السبت، ١٢ شوال ١٤٤٥ هـ ، ٢٠ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

أدب الحوار -2

لابد أولا من تحديد الموضوع الذي سيتم النقاش حوله والهدف من هذا النقاش وعدم التشعب إلى موضوع آخر إلا بعد الانتهاء منه

أدب الحوار -2
سامح بسيوني
الخميس ٠٤ يونيو ٢٠١٥ - ١١:٠٦ ص
1346

أدب الحوار (2)

كتبه/ سامح بسيوني

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

تكلمت في مقال سابق بعنوان ] أدب الحوار (1) [ عن الحاجة الملحة إلى معرفة أداب الحوار الواجب اتباعها للوصول إلى الحق المنشود وإثباته  أو رد الفاسد من القول و دفع شبهته بصورة يغلب عليها الهدوء والتفاهم الذي يؤدي إلى الفهم الصحيح بعيدا عن الجدال الذي يؤدى إلي المخاصمة والمنازعة والتشويش ، وقد ذكرت من تلك الآداب التي يجب توفرها في الحوار :

1-              الإخلاص والانصاف عند المحاورة

2-              الإلمام بالمَسّألة المتحاور فيها:

ونشرع في هذا المقال - بفضل الله وعونه - في جمع بعض من تلك الآداب اللازمة لتحقيق المطلوب :

3-              تحديد موضوع النقاش وتحرير محل النزاع فيه    

فلا بد أولا من تحديد الموضوع الذي سيتم النقاش حوله والهدف من هذا النقاش وعدم التشعب إلى موضوع آخر إلا بعد الانتهاء منه ، فالحوار يموج ويضطرب أشد الاضطراب إن لم يُمنع الاستطراد والتشعب بين الموضوعات ، لذا فقد كان الشافعي رحمه الله – كما قال عنه الربيع بن سليمان -  إذا ناظره  إنسان في مسألة فغدا إلى غيرها يقول: نفرغ من هذه المسألة ثم نصير إلى ما تريد، ويتلطف في دفع ذلك في مباديه قبل انتشاره وثوران النفوس. ] أداب العلماء والمتعلمين[ .

ثم يجب بعد ذلك تحرير محل النزاع في ذات الموضوع المطروح ، و المقصود هنا بتحرير محل النزاع هو : تعيين وجه الخلاف بين المتحاورين و الوقوف على الموضع المختلف فيه بالتحديد ليخرج من النزاع ما ليس منه فتكون النتيجة وضوح الرؤية والوصول للحق بسهولة ويسر سواء للمتحاورين أو السامعين  بعيدا عن حوار الطرشان الذي ينتج من القفز علي هذه الخطوة الهامة أو تناسيها فيصير كل طرف من المتحاورين في وادٍ يتكلم و يحشد فيه أدلته بغض النظر عن كونها  تصلح في محل النزاع أم لا ، فتتسع فجوة الخلاف ويتحول إلي جدل بيزنطي لا فائدة منه .

وانظر - رحمني الله واياك - إلى حوار النبي صلى الله عليه وسلم مع أسامة بن زيد رضي الله عنه في الحديث الذي رواه أسامة - رضى الله عنه - كما في صحيح البخاري عن أسامة بن زيد – رضى الله عنهما – قال
( بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى الْحُرَقَةِ مِنْ جُهَيْنَةَ، قَالَ: فَصَبَّحْنَا الْقَوْمَ، فَهَزَمْنَاهُمْ، قَالَ: وَلَحِقْتُ أَنَا وَرَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ رَجُلاً مِنْهُمْ، قَالَ: فَلَمَّا غَشِينَاهُ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، قَالَ: فَكَفَّ عَنْهُ الأَنْصَارِىُّ، فَطَعَنْتُهُ بِرُمْحِى حَتَّى قَتَلْتُهُ، قَالَ: فَلَمَّا قَدِمْنَا، بَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: فَقَالَ لِي: "يَا أُسَامَةُ! أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَالَ: لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ؟! ".
قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا كَانَ مُتَعَوِّذًا، قَالَ: "أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ أَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ؟! ".
قَالَ: فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا عَلَيَّ حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّى لَمْ أَكُنْ أَسْلَمْتُ قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ (
فالنبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحوار ركز على أصل القضية مع أسامة -رضى الله عنه- من أنه قتل الرجل بعد قوله (لا إله إلا الله ) مع كونه لم يأتي بناقض لها بعد النطق ، ولم يتشعب النبي مع أسامة في الأسباب التي حاول أن يسوقها رضي الله عنه لتبرير فعله من كون الرجل كان متعوذا أو كونه قد قَتل من الصحب الكثير أو غير ذلك قبل النطق بكلمة التوحيد .

