الخميس، ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٨ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

لماذا نصلي؟ -2

حفظ وحماية وحراسة للعبد المؤدي لها بشروطها وأركانها وواجباتها ومستحباتها

لماذا نصلي؟ -2
محمد إسماعيل المقدم
الخميس ٠٢ يوليو ٢٠١٥ - ١٠:٢٩ ص
1587

لماذا نصلي؟ [2]

محمد إسماعيل المقدم

إن للصلاة خصائص ومزايا كثيرة منها: أنها حفظ وحماية وحراسة للعبد المؤدي لها بشروطها وأركانها وواجباتها ومستحباتها، فهي حفظ له في نفسه وعرضه وماله، وهي حفظ له في دينه وإيمانه، وهي كذلك ملجأ المؤمن ومفزعه عند الكربات والشدائد، وهي أيضاً مفتاح الهداية للعالمين.

 

الصلاة حفظ وحماية وحراسة للعبد في الدنيا والآخرة

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. وبعد: فإن الصلاة تحفظ العبد المؤدي لها من البلايا والمحن، يقول الله تبارك وتعالى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [البقرة:45]، وهي أيضاً تحفظ العبد من عذاب النار يوم القيامة، وأدلة هذا كثيرة، وأشهرها الحديث الذي فيه أن الملائكة يبحثون في النار عمن يستحقون الخروج من النار وعدم الخلود فيها، فيعرفون أهل الكبائر بعلامة الصلاة؛ لأن الله حرم على النار أن تأكل أثر السجود. إذاً: المصلي في حماية الله تبارك وتعالى وحراسته كما بينا، فإن الله تبارك وتعالى قال في الحديث القدسي: (يا ابن آدم اكفني أول النهار أربع ركعات أكفك آخره أو أكفك بهن آخر يومك). والمراد: صلاة الضحى أربع ركعات في أول النهار، والجائزة قوله: (أكفك بهن آخر اليوم) أي: أحفظك طوال هذا اليوم حتى آخره. كذلك يقول صلى الله عليه وآله وسلم: (من صلى الصبح فهو في ذمة الله، فلا يطلبنكم الله من ذمته بشيء، فإنه من يطلبه من ذمته بشيء يدركه، ثم يكبه على وجهه في نار جهنم) رواه مسلم . قوله: (من صلى الصبح فهو في ذمة الله..) أي: في حراسة الله وفي خفارة الله وفي حمايته وحفظه وكلئه. قوله: (فلا يطلبنكم الله من ذمته بشيء) يعني: أن الذي يصلي صلاة الصبح هو في جوار الله، فإياكم أن تخرقوا هذا الجوار، فتؤذوا أو تعتدوا على من هو في حماية الله. وفي عرف الناس إذا دخل رجل في جوار رجل وفي حمايته، فإذا حصل عدوان على المستجير به الذي دخل في حمايته فإنه يعتبر عدواناً على المجير. فهنا يخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن من صلى الصبح فهو في ذمة الله وفي جوار الله وفي حماية الله، فإياكم أن تؤذوا من هو في ذمة الله. قوله: (فإنه من يطلبه من ذمته بشيء يدركه ثم يكبه على وجهه في نار جهنم) أي: فمن لم يراع حرمة هذه الصيانة وهذه الحراسة الربانية فقد عرض نفسه للخطر الذي توعده الله تبارك وتعالى به، وهو أن يخلع عنه رداء عونه وتأييده، بحيث لا يبقى له أي ملاذ أو ملجأ، وسيجد نفسه يواجه الشيطان بمفرده بعد أن خذله الله تعالى، ولذلك يقول بعض الصالحين: والله ما عدا عليك العدو إلا بعد أن تخلى عنك المولى، فلا تظنن أن العدو غلب، ولكن الحافظ أعرض عن حفظك. ويقول صلى الله عليه وآله وسلم في رواية أخرى: (من صلى الصبح فهو في ذمة الله، فانظر يا ابن آدم لا يطلبنك الله من ذمته بشيء) وفيه وعيد لمن آذى المؤمن الذي يصلي الفجر؛ لأنه انتهك حرمة من هو في جوار الله وحمايته، وقد قال تبارك وتعالى في الحديث القدسي: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب)، ولا شك أن ولي الله لابد أن يكون مصلياً، كما أنه لابد أن يكون مسلماً. وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ست مجالس المؤمن ضامن على الله تعالى ما كان في شيء منها، فذكر منها: في مسجد جماعة، وعند مريض، أو في جنازة، أو في بيته، أو عند إمام ...) إلى آخر الحديث، إي: إذا وجد الإنسان في أي من هذه المجالس فهو في ضمان الله وحراسته وحفظه. وقال صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة كلهم ضامن على الله، إن عاش رزق وكفي، وإن مات أدخله الله الجنة -وذكر منهم-: من خرج إلى المسجد) فالخارج إلى المسجد عنده ضمانة من الله، إن مد الله له في الأجل رزق وكفي، وإن مات أدخله الله الجنة. فذكر في هذا الحديث: (ومن خرج إلى المسجد فهو ضامن على الله). وفي الحديث المشهور عن عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال له: (احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك) وفي رواية: (احفظ الله تجده أمامك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة). قوله: (احفظ الله) يعني: احفظ حدود الله وحقوق الله، واحفظ أوامره بالامتثال، ونواهيه بالاجتناب. ويقول تبارك وتعالى: هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ [ق:32]. (أَوَّابٍ) يئوب ويرجع إلى الله سبحانه وتعالى، (حَفِيظٍ) أي: حافظ لأوامر الله عز وجل، وحافظ لذنوبه كي يتوب منها ويستغفر منها باستمرار. ومن أعظم ما يجب حفظه من أوامر الله عز وجل الصلاة، كما قال الله تعالى: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى [البقرة:238]. ومدح الله المحافظين عليها بقوله تعالى: وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ [المعارج:34]. ونلاحظ في سورة المؤمنون وفي سورة المعارج حينما ذكر الله سبحانه وتعالى صفات المؤمنين المتقين الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون، أنه جعل أول صفة وآخر صفة المحافظة على الصلاة، فكأن هذا هو السياج الذي يحوط كل الأعمال الصالحة. وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (من حافظ عليها كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة). وقال صلى الله عليه وسلم في الصلوات أيضاً: (من حافظ عليهن كن له نوراً وبرهاناً ونجاةً يوم القيامة). وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن). إذاً: من حفظ حدود الله وراعى حقوقه حفظه الله؛ فإن الجزاء من جنس العمل. ......

