مرات إجابات مفصلة ، ومرات إجابات مقتضبة ، منها مرة مفصلة جدًا فصار يقرر أحكامًا ووقائع ويبين قتال أهل البغي ، وقتال المرتدين ، وكيف قاتل الصحابة المرتدين ، وكيف قاتل علي  ـ رضي الله عنه ـ  الخوارج ؟ ثم يصف حال التتار ، ثم يبين أن الأقرب أنهم يقاتلون كقتال علي  ـ رضي الله عنه ـ  للخوارج ، إذن فقد ذكر الحكم ، وقرره ، ثم ذكر الواقع ، وشرحه ، ثم طبق الحكم على الواقع ، وقال : إن واقع التتار يشبه واقع الخوارج ، إذن فنحن نقاتلهم على الصفة التي قاتل علي  ـ رضي الله عنه ـ  بها الخوارج .

فلا بد أن يكون المعنى ابتداء يكون واضحًا في الذهن في الفرق بين الحكم والفتوى هذا من جهة ، ومن جهة أخرى عندما ننقل كلام العلماء لا بد أن نتحرى إما أن نأتي بالكلام مطولًا إذا كان العالم تكلم كلامًا مطولًا، وأما إذا كان كلامًا مختصرًا ؛ فنبحث في الوقائع التاريخية ، كأن كان كلام العالم فتوى ، أو أن للعالم مواطن مفصلة ومواطن مجملة [ في مواضع من كلامه ] فتقدم المفصلة على المجملة ، أو قال حكمًا مرة ، وقال فتوى مرة أخرى ، وهكذا .

وبالمناسبة هذا الذي نقوله مثلًا في كلام علماء الدعوة الوهابية عمومًا في قضية العذر بالجهل ، فتجد العالم الواحد من منهم أول شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب حتى ابن باز : تعالى تجد له كلامًا إذا تصور الجهل يعذر ، وإن لم تصور لا يعذر ، ثم يسأل في مسألة أخرى فيقول : هذه لا عذر فيها بالجهل ، ويقول في مسألة أخرى : فيها عذر ، إذن هذا الكلام يمكن رده إلى بعضه ، فالتفصيل حكم ، أما المرة التي  قال فيها : يعذر ، والمرة التي قال : لا يعذر فهذه فتوى ، فهل هذه الفتوى ليس لها قيمة ؟ لا ، بل لها قيمة ، فالحكم له قيمة أن نعرف رأي العالم في هذه المسألة والحكم الذي يراه ويتدين لله به ، ونتعلم من الفتوى أيضًا طريقة تطبيقه للفتوى ، أو على الأقل مذهبه في هذه الحالة وفيمن يشبه حالهم ، فمن الممكن أن يكون هناك خلافهم ، ولكن نقدر كل مسألة بقدرها .

وهذا أمر في غاية الأهمية في نقل المسألة ، وهنا يمكن أن تقول أن اللبس الذي في مسألة الحكم بغير ما أنزل الله بسبب وجود ارتباط ذهني عند معظم من تكلم فيها بين الحكم والفتوى بدرجة لا تستطيع أن تفك عراها بحيث حينما تطالب أحدًا أن يفك هذه عن تلك تجد هناك نوعًا من الإعراض .

بداية الحركة الإسلامية :

بدأت القضية بالحركة الإسلامية في مصر والتي تعتبر أم الحركات الإسلامية في العالم الإسلامي - وهذا ليس عصبية ولكن هذا واقع الأمر- ونحن من أبعد الناس عن الدعوة للعصبية الجاهلية والقوميات وغيرها ، ولكنه واقع الأمر .

ولذلك أيضًا وليس عصبية فكرية في المقابل أننا نقول أن الحركة الأم للحركات الإسلامية المعاصرة هي حركة شيخ الإسلام محمد بن الوهاب ، ولو رجعنا للخلف قليلًا وقلنا : إن الحركة الأم للحركات الإسلامية المعاصرة هي حركة شيخ الإسلام ابن تيمية كان الكلام أصدق وأوقع ، فإنك تشعر أن شيخ الإسلام ابن تيمية تشعر حي بين أظهرنا لأنه عاش نفس النكبات ، فعاش قضية تنحية الشريعة ، وعاش قضية موالاة اليهود والنصارى إلى الدرجة التي يمالئ بعضُ المسلمين النصارى حتى يدخلوا بلاد المسلمين ، ويتمكنوا منها ، وعاش قضايا البدع بكافة أنواعها .

ومنهج شيخ الإسلام ابن تيمية التجديدي ومنهجه الإصلاحي ما زال حيًا بين الناس إلى يومنا هذا ، والشيخ محمد بن عبد الوهاب وهو أحد من تتلمذوا على كتب شيخ الإسلام ابن تيمية كان له حركة وصحوة في وقت كان العالم الإسلامي تقريبًا في سبات عميق جدًا ، وكانت هذه هي الحركة التي نادت بالرجوع إلى الكتاب والسنة في وقت كانت الخلافة العثمانية قد امتلأت بدعًا وشركيات من شركيات الصوفية وضلالاتهم ، وكثيرًا من البدع الفرعية ، لكن نتيجة ضعف وسائل الاتصالات في ذلك الوقت لم يكن للدعوة الوهابية أثر كبير خارج حدود الجزيرة العربية ، فلما انتقلت الدعوة الوهابية إلى مصر بدأت تصدر منها إلى العالم كله .

ولذلك يمكن أن تؤرج لتاريخ الصحوة الإسلامية - من باب الاعتراف بالحق لأهله مهما كانوا على انحراف - بالمدرسة العقلانية الحديثة بقيادة جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ، فهؤلاء هم الذين بدؤوا  يقولون للناس : نريد أن نبحث عن مخرج ، مع إن معظم كلامهم لا نوافقهم عليه .

وكان من رحمة الله تعالى أن آلت قيادة المدرسة العقلانية من بعد محمد عبده إلى محمد رشيد رضا ، في الوقت الذي بدأ فيه تراث الحركة الوهابية ينتقل إلى مصر .

