الثلاثاء، ٨ شوال ١٤٤٥ هـ ، ١٦ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

لماذا نصلي؟ -5

تتعلق بالنشء، وتلتصق بالأطفال منذ وقت مبكر

لماذا نصلي؟ -5
محمد إسماعيل المقدم
الخميس ٢٣ يوليو ٢٠١٥ - ٢١:١٧ م
2710

لماذا نصلي؟ [5]

  محمد إسماعيل المقدم

إن من خصائص الصلاة: أنها تتعلق بالنشء، وتلتصق بالأطفال منذ وقت مبكر، فقد حض الشرع على أمر ابن السابعة بالصلاة، وضرْبه عليها إذا بلغ عشر سنين، وهذا يدل على أهمية الصلاة ومكانتها، فلا بد من تنشئة الطفل عليها حتى يتعودها وتسهل عليه.

 

ضرورة الاهتمام بتربية الطفل منذ الصغر

الحمد لله حق حمده، والصلاة والسلام على محمد رسوله وعبده، وعلى آله وصحبه. أما بعد: فعن معقل بن يسار المزني رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ما من عبد يسترعيه الله رعية فلم يحطها بنصيحة إلا لم يجد رائحة الجنة) رواه الشيخان. قوله صلى الله عليه وسلم: (ما من عبد) يعني: ليس من عبد. قوله: (يسترعيه الله رعية) وفي رواية البخاري : (ما من عبد استرعاه الله) بلفظ الماضي. قوله: (فلم يحطها) يعني: لم يحفظها ولم يتعهد أمرها. قوله: (بنصيحة) وفي رواية أخرى: (بالنصيحة)، وفي رواية أخرى: (بنصحه) يعني: بأن ينصح لهم. قوله: (إلا لم يجد رائحة الجنة) يعني: أنه لا يدخل الجنة، لكن يحمل على أنه في حق من يستحل ذلك. أو المعنى: أنه لا يجد رائحة الجنة مع الفائزين الأولين. أو يقال: إنه خرج مخرج التغليظ وزاد الطبراني : (وعُرْفَها -يعني: رائحتها- يوجد يوم القيامة من مسيرة سبعين عاماً). في هذا الحديث وعيد شديد على أئمة الجور، فمن ضيع من استرعاه الله توجه إليه الطلب بمظالم العباد يوم القيامة، فكلما كثر ظلم أئمة الجور كثر استحقاقهم للعذاب يوم القيامة، وكثر المطالبون بحقوقهم منهم يوم القيامة، ولا قدرة له على التحلل، لأنه في يوم القيامة لا يملك شيئاً يفدي به نفسه، إلا أن يتفضل الله تعالى عليه فيرضي عنه خصماءه، وهذا الحديث ورد بمعناه حديث آخر عن نفس الصحابي معقل بن يسار رضي الله تعالى عنه بلفظ: (ما من وال يلي رعية من المسلمين فيموت وهو غاش لهم إلا حرم الله عليه الجنة). فكل منهما يغني عن الآخر؛ لأنهما في الحقيقة وردا عن راو واحد ومعناهما متحد، لكن مع اختلاف اللفظ نستطيع أن نستنتج فائدة جديدة وهي أن قوله هنا في هذا اللفظ: (ما من عبد يسترعيه الله رعية) يفيد العموم، فيشمل عدم نصح الإمام لرعيته، بأن يغشها، ويضيع حدودها وحقوقها، ويترك سيرة العدل فيها، والذب عنها وعن دينها فيما يطرأ عليه من التحريف أو البدع، وترك حماية حوزة رعاياه، فإن غشهم بشيء من ذلك ناله الوعيد المذكور؛ لأنه خان الله تعالى فيما ائتمنه عليه وجعله خليفة فيه، وواسطة بينه وبين خلقه في تدبير أمرهم، والغش في شيء من ذلك كبيرة توعد عليه بالنار. قال الإمام أبو عبد الله محمد بن خلف الأبي المالكي صاحب كتاب: إكمال المعلم في شرح صحيح مسلم رحمه الله تعالى: لا يقتصر الحديث على الأمراء، بل هو عام في كل من وكل إليه حكم غيره. قوله: (ما من عبد يسترعيه الله رعية) هذه الرواية بلفظ: (عبد) خلافاً للرواية الأخرى التي بلفظ: (ما من وال.. ) فالرواية التي هي بلفظ (ما من عبد) هي نكرة في سياق النفي، فتفيد العموم، يعني: كل عبد يكون مسئولاً عمن وكل إليه حفظه، قال صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الآخر: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته) فعدد أنواعاً كثيرة من هذه الرعية حيث قال: (فالإمام راع وهو مسئول عن رعيته، والرجل راع في أهل بيته وهو مسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها وهي مسئولة عن رعيتها، والولد راع في مال أبيه وهو مسئول عن رعيته). إذاً: الحديث يعم كل من استرعاه الله سبحانه وتعالى رعية، ووكل بحفظ رعيته، ورعاية شئونهم، والاجتهاد في مصلحتهم. وبلا شك أنه يدخل دخولاً أولياً في مثل هذا الحديث ولاية الأب على زوجه وأبنائه، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (كل عبد من بني آدم سيد، فالرجل سيد أهله، والمرأة سيدة في بيتها.) إلى آخر الحديث. على أي حال إذا انتبهنا للعموم الموجود في هذا الحديث وضممنا إليه قوله تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [التحريم:6]، يتضح ويتجسد لنا خطورة مسئوليتنا على أبنائنا ونسائنا، وأننا سنسأل عنهم بين يدي الله سبحانه وتعالى، فينبغي أن نعد للسؤال جواباً. والحقيقة أننا -أمة المسلمين عموماً إلا من رحم الله- نعاني من تقصير شديد في الاهتمام بأمر الأطفال، الذين هم في الحقيقة هم المستقبل، فأي أمة تستطيع أن تصنع مستقبلها بعون الله سبحانه وتعالى إذا هي أولت الأطفال الرعاية التي يستحقونها، ونحن للأسف لازلنا ننظر للطفل على أنه لعبة ملهية نتلهى بها، وأنه طفل صغير، ولا نتهيأ لتربيته وإعداده وتنميته نمواً سوياً إلا بعد فوات الأوان، وسبق أن ذكرت لكم قصة حكاها أستاذنا فضيلة الشيخ الدكتور محمد الصباغ حفظه الله تعالى، فيقول: إنه سمع من الأستاذ مالك بن نبي الجزائري رحمه الله تعالى: أن رجلاً جاء يسترشده في تربية بنت له ولدت حديثاً، فسأله: كم عمرها؟ قال: شهر، قال: فاتك القطار! وقال: كنت أظن في بادئ الأمر أنني بالغت في جواب هذا السائل، ثم عندما نظرت وجدت أن ما قلته الحق، وذلك أن الولد يبكي فتعطيه أمه الثدي فينطبع في نفسه أن الصراخ هو الوسيلة إلى الوصول إلى ما يريد، ويكبر على هذا، فإذا ضربه اليهود بكى في مجلس الأمن، ويظن أن البكاء والصراخ يوصله إلى حقه. وفي هذا إشارة إلى أن كل ما نعانيه من كثير من الشخصيات البارزة في شتى دول العالم الإسلامي هو من عن آثار ونتائج التربية السيئة التي أسديت إليهم منذ الصغر، فالأمة كلها تحصد الثمرات المريرة لهذه التربية المعوجة، خاصة إذا كانت التربية بعيدة عن الدين، فحينما نرى واحداً من الطواغيت يفاخر أنه منذ نعومة أظفاره نشأ وهو يرى صورة أتاتورك في مكان ما في جدار الغرفة، وهو في نظر أبيه معظم، وأنه خرج وكل همه في الحياة أن يكون مثل أتاتورك لعنه الله تعالى، فكيف يكون مصير أمة مثل هذا يكون قائداً لها، إذا كان نشأ على محبة الاقتداء والتأسي بعدو الله وعدو رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! والكلام في هذا الموضوع ليس فيه مبالغة، بل موضوع التربية موضوع خطير جداً، ونحن الذين نضيع الفرص. حتى إن العلوم الحديثة تقول: إن التربية لا تبدأ من مجرد الولادة، بل تبدأ من قبل الولادة؛ ولذلك حينما نرى الأمم -التي تسمى أمماً متقدمة في هذه المجالات- تهتم اهتماماً غير عادي بتوجيه الأطفال وبتربيتهم، وممكن أن نستفيد منهم في هذا الجانب، لكن علينا أن نجتنب ما يخالف ديننا. كنت أقرأ في كتاب يتحدث عن التربية المبكرة للأطفال، فيقول: إنها تبدأ من فترات الحمل والطفل جنين في بطن أمه، وكيف أن بعض الأمهات قد تقوم بالتدريب لهذا الطفل الجنين، وذلك بأن تعود الطفل على أن يسمع صوتها، كأن تضرب على جدار بطنها بحركات رفيقة معينة مرتبطة بأصوات معينة، وتدغدغ هذا الطفل بحيث إذا خرج يكون قد عرف صوت أمه؛ لأنه كان يسمع صوتها وهو في بطن أمه. ومن أغرب ما قرأته أن امرأة من الشام سورية كانت تعود جنينها وهو في بطنها على سماع آيات القرآن الكريم كانت تستمع أشرطة القرآن الكريم، أو تتلو هي القرآن كثيراً، فولد هذا الطفل فاستطاعت مع صغره أن تعوده على سماع القرآن وحفظه، حتى إنه حفظ القرآن كله في سن الخامسة من عمره! إذاً: على الرجل أن يبدأ بالدعوة الصالحة أن يرزقه الله امرأة صالحة؛ لأن اختيار الأم الصالحة يعد من إحسانك إلى أبنائك، كذلك من إحسانك إلى أبنائك أن تدعو لهم وهم في عالم الغيب أن يرزقك الله الذرية الصالحة كما كانت سنة الأنبياء، فالأنبياء كان همهم أن يرزقوا ذرية صالحة طيبة. الطفل يحتاج إلى هذه الرعاية، وكما أننا نهتم بنمو الجسم فلا نهمل نمو النفس والروح، لكن للأسف الشديد لا نجد إلا القليل من الناس يهتمون بهذه الأمور. نحن حينما نتأمل في قوله تبارك وتعالى: وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات:21] يتوجه تركيزنا إلى آيات الله في الجوانب التشريحية أو العضوية أو الوظيفية لأبداننا، ونغفل تماماً عن آيات الله سبحانه وتعالى في خلق هذه النفس، وفطرها على التوحيد، وهذه الكفاءات المودعة في هذه النفس الصغيرة، فتربية الطفل تبدأ مبكرة جداً حتى في فترة الرضاعة كما ذكر الأستاذ مالك بن نبي، وهو كلام رجل خبير لم يأت جزافاً، فالطفل منذ البدايات الأولى لميلاده تتشكل شخصيته في الخمس السنوات الأولى؛ لأنها السنوات التي فيها تتكون شخصية هذا الطفل بكل معالمها. فإذا جاء ابنك وقد عمل أي شيء كأن نفذ فكرة، وجاء إليك مسرعاً يتوقع منك أن تكافئه أو تشجعه، ثم إذا به يصدم وتقول له: هذا لعب وأنا مشغول، فبالتالي يصاب بإحباط، فمثل هذه التصرفات اليسيرة تكون عميقة الأثر في هؤلاء الأبناء، فمن الخطأ أن تجابه ابنك بهذا الأسلوب الجافي. حتى الإرضاع له تأثير مهم جداً في تكوين نفسية هذا الطفل فيما بعد، هل يتم بطريقة (ميكانيكية) كآلة ترضع الولد أم يتم مع ضمه بحنان وبإبداء العواطف؟ فهذا الطفل الرضيع تتكون شخصيته بالمثل في مقابلة ما يسدى إليه من طريقة المعاملة كما ضرب الأستاذ مالك بن نبي هذا المثال: الطفل وهو صغير في المهد إذا أخطأت أمه في تربيته بحيث إذا صرخ يحصل على ما يريد، فإنه ينشأ على الصراخ بحيث إذا ضربه اليهود بكى في مجلس الأمن! فكل الويلات التي نذوقها الآن من كثير من حكام المسلمين هي نتيجة هذه التربية المنحرفة، فالأمة كلها تدفع ثمن التربية الخاطئة التي ربوها في الصغر وفي المهد، انظروا كم هي خطورة هذه التربية التي تخرج لنا زعماء مشوهين نفسياً وعقدياً... إلى آخره؟ إذاًَ: أول ما ينبغي أن يسدى إلى الأطفال هو التربية الصحيحة المبكرة، وهناك من آيات الله سبحانه وتعالى العظيمة ما يكشف لنا أن القرآن والسنة قد سبقا هذه العلوم الحديثة -التي يتباهون بها الآن- بمئات السنين، فما أكثر الإعجاز العلمي في القرآن الكريم حتى في الجانب النفسي، فإن القرآن والسنة سبقا هذه العلوم، وهما متفوقان على هذه العلوم الحديثة؛ لأن ما في القرآن وما في ا......