 

أنواع حفظ الله عز وجل للعبد الصالح

الحفظ يدخل فيه نوعان: الأول: حفظه له في مصالح دنياه. الثاني وهو أشرف النوعين: حفظه إياه في دينه وإيمانه. أما الحفظ الأول: فهو حفظ الله عز وجل العبد في مصالح دنياه كحفظه في بدنه وولده وأهله وماله، قال الله عز وجل: لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ [الرعد:11] يعني: كل إنسان له معقبات -وهم ملائكة- من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: (هم الملائكة يحفظونه بأمر الله، فإذا جاء القدر تخلوا عنه حتى يصيبه ما قدره الله له). ومن دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا). قوله: (واجعله الوارث منا) هذه مبالغة في حفظ الحواس لتبقى سليمة معافاة ليس فقط إلى حين الموت، لكن تبقى سليمة حتى بعد الموت، كأن صحتك وسمعك وبصرك وقوتك بعد موتك تبقى سليمة وترثك، فهذه من المبالغة في سؤال حفظ الله سبحانه وتعالى العبد من الآفات. وكان من دعائه صلى الله عليه وآله وسلم الذي كان يكرره صباح مساء: (اللهم احفظني من بين يدي ومن خلفي، وعن يميني وعن شمالي، ومن فوقي، وأعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي). ومن حَفِظ الله عز وجل في صباه وقوته حفظه الله في حال كبره وضعف قوته، ومتعه في سمعه وبصره وحوله وقوته وعقله، وقد يحفظ الله العبد بصلاحه بعد موته في ذريته، فإذا كان العبد صالحاً محافظاً على الصلاة وعلى أوامر الله تبارك وتعالى؛ فإن الله عز وجل يحفظه في ذريته، ليس فقط في حياته، بل وبعد مماته. فمن أراد أن يحفظ الله سبحانه وتعالى ذريته من بعده إذا خشي الموت أو غير ذلك؛ فأعظم ذخيرة يدخرها لهم هي أن يتقي الله سبحانه وتعالى في حال حياته، وذلك بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، فهذه هي أعظم وثيقة تأمين على الأولاد والذرية، وهي ليست المال، وليست العقارات، وليست أمور الدنيا، ولكن حفظهم بتقوى الله سبحانه، يقول عز وجل: وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً [النساء:9]. قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى: ما من مؤمن يموت إلا حفظه الله تعالى في عقبه وعقب عقبه. يعني: أولاده وأولاد أولاده. وقال ابن المنكدر رحمه الله تعالى: إن الله ليحفظ للرجل الصالح ولده وولد ولده، والدويرات التي حوله، فما يزالون في حفظ من الله وستر. يعني: بركة الصالح تتعدى المكان وتتعدى الزمان، تتعدى الزمان حيث تمتد إلى ولده وولد ولده فيحفظون؛ لأن أباهم كان رجلاً صالحاً، وتتعدى المكان حيث تمتد إلى الدويرات التي حوله وجيرانه فما يزالون في حفظ من الله وستر ببركته. وقال سعيد بن المسيب رحمه الله تعالى لابنه: لأزيدن في صلاتي من أجلك، رجاء أن أحفظ فيك، ثم تلى هذه الآية: وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً [الكهف:82]. ومن عجيب حفظ الله تبارك وتعالى لمن حفظه أن يجعل الحيوانات المؤذية بالطبع حافظة له من الأذى، مثال ذلك: قصة سفينة رضي الله عنه وهو من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهو مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ركب سفينة رضي الله عنه البحر فانكسر به المركب وخرج إلى جزيرة، فلما خرج إلى هذه الجزيرة رأى الأسد، فجعل ينادي الأسد بكنيته: يا أبا الحارث! أنا صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فجعل الأسد يمشي معه حتى دله على الطريق، فلما أوصله الأسد إلى رأس الطريق جعل يهمهم كأنه يودعه ثم رجع عنه وهذا الأثر رواه الطبراني و الحاكم وصححه ووافقه الذهبي . فالأسد من أعظم ما يضرب به المثل في الإهلاك، فانظر كيف حفظ الله سبحانه وتعالى هذا العبد الصالح من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام من هذا الأسد الذي هو مؤذ بطبعه، والأذى كامن فيه، ومع ذلك حفظه الله عز وجل من هذا الشر، أما من ضيع أمر الله فإن الله تبارك وتعالى يضيعه، حتى يدخل عليه الضرر والأذى ممن كان يرجو نفعه، يقول الفضيل رحمه الله تعالى: إني لأعصي الله فأعرف ذلك في خلق خادمي ودابتي. يعني: إذا عصيت الله عرفت شؤم المعصية في الاعوجاج الذي يصيب دابتي، بحيث لا تنقاد له، وكذلك الخادم يفعل خلاف ما يأمره به سيده. هذا ما يتعلق بالنوع الأول من حفظ الله عز وجل العبد، وهو حفظه في نفسه وفي ماله وفي ذريته وسائر شئونه. النوع الثاني: حفظ الله العبد في دينه وإيمانه، فيحفظه في حياته من الشبهات المضلة، ومن الشهوات المحرمة، ويحفظ عليه دينه حتى يتوفاه على الإيمان، ويرزقه حسن الخاتمة. كان صلى الله عليه وآله وسلم يقول عند نومه: (إن أمسكت نفسي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين). وعلم عمر رضي الله تعالى عنه أن يدعو الله عز وجل بهذا الدعاء: (اللهم احفظني بالإسلام قائماً، واحفظني بالإسلام قاعداً، واحفظني بالإسلام راقداً، ولا تشمت بي عدواً حاسداً). وكان صلى الله عليه وآله وسلم إذا ودع من أراد سفراً قال له: (استودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك)، وكان يقول: (إن الله إذا استودع شيئاً حفظه)، فهو كان يقول هذا حتى يحفظ الله على هذا العبد دينه وأمانته وخواتيم عمله. وقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (احفظ الله تجده تجاهك) وفي رواية: (أمامك) معناه: أن من حفظ حدود الله وراعى حقوقه وجد الله معه في كل أحواله حيث توجه، يحوطه وينصره ويحفظه ويسدده، فإن الله سبحانه وتعالى يقول: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ [النحل:128]. قال قتادة : من يتق الله يكن معه، ومن يكن الله معه، فمعه الفئة التي لا تغلب، والحارس الذي لا ينام، والهادي الذي لا يضل.