ويعتبر محمد رشيد رضا أحد العلامات البارزة جدًا في تاريخ الحركة الإسلامية المعاصرة حيث أنه هو الذي حول دفة الحركة الإصلاحية العقلانية من العقلانية إلى السلفية ، ونحن نقول أن حركة محمد بن الوهاب كانت حتى ذلك الوقت محصورة داخل الجزيرة العربية ، وكان يراد لحركة جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده الانتشار ، وكان عندها مقومات الانتشار في العالم الإسلامي كله نتيجة الموقع الجغرافي والثقافي المتميز لمصر .

حول محمد رشيد رضا دفة هذه المدرسة إلى المدرسة السلفية ، وفي الواقع ما زال العالمانيين إلى يومنا هذا يبكون على اليوم الذي استخلف فيه محمدُ عبده محمدَ رشيد رضا : ، ووكل إليه أمر القيادة والريادة من بعده .

نادى محمد رشيد رضا بالرجوع إلى الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة متأثرًا بكتابات الدعوة الوهابية ، ثم بعد قليل دائمًا الذي يجد المنبع يستغني عن الوسيلة ، فوجد أن الحركة الوهابية هي إحدى فروع حركة شيخ الإسلام ابن تيمية ، فاطلع على تراث ابن تيمية وابن القيم ، وصار شديد التأثر بهما  : تعالى إلا أن المنية وافت محمد رشيد قبل أن يراجع كل مواقفه ، ولذلك فإن بعض تراث رشيد رضا الذي وصل إلينا بعضه عقلاني وبعضه سلفي ، ولكن الالتزام السلفي العام كان حاله في آخر حياته ، وهو الذي أودع البذرة السلفية في مصر ، وبدأ بها حركة سلفية كان لها فروع كثيرة منها : أنصار السنة المحمدية ، [ تولاه من بعده الشيخ ] محمد حامد الفقي : وإن كان ورثه عنه كل تراثه بعلاته : بعقلانيته وسلفيته .

وما زال هذا الإرث العقلاني عند أنصار السنة ما زال موجودًا ولكن يخف مع الوقت بفضل الله تعالى ، والمد السلفي يتصاعد داخل الجماعة ، ولكن ما زالت الجماعة ترث جزءًا من هذا التراث العقلاني .

كان محب الدين الخطيب أحد المتأثرين بمحمد رشيد رضا وهو شخصية سلفية أخرى بارزة ، وإن لم يكن لها نفس أثر لمحمد رشيد رضا ، فقد كان له أثر بالغ في نشر كتب السلف والاعتناء بها ، ولكن انضمام محمد رشيد رضا إلى هذا الركب هو الذي أوجد فيه حيوية شديدة .

كان العلامة محب الدين الخطيب يشعر بمسئولية كبيرة تجاه شباب العالم الإسلامي ، فكان يبحث عن الكفاءات لكي يبرزها ، ولكي يحملوا مسئولية الدعوة جيلًا بعد جيل لا يكاد يكون برز منه إلا محب الدين الخطيب ومحمد رشيد رضا ، من أجل هذا أسس محب الدين الخطيب مجلة « الفتح الإسلامية » وسمح للأستاذ حسن البنا : أن يكتب فيها وهو ابن ثمانية عشر عامًا ، وكانت أول معرفة للناس بالأستاذ حسن البنا : من خلال مجلة « الفتح » .

وبعد ما انتقل حسن البنا إلى الإسماعيلية ، وأسس جماعة الإخوان المسلمين ، وأراد أن ينشئ لها جريدة كان الذي يطبعها له محب الدين الخطيب : تعالى .

كانت لحسن البنا : كان له جذور صوفية وهو في بلدته في البحيرة ، ثم لما جاء إلى القاهر تأثر بمحب الدين الخطيب ومحمد رشيد رضا ، ولكن فترة مصاحبته لهما لم تطل ،  فنقل إلى الإسماعيلية ، ثم بدأ : تعالى تأسيس حركة جديدة ، كان فيها من الحماس والحركة ربما ما لم يكن موجودًا عند جيل محمد رشيد رضا ومحب الدين الخطيب ، ولهما كل العذر في ذلك ، فأنت حينما تقيم أي شخصية لا تعري التقييم عن السياق التاريخي الذي كان موجودًا فقد كانا في فترة انهيار كامل وكانوا يقومون بكل شيء ، فهم الذين يؤلفون الكتب ويطبعون الكتب القديمة ، ويخرجون كتب السلف ، وهم الذين يلقون المحاضرات والندوات ، وهم الذين يأتون بالشباب أمثال حسن البنا وغيره ، ويجعلونهم يكتبون في المجلات ، فلم تتح  لهم  فرصة الالتحام بالجماهير .

استمع حسن البنا : استمع نصيحة لأحد شيوخ هذا الجيل ممن لم يكن لهم ذكر كبير إلا أنه نصح حسن البنا أن الأمور ستظل محدودة قاصرة ما لم يلتحم بالجماهير وما لم يجعل دعوته دعوة جميع المسلمين ، ومن هنا شرع حسن البنا : في هذا الاتجاه .

ومما ينبغي أن يعلم أن هذا المسلك في حد ذاته ليس منتقدًا بل هو من مزايا دعوته : ولكن هذا المسلك - مع طبيعة المرحلة وطبيعة ضعف الجهود البشرية وضعف الطبيعة العلمية في هذا الجيل - كان سبب انحراف ربما ما زلنا نعاني آثاره حتى اليوم ، ولذلك كان الموقف الصائب مع محب الدين الخطيب ومحمد رشيد الذين لم يتعجلوا الالتحام دون وجود كوادر لكن قدر الله وما شاء فعل .

تعجل حسن البنا النزول إلى الشارع ، وليس ذلك من موقع الداعية ، بل إن الجميع يشارك يأتي من المقهى ثم يشارك في اليوم التالي ، ولم يكن لدى الأستاذ نفسه : الوقت الكافي لتنقيح المسائل ، واتخاذ موقف ثابت في كل القضايا المصيرية ، لاسيما قضايا الازدواج التربوي الذي كان موجدًا عنده بين الصوفية التي نشأ عليها وبين السلفية التي تأثر بها لعدة سنوات في القاهرة .