4- التكافؤ بين المتحاورين والبعد عن الجاهلين

ويقصد به التقارب في المرتبة العلمية والثقافية وكذلك في العقل والفهم بين طرفي الحوار والمناظرة  ، فلا يمكن أن يستقيم حوار أو مناظرة بين عالم وجاهل، لأن الغلبة قطعا ستكون للجاهل، وسَيُطمس الحق في هذه المناظرة، و لن يظهر للحاضرين أو السامعين منه شيئا ، وفي ذلك يقول الشافعي رحمه الله:

 ( ما ناظرت عالماً إلا غلبته، وما ناظرني جاهلاً إلا وغلبني ) وقد صدق الشافعي رحمه الله في ذلك فالجاهل عدوٌ لنفسه قبل أن يكون عدوه غيره، فلا تستطيع أن تكمل معه حواراً لجهله ، ولا يُجنى من محاورته إلا التشغيب والصوت المرتفع والتلبيس على المستمعين ، فحال حوار العالم مع الجاهل كما قال القائل :

لو كنت تعلم ما أقول عذرتني *** أو كنت تعلم ما تقول عذرتك
لكن جهلت مقالتي فعذلتني   *** وعلمت أنك جاهل فعذرتك

وقد قال الله عزو جل واصفا عباده العلماء الأولياء في تعاملهم مع الجاهلين } وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ{ القصص55

قال البغوي في تفسيره : ]ليس المراد منه سلام التحية، ولكنه سلام المتاركة[أ.ه

4- فهم كلام و حجة الطرف الآخر فهماً صحيحاً

ليس كل أحد أوتي من الفهم ما ينبغي أن يكون  عليه، ولذلك لا بد من الفهم لكلام المخالف، وعدم الرد عليه حتي يُفهم كلامه ، لأن الجواب على كلام - كان ما كان - لا يكون ذا فائدة مرجوة إلا بعد فهم الكلام وإدراك مغزاه إذ الحكم على الشيء فرع عن تصوره ، بل في الحقيقة يعد الجواب قبل الفهم من الحُمق .

قال الخطيب البغدادي في ( الفقيه والمتفقه)  : « ولا يتكلم على ما لم يقع له علمه من كلامه فإن الجواب لا يصح عما لم يفهمه، ولم يتصور مراد خصمه منه » أ.ه

وقال ابن القيم رحمه الله تعالي في (الصواعق المرسلة )  : « لما كان المقصود بالخطاب دلالة السامع وإفهامه مراد المتكلم من كلامه، وأن يبين له ما في نفسه من المعاني، وأن يدله على ذلك بأقرب الطرق كان ذلك موقوفا على أمرين : بيان المتكلم، وتمكن السامع من الفهم.. » أ.ه

 ثم لابد أن يكون هناك حسن فهم لحجج الطرف الآخر وأدلته وأقواله، والخلفيات المؤثرة في واقعه وتصرفاته ، ولا ينبغي أن يناقش أحدٌ أحدً ويدخل معه في حوار وهو لم يفهم بعد مراده وقصده  وحجته ، حتى لا يعاب قولا صحيحا لأحد المتحاورين بسبب عدم الفهم للكلام وقد صدق القائل حين قال : فكم من عائبٍ قولاً صحيحاً ... وآفته من الفهم السقيم

و كذلك حتى لا تكون الإجابة إجابة سيئة مضللة للسامعين لا خير فيها ، فعن ابن وهب – كما في الفقيه والمتفقه - قال سمعت مالكاً يقول: ((لا خير في جواب قبل فهم)) ، وقد قال القائل أيضا :

إذا ما لم يكن لك حسن فهمٍ...أسأت إجابة وأسأت فهما .