 

 

الصلاة ملجأ المؤمن عند النوازل والكربات

إن من فضائل الصلاة أنها ملجأ المؤمن في الكربات، فإذا ألمت بالمسلم الكربات أو نزلت به النوازل فالصلاة ملجأ له، وليس هذا إلا للمؤمن؛ لأن الله تبارك وتعالى قال: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ [البقرة:45] أي: يستثقلها عامة الناس ما عدا الخاشعين الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [البقرة:46]. في الصلاة استجابة لغريزة البشر النوعية، غريزة الافتقار والضعف والطلب، فالإنسان من حيث هو إنسان فيه هذه الغريزة أو هذه الفطرة، فالإنسان مهما نال من الأماني أو من الأشياء التي يحس أنه مفتقر إليها، فإنه يشعر أن الفقر مازال صفة لازمة له، فهو لا يستقر قلبه ولا يطمئن ولا يشعر بالغنى إلا إذا ظفر بمحبوبه الأعلى وهو الله سبحانه وتعالى، قال ابن القيم رحمه الله تعالى: لقد كان يسبي القلب في كل وليلة ثمانون بل تسعون نفساً وأرجح يهيم بهذا ثم يألف غيره ويسلوهم من فوره حين يصبح فلما دعا قلبي هواك أجابه فلست أراه عن خبائك يبرح فالشاهد أن القلب لا يمكن أن يسكن ويستقر إلا إذا وصل إلى الله سبحانه وتعالى، واستغنى بالله عما عداه، أما ما دون ذلك فلا يقنع؛ لأنه سريع التحول والبحث، ففطرة الإنسان أنه دائماً يشعر بالافتقار إلى من يحتمي به ويلجأ إليه، يقول عز وجل: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [فاطر:15]. ولذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى بيتاً في نفس هذا المعنى: والفقر لي وصف ذات لازم أبداً كما الغنى أبداً وصف له ذاتي أي: كما أن من صفاته الذاتية الغنى أبداً، كذلك العبد من صفاته الذاتية من حيث لا يمكن أن يكون إنساناً إلا إذا كانت فيه هذه الصفة وهي الفقر أبداً. فالإنسان كما ذكرنا فيه غريزة الاحتياج والافتقار والضعف والطلب ممن هو أغنى منه، أو ممن هو أقوى منه فهو يطلب منه الحماية والمال والرزق والعافية والأمان وغير ذلك، فالصلاة نفسها هي عبارة عن استجابة لهذه الغريزة الفطرية الموجودة في الإنسان. ......

 

حب الالتجاء والاعتصام بالله غريزة وفطرة إنسانية

من أعراض هذه الغريزة حب الالتجاء، فالإنسان يحب أن يلتجىء، وتلاحظون أن التجار يحاولون أن يعزفوا على هذا الوتر في قلب كل إنسان، فيتكلمون على التأمين، ويقولون: هو حصن حصين وأمان الملايين؛ لأنهم يعلمون أن هذه الغريزة موجودة في كل إنسان، من الشعور بالخوف من المستقبل، والقلق والخوف من الفقر وعلى الأولاد، فلذلك يحاولون أن يستثمروا هذه الفطرة بأن يخدعوا الناس بها، وأنهم سيلبون طلبهم. إذاً: الإنسان عنده غريزة الالتجاء والاعتصام والاحتماء والدعاء والمناجاة، والاطراح على عتبة القوي الغني الجواد الكريم الرءوف الرحيم، اللطيف الودود المعطي المانع السميع المجيب. فالصلاة أقرب إلى المؤمن وأكثر إيواءً، وسنذكر إن شاء الله بعض عجائب الصلاة، وهي كثير من القصص وسنقتصر على نماذج قليلة. هناك أناس من الكفار ولدوا كفاراً وما رأوا الصلاة من قبل، وبعضهم كان يفعل بعض أفعال الصلاة باجتهاد منه، كمن يصاب مثلاً: بمرض نفسي واكتئاب أو غيره، فلا يجد راحته إلا في وضع السجود، ولا يعرف أن هذا جزء من صلاة المسلمين، فهو ما رأى مسلماً يصلي، فلما رأى هذا السجود فوقف مندهشاً مذهولاً فسأل: ماهذا؟ فقيل: هذه صلاتنا، فهو عرف بالفطرة أن هذا السجود تعبير عن الالتجاء والاعتصام والاحتماء وتلبية لنداء هذه الفطرة، وهي فطرة الاحتياج إلى الله سبحانه وتعالى. إذاً: الصلاة أقرب إلى المؤمن، وأكثر إيواءً وأسرع نجدة وإسعافاً، وأتقى وأحنى وأعطف على العبد المؤمن من حجر الأم الحنون على الطفل الشريد اليتيم الضائع الضعيف العاجز، فهذا الطفل كلما هدد أو أصابه الروع أو الفزع أو مسه الجوع أو العطش آوى إلى أمه، فرمى نفسه في أحضانها أو تشبث بأذيالها، كذلك الصلاة هي أبلغ من هذا بالنسبة للمؤمن، فهي معقل المسلم وملجؤه الذي يأوي إليه، والعروة الوثقى التي يعتصم بها، وهي الحبل الموجود بينه وبين ربه الذي يتعلق به، وهي غذاء الروح، وبلسم الجروح، ودواء النفوس، وإغاثة الملهوف، وأمان الخائف وقوة الضعيف، وسلاح الأعزل، وقد قال الله تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة:153]. وقال أيضاً: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ * الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [البقرة:45-46]. يقول ابن كثير رحمه الله تعالى: استعينوا على طلب الآخرة بالصبر على الفرائض والصلاة. وقال أيضاً: إن الصلاة من أكبر العون على الثبات في الأمر.