وطبيعة الحركة في جماعة الإخوان أنها كانت حركة عارمة ، وكان الناس متعطشين لأي درجة من درجات التنفس والشعور أن هناك من يتكلم باسم الإسلام كما هو الحال في كل زمان بفضل الله تعالى ، فانقلبت إلى حركة واسعة جدًا في سنوات قليلة بدون وجود أسس فكرية واضحة ، وبدون مراعاة السنن الكونية في هذا الباب ، فوقع الصدام الحاد إعلاميًا مع الحكومات سواء كانت حكومات الاستعمار الأجنبية أو الحكومات المحلية التابعة لها .

وفي نفس الوقت القبول بالجلوس على موائد المفاوضات ، وهذه طريقة مزدوجة موجودة من أيام حسن البنا ، وفي النهاية انتهى وكان يميل إلى الحصول على المكاسب بأي طريق كان ، وفي هذا فيه خطورة بالغة ؛ لأن الخصم أكثر دهاء وأكثر امتلاكًا للأدوات التي يوظف بها الحوار لصالحه ، كما نشاهد الآن أن الإسلاميين في النهاية يقدمون أموالهم وأوقاتهم ودينهم ، ولا يجنون شيئًا مجرد ديكور فقط .

فالتفاوض مع هؤلاء القوم من باب أنك ستغلبهم ، [ كيف يكون ذلك ] وأنت تلعب في ملعبهم ؟! ، بل الصحيح من جهات عديدة حتى لو قلتها من جهة السياسة المحضة وليس من جهة الدين والحفاظ على الثوابت العقدية والحفاظ على نقاء الدين والتوكل على الله بل من جهة السياسة المحضة ، فالسياسي المحنك هو الذي يجيد دائمًا جعل المعركة في ملعبه في الملعب الذي يجيد اللعب فيه ، وليس في الملعب الذي لا يجيد اللعب فيه .

ولا يجيد قضية المناورات إلا من يمتلك آلة إعلامية أضخم ، ووسائل مادية أكبر ، والذي يعد وهو يضمر أنه سيخلف وعده هو من في موقع قوة ، أما من في موقع ضعف فلا يملك هذا .

الحاصل أنه قد حصل صدام عنيف جدًا بعد الثورة ، وللتنبيه مبدأ الثورة ذاته كان إحدى حلقات محاولة المداهنة والوصول إلى حل وسط مع اتجاه قومي كما هو الآن ، فالمشكلة أن بعض الناس لا يتعلم من أخطاء الماضي ، فتاريخ الجماعة كله هو محاولة للتعاون مع اتجاهات قومية لتحقيق مصالح مشتركة ، وهذا كل ما حدث ، فثورة يوليو هي جزء من هذا الأمر ، فقالوا : نتعاون معهم مع عدم وجود أي ثوابت أو أي أرضية مشتركة وانتهى الأمر إلى ما انتهى إليه من الصدام الحاد جدًا الذي انبثقت منه جماعات التكفير والتوقف وهذا هو الشاهد من هذا الكلام .

فكان هناك ازدواجية كما ذكرنا في طريقة دعوة الأستاذ حسن البنا  : من التركيز على قضية الحكم بما أنزل الله كقضية محورية ، وهدف له في دعوته إلى عودة تطبيق الشريعة ، وفي نفس الوقت القبول بالحصول على أي غطاء شرعي ولو من كافر صريح كالإنجليز ، ثم الأمريكان من بعدهم فضلًا عن الحصول على غطاء شرعي من العالمانيين أو القوميين والقبول بالتفاوض الذي من الممكن أن ينال قضايا منهجية .

وفي داخل السجون ثار أناس عليه وبدؤوا يتكلمون في قضية الحكم فقط نتيجة الظروف القاسية التي عاشوها والمحنة والفتنة والابتلاء ، وهذا أحد الأمور الخطيرة جدًا أن نتلاعب بعواطف الناس ، وليس بعواطف الناس فقط ، بل بعواطف الأفراد الذين يجعلون وقودًا لمعركة ما على خلاف السنن الكونية والشرعية ، نقول له : أنت قاب قوسين أو أدنى من تحقيق الحلم المنشود ، ثم يجد الأمر على خلاف هذا ، ويحصل انكسار ضخم ورهيب .

هذا الانكسار الكبير الذي حصل للناس الذين كانوا يقولون أحد أجنحتنا قام بالثورة ، وإن القضية كلها لحظات ويتم التمكين للإسلام في مصر ، وإذا بهم في غياهب السجون ، وربما يرون كفرًا بواحًا ولا يمكن أن تنكر في مثل هذه الأماكن - وليس هذا تعميمًا لهذا للحكم- ولكن من الممكن أن تجد من يسب الله  ـ عزوجل  ـ  صراحة والعياذ بالله إلى غير هذا  ، وأحيانًا قد يكون بعضهم ضعيف العقل أو مختل أو يكون من قسوة القلب أن يصل إلى الكفر والعياذ بالله .

بدأ هؤلاء يتكلمون على تعميم الحكم بالكفر على الطبقة الحاكمة كلها ، والحكم نوعًا وعينًا ، ولم تكن هذه المسائل قد أخذت حظها من البحث ، وإنما أخذت حظها من البحث بعد خروج هذا الفكر إلى خارج السجون ، فبدؤوا يتكلمون ، ثم ينقلون الكلام إلى تكفير المحكومين . 