 

الأطفال والصلاة

إننا سنتكلم في هذه الليلة عن موضوع مهم وهو الأطفال والصلاة، وكيف نربط الأطفال بالصلاة؟! وكيف نعود الأطفال على الصلاة؟! والنصائح المتعلقة بهذا الباب. إن هذه النقطة المتعلقة بالأطفال والصلاة تعطينا تفصيلاً عن كيفية بناء الجانب العبادي في نفسية الأطفال، أو تركيبة الطفل في الجانب العبادي، وكما ينبغي علينا أن ننمي في الطفل الجانب الإيماني والجانب الاعتقادي والجانب الجسماني... إلى آخره؛ فأيضاً ننمي جانب العبادة في الأطفال، فكيف ننميه؟! وكيف نهتم به؟! إن الصلاة باعتبارها ركن الدين الأعظم، أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بأن يؤمر الأطفال بالصلاة لسبع سنين حيث يقول: (مروهم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين، وفرقوا بينهم في المضاجع). ......

 

الفوائد المتعلقة بتدريب الأطفال على الصلاة وتحبيبها إليهم

......

القدوة الصالحة

يعتقد الأطفال بحكم كونهم أطفالاً أن كل ما يفعله الكبار صحيح؛ لأنهم لا يتصورون أن الآباء يخطئون أو يتعمدون الخطأ، ولذلك يوجد عند الأطفال هذه الثقة فيما يفعله الكبار، ودائماً ينظرون إلى الآباء على أنهم أكمل الناس وأفضل الناس، وهذا ينعكس عليهم سلباً أو إيجاباً؛ لأنهم يحاكون آباءهم ويقتدون بهم، ففي سن السادسة مثلاً: نجد الأطفال لا يتأثرون بالتلقين إذا لم يوجد بجانب التلقين القدوة الصالحة التي تترجم عملياً المعاني المجربة؛ لأن الأطفال في هذه الفترات غير مؤهلين بصورة كاملة لتلقي المعاني المجربة، فهم غالباً يتعاملون مع الأشياء الحسية، أما المعاني النظرية فتأتي متأخرة فيما بعد، فلذلك كونك تعطيه كلاماً نظرياً عن معان غير محسوسة لا يؤثر فيه، لكن الذي يؤثر فيه أن يرى أمامه أباه وهو يطبق بطريقة عملية ما يدعوه إليه وما يرشده إليه، ولذلك فإن محافظة الأب على الصلاة تؤثر فيهم أعمق التأثير، وهذا أمر ملموس، فنجد أن الأولاد الصغار جداً في السن يريدون أن يصلوا، ونجد الطفل يفعل مثل ما يفعل أبوه، فهذا يؤكد أن الأطفال في سن الثالثة لا يستطيع الواحد منهم أن يستوعب المعاني المجربة بصورة كاملة إلا إذا صاحبها قدوة عملية. فالقدوة والطريقة العملية بالتزام الكبار، مع ثقة الطفل دائماً فيمن هو أكبر منه؛ هي أعظم وسيلة للتأثير فيه.