 

فزع النبي عليه الصلاة والسلام إلى الصلاة عند الشدائد والنوازل

قال جل وعلا مخاطباً خليله محمداً صلى الله عليه وسلم، وكما لفتنا النظر من قبل أن الأليق والأنسب ألا ننقص النبي صلى الله عليه وسلم حقه، فأغلب الناس حينما يذكرون مثل هذا يقولون: خاطب حبيبه، فكيف نصفه بالمحبة وهو قد حباه الله بما هو أرقى وأرفع وأعلى من المحبة، وهي الخلة؟! قال عليه الصلاة والسلام: (إن الله اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً)، فينبغي إذا أردنا التعبير عن محبة الله لنبيه عليه الصلاة والسلام أن نصفه بخليله؛ لأنها أعلى درجات المحبة. قال عز وجل مخاطباً خليله محمداً صلى الله عليه وآله وسلم: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنْ السَّاجِدِينَ* وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر:97-99]. هذه الآية فيها إشارة إلى النجاة من أذى أعداء الدين وأعداء الدعوة، فقوله: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ) يعني: مما يؤذونه به، يقول عز وجل: وَلَتَسْمَعُنَّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيراً [آل عمران:186]. إذاً: هذا ليس جديداً على المؤمنين، هذا سبق الإعلام به والتحذير منه. وقوله: (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنْ السَّاجِدِينَ) عبر هنا عن الصلاة بالسجود، كما تقول: صليت ركعة، والركعة فيها قيام وركوع وسجودين وجلسة وتشهد، فهو تعبير عن الكل بالجزء، وهذا مثله، (وَكُنْ مِنْ السَّاجِدِينَ). وقوله: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) فإن في ذلك شرحاً للصدر، وتفريجاً للكربة، وهكذا كان هديه العملي صلى الله عليه وآله وسلم، فقد كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة؛ لأنها الملجأ والمأوى والملاذ، قال حذيفة رضي الله تعالى عنه: (رجعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الأحزاب وهو مشتمل في شملة يصلي، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر صلى). وقال أمير المؤمنين علي رضي الله تعالى عنه: (لقد رأيتنا ليلة بدر وما فينا إلا نائم، غير رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ويدعو حتى أصبح). وعن ثابت رضي الله عنه: قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أصابته خصاصة نادى أهله صلوا صلوا)، قال ثابت : وكان الأنبياء إذا نزل بهم أمر فزعوا إلى الصلاة). وروي عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان ليلة ريح شديدة يفزع إلى المسجد حتى تسكن الريح). كذلك كان إذا حدث في السماء حدث من خسوف شمس أو قمر فإن مفزعه إلى الصلاة حتى ينجلي، فهذا هو شأن القلب الحي. نحن في هذا الزمان ابتلينا بجاهلية العلم، وقديماً كان عندهم جاهلية الجهل، أما الآن فعندنا جاهلية العلم، نقصد العلوم التجريبية التي استعملت في التمويه على الناس وصرفهم بعيداً عن حقائق الأمور، فهي جاهلية مغطاة بثوب العلم، إذا حصل كسوف أو خسوف أو زلزال أو غير ذلك من هذه الأشياء يقولون: هذه ظواهر طبيعية! ويشغلون الناس بقوة الزلزال كم درجته، والشروح الطويلة في طبقات الأرض وتكوينها، وغير هذه الاصطلاحات المعروفة، وإذا حصل بركان يظلون ينشغلون بتحليل البركان وصفاته كنوع من التحليل، وكدراسة وصفية لمثل هذه الظواهر فقط، وكل بركان نزل على الناس فأحرقهم وكل زلزال واقع عليهم فأهلكهم فهذه أشياء تقع في الوجود بأسباب يسببها الله سبحانه وتعالى، لكن هذه الأسباب لا تنفي أنها نذير من الله عز وجل، وبسبب هذه التحليلات العلمية يحرم الناس من الاعتراف بهذه البلايا وهذه المصائب، بسبب هذا الحجاب الذي يوضع على أعينهم، فهم يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا، وينشغلون بظاهر الأمور دون النفاذ إلى بواطنها وما ورائها من الحكم، لذلك كان صلى الله عليه وسلم إذا وقعت ريح شديدة أو رأى سحباً في السماء يظل يخرج ويدخل ويتغير شكله عليه الصلاة والسلام، فإذا سأله الصحابة عن ذلك قال: (وما يؤمنني أن تكون فيها عذاب من الله سبحانه وتعالى؟! وقد رأى قوم مثل هذا فقالوا: هذا عارض ممطرنا، بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ [الأحقاف:24])، فقد كان النبي عليه الصلاة والسلام دائم الوجل والخوف والفزع من عقوبة الله تبارك وتعالى.