وكان للأستاذ سيد قطب : ومن بعده أخيه محمد قطب دور كبير جدًا في تقرير هذه الفكرة وهي أن جماعة الإخوان عملت من أجل الإسلام ، ثم كان وراءها جمهور غفير ، ثم لما وضعوا في السجون لم يتعاطف معهم أحد ، وهذا شيء منطقي لأنهم أثاروا عاطفة ناس فأثيرت ، وكان للقضية ثمن لم تربه ليدفعه ، فقالوا : نحن لن نلدغ من هذا الجحر مرة أخرى ، بل سنقول للناس : من ليس عنده استعداد لأن يعمل من أجل الإسلام لا يستحق اسم الإسلام ، وهذه فكرة موجودة في كتب محمد قطب كلها تقريبًا أن من لم يعمل من أجل الإسلام ، ومن أجل عودة الحكم الإسلامي على وجه الخصوص لا يستحق وصف الإسلام ويُسأل هل هم كفار ؟ !

فيقول : لا يصلح أن يكون مسلمًا ، ويمتنع عن الإجابة الصريحة ، ويقول : لنبتعد عن قضية التكفير ، إذن هو مسلم ؟ فيقول : مسلم اسمًا !! ما معنى مسلم اسمًا ؟ هل معناه : مسلم مقصر ؟! فيقول : لا يستحق الإسلام ، هل هو  بين بين ؟ وهذه أعجب الأقوال إليه وهو يلمح إليه جدًا في كثير من كلامه أنهم طبقة متميعة ، ومع ذلك حينما تقول الناس اخترعوا البين بين ، وقالوا : إن هناك متوقف فيهم ، يقول : لا شأن لي بهذا الأمر ، ولم أقل شيئًا من ذلك ، وهو في النهاية القدر الذي هو ملتزم به أن من لم يعمل من أجل الإسلام لا يستحق الإسلام .

هذه هي القضية المحورية عند محمد قطب ومن قبله عند سيد قطب وإن كانت عند محمد قطب أظهر ، فعند سيد قطب قد تحتمل التأويل وقد سبقت الإشارة إلى هذا في مواطن أخرى .

الشاهد أننا نريد أن نقول أنهم غلو في جانب الحاكمية وهو الجزء الذي قلنا أنه يكاد يكون خارجًا عن الحظيرة السلفية الذي هو التزام أن هذا كفر أكبر ، وليست هذه هي القضية ، وإنما القضية أن يقول بعد ذلك : لا بد من تكفير المعين وليس هناك أنه من الممكن أن يكون معذورًا !! والأخطر من ذلك أن يقول : الحكم ينسحب على المحكومين !! إما تحت ستار أنهم رضوا ، أو أنهم لم يحاولوا التغيير ، وهذا في حد ذاته عند محمد قطب كافٍ في الحكم عليهم بأنهم لا يستحقون الإسلام .ك

يبين هذه الكلمة الغامضة وقائع وشواهد كثيرة تقول أن تفسيرها عنده أنهم بين بين  أو أن هذا أقرب تفسير  يقبله ، وربما نتعرض لهذا - إن شاء الله عند الكلام في مسائل الإيمان والكفر .

تترتب على هذا القتال ، وانظر كم قفزة شرعية منهجية تمت ما بين إغفال أن هناك فرق بين النوع والعين ، وإغفال أن هناك الفرق بين الخضوع الاضطراري القهري لعموم الناس ، وبين الرضا الذي يحاسبون عليه شرعًا ، وإغفال أن حصول هذا كله لا يلزم منه لزوم أن يُقاتِل قتالًا ليست له فيه شوكة ، وأن هذا لا يعد جهادًا وإنما يعد إفسادًا إذا كان لم يترتب عليه إلا المفاسد .

ومن هنا نشأت اتجاهات التكفير والتوقف واتجاهات الجهاد التي ترى القتال تحت أي ظرف ، وتحت أي أمر من الأمور ، فحصلت الفتنة ، وانتشر الكلام من مصر إلى كل البلاد الأخرى تقريبًا .

وبدأ بعد ذلك في المقابل الرد على هذا الأمر بمحاولة كبح جماح هؤلاء ، وهنا أمر لا بد أن نتعلمه من دروس الماضي أيضًا وهو أنه حينما ترد على مسألة احذر أن يكون الكلام مائلًا إلى الجهة الأخرى ، فأنت في حركة البندول يذهب يمينًا وإعادته إلى الوسط أمر عسر جدًا وإنما يذهب منك شمالًا وهكذا ، ونحن نريد أن نضبط الكلام على المنتصف تمامًا والبشر يتأثر بالفكرة التي ينقضها مهما كان ، ولكن حينما يعرف أن هناك طرفين في المعركة وأن كلًا من الطرفين موجودان ، وكلا الطرفان خطير .

فلا بد أن يكون الكلام بحساب ، ولذلك نقول : إن كلام علماء الدعوة الوهابية في قضية تكفير المجادل عن المشركين يغلب عليه الفتوى أكثر من الحكم ، ويغلب عليه التأثر بواقع معين ، فبعد أن انتشرت الدعوة وعرف الناس عرفت حق ظهر أناس يقولون لهم : قولوا هذا حق ولكن لا تكفر من لم يلتزم لك بهذا !! من باب أن المستضعف دائمًا يطالب بحقه في الوجود ، سواء كان مستضعفًا فكريًا بأن كانت حجته ضعيفة ، أو مستضعفًا ماديًا إذ ليست عنده أسباب القوة .

لذلك الآن بفضل الله تعالى صار للتيار السلفي قوة كبيرة من الناحية الفكرية ، فتجد التيارات الأخرى تقول له : اترك لنا حقنا في الوجود كفكر ولا تلغنا !! كيف يكون عدم الإلغاء ؟! أي أن لا تقول أن هذا كفر ولا فسق ولا ضلال ، وهذا كلام لا يقبله دين الله تعالى ، وحينما يشعر من نفسه بشيء من القوة فقط يسارع إلى إلغائك ، وكل الناس يفعلون نفس المسالك .

 فالقضية أن الأفكار المتعارضة لا يمكن عمليًا أن تتعايش سلميًا ، فالتعايش بين الأفكار المتعارضة المتناقضة مجرد أكذوبة يروجها دائمًا الطرف الأضعف ، فالطرف الأضعف دائمًا يطالب بحقه في الوجود ، فيقول : لن أناظرك ، ولن أجادلك ، ولكن اترك لي حقي في الوجود !! .