 

الدعاء بصلاح الأطفال

إن من الأمور المهمة جداً في هذه المرحلة بل في كل مرحلة أن يستعين الإنسان بدعاء الله سبحانه وتعالى والتوسل إليه، وليكن له في ذلك أسوة حسنة بإبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فقد كان الدعاء هم إبراهيم عليه السلام كما ذكر الله عنه أنه قال: رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ [إبراهيم:40] إذاً: ينبغي الاستعانة بالدعاء على مثل هذه الأشياء. أما ما يتعلق بموضوع العقاب البدني على ترك الصلاة، والذي يبدأ من سن العاشرة، فإن شاء الله سنفصل الكلام فيه بعدما ننهي الكلام عن تربية الأطفال على الصلاة، فالعقاب البدني هو الوسيلة الأخيرة للعقاب إذا أخل الطفل بالصلاة بعد أن يصل سن العاشرة، فللأب أن يلجأ إلى العقاب البدني بشروطه كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

 

تعليم الأب ولده الصغير الوضوء نظرياً وعملياً

إن على الأب أن يعلم ولده الوضوء والطهارة بالشرح النظري، خاصة في سن السابعة، والصلاة في السابعة غير واجبة على الأبناء، لكن يجب على الآباء أن يأمروا أبناءهم؛ لأن الأب يأثم إذا لم يأمر ولده الذي بلغ سن السابعة بالصلاة. إذاً: ينبغي للأب أن يوضح له الطهارة، أولاً: يشرح له شرحاً نظرياً كيفية الطهارة وكيفية الصلاة، ثم بعد ما يشرح له يطبق أمامه تطبيقاً عملياً، ثم يتركه بعد ذلك يطبق هذا التدريب العملي بنفسه، وليكن هذا بصورة متكررة، ويسمح له بالتطبيق أمامه، وإن أخطأ علمه وفهمه أين موضع الخطأ، ووجّهه بلطف دون تعنيف، فإذا أتقن الوضوء مدحه وأثنى عليه واحتضنه وقبله، مشعراً برضاه عنه، وليس هذا فحسب بل يعلمه فضائل الوضوء، بأن يتلو عليه الأحاديث الشريفة التي صحت في فضيلة الوضوء؛ كي يحفزه على الحرص على تحصيل ثواب الوضوء، وحتى يستحضر نية التعبد؛ لينال الثواب المترتب على الوضوء.

 

تعليم الأب أولاده الصغار الصلاة عملياً

إن على الأب أن يعلم أولاده الصلاة منذ السن الباكرة دون توجيه مباشر، فلا يأمرن بالصلاة بصورة مباشرة، بل يتعمد أن يصلي أمام أطفاله النوافل في المنزل، أما الفرائض فيصليها في المسجد. إذاً: يتعمد الأب أمام الأطفال قبل السابعة أن يصلي النوافل، ويكرر الصلوات على مشهد من أولاده، والأطفال يتأثرون أعمق التأثر إذا رأوا أباهم يمرغ وجهه لله تبارك وتعالى ساجداً وقائماً خاشعاً قد استغرقته الصلاة، فيستنتج الطفل مع الوقت أنك ذهبت إلى عالم آخر في أثناء الصلاة؛ لأنك لا ترد عليه إذا ناداك، ولا تحدث أي حركة، وهو بهذه الطريقة سيستنتج مع الوقت أن الصلاة حالة خاصة لها أحكامها ولها أوضاعها التي تفترق عن الأحوال التي يكون عليها الإنسان خارج الصلاة، وهذا بلا شك سيغرس في نفس الطفل الشعور بعظمة الله سبحانه وتعالى. وقد ذكر الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى أنه كان في طفولته الباكرة يتأثر ببكاء شيخه عند تلاوة القرآن أكثر مما يتأثر من كلامه، فإذا الابن رأى أباه يبكي عندما يتلو القرآن مثلاً أو عندما يصلي في خشوع فهذه بلا شك ستترك انطباعاً عظيماً جداً في نفسه من تعظيم الله سبحانه وتعالى ومحبة الصلاة.

 

حقيقة تربية الأطفال على الصلاة وغيرها بالعادة

إن هناك طريقة التربية بالعادة، فالأطفال يتعرفون على أعمال الصلاة بالمشاهدة، فالطفل الصغير يؤثر فيه كل ما حوله، فينطبع ما يراه في ذاكرته بصورة أعظم بكثير جداً مما تتخيلها، فينبغي للأب عندما يسأله ابنه الصغير أن يجيبه؛ لأنه مطالب أن يعطيه أكثر قدر من المعلومات، ودعه يستوعب ما يستطيع أن يستوعبه، وما زاد عن ذلك فلا ضرر في ألا يستوعبها، فهو يستوعب بطاقة أكثر جداً ما تتوقعه أنت، فلذلك إذا سألت علمه وتفهمه بطريقة خفيفة ستجد أمراً مذهلاً من الفهم والاستيعاب. فالطفل لا شك أنه يتأثر من انطباع حركات الصلاة وسلوكك في أثناء الصلاة، وما الذي تقوله في الصلاة، وكيف تتوضأ، وكل هذه الأشياء حتى من السن المبكرة جداً قبل السابعة بكثير تنطبع في ذاكرة هذا الطفل، لكن المهم أنه قبل سن التمييز -أي: قبل سن السابعة- على الأب ألا يشتد مع الطفل في أمر الطهارة والصلاة، ولا يشتد عليه في أمر ستر العورة للصلاة، بل يتركه يقلده على أي حال، حتى لو لم يكن الطفل ملتزماً بشروط الصلاة، لا يستقبل القبلة، ولا يستر العورة، ولا يتوضأ، فلا تقل له: صلاتك غير صحيحة، لا؛ لأنه في هذه المرحلة يتلقن بالعادة وبالتقليد وبالمحاكاة، فلا تغلظ عليه، ولا تكفه عن الصلاة، ولا تكفه عن التقليد؛ لأن زجره في هذه السن وهو غير مكلف ينفره من الصلاة، فاتركه يقلدك بطريقة تلقائية دون أن تعنفه.

 