 

فزع الصحابة والتابعين إلى الصلاة والمساجد عند النوازل والشدائد

لقد كان شأن الصحابة الأبرار رضي الله تعالى عنهم أجمعين الفزع عند النوازل والكربات إلى الصلاة، فعن النضر قال: (كانت ظلمة على عهد أنس فأتيته فقلت: يا أبا حمزة ! هل كان هذا يصيبكم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: معاذ الله! إن كانت الريح لتشتد فنبادر إلى المسجد مخافة أن تكون القيامة) هكذا كان شأن الصحابة؛ لأنهم تعلموا من النبي عليه الصلاة والسلام أن يفزعوا إلى الصلاة. كذلك كان شأن التابعين لهم بإحسان في كل جيل فالصلاة كانت بالنسبة لهم كالسيف أو السلاح في يد الجندي، فالجندي إذا أصابه أي فزع يفزع إلى السلاح؛ كي يحمي به نفسه أو من يحرسه، فكذلك المؤمن إذا نزلت به ملمة يفزع إلى الصلاة. والغني إذا احتاج يفزع إلى أن يسحب من حسابه أو من ماله حتى يسد حاجته، بل الطفل الصغير يبكي ويصرخ حتى يستعطف أمه لتحن عليه وترحمه، والسلف كانوا أكثر إدلالاً وثقة بصلاتهم، وأقوى اعتماداً عليها من كل ذلك، وأصبح ذلك طبيعة لهم لا تفارقهم، فإذا فزعوا أو أثيروا أو داهمهم عدو أو تأخر عليهم فتح أو التبس عليهم أمر؛ التجئوا إلى الصلاة وفزعوا إليها. كانت هذه أيضاً سيرة أعلام وأئمة المسلمين وقادتهم في كل عصر ومصر، فهذا صلاح الدين الأيوبي إذا راجعتم سيرته تجدون فزعه إلى الصلاة وذكر الله عز وجل وقراءة القرآن. وهكذا من تتبع معارك المسلمين وجهادهم ومواقفهم تجد فزعهم دائماً إلى الصلاة، ولعل هذا من حكمة تشريع صلاة الخوف حتى في أثناء الجهاد، حتى يبقى هناك المدد متصلاً مع الله سبحانه وتعالى خلال هذه الصلاة. حكي عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى أنه كان إذا أشكلت عليه آية، أو استصعب عليه علم عمد إلى بعض المساجد المهجورة، فقام يصلي، ويعفر وجهه بالتراب، ويطيل السجود، ويقول: يا معلم إبراهيم، علمني، ويا مفهم سليمان! فهمني، أخذاً من قوله تعالى: فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ [الأنبياء:79]. وكان شديد الابتهال عظيم التذلل لله تبارك وتعالى، ويفتخر بأنه سائل مستجد عريق في الشحاذة منه سبحانه، وقد ورثها أباً عن جد، فقد سمع شيخ الإسلام رحمه الله تعالى ينشد في بعض مناجاته ودعواته: أنا المكدي وابن المكدي وهكذا كان أبي وجدي يعني: أنني عريق في التسول من الله، عريق في الشحاذة والسؤال والافتراش على عتبته، أسأله وأتذلل إليه تبارك تعالى أن يقضي حاجتي.

 

ارتباط الصلاة بالحاجات والأحداث

إن الصلاة ليست مقصورة على فريضة تؤدى في وقتها، ويتخلى بها المسلم عما أوجبه الله عليه من فضل، ولكنها جنة المسلم، فأنت لا تصلي بمجرد أن تستريح منها، كلا، بل أنت ينبغي أن تصلي؛ لأنها سلاحك وجنتك، والمفتاح الدائم الذي يفتح به كل فضل، ويكشف به كل هم وغم. فهناك صلاة للخوف، وصلاة للاستسقاء إذا انقطع المطر، فالصلاة مرتبطة بالحاجات، ومرتبطة بتفريج الكربات، كذلك إذا وقعت في معصية فإنك تفزع إلى الصلاة؛ كي تمحى عنك هذه الخطيئة، فعن أبي بكر رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من عبد يذنب ذنباً فيتوضأ فيحسن الطهور، ثم يقوم فيصلي ركعتين، ثم يستغفر الله لذلك الذنب إلا غفر الله له، ثم تلا قوله تعالى: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:135])، وهذه صلاة التوبة يفزع إليها العبد إذا افترسه الشيطان وأوقعه في معصية. كذلك للخسوف وللكسوف صلاة، فالصلاة لها ارتباط بالحدث، فينبغي الفزع إلى هذه الصلوات الموظفة في أوقات معينة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، ولكنهما آيتان من آيات الله يخوف الله بهما عباده، فإذا رأيتم ذلك فصلوا وادعوا حتى ينكشف ما بكم) والغاية أن ينجلي وينكشف هذا الغم. وفي رواية: (فادعوا الله وكبروا وصلوا وتصدقوا). إذا أراد العبد أن تقضى له حاجة أو تفرج عنه كربة فبإمكانه أن يقدم بين يدي دعائه صلاة ركعتين، ليس هذا اعتماداً على الحديث الضعيف الوارد في شأن صلاة الحاجة؛ لأنه لا يصح؛ لكن لأن هناك ما يدل على أن من آداب الدعاء تقديم عمل صالح بين يدي الدعاء. وآداب الدعاء كثيرة منها: أن تتصدق قبل أن تدعو أو تقرأ قرآناً أو تختمه، أو تصوم وعند الإفطار تدعو أو غير ذلك، كذلك يمكن أن تصلي ركعتين قبل أن تدعو، باعتبار أن من آداب الدعاء تقديم عمل صالح بين يديه، ويستدل لهذا أيضاً بحديث عثمان بن حنيف رضي الله عنه: (أن رجلاً ضرير البصر أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ادع الله أن يعافيني فقال: إن شئت أخرت لك وهو خير، وإن شئت دعوت، فقال: ادع، فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه ويصلي ركعتين ويدعو ...) . إلى آخر الحديث. فهذا فيه إشارة لهذا المعنى، وأنه قبل أن يدعو يصلي ركعتين. والمداومة على تعمير بيوت الله عز وجل بالصلاة وبالذكر من أسباب قضاء الحاجات، فعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: (إن للمساجد أوتاداً هم أوتادها، لهم جلساء من الملائكة، فإن غابوا سألوا عنهم، وإن كانوا مرضى عادوهم، وإن كانوا في حاجة أعانوهم) وهذا الحديث صححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، وذلك كله ببركة محافظتهم على صلاة الجماعة.