أما نحن حينما نكون مستضعفين فكريًا لا نطالب بحقنا في الوجود ، من باب أننا فكرة من الأفكار ، ولكن نقول : أن صوتنا غير واصل ، ولكننا على استعداد أن نوصله لليهودي والنصراني والعلماني والملحد ، وللصوفية والقبوريين والأشاعرة ، وكل هؤلاء .

ولذلك الميزة الرئيسية التي حذار أن يفقدها الأخ السلفي هي الثقة فيما معه من الحق ، والقدرة على الاستدلال عليه بالأدلة القوية الواضحة ، فنحن أبدًا لن نقول : نريد حقنا في الوجود مثلنا مثل غيرنا !! بل نحن نقول : حقنا في إبراز الحق ورد الباطل .

وأحيانًا نقول  من باب تبين تناقض الخصم : كل الناس لها حق في الوجود عدا أهل الحق ، ولكن ليست هذه القضية ، وإنما الكلام فيها كما ذكرنا .

حصل هذا التشعب وحصل الرد ، وكان غالبًا غير مراعٍ أن هناك أناس من الممكن أن تغلوا في الجهة الأخرى ، وأيضًا كما ذكرنا أن علماء الدعوة الوهابية بعدما نشروا الحق قالت الصوفية : نحن نريد حقنا في الوجود لا تكفرونا ، فقالوا لهم [ أي : علماء الدعوة الوهابية ] : من دعا إلى عبادة غير الله واستغاث بغير الله يكفر ، وأحيانًا يقولون بصحة قيام الحجة بذلك على كل أحد في هذا الزمان !! وأحيانًا لا يقولونها من باب أن هذه فتوى ، فهو يتكلم على واقع معين ، ولكن الكلام ينتقل ويعيش أزمانًا ونقل بعد ذلك إلى واقع آخر ، وهنا  تظهر خطورة الكلام في قضية لها طرفين ،  فتهاجم طرفًا يمكن أن يفهم منه ما يصب في قناة الطرف الآخر .

بدأ كثير من الناس محاولة إيقاف تيار التكفير والتوقف ، وتيار الاتجاهات المسلحة ونحو هذا بتهميش وتهويل قضية الحاكمية على مسالك مختلفة ، وكان من هذا المسلك مسلك الشيخ الألباني : الذي نخالفه فيه - كما سيأتي- وإن كان كلام الشيخ الألباني أعدل بكثير من كلام من جاء بعده أو من أخذ قوله وطوره .

فكلام الشيخ الألباني لم يجعل أصل القضية بالحجم الذي أعطاها هؤلاء لها بداية من قضية متى يكون أكبر ومتى يكون أصغر ، بينما ابتدأ الشيخ العثيمين : من أول قضية تكفير المعين .

ونحن نتفق تمامًا مع هذه الرؤية ، فلا ينبغي أن نهون أصل المسألة ؛ لأننا لا نملك هذا ، وليس لشيء آخر ؛ ولأن الظروف تختلف فهل في زمن التمكين ستسحب هذه الفتاوى ؟! فينبغي أن يكون الكلام واضحًا ، فليس في الحكم في تبديل أو أي مراعاة لحال المخاطب ، أما الفتوى ففيها ، فنحن نقول التفصيل كمسألة حكمية ونراعي الواقع الموجود في التطبيق كمسألة واقعية .

فوجدت محاولة لرد هذا الكلام إلى نصابه ، وحصل في هذه المحاولة أحيانًا قدرًا من التجاوز ، والذي بعد ذلك صار منهجًا ، وهذه هي الخطورة .

والأمر الأخطر أننا هنا نتكلم عن تجربة في الواقع المصري التي انتقلت إلى بلاد أخرى ذكرنا أنه كان من أكثرها بلاد السعودية حيث الشريعة مطبقة من ناحية التشريع العام ، وليس هناك قانونًا مكتوبًا أصلًا ، وهذه كما ذكرنا لأن علماء الدعوة الوهابية - جزاهم الله خيرًا - وقفوا موقفًا متشددًا جدًا من قضية تقنين الشريعة ، فقالوا : ربما تجعلون الآن الشريعة في مواد إذن فلا بد أن تكون هناك هيئة يناط بها تقنين الشريعة  ، فإذا وضعت هذه الهيئة مادة مخالفة للإجماع , فمن له الحق أن يعترض عليها ؟ ! وهذه اللجنة من أفراد منتقون فمن الذي ينتقيهم ؟ أما كتب الفقه فموجودة يتعلمها الناس في المعاهد الشرعية ، فنقول : من حصل الشهادة الفلانية فهو مؤهل أن يكون قاضيًا ، وإن أردتم أن تقللوا دائرة الخلاف ، فهم اجتهدوا في هذه المسألة وإن كانت هي ما زالت محل بحث بين المعاصرين ، فقالوا لهم نلزم القضاة بمذهب معين ، فنلزم القضاة بمذهب الإمام أحمد قالوا : ما زالت هناك روايات في المذهب ، فقالوا : نلزموهم بكتاب معين في المذهب !! وإن كان في هذا الكلام فيه نزاع ، لكن هم رفضوا التقنين ، فهو الآن يتكلم على مذهب الإمام أحمد ، ويتكلم على أشياء فرغ منها ، فالكلام من كتب السلف أو نحو هذا ، إذن فليس هناك أي مجال للتبديل .

وفكر أصحاب الاتجاه القطبي والصور المخففة منه كالسروريين وغيرهم كله قائم على هذه القضية : أن الشريعة مغيبة أن الناس التي لا تساهم في محاولة إعادة الشريعة لا يستحقون وصف الإسلام ، وتنبني على هذا ترتيبات في الفكر وفي المنهج وفي طريقة الحركة وفي غير هذا .