واجب الآباء تجاه أبنائهم بعد بلوغهم سن السابعة

إذا بلغ الطفل السابعة بالتقويم الهجري وليس بالتقويم الميلادي تقويم النصارى والكفار؛ لأن أي توقيت معين في القرآن أو في السنة فالمقصود به التقويم الهجري، فمثلاً: تجب الزكاة إذا مر على المال حول -أي: سنة- بالحول الهجري لا الحول الميلادي. كذلك قوله تعالى: حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً [الأحقاف:15] أي: أربعين سنة هجرية وليست ميلادية، فانتبهوا لهذا. إذا بلغ الطفل السابعة بالتقويم الهجري ففي هذه الحالة يجب على الأب أن يأمره بالصلاة، ويوجهه إليها بلا ضرب ولا تعنيف؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم (مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين) وهذا حديث حسن. وفي هذه المرحلة يأمره بتحصيل ما لا تصح الصلاة إلا به كشروط الصلاة مثل: الطهارة، وستر العورة وغيرهما، ولا ينبغي أن يمر تاريخ سن الطفل إلى سن السابعة مروراً عابراً؛ لأن الطفل إذا بلغ سن السابعة فينبغي أن نحيطه بهالة من الاحتفال والأهمية والتعظيم في عين الطفل، بحيث يبدأ مرحلة جديدة في حياته محاطة بحدث خطير سيحدث؛ لأنه ببلوغه السابعة سيترتب عليه أنه صار الآن مؤهلاً لوظيفة مهمة وهي الصلاة، فلا ينبغي أن ندع الطفل يبلغ السنة السابعة دون أن نعمق هذا الحدث من قبل أن يتم سبع سنين، كأن نقول له: أنت في الشهر المقبل أو بعد شهرين أو بعد ثلاثة أشهر أو بعد أسبوعين ستبلغ سن السابعة، واعلم أنك إذا بلغت هذا التاريخ فأنت مقبل على أمر عظيم وأمر مهم جداً، أنت الآن كبرت، ولم تعد كالأطفال الصغار، والرسول صلى الله عليه وسلم أمرني أن آمرك أن تصلي، فها هو موعد أمرك بالصلاة يقترب فتهيأ لذلك، فإذا بلغ السابعة فصلى أول فرض جمع له أبوه بعض أصدقائه أو بعض أسرته في حفل صغير ابتهاجاً ًبهذه المناسبة الطيبة؛ لأنه صلى أول صلاة، وما الذي يمنع أن نبتكر مثل هذه الأساليب؟! فيؤتى له مثلاً بحلوى أو بهدية، وبعض الكاتبين في هذا الأمر قالوا: تهدى له ساعة بحيث يقال له: إن هذه الساعة هدية لك حتى تستعين بها على ضبط أوقات الصلاة، فيربط له كل شيء بالصلاة. ثم بعد ذلك ينبغي أن تتم متابعته في الصلاة، ويتابع في مدى محافظته على مواعيد الصلاة، وإذا نسي أو انشغل أو أهمل تذكره بالصلاة: هل صليت؟ يقول تعالى: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا [طه:132] قوله: (اصطبر) يعني: داوم ولا تمل، فينبغي أن يكرر الأمر بالصلاة دون ملل، ولنفرض أن الأب شغل أو سافر أو غاب لأي سبب من الأسباب، في هذه الحالة يوكل ويكلف من يقوم مكانه بمتابعة الصبي وأمره بالصلاة خلال فترة غيابه أو شغله، روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (حاسبوا أبناءكم على الصلاة، وعودوهم الخير؛ فإن الخير عادة). أيضاً لا بأس بمكافأته أحياناً لانتظامه بالصلاة، إذا لوحظ أنه بدأ ينتظم في الصلاة فبين وقت وآخر يكافئه بمكافأة، لكن بشرط ألا يواظب على المكافأة؛ لأنه إذا واظب على المكافأة فهذا يرسخ شعوراً موجوداً أصلاً عند الطفل وهو شعور العمل المبني على الجانب النفعي، وهذا قد ينمي فيه الأنانية، بحيث لا يعمل شيئاً إلا بالمقابل المادي، فالمكافأة حتى تعطي ثمارها ولا تفسد هذا الطفل ينبغي أن تعطى له بين وقت وآخر، حتى لا يتعود أن يحفظ القرآن أو يصلي أو يفعل أي شيء إلا إذا أخذ المعلوم، لكن ينبغي أن يرسخ في ذهنه أن الصلاة شيء أساسي، وأنه إنما يصلي لله، ولا بأس بين وقت وآخر أن تعبر عن شكرك وامتنانك بمحافظته على الصلاة. أيضاً ينبغي أن تنوع الهدية في كل مرة؛ لأن الهدية إذا تكررت ففرحه بها لن يكون كما ينبغي، لكن تنوع الهدية في كل مرة بصورة ملائمة. أيضاً على الأب أن يقرن الأمور المحببة بالصلاة، يعني: لا تصور له الصلاة على أنها تكليف وأمر وإلزام، وأنه سيتعرض لعقوبة، لكن تحاول أن تربط الصلاة بالأساليب السلمية دائماً؛ فمتى ما أمكن الطفل أن يصلي بطريقة هادئة وبلطف وبرفق فلا تقفز إلى ما بعد ذلك من الخطوات، كأن تقول له: إذا عملت الشيء الفلاني فسأكافئك بأن أصطحبك معي للصلاة في المسجد، فتزرع في قلبه أن الخروج إلى الصلاة في المسجد هو المكافأة، بحيث تجعل في نفسيته أن ذلك شيء عظيم ومحبب إلى نفسه. كذلك إذا طالبك بالذهاب معك إلى المسجد فقل له: ماذا عملت حتى تذهب معي إلى المسجد؟ أو قل له: افعل الشيء الفلاني حتى تستحق أن أصحبك إلى المسجد. فالمهم أن تربط الصلاة بالأمور المحببة إلى نفسه، فمثلاً: إذا أراد الأب أن يخرج مع الأطفال إلى نزهة فليربط مواعيد الأشياء التي يحبونها بالصلاة، فيقول مثلاً: إذا ذهبت وصليت العصر وعدت من صلاة العصر فسأصطحبك معي في هذه النزهة، وهذا يجعلهم ينتبهون لوقت الصلاة، فتراهم يبكرون للصلاة في وقتها؛ لأنها اقترنت بشيء محبوب لديهم. كذلك مواعيد الأب مع أولاده يربطها بأوقات الصلاة، كأن يريد أن يعد أولاده بشيء فيربطه دائماً بوقت الصلاة، مثل: قبل صلاة العصر، أو بعد أن أصلي المغرب. أيها الأب! عمق أحداث حياة ابنك بالصلاة؛ حتى تصبح الصلاة هي المحور الذي تدور عليه حياته، ويتعلم الأولاد تنظيم الوقت بناءً على أوقات الصلاة. أيضاً الأب يذكر أولاده بين الحين والآخر بفضائل الصلاة من القرآن الكريم والسنة الشريفة، فبجانب السلوك العملي في تطبيق الصلاة حتى يكتمل تصوره عن الصلاة ينبغي أن تنمي معلوماته عن الجانب الفكري أو النظري المتعلق بالصلاة وبمنزلتها وأهمية الصلاة، وماذا قال الله وماذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن الصلاة وفضائلها، وما يترتب عليها من الفضائل العظيمة.

 

واجب الآباء تجاه أبنائهم بعد بلوغهم سن العاشرة

إن على الأب أن يعلم الصبي خاصة بعد سن العاشرة أداء السنن الرواتب مع الصلوات المفروضات، فإذا صلى العشاء تتابعه هل صلى السنة البعدية؟ وهل صلى الوتر ولا بأس أن يحرضه على قيام الليل حتى ولو كان جزءاً يسيراً، فمثلاً الأب يقول لأولاده: إنني سأقوم هذه الليلة لصلاة القيام أو التهجد الساعة كذا، فيتركهم هم وحدهم يتنافسون من الذي سيستيقظ دون أن يوقظهم؟ لكن أدخل في برنامجهم أنهم بقيامهم هذا يتقربون إلى الله سبحانه وتعالى، وأنه شيء ليس إلزامياً، يعني: لا تأمرهم بهذا القيام ولا تلزمهم به ولا توقظهم، ولكن قل لهم: سأنظر من منكم سيستيقظ ويشاركني هذه الصلاة، فيتنافسون فيما بينهم من الذي يستيقظ ومن الذي سينام؛ حتى لا يتعودوا على الاعتماد على غيرهم، وإنما يعتمدون على أنفسهم، ولتقوى إرادتهم، ثم إذا صلى بهم القيام يخفف هذه الصلاة، ومن نعس منهم في أثناء الصلاة ففي هذه الحالة يأمره أن ينام رفقاً به، ولا يشدد عليه في الصغر. فإذا قصر الولد في الصلاة بعد سن العاشرة ففي هذه الحالة وجب على الأب وعظه وتذكيره بالنصوص الشرعية في الصلاة، فإذا استمر في تهاونه أغلظ له في القول وعنفه وعزره، بألا يسلم عليه ولا يمازحه، ويحرمه من بعض الأشياء المحببة لديه، ومن العقاب النفسي أن يكشر في وجهه ويعرض عنه ولا يكلمه ولا يرد عليه، فإذا فشل العقاب النفسي يلجأ الأب إلى العقاب البدني بالشروط التي سنبينها إن شاء الله فيما بعد؛ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم (واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين) لكن إذا كان الأب قد قصر في أمر الطفل بالصلاة ولم يأمره بالصلاة لا في السابعة ولا في الثامنة ولا في التاسعة وأهمله، أو مات الأب وما التزم الطفل بالدين، وما أدرك خطورة الأمر إلا بعد أن بلغ العاشرة؛ فهل يطبق عليه الحديث تطبيقاً حرفياً؟ إذا كنت -أيها الأب- قد قصرت في البداءة مع الطفل باللين وبالرفق وتركته وأهملته حتى بلغ العاشرة، ففي هذه الحالة لا تستعمل معه العقاب البدني مباشرة بعد العاشرة، لأنك أنت الذي قصرت ولم تعوده على الصلاة، ففي هذه الحالة تبدأ بالتدرج معه وتعوده عليها من جديد إلى أن ينتظم في أمر الصلاة. إذاً: يعود الطفل على صلاة الجماعة منذ الصغر، والمقصود من ذلك أن ينشأ الطفل على طاعة الله، فأعظم هدية يقدمها الأب لولده أن يكون واحداً من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، ومنهم: شاب نشأ في عبادة الله.