قال ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله :  أوصى يحيى بن خالد ابنه جعفرا قَائلا : « لا ترد على أحد جوابا حتى تفهم كلامه، فإن ذلك يصرفك عن جواب كلامه إلى غيره، ويؤكد الجهل عليك، ولكن افهم عنه، فإذا فهمت فأجبه، ولا تعجل بالجواب قبل الاستفهام. ولا تستح أن تستفهم إذا لم تفهم، فإن الجواب قبل الفهم حمق، وإذا جهلت قبل أن تسأل فاسأل، فيبدو لك  واستفهامك أجمل بك، وخير من السكوت على العيِّ» أ.هـ

وقال الإمام الجويني في ( الكافية في الجدل ) :   « وعليك بمراعاة الخصم وتفهم معانيه على غاية الحد والاستقصاء، فإن فيه أماناً من اضطراب ترتيب فصول الكلام عليك، فيسهل عليك عند ذلك وضع كل شيء في موضعه، وفيه أيضا أمان من تلبيس الخصم والذهاب عن تزويره...»  

و قال ابن عقيل في الواضح :   « وإذا كان الغرض بالجدال إدراك الحق به، وكان السبيل إلى ذلك التثبت والتأمل، وجب على كل واحد من الخصمين استعمالهما وإلا حصل على مجرد التعب مع حرمان الظفر»  .

وفي فهم كلام المحاور عدة فوائد أخرى منها :

§        اختصار الطريق إلى الجواب

§        اختصار الوقت

§        إدراك ما في قوله من تناقض

§        تحديد ما يحتاج إلى جواب

 ومن أعظم الأسباب المؤدية - بعد قلة العلم - إلى سوء الفهم التي يحدث بين المتحاورين :

§       الاجتزاء من الكلام :

كأن يأخذ جزءاً من الكلام ويترك أجزاءً أخر ، فتجد أحد المتحاورين يأخذ طرف من الحديث ثم ينهال في الهجوم أو الدفاع قبل أن يسمع بقية الكلام، بينما يكون ما رد عليه موجود تفصيله وبيانه في بقية الكلام الآخر، ولو أنه تأنى وسمع الباقي من الكلام لوصل إلي الحق .

 

§        الاستماع إلى أقوال الآخرين بخلفيات ذهنية معدة مسبقاً :

كأن تسمع عن شخص أشياء ثم تأتي تتناقش معه، فتفسر كلامه بناءً على ما سمعته عنه، وقد يكون ما سمعته عنه غير دقيق ولا صحيح، فتبدأ من باب اتهام النيات تفسر كلامه على ما في ذهنك أنت، ولا تتجرد بحيث تفهم كلامه على حقيقته، وهذا أمر يجب التحرز منه لا سيما وأن الإنسان لا يخلو من خلفية معينة عند النقاش مع أي شخص.

 

 

§        الاختلاف باستخدام الألفاظ والمصطلحات:

لا بد من ضبط وتفسير المصطلحات والألفاظ المستخدمة في النقاش لأن الألفاظ والمصطلحات هي في الحقيقة قوالب المعاني ، وهذه المعاني اذا لم تُحكم ألفاظها واصطلاحاتها أثر ذلك تأثيراً على المفاهيم ، وإذا اختلفت المفاهيم انعدمت أسس الحوار  وصار الحوار جدالا عقيما .

وقد جاء القرآن الكريم بالحث على ضبط الألفاظ وتحريرها وتجنب الألفاظ المحتملة الموهمة لعدة معاني وذلك حتى لا يفهم غير مقصودها فتكون وسيلة للتشغيب أو سوء الاستغلال من المخالف كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ{ ، قال القرطبي في تفسيره:] في هذه الآية دليلان : أحدهماـ على تجنب الألفاظ المحتملة التي فيها التعريض للنقيض والغض...[ أ.هـ

قال شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في (مجموع الفتاوى): « ومعرفتنا بلغات الناس واصطلاحاتهم نافعة في معرفتنا مقاصدهم ثم نحكم فيها كتاب الله تعالى فكل من شرح كلام غيره وفسره وبين تأويله فلا بد من معرفة حدود الأسماء التي فيه »أ.هـ

وللآداب بقية إن شاء الله وقدر وكان في العمر بقية ...

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

 

تصنيفات المادة