وهذا السياق التاريخي الذي نحكيه يبين مدى التداخل الشديد نقل الأمور كفتوى ثم تنقل واقعًا وتعود مرة أخرى فتزداد المسائل تعقيدًا ، فقد وقع في مصر فوقع هذا الانحراف ، ثم انتقل هذا الانحراف إلى بلد أخرى واقعها مختلف ، فالحكم بغير ما أنزل الله فيها من حيث النوع ابتداء كفر أصغر ؛ لأنه تقاعس عن تطبيق الشرع في أناس يعملون بالربا مثلًا ، ويترك لهم حرية العمل بالأمور المحرمة ، لكن ليس هناك تشريع ملزم أن يذهب لهذا المكان ويقترض منه ولا بد أن يدفع له الربا ، ليس هناك ذلك ، فالبنك هو المسئول عن تحصيل ما يتقاضاه من الربا ، فالحاكم رأى أناسًا يرابون وغاية ما هنالك أنه ترك أناس يرابون ، ولذلك الشيخ محمد بن إبراهيم : الذي ذكرنا فتواه في قضية تحكيم القوانين ، واعتبرناها من أوفى الفتاوى في المسألة ، له فتوى في البلاد التي يروج فيها البغاء وينتشر ، فلم يقل أن هناك تشريع يعتبره مباحًا ولكن قال : يخشى على هؤلاء أن يصلوا إلى الكفر ، وليست الفتوتان متعارضتين ، فهناك فرق بين شيوع معصية حتى ولو كان ذوي القدرة هم الذين يشيعونها أو يقرونها ، وبين أن يكون هناك تشريع عام بأن هذا الأمر جائز سواء نسبه إلى الشرع أم لم ينسبه فهذا الراجح فيه أنه محرم .

حصل نزاع هناك ، وهذا النزاع أن أناسًا يريدون أن يطبقوا نفس المنهج : التكفير والتوقف وغيره ، فصار صوت الذين يردون عليهم أعلى ؛ لأن صورة الكفر الأكبر في المسألة غير موجودة ، وقد يدعي البعض أنها أدرجت في بعض اللوائح الإدارية ، فهذا موضوع لا يعنينا ، وإنما فقط نحكي السياق التاريخي ولا أظن أنه قد ثبت حتى الآن مسألة أنه أدرج في لوائح إدارية .

بدأت النعرة تعلوا والذي يرد حتى كلمة كفر أصغر ، لا يريد أن يقولها وحتى كلمة فسق وظلم لا يريد أن يقوله ، ولو أتى بها يخفيها وأن وجوب نصح هذا الظالم والفاسق لا يريد أن يقوله ولو قاله يقوله ينصح سرًا ! , فكيف ينصح سرًا في معصية منتشرة انتشارًا كبيرًا ؟ وحتى لو نصح سرًا فما هو وضع باقي الناس كيف يؤمروا وينهوا ؟ فلو كان هناك عجز [ لكان له عذر ] ولكن مع القدرة يتدين بأن تشيع المنكرات ثم لا يأمر ولا ينهى إلا أن يذهب ويقول لمن يروجها : اتق الله ولا تروجها ، وهذا الذي نصحه يستمر في ترويجها فيقول : قد فعلت ما علي !! ويحرم من يريد أن ينكر .

فصارت درجة غلو كبيرة جدًا عند بعض الاتجاهات وبعضهم ينتسبون للشيخ الألباني : ، وصار بعضهم رأسًا في المسألة كالشيخ ربيع المدخلي أو غيره فصار يمثل اتجاه يهون جدًا من أصل مسألة الحكم بغير ما أنزل الله كمسألة ويعتبر أن الكلام فيها من سيما الخوارج ، فلو كان الأمر كذلك فالدعوة إلى الطاعات من سيمات الخوراج ، فأهل السنة يقولون للناس : اعملوا الطاعات ؛ لأنها من الإيمان ، والخوارج يقولون للناس : اعملوا الطاعات ؛ لأنها من الإيمان ، وأهل السنة يقولون : من يقصر في فريضة مرتكب لكبيرة ، والخوارج يقولون أنه كافر .

إذن هناك مساحة بين أهل السنة والخوارج فهل نسكت عنها كي لا نكون خوارج ؟! فهذه مسألة مهمة جدًا ، أيضًا مسألة أن قضية الحاكمية إنما يهتم بها الخوارج ، وأهل السنة يهتمون بها ، أو يهتم بها الخوارج المعاصرين كالتكفير والتوقف يهتمون بها فليس معنى ذلك أن لا تهتم بها ، فأنت تهتم بها وتهتم بغيرها ، أما هم فلا يهتمون إلا بها ، وأنت حينما تهتم بها تضعها في نصابها الصحيح ، وهم يغلون فيها ، ولكن لا يقال : إن مجرد الكلام فيها نوع من الغلو ، ونوع من رواسب التكفير !! .

فهذا صار غلوًا في الجانب المقابل أن يخفف صورة الكفر الأصغر ، أي أن يدعي أن الصورة الواقعة أصغر ، ولو قال هذا الكلام على حدود بلاده ربما يكون الكلام مقبولًا لكنه يهونها إلى درجة أن الذي يريد أن ينكر لا ينكر إلا على أولي الأمر فقط .

والأخطر من ذلك أن تنتقل هذه المعركة كلها برمتها إلى بلاد فيها تبديل لشرع الله ، ويكون الكلام أيضًا أنه كفر أصغر ، وأنه لا ينصح إلا سرًا إلى غير هذا الكلام ، فكأن الذين نقلوا هذا الكلام إلى بلاد أخرى أفاقوا على الفارق في قضية التبديل ، ولكن بعد أن أفاقوا أصروا أنه غير مؤثر !! وأن التبديل أيضًا لن يختلف أنه كفر أصغر ، وأنه ليس هناك كفر أكبر إلا لمن يأتي بتشريع مصادم لتشريع الله تعالى ثم ينسبه إلى الله أو أنه يدعي جواز هذا !! ، وهي التي قالوا فيها أنه لا يكفر إلا إذا استحل ، والتي قلنا أنها تحتاج إلى بيان ، ولعل النقول الكثيرة التي نقلناها عن ابن كثير والشيخ أحمد شاكر والأستاذ محمود شاكر والشيخ الشنقيطي ، والشيخ محمد بن إبراهيم كافية لتوضيح أنهم يتكلمون عن التشريع العام دون قيد الاستحلال .