 

واجب الآباء تعليق قلوب الأبناء بالمساجد وتحبيبها إلى نفوسهم

إن على الأب أن يربط قلب ولده بالمسجد؛ وذلك لقول النبي عليه الصلاة والسلام: (ورجل قلبه معلق بالمساجد) يعني: إذا خرج من المسجد فكأنه سمكة خرجت من الماء، فهو لا يستريح حتى يرجع إلى المسجد، فينبغي أن نجتهد أن نجعل قلب الطفل يحب المسجد، ولا يستطيع فراق المسجد، فيكون أحب مكان إليه. إذاً: ينبغي على الأب أن يعود ابنه الصغير على صلاة الجماعة منذ الصغر؛ كي يتعلق قلبه بالمساجد؛ لأنه إذا تعلق قلبه بالمسجد فهذا خير عظيم جداً، وإذا جعل مراحل حياته في المسجد فإنه سيتعرف على العلماء، ويتعرف على الصالحين، فيمارس عملياً كثيراً جداً من الآداب الشرعية في الإصغاء إلى مجالس العلم، وبلا شك أن الطفل عنده الحب الشديد في أن يشارك الكبار في أفعالهم. فإذاً: ينبغي أن نستثمر هذا الميل الموجود في الطفل، وهو حبه مشاركة الكبار في أفعالهم، ومن هذا المبدأ تصحبه إلى المسجد؛ كي يشارك الكبار في صلاة الجماعة، لكن قبل أن يأتي إلى المسجد نفهمه آداب المسجد إن كان يستوعب ذلك. كذلك نهيئه قبل حضوره إلى المسجد؛ لأن الطفل إذا دخل المسجد رأى أموراً غريبة غير متعود عليها، كأن يرى أناساً مزدحمين وهو لم ير مثل هذا المنظر من قبل، فالطفل إما ينفجر بالبكاء وإما يكظم ويكتم نفسه، فإذا ما سلم أبوه واتجه إليه ينفجر بالبكاء والصراخ من شدة الوحدة التي عاناها، وهذا خطأ، بل ينبغي أن يحصل نوع من التمهيد لفترة كافية، كأن يصف له المسجد، ولو استطاع أن يريه صور المسجد من الداخل ومن الخارج، ويشرح له كل مكان متعلق بالمسجد؛ حتى يحصل له الإلف بهذا المكان قبل أن يتجه إليه. أيضاً يكثر من ذكر المسجد أمامه، ويصفه بكل جميل، كأن يقول له مثلاً: هذه الحلوى اشتريتها لك من المحل القريب من المسجد، ويشتريها فعلاً من ذلك المكان ولا يكذب عليه، والسواك اشتريته من أمام المسجد وغير ذلك، وإذا مر به بجانب المسجد يقول: انظر إلى هذا المبنى الجميل، هذا هو المسجد، وهو بيت الله سبحانه وتعالى، وأنا سآخذك معي قريباً؛ كي تصلي فيه، فهذا كله تمهيد حتى يقبل على المسجد بشوق وتلهف. أيضاً يهيئ جو المسجد قبل أن يصطحب هذا الطفل، وبعض الناس قد يقول: أتريد من الأب أن يتفق مع الإمام ويقول له: أنا سأصحب ابني إلى المسجد؟! أقول: لا تنظر إلى هؤلاء الأطفال على أنهم لعبة أو قطعة من اللحم والعظم والدم، لا، بل هم المستقبل الذي بإمكانك من الآن أن تصنع بهم مستقبل الأمة، بأن تجعل هؤلاء يخرجون من المساجد ويتعلقون بالمساجد؛ لأنهم في الحقيقة هم المستقبل لهذه الأمة، وهذا ليس كلام إنشاء ولا كلام جرائد، بل هو حقيقة، وقد ذكرت لكم في بداية الكلام أن كل ما تعانيه الأمة من الويلات هو ثمرة من ثمرات التربية المعقدة في الصغر أو التربية الخاطئة، انظر كيف يعذب المسلمون تحت ظل حكم هؤلاء الناس؛ وذلك لأنهم ربوا على الاستسلام، ورضعوا الخيانة والخداع والخديعة من صغرهم؛ فبسبب ذلك ذاقت الأمة هذا الويل. إذاً: أقل حماية للمسلمين أن نجتهد ألا ينشأ أطفالنا مشوهين نفسياً ومشوهين عقدياً، فينبغي ألا تنظر إلى هذا الطفل على أنه شيء هين أو شيء حقير، لا، أعطه الحجم الذي يستحقه، فيتفق الأب مع الإمام ويتفق مع المؤذن ويتفق مع بعض المصلين من الجيران وأبنائهم أن ابني إذا حضر معي فاحتفلوا به ولاطفوه؛ حتى يحس بالأنس، لكن بعض القائمين على المساجد يكونون من كبار السن، ولا يعرفون خطورة هذه الأمور التربوية، فنرى بعضهم إذا حصل خطأ من طفل ينهره بشدة! كيف تجعل عقلك مثل عقل هذا الطفل وتحاسبه على أخطائه كأنه مثلك؟! إن الثمرة التي تحصلها الأمة ويحصلها هؤلاء الأطفال فيما بعد من تعريفهم على الصلاة وتحبيبهم إلى المسجد أعظم بكثير جداً من الإزعاج الذي يسببونه أثناء الصلاة، فإذا وقف الأولاد الصغار في الصف ولم يعرفوا كيف يصلون أو ضحكوا أو خرجوا من الصلاة فينبغي أن يعلموا بلين وبرفق وبلطف، فليس من العدل أن تحاكمه على أنه مثلك؛ لأنك عرفت الحياة وتعلمت وكبرت ونضجت، أما هذا الطفل فليس عنده تجربة ولا علم ولا شيء. فما يحصل من الناس حين يتعاملون مع الأطفال كأنهم كبار هو من الظلم، ويستدلون ببعض الأحاديث الضعيفة في هذا الباب، ولها الأثر الخطير في تشويه نفسية الأطفال تجاه المسجد، ومنها حديث: (جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم) فهذا حديث لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم، بل هو كذب عليه، ولا يمكن أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول مثل هذا؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام (كان يخطب على المنبر فلما رأى ابنه الحسن يتعثر في ثوب أحمر نزل من على المنبر وقبله وضمه إليه، ثم قال: صدق الله: أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ [الأنفال:28]). ومرة صلى عليه الصلاة والسلام وارتحله ابنه الحسن أو الحسين وهو ساجد، فأطال الصلاة حتى ظنوا أن الرسول عليه الصلاة والسلام حصل له شيء، فظل ساجداً إلى أن شبع الطفل من اللعب ونزل من على ظهره، ثم قال صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن سلم: (إن ابني ارتحلني فكرهت أن أعجله) أي: كرهت أن أستعجل عليه وأقطع عليه اللعب، فهل هذا اشتغال بتوافه الأمور؟ كلا، بل هذا اشتغال بأعظم الأمور، وهي أن يحب هؤلاء الأطفال المسجد؛ لأنهم هم الذين سيشكلون المستقبل فيما بعد لهذه الأمة. ومعلوم من سيرة النبي عليه الصلاة والسلام مع ابن عباس وغيره من أبناء الصحابة أنهم كانوا يدخلون المسجد، ويصفون خلف الرجال إذا صح الحديث الوارد في ذلك. إذاً: لا ينبغي أبداً أن نمنع الصبيان المساجد، وصحيح أنها تجنب الأطفال الذين لا يعقلون، فالشاهد من الكلام أنه ينبغي إحاطة هذا الحدث الحساس وهو مجيء الطفل إلى المسجد بكثير من الاعتناء أكثر من أن تتفق مع الإمام في أن يلاطف هذا الطفل، لأن الطفل لما يجد إمام المسجد يناقشه ويبتسم في وجهه أو يعطيه حلوى أو كتاباً مثلاً أو مصحفاً، ويجد المصلين يحتفلون به إذا دخل؛ لا شك أن هذا يجعله يحس بالأنس في هذا المكان، فيطمئن لهذا المسجد ورواده، بخلاف ما إذا طرد من الباب، بل بعض الأطفال يضرب ويطرد من المسجد. ولا أقول: أين أنتم مما يفعل في الكنائس بالنسبة للأطفال وكيف يجتذبونهم إلى داخل الكنائس؟! بل أقول: أين أنتم من سيرة السلف الصالح؟! نحن مطالبون أن نرتفع إلى مستوى الإسلام؛ لأننا متخلفون عن الإسلام لا أقول: عن غيره من المناهج، فالاحتفاء والاهتمام بالطفل من شأنه أن يوقع في نفسه تعظيم أمر الصلاة، ويشعر في نفسه أن الصلاة شيء مهم جداً في حياته. قال العلماء: لو كان الإمام معروفاً بإطالة الصلاة بطريقة تخالف السنة فينبه الإمام قبل أن يؤتى بالصبي بأن يخفف الصلاة. كذلك على الأب إذا دخل ابنه الصغير المسجد أن يربطه بحلق تحفيظ القرآن وتجويده التي تعقد في المسجد، بالتعاون مع إمام المسجد. إن على الأب أن يقوي صلة ولده بالمسجد وأهل المسجد، وأن يرفه عليه عن طريق ممارسة أنشطة نافعة ومسلية للأطفال ومتنوعة، فيها نوع من اللهو المباح وغير ذلك بين الأطفال، حتى تتسع وتترسخ علاقته، وتتكون رابطته بالمسجد وبأقرانه من الأطفال. أيضاً: على الأب أن يذكر أمام الطفل الصغير صلاة الجمعة وأهمية صلاة الجمعة وآدابها وبعض أحكامها؛ لأن هذا اليوم يوم عيد للمسلمين، وضرورة احترامه وتوقيره، لكن لا يحمله ما لا يطيق من أمر صلاة الجمعة، وخاصة بين السابعة والعاشرة؛ لأن الطفل قد لا يستطيع أن يبقى مدة طويلة في الخطبة محافظاً على طهارته، قد ينقض وضوءه، وطول الخطبة قد يضجره، فلا يحمله ما لا يطيق من أمر صلاة الجمعة للأسباب التي ذكرنا. روي (أن أبا هريرة رضي الله عنه دخل مرة المسجد يوم الجمعة فوجد غلاماً، فقال له: يا غلام! اذهب العب، فقال: إنما جئت إلى المسجد، قال: فتقعد حتى يخرج الإمام؟ قال: نعم. فتركه). إذاً: على الأب ألا يكلف الصبي الصغير بصلاة الجمعة دون سن العاشرة بل يرغبه فقط بالصلاة، فإن أقبل عليها وإلا تركه وشأنه حتى يبلغ العاشرة أو قبلها بقليل، ثم يبدأ معه بالإلزام. أيضاً قال العلماء: إن الأب ينبغي له أن يتحرى اختيار الخطيب؛ لأن الخطيب بمسلكه وبخطبته عميق التأثير في أخلاق الأولاد، خاصة إذا كان هؤلاء الأولاد يفهمون الخطبة ويعقلونها، وإذا كان الأطفال يعقلون ويفهمون فينبغي أن يسألهم الأب بعد الخطبة عن موضوع الخطبة، وما الذي تتذكره من عناصرها، وما الفوائد التي تستخلصها من هذه الخطبة، وقبل أن يدخلوا إلى صلاة الجمعة يحثهم على الإنصات، ويقول لهم: إنني سوف أسألكم عن مضمون الخطبة بعد الصلاة؛ لأنه بهذا يستدعي تركيزهم وانتباههم أثناء الخطبة. هذا -باختصار- بعض التوجيهات المتعلقة بتحبيب الأطفال في أمر الصلاة، وكما ذكرنا فإن الأطفال ينبغي أن ننظر إليهم على أنهم مستقبل الأمة الذي يتمثل في أبنائنا أفلاذ أكبادنا. وكما ينبغي للأمة أن تعد لأعدائها ما استطاعت من قوة من الأسلحة للحرب فكذلك تعد الأطفال للمستقبل. يقول الدكتور يوسف القرضاوي : لا بد من صنع الرجال ومثله صنع السلاح وصناعة الأبطال علم قد دراه أولو الصلاح من لم يلقن أصله من أهله فقد النجاح لا يصنع الأبطال إلا في مساجدنا الفساح في روضة القرآن في ظل الأحاديث الصحاح شعب بغير عقيدة ورق يذريه الرياح من خان حي على الصلاة يخون حي على الكفاح أي: الذي يخون ربه في الصلاة فسيخون أمته كلها إذا بعثته إلى الجهاد؛ كي يحميها ويذود عنها. هذا فيما يتعلق بالترغيب للأطفال بالصلاة ومحافظتهم على الصلاة في ضوء قول النبي صلى الله عليه وسلم: (مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر).