 

الصلاة مفتاح هداية للعالمين

إن من فضائل الصلاة أنها مفتاح هداية لكثير من الكافرين، نحن نعرف أن كل نسيج هو عبارة عن خيط، وهذا الخيط منه يصنع النسيج، كذلك كل قصة إيمان أو إسلام لكافر نجد أن الصلاة هي الخيط الأول الذي أوصله إلى الإسلام، ولذلك ينبغي أن تتحدث مع أي إنسان -حتى ولو كان ممعناً في الكفر والإلحاد- عن الصلاة؛ لأنك لا تعرف طبيعة تربة قلبه، هل هذه التربة خصبة أم تربة سبخة؟ لكن عليك أن تضع البذرة فقط، ومالك وشأنها، ولا يخصك بعد ذلك هل البذرة تنمو أم لا تنمو؟ فأغلب قصص الاهتداء والإيمان والاستقامة إنما تبدأ ببذرة، فقد تجد إنساناً يلقي كلمة ويمضي، ثم إن هذه الكلمة تثير بركاناً في نفسية من سمعها، حتى وإن لم يظهر ذلك، فإذا سمع من غيرك أيضاً ربما أثرت، وهكذا إلى أن ينتهي به الأمر إلى الإسلام والهداية والاستقامة، فما عليك إلا أن تضع البذرة؛ لأن الهدى هدى الله، يهدي من يشاء ويضل من يشاء، فأنت فقط مطالب بأن تضع البذرة في التربة وعلى الله سبحانه وتعالى نماؤها. وهذه البذرة الأولى أو هذا الخيط الأول يختلف اختلافاً كثيراً، وهذا الموضوع في حد ذاته يحتاج كلاماً مفصلاً، وهو بحث شيق، ونرجو أن تأتي فرصة له فيما بعد. ......

 

نماذج من قصص المهتدين إلى الإسلام بسبب آيات وأحاديث وغيرها

إن الإنسان عندما يطالع قصص المهتدين إلى الإسلام يجد أشياءً عجيبة، فمن أعاجيب ما قرأت قريباً عن رجل إنجليزي كان سبب إسلامه شيئاً غريباً جداً، لقد كان يعيش في باكستان، وكان له أصدقاء في العمل من المسلمين، ففي يوم من الأيام صنع له أحد أصدقائه المسلمين وليمة، فكان سبب إسلامه لذة طعم الطعام الذي قدم إليه، وقال: إن أمة تملك هذا المذاق الطيب في الطعام لابد أن تكون على حق! ونحن في هذه الحالة لا نقول: إن هذا صدفة، ولعله بعد أن تلذذ بالطعام اطلع على مظاهر الجمال والروعة في دين الله تبارك وتعالى. وامرأة كافرة كانت من أعتى الكفار في بلاد الغرب، أسلمت بمجرد أنها اطلعت على كتاب يبحث عن موقف الإسلام من قضية الاختلاط الحر بين الرجال والنساء، فكان فيه كلام طيب، فأعجبت جداً بهذا الكلام وأسلمت بسبب ذلك! وهذا رجل كان عالماً من علماء الموسيقى، وكان متخصصاً في الأصوات، وأسلم حينما عرف أن القرآن فيه آية تقول: إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ [لقمان:19]، فقال: هذه لا يمكن أن يقولها إلا الخالق؛ لأن هذا الصوت هو من أشد الأصوات نشازاً، ولا يعرف ذلك إلا قليل.

 