وهنا نصل إلى الجزئية التي أردنا التنبيه عليها الآن وهي مسألة توصيف القضية وجزئياتها ، وما هو محل الاتفاق ن وما هو محل الاختلاف ، ومسألة أهمية الفرق بين الحكم والفتوى ، وخطورة عدم مراعاة هذا الجانب في المسألة ، أن هذه المسألة ذهبت إلى واقع ثم عادت لواقع آخر ، ثم رجعت مرة أخرى ، وفي كل مرة تزداد حدة الخلاف ، وتزداد هوة الخلاف ، والقضية لو روعي فيها من حيث الأصل الفرق بين الحكم والفتوى لتخلصنا من كثير النزاع .

والأخطر من ذلك أن ترد الفروع إلى الأصول ، فلما كانت قضية التكفير ، والكفر الأكبر والكفر الأصغر ، فرع على مسائل الإيمان والكفر كان لا بد من تحرير مسائل الإيمان والكفر ، والباحث في مسألة ما لا يختار لنفسه غالبًا سياق بحث معين فليست المسألة ما درسه وصادفه ولكن الذي في النهاية ينبغي على الإنسان إذا أراد الإنصاف وأراد طاعة ربه تعالى أنه بعد أن يفرغ من مسألة أن يتأكد أنها منسجمة الأصول والفروع ، فيرد كل فرع إلى أصله ، وإذا وجد خللًا أعاد بحث المسألة بإنصاف ، فإذا وجد خللًا أو تعارضًا في كلامه وهو يبحث المسألة فليحاول أن يحل هذا الإشكال ، ويهذبه ويعود [ إلى البحث ] طلبًا للحق فيكون مما يطمئن معه الصدر بعد أن يبحث الإنسان المسألة خاصة إذا كانت شائكة أن يجد ما يعتقده فيها منسجم متناغم غير متعارض وغير متنافر فهذه مسألة مهمة جدًا .

لكن في أحيان كثيرة لا يحدث هذا الكلام فمن الممكن أن يبحث الإنسان مسألة ويذهل عن أنها فرع على قضية أخرى ، وبعد أن ينتهي من بحثها ويقرر فيها قولًا معين يفاجأ أنه يتصادم مع مقررات الأصل ، ومن الممكن أن يهدم الأصل نفسه ، فعلى سبيل المثال طرح بعض الناس أحد أشهر القضايا التي ظهرت فيها البدع وهي قضية القدر القضية ، وكل مشكلتها أن بعض الناس قال : ماذا يحدث لو أن العبد اختار الهداية ، وكان الله قد قضى عليه بالضلال ؟!! فهذا سؤال طرح ، والإجابة الصحيحة عليه أن هذا لا يمكن أن يحدث ، ثم كيف نقول أن إرادة الله تعالى صفة من صفاته والصفات لا يسأل عنها بكيف ؟! فالله تعالى قادر أن يخلق للعبد إرادة ومشيئة بها تقع أعماله ، ولكنه لا يشاء إلا ما شاء الله منه في الأزل ، فالإجابة أنه لا يمكن أن يحصل ، كيف ؟ نقول : لا نعرف .

وهناك أناس لم يقبلوا هذه الإجابة : لا نعرف ن فاضطر أن يجيب ، فرأى بعضهم أنه يستحيل أن يجيب ، فهدم الأصل كي يجيب على هذا السؤال ، ومن الأيسر على الإنسان جدًا أن يقول في سؤال ما أنه لا يعرف وقد قال تعالى : ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [ الإسراء : 85 ] فبعضهم قال : نلغي إرادة الله تعالى ، فتخيل كيف يمكن لعاقل أن يقبل على هدم مثل هذا الأصل وأن يقول أن الله تعالى ليس له مشيئة سابقة وأنه لا يعلم الأشياء إلا بعد أن تقع ؟!! فهذا كفر عظيم ولما رأى الناس أنه كفر ولكن هذا هو المخرج الوحيد عنده بدؤوا يتحايلون عليها فقالوا : يعلم الكليات دون الجزئيات !! والنتيجة في النهاية أنه ليس عنده استعداد أن يراجع موقفه من هذا السؤال مع أن إجابته يسيرة جدًا ، وأصبح عنده استعداد أن يهدم الأصل .

والآخر أيضًا لا يريد أن يقول : لا أعرف فقال : إن العبد ليس له إرادة ولا مشيئة !! ويلزم من ذلك أنه لا فرق بين المؤمن والكافر فكيف يعذب هذا وينعم هذا ؟ لا إجابة ، أو أن يقول : الاثنان سينعمان ، وقالوا : إن المؤمن سيستلذ بالجنة ، والكافر سيستلذ بالنار !! وهذا كفر عظيم والعياذ بالله .

وفي النهاية الذي شعر أنه كفر عظيم أيضًا لم يرجع للحق بل بدأ يتحايل ولكن أيضًا في نفس الطريق .

فهنا قضية في غاية الأهمية أن الإنسان حينما يجد أنواعًا من الاضطراب والتعارض فعليه أن يعيد بحث المسألة .

فنقول : إن إحدى قضايا الإيمان : الحكم بما أنزل الله ، وضدها الحكم بغير ما أنزل الله إذن فالحكم بما أنزل الله شعبة من شعب الإيمان فلا بد - إذن - أن يكون كلامنا منسجمًا مع القواعد التي نقولها عندما كلامنا على مسائل الإيمان والكفر ، وهذه مسألة مهمة جدًا لأن الخلاف في هذه القضية ؛ جعل بعض الناس يغلو وينتقل نفس هذا الخلاف في مسائل الإيمان والكفر ولكن جزئياته هنا أوسع .