 

قصص من ثمرة تربية الأولاد

بعض القصص والمواقف نسردها عليكم وهي تعكس مدى اهتمام السلف الصالح بكيفية تربية الأولاد، وكيف كان يربى أولاد الصحابة وثمرة ذلك، منها: ما رواه البخاري عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه قال: (وقف غلام عن يميني يسألني في غزوة بدر فقال: يا عم! دلني على أبي جهل؟ -انظر كيف تربى هذا الولد على عداوة أعداء الله- فقلت له: وما لك يا بني من أبي جهل ؟! فقال: والله إن رأيته لن أفلته، لقد كان يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا غلام آخر عن يساري، فسألني مثل الأول، ثم تحتدم المعركة ويشتد بأسها فيلتفت عبد الرحمن إلى الغلامين فقال لهما: ذاك الذي تبغيان، ذاك أبو جهل ، فينطلقان مسرعين كل منهما يريد أن ينال شرف السبق في طعن عدو الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فيضربانه ضربة قوية فيسقط أبو جهل فرعون هذه الأمة على الأرض، فيتسابقان بزف البشارة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقول: كل واحد منهما: أنا الذي قتلته يا رسول الله، فيقول لهم النبي عليه الصلاة والسلام: أرياني سيوفكما، فيرى عليهما آثار الدماء، فقال لهما: كلاكما قتله) فهذا ثمرة التربية على التوحيد، وعلى الولاء لأولياء الله والمعاداة لأعداء الله تبارك وتعالى. وهذه قصة إحدى المدرسات كانت تأمر الطلاب الصغار بأن ينشدوا: بلادي بلادي بلادي لك حبي وفؤادي فكان بين الطلاب صبي صغير رفض أن ينشد، فقالت له: لماذا لا تنشد مع الأطفال؟ قال: أنا حبي وفؤادي لله، بمنتهى العزة هذا الطفل الصغير يفهم أن حبه وفؤاده لله تبارك وتعالى! أيضاً من هذه الوقائع: أنه مر الحارث المحاسبي وهو صبي بصبيان يلعبون على باب رجل تمار يبيع التمر، فوقف الحارث ينظر إلى لعبهم، وخرج صاحب التمر ومعه تمرات فقال للحارث : كل هذه التمرات، فقال الحارث : من أين أتيت بالتمرات؟ قال: إني بعت الساعة تمراً من رجل فسقطت هذه التمرات منه، فخذها أنت كلها، فقال الحارث له: أتعرفه؟ قال: نعم، فالتفت الحارث إلى إخوانه الصبيان الذين كانوا يلعبون فقال لهم: أهذا الشيخ مسلم؟! قالوا: نعم، فتركه، فتبعه التمار حتى قبض عليه وقال له: والله ما تنفلت من يدي حتى تقول لي ما في نفسك مني، فقال: يا شيخ! إن كنت مسلماً فاطلب صاحب التمرات حتى تتخلص من تبعته، كما تطلب الماء إذا كنت عطشان، يا شيخ! تطعم أولاد المسلمين السحت وأنت مسلم؟! فقال الشيخ: والله لا اتجرت للدنيا أبداً. فهذه لم تأت من فراغ، بل هي ثمرة التربية الصحيحة التي أخرجت مثل هذه النماذج. قال ابن غفر المكي : بلغني أن أبا سليمان داود بن نصير الطائي رحمه الله لما بلغ من العمر خمس سنوات أسلمه أبوه إلى المؤدب، فابتدأ بتلقين القرآن، وكان لقناً -يعني: كان يحفظ بسرعة- فلما تعلم سورة: هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ [الإنسان:1] وحفظها رأته أمه يوم الجمعة وجهه مقبلاً على الحائط يشير متفكراً بيديه، فخافت أمه على عقله فنادته: قم يا داود فالعب مع الصبيان، فلم يجبها، فضمته إليها وقالت: يا ويلاه، فقال: مالك يا أماه؟! أبك بأس؟ قالت: أين أنت؟ قال: مع عباد الله قالت: أين هم؟ قال: في الجنة، قالت: ما يصنعون؟ قال: مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلا زَمْهَرِيرًا [الإنسان:13]، ثم مر في تلاوة السورة وهو شاخص كأنه يتأمل شيئاً حتى تلا قوله تعالى: إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا [الإنسان:22]، ثم قال: يا أماه ما كان سعيهم؟ فلم تدر ما تجيبه، فقال لها: قومي عني حتى أتنزه عندهم ساعة، فقامت عنه، فأرسلت إلى أبيه، فأعلمته شأن ولده، فقال له أبوه: يا داود ! كان سعيهم أن قالوا: لا إله إلا الله، محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان يقولها في أكثر أوقاته حتى يكون ممن سعى هذا السعي المشكور. ومن ذلك ما حكاه ابن غفر المكي أن أبا يزيد طيفور بن عيسى البسطامي لما بدأ يحفظ سورة المزمل: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا [المزمل:1-2]، قال لأبيه: يا أبت من الذي يقول الله تعالى له: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا [المزمل:1-2]؟ قال: يا بني! ذلك النبي محمد صلى الله عليه وسلم، قال: يا أبت مالك لا تصنع كما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! فقال: يا بني! إن قيام الليل خصص به صلى الله عليه وسلم دون أمته، فسكت عنه، واستمر في حفظ السورة فوصل إلى قوله تعالى: أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ [المزمل:20]، فالولد تأمل قوله تعالى: وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ [المزمل:20]، وأبوه قال له: إنها خاصة بالرسول عليه الصلاة والسلام دون سائر الأمة، فقال: يا أبت! إني أسمع أن طائفة كانوا يقومون الليل مع النبي صلى الله عليه وسلم فمن هذه الطائفة؟ قال: يا بني! أولئك الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، قال: يا أبت! فأي خير في ترك ما عمله النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه؟! فقال: صدقت يا بني. يعني: أقام عليه الحجة أن قيام الليل ليس خاصاً بالرسول عليه الصلاة والسلام وإنما خص بالوجوب لكن الاستحباب للأمة كلها، فكان أبوه بعد ذلك يقوم من الليل ويصلي، فاستيقظ أبو يزيد في ليلة فإذا أبوه يصلي فقال: يا أبت! علمني كيف أتطهر وأصلي معك؟ فقال أبوه: يا بني! ارقد فإنك صغير بعد، قال: يا أبت إذا كان يوم يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ [الزلزلة:6] أقول لربي: إني قلت لأبي: علمني كيف أتطهر لأصلي معك، فأبى وقال لي: ارقد فإنك صغير بعد، أتحب هذا ؟ أتحب أن أشكوك إلى الله ؟ فقال له أبوه: لا والله يا بني ما أحب هذا، وعلمه فكان يصلي معه! ......