نماذج ممن اهتدوا إلى الإسلام بسبب الصلاة

إن نسبة عظيمة جداً من حالات الاهتداء إلى الإسلام كان الخيط الأول أو البذرة الأولى فيها رؤية المسلمين وهم يصلون، فمجرد هذه النظرة كانت بداية الكثيرين ممن أسلموا؛ لأنهم محرومون من هذه الشعيرة العظيمة التي تدعو الفطرة إليها، فربما يكون عندهم شيء يسير من هذه الفطرة والحاجة والفقر إلى من يعتصمون به، لكن كيف يعبرون عن هذه الحاجة؟! وكيف يصلون ما بينهم وبين الله تبارك وتعالى إلا من خلال الصلاة؟! فنذكر بعض النماذج عمن اهتدوا إلى الإسلام، وكان الخيط الأول في هدايتهم أنهم رأوا مسلماً يصلي، ولذلك نلاحظ إخواننا في جماعة التبليغ يهتمون جداً بهذا الأمر؛ لأنهم يدركون هذه الحقيقة، فهم في المطارات والهيئات الحكومية في العالم وفي زحمة الجوازات وغير ذلك في أي مكان؛ تجد الواحد منهم يؤذن ويصلي حتى يقيم الحجة على الكفار، وحتى يوقظ فيهم الشعور بالحرمان من هذه النعمة؛ لأننا -نحن المسلمين- إذا لم نعش روح الصلاة، ونحس بروح الصلاة، ونقيمها حق إقامتها؛ تصبح عادة مع الوقت، فالنعمة تبقى معنا ونحن لا نشعر بقيمتها، لكن إذا نظر إليها محروم منها فإنها تقع في قلبه موقعاً عظيماً. نبدأ أولاً بشهادة لرجل غير مسلم، وله كتب ومقالات عجيبة في إنصاف الإسلام والدفاع عنه، إنه تومس أرلون، وهو مشهور، وله كتاب (العقيدة الإسلامية) وغيرها من الكتب القيمة جداً في الدعوة إلى الإسلام، ومن أروع الكتب التي تتكلم عن التاريخ الإسلامي والدعوة الإسلامية هو هذا الكتاب. يقول في كتابه (العقيدة الإسلامية): إن دين المسلم يتمثل دائماً في مخيلته وفي الصلوات اليومية، ويتجلى هذا الدين في طريقة نسكية خاشعة مؤثرة، لا تستطيع أن تترك العابد والمشاهد كليهما غير متأثرين. يعني: لا يمكن للصلاة أن تترك الشخص الذي يصليها أو الذي ينظر إليه دون أن يتأثر بمنظر الصلاة! ويحدثنا إخواننا الذين يطالعون وسائل الإعلام الغربية: أن الإعلام الغربي بصفته تابع لليهود إذا جاء منظر المسلمين وهم يصلون فهم يأتون بالصورة بطريقة غير كاملة، تجد أنهم يقرنون الصورة بشيء يلفت انتباه النظر بعيداً عن روعة الصلاة ولذة الصلاة، مثل صورة رأيتها في بعض المجلات لبعض الشباب المسلمين أيام الانتفاضة وهم ساجدون في الشارع، والجنود اليهود يقفون أمامهم في الصفوف بمنتهى الاستكبار والصلف، رافعين الأسلحة، وينظرون إليهم في سخرية، والمهم أنهم لا يأتون بصورة الصلاة كاملة؛ لأن المعروف والمجرب أن الكافر إذا اطلع على صفة الصلاة كاملة، يشعر بالفقر وبالحرمان، ويشعر بانجذاب إليها، وبعضهم صرح أنه لما رأى منظر المصلين وهم يصلون قال: لا يمكن أن يعبد الله بطريقة أحسن من هذه! فلأنهم يدركون هذا المعنى فهم يحرصون دائماً على تشويه صورة المصلين، فلا يأتون بصورة الصلاة كاملة، وقد رأيت ذلك بنفسي في فيلم تسجيلي يسمى (سيف الإسلام)، حيث أتوا بالمصلين وهم يصلون في صورة أناس واقفين ويرفعون أيديهم، أهذه هي الصلاة فقط؟ كذلك الأذان لا يمكن أن يأتي الإعلام الغربي بالأذان كاملاً؛ لأن كثيراً من الناس انجذبوا إلى الإسلام بمجرد سماعهم صوت الأذان، وزاد انجذابهم عندما عرفوا معاني هذا الأذان. يقول تومس أرلون أيضاً في كتابه (العقيد الإسلامية): هذا الفرض المنظم من عبادة الله، هو من أعظم الأمارات المميزة للمسلمين عن غيرهم في حياتهم الدينية، فكثيراً ما لاحظ السائحون وغيرهم في بلاد المشرق ما لكيفية أدائه من التأثير في النفوس. وإليك ما قاله الأسقف لوفر واك يقول: لا يستطيع أحد يخالط المسلمين لأول مرة إلا يدهش ويتأثر بمظهر عقيدته، فإنك حيثما كنت سواء أوجدته في شارع مطروق، أم في محطة سكة حديدية، أم في حقل، كان أكثر ما تألف عينك مشاهدته أن ترى رجلاً ليس عليه أدنى مسحة للرياء، ولا أقل شائبة من حب الظهور، يذر عمله الذي يشغله كائناً ما كان، وينطلق في سكون وتواضع لأداء صلاته في وقتها المحدد. ثم يقول: ولننتقل من صلاة الفرد إلى صلاة الجماعة، فنقول: إنه لا يتأتى لأحد يرى -ولو مرة في حياته- ما يقرب من خمسة عشر ألف مصل في ساحة المسجد الجامع بمدينة دلهي بالهند يوم الجمعة الأخيرة من شهر رمضان، وكلهم مستغرقون في صلاتهم، وقد بدت عليهم أكبر شعائر التعظيم والخشية في كل حركة من حركاتهم. ثم يقول: إنه لا يتأتى لأحد يرى ذلك المشهد ألا يبلغ تأثره به أعماق قلبه، وألا يلحظ ببصره القوة التي تمتاز بها هذه الطريقة من العبادة عن غيرها. ثم يقول: كما أن توقيت الأذان اليومي للصلاة في أوقات معينة، حينما يرن به صوت المؤذن في أبكر البكور قبل الإفطار، وعند الظهيرة والناس مضطربون ومصطخبون في أعمالهم، وعند المساء، هذا الأذان الذي يحصل في هذه الأوقات على تلك الصورة كل يوم مشحون هو الآخر بذلك الجلال عينه. وينقل عن رينان إيرنس رنن -وهو فيلسوف فرنسي مشهور جداً- قوله: ما دخلت مسجداً قط دون أن تهزني عاطفة حارة! أو بعبارة أخرى: دون أن يصيبني أسف محقق على أنني لم أكن مسلماً. نقول: ما