قضية الاستحلال العملي :

فمن قالوا بالاستحلال العملي لم يكن لهم غرض في قضية الاستحلال العملي إلا إثبات الكفر على البلاد التي تشريعها العام إسلامي ، ويريدون أن يجعلوا مثلهم مثل غيرهم كي يكون المنهج موحدًا ولا يتغير من مكان لآخر خاصة وأنهم يرمون إلى إقامة دعوة عالمية ، فقالوا بالاستحلال العملي ، ولكنها أصبحت قاعدة تطبق على العصاة الذين يحضرون حفلات الغناء مثلًا أن هذا استحلال عملي ، فعندهم أنه لا يمكن أن يعمل شخص معصية يشعر أنها معصية ويكون سعيدًا بها !! وهل الإنسان يفعل معصية إلا طلبًا لشهوة ؟ فهل يتصور أن الذي يغني ويبكي لأنه يغني ولأنه يعصي الله ؟ نحن نقول أنه من داخله يعرف أنه مذنب ، ولكن لا نقول أنه وقت المعصية طالما أنه سعيد بها أن هذا استحلال ، إذن فلن يكون في الدنيا أحد غير مستحل ، فهل هو إذا كانت المعصية تؤلمه بهذه الدرجة في لحظة الشهوة فيبكي مثلًا أو يتألم [ غير مستحل ] ؟ يقولون : لم نقل ذلك ، فنسأله : ماذا قلت ؟ إذن تضيع الفواصل .

 إذن فقضية الاستحلال العملي التي أوجدها كي يثبت تهمة معينة أصبحت قضية من مسائل الإيمان والكفر  تقال ومنهج ثم لا يطبقها على كل الحالات ، بل على الحالات التي يريدها فقط ، وهذا قمة الفساد في المنهج ، وإلا لو ادعينا أن فاعل المعصية يمكن أن يقال أنه قد استحلها بعمله ، إذن فليضع لنا ضابطًا ، ولا يوجد ضابط ، فيقول : الذي يحضر حفلات الغناء فرحًا مسرورًا بها !! وهذا شيء طبيعي لا بد أن يحصل كما ذكرنا ، فوجدت هذه القضية .

 فقضية اشتراط الاستحلال تشترط في كل شيء كي يكون كفرًا ؟ قال البعض : نعم ، هل يلزم من هذا أن الذي يسب الله  ـ عزوجل  ـ  أن نسأله : هل أنت مستحل أم لا ؟ فإن قال : لا ، بل هو حرام فلا يكون كافرًا ، وهل يكون كذلك من يلقي المصحف في القاذورات ؟! فصارت قضية إثبات أن هناك أعمال جوارح تكون بمجردها كفرًا قضية من القضايا الشائكة ، وأصبح الخلل فيها  أوسع ؛ لأن لها فروعًا كثيرة ، فليست المسألة  أنك تتكلم مع شخص يعرف ما يريد من الكلام وتعلم ما يريد أن يصل إليه ، وتحاول أن ترد هذه البدعة أو ترد هذه الشبهة ولكن المسألة أن هذا الكلام يعيش دهورًا بعد قائله ، وأيضًا يحرف ونحو هذا .  

ولذلك كان أثر الخلاف الذي دار في قضية الحاكمية على مسألة الإيمان أثرًا في غاية السوء وطرفي النقيض الموجودان في قضية الحاكمية حاول كل منهما أن يعمم نظريته ،  فحاول فريق أن يعمم نظرية توسيع دائرة الكفر الأكبر مع اعترافه أن هناك أكبر وهناك أصغر ، ويحاول أن يوسعه جدًا إلى حد أن يقول أن هناك استحلال عملي ، وفريق حاول أن يضيق الكفر جدًا لدرجة أنه يكاد يصل إلى قول المرجئة .

ونقول : يكاد ؛ لأن لا بد من الإنصاف ، ففرق بين أحد يقول : الإيمان قول وعمل ، وشخص ينفي دخول العمل في مسمى الإيمان ، ولكن من الممكن أن تجده في باب الكفر لا يكاد يكفر إلا من يعترف على نفسه أنه يريد أن يكفر والعياذ بالله على درجات متفاوتة .

كان الخلل أول الأمر في قضية الحاكمية في حد ذاتها ، ثم انتقل إلى مسائل الإيمان والكفر بصفة عامة ، وكل شخص منهم قبل أن يقر بقول ينظر في أثره على قضية الحاكمية ، فتجد من الممكن أن بعضهم يقر في مسألة ما بالتوسط والاعتدال فيها ، ولكن يستثني قضية الحاكمية أو غيرها ، فصارت هذه القضية من أسوأ القضايا أثرًا على قضية أشمل وأكثر خطرًا منها وهي مسائل الإيمان والكفر .

وفي المحاضرة القادمة نتعرض لثلاث نقاط رئيسة :

1- توصف المسألة كلها وإيضاح جزيئاتها وبيان المتفق عليه والمختلف فيه .

2- سرد التتابع التاريخي لهذه القضية وكيف صارت ، وخطورة نقل الفتاوى على أنها أحكام .

3- الإشارة العامة إلى أن طرفي النقيض في هذه القضية قد عمما قولهما بحيث صارا طرفي النقيض في قضايا الإيمان والكفر ، وأصبح لدينا من يريد أن يوسع دائرة التكفير ، ومن يريد أن يضيقها ، وهذه القضية تحتاج إلى مزيد من التوضيح وبيان كيف انتقل هذا الأمر إلى قضايا والكفر بحيث صار هناك من يحاول توسيعها ، ومن يحاول تضييقها مع أن الكلام لن يكون وافيًا بالقدر المطلوب لأنه يحتاج إلى أن يدرس بتمامه في شرح قضايا الإيمان والكفر التي نسأل الله  ـ عزوجل  ـ  أن ييسر شرحها في وقت لاحق إن شاء الله تعالى .

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

ربما يهمك أيضاً

الولاء والبراء -12
1564 ٢٧ يناير ٢٠١٦
الولاء والبراء -11
1705 ١٨ يناير ٢٠١٦
الولاء والبراء -10
2032 ١١ يناير ٢٠١٦
الولاء والبراء -9
2028 ٠٤ يناير ٢٠١٦
الولاء والبراء -8
1667 ٢٨ ديسمبر ٢٠١٥
الولاء والبراء -7
1429 ٢١ ديسمبر ٢٠١٥