 

اهتمام الكفار بأولادهم

إن الحديث عن أبناء المسلمين والاهتمام بهم حديث طويل جداً؛ لأن هذا الأمر من الخطورة بمكان، وللأسف الشديد أني مضطر بأن أذكر ببعض الأمثلة من غير المسلمين، فالكفار عندهم مناهج وطرائق معينة، فهم يفتشون في المدارس على الأطفال النوابغ النبيهين والمتفوقين والعباقرة، ثم يستخلصونهم ويعزلونهم في مدارس خاصة بهم، ويوجهونهم بتوجيهات تربوية ومناهج دقيقة جداً، ويسمونها مدارس إعداد القادة من الطفولة، فيكون هذا الطفل الذكي مع أطفال من نفس المستوى من الذكاء؛ حتى تنمو قدراته، لكن إذا وجد ولد عبقري في وسط أطفال دونه في الذكاء، فالنتيجة أن تفاهمه معهم وتعامله معهم يكون فيه صعوبة، بحيث يصعب عليه أن يتكيف معهم أو يتعامل معهم، فهو يريد أن يتعايش مع من حوله، فيضطر أن ينزل إلى مستواهم؛ حتى يحصل بينه وبينهم نوع من القناعة في الوسط الذهني أو الفكري الذي هو فيه، فبالتالي لا يترقى، لكن إذا وجد وسط الأذكياء نما نمواً سريعاً، وتقطف أمته فيما بعد ثمرة هذه التربية الموجهة في مدارس إعداد القادة الموجودة في تلك البلاد، فهم احترموا الأسباب والله سبحانه وتعالى لا يحرمهم من ثمرة هذا العمل في الدنيا. ......

 

مبدأ الثواب والعقاب للأطفال في أمر الصلاة وغيرها

ننتقل إلى نقطة أخرى وهي: كيفية العقاب البدني للأطفال عموماً، وفي أمر الصلاة خصوصاً، الإنسان الكبير الناضج الذي عنده خبرة وعلم وتجربة ومعرفة كبيرة بالأمور، وعنده ميزان دقيق لها، يستطيع أن يحدد متى يقدم، ومتى يحزم، ولماذا يفعل هذا، ولماذا يجتنب هذا، بينما الطفل ليس عنده من الخبرة أو العلم والنضج ما يكفيه إلى أن يندفع ذاتياً للعمل، فبالتالي يحتاج إلى دوافع تدفعه من حوله، وهي مبدأ الثواب إن أحسن والعقاب إذا أساء؛ لأن هذه طبيعة الإنسان، وهذه من محاسن الإسلام التي سبق بها كل الأمم. فمبدأ الترغيب والترهيب من أفضل أساليب التعليم والتربية والتوجيه السلوكي؛ وذلك لأن الإنسان مركب فيه الخير والشر، فينبغي مقابلة جانب الخير في الإنسان بتنميته، وأيضاً مقابلة جانب الشر فيه بتحجيمه وإزالته، بلا إفراط ولا تفريط، وإنما بتوازن واعتدال. فمبدأ الثواب على فعل الخير يقوده إلى تثبيت السلوك السوي وتقويمه، وأيضاً يشجع السلوك الإلزامي عند الأطفال، بأن يكافأ الأطفال مقابل تصرفاتهم الحسنة بالقبول والاستحسان، خاصة في السن المبكرة، فهذا يزرع الثقة في نفوسهم، والطفل يحب أن يمدح إذا عمل شيئاً طيباً، خاصة إذا كان هذا الشكر أمام زملائه، وخاصة إذا عرف أو أعلن السبب الذي شكر لأجله أو كوفئ من أجله، فإذا أردت مزيداً من النجاح أو الإنجاز في جانب من الجوانب الحسنة فلا بد من الشكر والثناء والاستحسان أو الهدية، أما إذا اقتصر الإنسان على العقاب، فإنه يؤدي إلى الخمول وضعف الإرادة وتثبيط الهمة. ......

 