منعك من الإسلام؟! وقد كان مشهد الصلاة من الأسباب المساعدة على دخول رجل يهودي من أهل الإسكندرية في الإسلام، كما حكى هو عن نفسه إذ قال: كنت مريضاً مرضاً شديداً فتمثل لي في أثنائه أن هاتفاً يهتف ويهيب بي أن أعلن إسلامي، ولما دخلت المسجد ورأيت المسلمين مصطفين للصلاة وقوفاً كالملائكة، سمعت في نفسي صوتاً يناديني بقوله: هذه هي الجماعة التي أنبأ بها الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. ثم يقول: ولما رأيت الخطيب يتقدم للخطبة، وعليه رداء أسود؛ وقع في نفسي وجدان الرهبة والخشية، ولما ختم خطبته بالآية الكريمة التي يقول الله تعالى فيها: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل:90] وأقيمت بعد ذلك الصلاة، آنست من نفسي أنها سمت سمواً كبيراً، فقد بدت لي صفوف المسلمين كأنها صفوف الملائكة، -وهو لا يعرف الحديث (ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها)- وأن الله سبحانه قد تجلى عليهم في ركوعهم وسجودهم، وسمعت في نفسي منادياً يناديني بقوله: إن الله سبحانه إذا كان قد خاطب شعب إسرائيل مرتين في جميع القرون الخالية، فلا جرم أنه يخاطب هذه الجماعة في كل وقت من أوقات صلاتها، واقتنعت في نفسي بأني ما خلقت إلا لكي أكون مسلماً. هناك أيضاً قصة فيها ذكر سبب إسلام أحد اليهود: كان هناك محام منذ زمن في مصر، وكان من أشهر المحامين على الإطلاق في مصر، وهو زكي عريبي، وكان عميد اليهود في مصر، يحكي الدكتور عيسى عبده رحمه الله تعالى في كتاب له بعنوان (لماذا أسلموا؟) عن حالة هذا المحامي اليهودي وما الذي أداه إلى الإسلام، يقول: كان زكي عريبي يتحرق شوقاً إلى الإسلام كلما رأى مسجداً، أو وقعت عيناه على رجل يصلي لله في خشوع، ويبتهل إليه في خضوع، وكان قلبه ينشرح حين تقع في أذنيه كلمات الأذان تدعو الناس إلى عبادة الواحد الديان، وكان هناك سؤال يتردد في نفسه، ويلح على عقله دائماً وهو: لماذا لا يعتنق الإسلام؟ وكان هذا الخاطر يعلو صوته في داخله، ويهزه من أعماقه كلما رأى بين الحقول رجلاً متواضعاً من زارعي الأرض يقف بين يدي الله مؤدياً صلاته في المصلى الصغير على شاطئ الترعة، فكان يود لو كان يصلي مثل صلاته، ويناجي مثل مناجاته، وهي قصة طويلة انتهت بإعلانه إسلامه، وكان عمره خمساً وستين سنة. ورجل ألماني رأى مسلماً ساجداً فتعجب أشد العجب من هذه الحركة، مما حدا به أن ينتظر حتى ينتهي ذلك المسلم من صلاته، فلما انتهى تقدم إليه وسأله عن معنى هذه الحركات، وبخاصة ما يتعلق بالسجود، فبين له ذلك المسلم معنى الصلاة وحكمتها وآثارها، فأصيب وهو يستمع إلى الشرح بما يشبه الذهول الممزوج بالفرحة، وكأنه قد وقع على ما كان يبحث عنه منذ سنين، وبين للمسلم سبب تعجبه، وهو أنه أصيب بمرض نفسي وضيق دائم، وأنه ما أن يلصق جبهته بالأرض حتى يشعر بالراحة، وكلما عاوده ذلك الضيق النفسي عاد لإلصاق جبهته بالأرض ليجد راحته، حتى رأى ذلك المسلم فعرف سر تلك الراحة التي كان يشعر بها، فاصطحبه ذلك المسلم إلى المركز الإسلامي في ميونيخ حيث شرح له المسلمون هناك الإسلام، وإثر ذلك أعلن شهادة التوحيد، ودخل في الإسلام. وهذا رجل ثري جداً من أثرياء الهندوك في الهند، ويدعى كوك هلال جابا وصار اسمه بعد إسلامه خالد لطيف جابا وكان سياسياً وصحافياً ومؤلفاً مشهوراً في الهند، يحكي عن الإشعاعات النورانية الأولى التي أشرقت في قلبه، مبيناً أن مصدرها كان هو مشهد المسلمين وهم يصلون، يقول: كنت كلما مررت بأحد المساجد للمسلمين في الهند أفعم قلبي بالإحساس بعظمة هذا المكان وقدسيته، وكنت أشعر دوماً أن المؤذن وهو ينادي إلى الصلاة كأنه يقصدني أنا بالذات في ندائه ذلك، وكأن هاتفاً من داخله يجيبه قائلاً: هيا بنا إلى الصلاة، هيا بنا إلى الفلاح، كان قلبي يريد الانضمام إلى جماعة المؤمنين في المسجد، وكان النداء والدافع قوياً إلى درجة أني لم أتمالك نفسي من الدخول إلى المسجد، والوقوف في صف المسلمين، والحقيقة أنني لم أستطع مقاومة ذلك، وظللت أفعله فترة طويلة من الزمن! يعني: قبل أن يدخل الإسلام كان ينجذب إلى المسجد، ولا يستريح إلا إذا دخل في الصفوف وصلى معهم. وهذه الأخت الفلبينية جميلة لاما ، والتي كانت قد ربيت تربية كاثولوكية صارمة، ثم أشرق قلبها بنور ربها فأسلمت له وجهها، تحكي عن بعض التجارب التي مرت بها، وكانت عبارة عن إرهاصات سبقت إسلامها فتقول في قصة طويلة: والغريب أنني كنت أستيقظ عند الفجر، وتحدوني رغبة قوية للصلاة! يعني: كأن الإنسان خلق ليصلي. ويوجد بحث لم يتيسر لي أن أحضره في مجلة طبية إنجليزية، يتحدث الباحث وهو كافر لا علاقة له بالإسلام، ولا عنده خبر به والله أعلم، يتحدث

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

 

ربما يهمك أيضاً

رسالة من غريق
1904 ١٢ يناير ٢٠١٧
آداب التخلي -3
2385 ٠٨ ديسمبر ٢٠١٦
آداب التخلي -2
1859 ٠١ ديسمبر ٢٠١٦
البيع بالتقسيط
2833 ١٧ نوفمبر ٢٠١٦
السيرة البازية
1467 ١٠ نوفمبر ٢٠١٦