الخميس، ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٨ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

مواعظ رمضان (11) فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا

من نظر إلى الدنيا بعين البصيرة، أيقن أن نعيمها ابتلاء، وحياتها عناء، وعيشها نكد، وصفوها كدر

مواعظ رمضان (11) فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا
سعيد محمود
السبت ٢٧ يونيو ٢٠١٥ - ١٣:٣٥ م
1435

مواعظ رمضان... (فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا) (11)

كتبه/ سعيد محمود

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ) (فاطر:5)، وقال الله -تعالى-: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) (آل عمران:14).

وعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: جَلَسَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى الْمِنْبَرِ، وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ، فَقَالَ: (إِنَّ مِمَّا أَخَافُ عَلَيْكُمْ بَعْدِي، مَا يُفْتَحُ عَلَيْكُمْ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا) (متفق عليه)، وعن أنس -رضي الله عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (اللهُمَّ، لا عَيْشَ إِلا عَيْشُ الآخِرَةِ) (متفق عليه).

أخي... إن من نظر إلى الدنيا بعين البصيرة، أيقن أن نعيمها ابتلاء، وحياتها عناء، وعيشها نكد، وصفوها كدر، وأهلها منها على وجل؛ إما بسبب نعمة زائلة، أو بلية نازلة، أو منية قاضية!

مسكين مَن اطمأن ورضي بدار حلالها حساب، وحرامها عقاب؛ إن أخذه مِن حلال حوسب عليه، وإن أخذه مِن حرام عُذب به!

مَن استغنى في الدنيا فُتن، ومَن افتقر فيها حزن، ومَن أحبها أذلته، ومَن التفت إليها ونظرها أعمته!

أخي... لقد كشف العليم الرحيم لعباده عن حقيقة الدنيا، وبيَّن لهم قصر مدتها، وانقضاء لذتها، بما يضرب مِن الأمثال الحسية، قال الله -تعالى-: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ) (الحديد:20).

واعلم أخي... رحمني الله وإياك، أن الناس فيها قسمان:

- القسم الأول: فطناء قد وفقهم الله فعلموا أنها ظل زائل، ونعيم حائل وأضغاث أحلام، عرفوا أنها فانية، وأنها مَعُبَر إلى الباقية؛ فرضوا منها بالقليل، فاستراحت قلوبهم مِن همها وأحزانها، واستراحت أبدانهم مِن نصبها وعنائها، فلم تشغلهم عن دينهم، جعلوا الآخرة نصب أعينهم، ففكروا كيف يخرجون مِن الدنيا وإيمانهم سالم، وما يصحبونه معهم إلى قبورهم: (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ . إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) (الشعراء:88-89)، وقال: -تعالى-: (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ . وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ . وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ) (عبس:34-36).

أدركوا كل هذا؛ فتأهبوا للسفر الطويل، وأعدوا للحساب جوابًا، وقدَّموا الزاد للمعاد، وخير الزاد التقوى؛ فطوبى لهم، خافوا فآمنوا، وأحسنوا ففازوا وأفلحوا.

- والقسم الثاني من الناس: جهال عمى البصائر، لم ينظروا أمرها، ولم يكشفوا سوء حالها ومآلها، برزت لهم بزينتها ففتنتهم، فإليها أخلدوا، وبها رضوا، ولها اطمأنوا حتى ألهتهم عن الله -تعالى- وطاعته (نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (الحشر:19).

قال الله -تعالى- عنهم: (إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ . أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (يونس:7-8).

أقاموا الدنيا فهدمتهم، واعتزوا بها مِن دون الله فأذلتهم!

أكثروا فيها مِن الآمال، وأحبوا طول الآجال، ونسوا الموت وما بعده مِن الشدائد والأهوال!

قال الله -تعالى- فيهم: (قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ) (الزمر:15).

أخي... لقد أخبر الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن خسارة أهل الدنيا؛ لانشغالهم بجمعها، وأخبر عن فلاح أهل الآخرة؛ لانشغالهم بالعمل لأجلها، قال -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ كَانَتِ الآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ، وَمَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلا مَا قُدِّرَ لَهُ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).

ولذا أمر المسلم أن يكون فيها كالغريب، أو عابر السبيل، وأن يعد نفسه مِن أهل القبور، وإذا أصبح فلا ينتظر المساء، وإذا أمسى فلا ينتظر الصباح.

قال المسيح -عليه السلام-: "يا بني إسرائيل، اجعلوا بيوتكم كمنازل الأضياف، فما لكم في العالم مِن منزل، إن أنتم إلا عابري سبيل".

وقال: "يا معشر الحواريين: أيكم يستطيع أن يبني فوق موج البحر دارًا؟ قالوا: يا روح الله... مَن يقدر على ذلك؟! قال: إياكم والدنيا، فلا تتخذوها قرارًا".

واعلم أخي -رحمني الله وإياك-: أن رأس كل خطيئة في العالم أصلها حب الدنيا؛ فبسبب حب الخلود في الدنيا، كانت خطيئة الأبوين قديمًا.

- وبسبب حب الرياسة التي محبتها شر مِن محبة الدنيا، كان ذنب إبليس.

- وبسبب حب الدنيا وجاهها، كان كفر فرعون وهامان وجنودهما.

فاللهم اجعلنا ممن جعلوا الآخرة هي همهم، وآتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

تصنيفات المادة