مراتب ما قبل اللجوء إلى العقاب البدني للأطفال

هناك مبدأ مهم جداً وهو أن العقاب لا يلجأ إليه إلا إذا فشلت أساليب الترهيب والترغيب، وينبغي أيضاً أن يلاحظ في موضوع العقاب أن الأطفال يتفاوتون، ليس كل الأطفال على قالب واحد، وإنما يتفاوتون، فمنهم من ترهبه الإشارة، ومجرد التلميح بالعقاب يكفي في زجره عن الشيء الخطأ، ومنهم ما لا يردعه إلا الجهر الصريح. كذلك ينبغي غرس شعور الطفل بالثقة بالنفس والاعتزاز بالنفس والحفاظ على كرامته بقدر المستطاع، فالأصل هو عدم اللجوء إلى الضرب أو إلى العقاب إلا عند الضرورة كما سنبين إن شاء الله تعالى، فلا يجعل الإنسان أول شيء يفعله هو عقوبة الطفل وإهانته وإهدار كرامته، لا؛ لأنه إذا أهدرت كرامته فقد الثقة بنفسه. يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حديث ما معناه: (علقوا السوط حيث يراه أهل البيت، فإنه أدب لهم) وليس تعليق السوط شرطاً، بل لك أن تعلق عصاً أو أي شيء خاص بالضرب، فيعلق أمام الأطفال كنوع من الإرهاب مع الاعتدال، فهذا أسلوب تربوي حسن في تخويف الأطفال من الوقوع في الخطأ، فأنت تعلق العصا لكن لا تستعملها؛ لأن الأطفال مجرد أن يروا العصا أمامهم معلقة فهذا يردعهم عن الخطأ، لكن لو ضربت بها مرة فستهون عليه مسألة الضرب، فإذا عودته على الضرب زال خوفه منه. ومع تعليق السوط يذكره بالله سبحانه وتعالى؛ لأن هذه العقوبة لا تستخدم إلا بنوع من التدرج وبضوابط مهمة جداً؛ كي لا تأتي بآثار سلبية، فالأصل أن الإنسان في البداية إذا وجد الطفل يخطئ كأن ينام عن صلاة الفجر أو يؤخر الصلاة أو يقصر في شيء معين أن يتجاهل خطأه في البداية، ولا يوجه توجيهاً مباشراً، لكن يشير إليه إشارة حسنة، كأن يأتي التوجيه في وسط كلام مع غيره، ويذكر الخطأ الذي ارتكبه دون إعلامه برؤيته. والطفل يحتاج للترغيب والترهيب؛ لأنه ليس عنده المثل الكافي الذي يدفعه إلى أن يفعل أو لا يفعل، فيحتاج إلى هذه الأشياء حتى تدعم توجيهه، فإذا كان هناك خطأ وقع فيه وهو لا يدري متفهمه أن هذا خطأ، وتعطيه فرصة لمراجعة سلوكه وتصحيح خطئه، لكن لا يذكر الكلام على سبيل التعريض به، فتقول مثلاً: هناك واحد اليوم نام عن صلاة الفجر، فتذكر خطأه بطريقة غير مباشرة تماماً، والمهم أن يصل الكلام إليه بالطريقة غير المباشرة بدون مواجهة وبدون تصريح، فضلاً عن أن يكون هناك أي نوع من الإهانة، لكن إذا لفت نظره إلى الخطأ بطريقة مباشرة وبعنف وبشدة فقد يحصل أنه يتجرأ عليه، ويصر على ارتكاب هذا الخطأ. إن الخطوة الأولى: أن يتجاهل الخطأ في البداية مع حسن الإشارة والتوضيح دون المواجهة والتصريح، وذلك بأن يعطيه الفرصة لمراجعة سلوكه وتصحيح خطئه. الخطوة الثانية: إذا أصر على الخطأ أو واقعه وتكرر منه ففي هذه الحالة له أن يعاقبه سراً، لكن بعد الخطوة الأولى الماضية، وذلك بأن يصرح بالنصيحة له، ثم يشتمه ويوبخه، لكن ليس أمام أحد، بل سراً، ويصارحه ويقول له: أنت فعلت خطأ كذا أو ضيعت الصلاة أو نمت عن الصلاة، يعني: له أن يوبخه ويعبس في وجهه، وممكن أن يستعمل معه نوعاً من العقوبة البدنية الخفيفة، كأن يفرك أذنه بشدة؟ إن على المربي ألا يكثر من العقوبة البدنية؛ لأنها إذا كثرت لن تكون لها أي قيمة، كذلك لا يكرر التوبيخ؛ لأن التوبيخ إذا كرر يهتك حجاب الهيبة، فلن يهاب ولن يخاف؛ لأنه جرب كثرة التوبيخ مما يجعله يتعود على أن يهتك حجاب هيبة المربي، فيهون عليه أن يسمع التوبيخ والملامة وركوب القبائح، ويسقط وقع الكلام في قلبه؛ وبهذا تفقد هذه الطريقة فاعليتها. كذلك الأم لها دور مهم جداً في تخويف الطفل بأبيه، على الأم أن تجعل الأب في صورته الواجبة، وأنه ولي البيت وهو الراعي وهو الذي سيعاقبك. فالأم تخوف الابن بأبيه كأن تقول: لو أتى أبوك سأقول له: إنك لا تريد أن تقوم إلى الصلاة مثلاً، أو أنك تؤخر الصلاة. فإذا استمر الطفل على الخطأ رغم التدرج في الخطوتين السابقتين، في هذه الحالة يحتاج الطفل إلى طريقة أشد في العقوبة: وهي عقابه ولومه جهراً أمام أسرته ورفاقه؛ لأننا هنا نستغل حرص الطفل دائماً على أن يبقى أمام إخوانه وأخواته أو أصدقائه محافظاً على مكانته، فنستغل هذا الشعور الذي هو خوفه على مكانته بين أقرانه في تعديل سلوكه، فإذا عنفته ووبخته أمام إخوانه حينئذ فلا بأس كما في قوله تعالى: وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [النور:2] ففي هذا زجر لباقي الأولاد، بحيث لو أخل واحد منهم بالصلاة فإنه سيتعرض لهذا التوبيخ كما تعرض هذا الصبي. إذاً: يعاقب ويواجه جهراً أمام الأسرة أو أمام رفاقه، لكن يشترط أن يكون التعنيف بدون شتم أو تحقير للذات؛ لأن هذا الكلام فيه تحطيم له، وثمرته مريرة جداً، حيث تجعله يشعر بالدونية وبعقدة النقص، لكن ينبغي أن يعاقب ويوبخ بالأساليب المنضبطة؛ حتى لا تفقده ثقته بنفسه. أيضاً معاقبته أمام الأسرة أو أمام أصدقائه ينبغي ألا يكرر؛ حتى لا تفقد العقوبة قيمتها؛ لأنه إذا وبخ سيشعر بالتألم الذي هو الشعور بالذنب، ويشعر أن التوبيخ يحدث له نوع من الضيق، وليس هذا فحسب بل سيكره مصدر هذا التوبيخ، فيكره أبيه أو المعلم. فالعقوبة الصارمة تؤدي إلى كراهية المعاقب، وبالتالي تزرع فيه الشعور بالنقص والخوف، والمرحلة الثالثة بعد تأنيب الضمير أو الشعور بالذنب وبعد التضايق وكراهية المعاقب؛ لن يبالي بعد ذلك بالتوبيخ ولا بالضرب؛ لأنه تعود على سماع الشتائم أو تعود على الضرب، فأصبح لا يؤثر فيه بعد ذلك.

 

العقوبات الحسية البدنية للأطفال وشروط اللجوء إليها

العقوبات الحسية درجات، وأخف عقوبة يبدأ بها شد الأذن بطريقة خفيفة، كما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث عبد الله بن بسر رضي الله عنه قال: (بعثتني أمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطف من عنب، فأكلت منه قبل أن أبلغه إياه، فلما جئت أخذ بأذني وقال: يا غدر يا غدر) يعني: ظهر له أنه أكل منه في الطريق، والحديث رواه ابن السني . الشاهد أن هذا فيه دليل على أن يفرك أذنه كعتاب خفيف على الخطأ، أما الضرب للتأديب فهو كالملح للطعام، فالملح إذا وضعته في الطعام بكمية كبيرة فسد الطعام، لكن لو وضعت ملحاً بكمية قليلة فإنه يصلح الطعام، فنفس الشيء الضرب، فالضرب لا يلجأ إليه إلا بعد استنفاد جميع وسائل التأديب السابقة، أما أنك تتجه مباشرة إلى العقاب البدني فهذا خطأ فادح. لقد تكلم علماء المسلمين على موضوع الضرب وإباحة الضرب، وأحاطوه بشروط بالغة في الدقة؛ لأنه إذا لم تراع هذه الشروط خرج الضرب عن موضعه التربوي، فما هي شروط هذا الضرب؟ أولاً: ينبغي أن يعلم أنه ليس من أهداف الضرب تشويه الطفل، ولا الهدف منه إهانة كرامته، ولا التحقير من شأنه، وإنما هو وسيلة بناءة لا هدامة، هدفها الإصلاح وليس الإفساد، فمتى ما عادت هذه الوسيلة هدامة أو ترتب عليها فساد فقدت قيمتها ولا يلجأ إليها، فهذا أمر مهم. فالضرب هو ضرورة تربوية يلجأ إليها عند الاضطرار بعد استنفاد كل الوسائل السابقة، والفشل في العلاج عن طريقها. ثانياً: الضرب ضرورة تأديبية وليست انتقامية، وهذا خطأ شديد جداً نراه من بعض الآباء قساة القلوب، نرى الأب أو الأم يضرب للانتقام لا للتربية، وهذا انحراف عن نهج الرسول عليه الصلاة والسلام، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: (اضربوهم عليها لعشر)؛ لأن الضرب وسيلة لإصلاح الطفل، ووسيلة اضطرارية وليست وسيلة انتقامية، فلا يجوز أن يفرغ الأب أو الأم شحنة الغضب والانفعال والغيظ في صدره عن طريق الضرب؛ لأن هذا الأب الذي يضرب مثل هذا الضرب المبرح القاسي ليشفي غليله وغيظه لا يضربه بنية أنه يعالجه، بل يضربهشبحثاً عن راحة نفسه، ففي هذه الحالة لا يجوز الضرب؛ لأن هذا ليس من العدل، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم للرجل الذي استوصاه: (لا تغضب، قال: أوصني، قال: لا تغضب، قال: أوصني قال: لا تغضب) فكرر عليه هذه النصيحة. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

 

 

ربما يهمك أيضاً

رسالة من غريق
1906 ١٢ يناير ٢٠١٧
آداب التخلي -3
2390 ٠٨ ديسمبر ٢٠١٦
آداب التخلي -2
1862 ٠١ ديسمبر ٢٠١٦
البيع بالتقسيط
2842 ١٧ نوفمبر ٢٠١٦
السيرة البازية
1479 ١٠ نوفمبر ٢٠١٦