الخميس، ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٨ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

السلفية ومناهج الإصلاح - 17

هذا الأمر له أثر كبير على تأخر الدعوة الإسلامية وعدم استفادتها من تضافر الجهود ومواجهة التحديات

السلفية ومناهج الإصلاح - 17
عبد المنعم الشحات
الاثنين ٢٧ يوليو ٢٠١٥ - ١٣:٢٢ م
1644

السلفية ومناهج الإصلاح

الشريط السابع عشر

عبد المنعم الشحات

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصبحه وسلم .

أما بعد ،،،

ما زلنا في الكلام على مناهج التغيير أو مناهج الإصلاح المطروحة على الساحة وكنا قد انتهينا في المرة السابقة من العرض الإجمالي لمنهج من يركزون على العمل الفردي في الدعوة والتربية وقلنا أن هذا الكلام قد يقودنا إلى الكلام على ما يسمى بالعمل الجماعي ، حيث أن هذه الاتجاهات تأخذ موقفاً رافضاً أو متحفظاً على الأقل من مسألة العمل الجماعي ، ومنهم من يرى أنه بدعة ومنهم يرى أن ضرره أكبر من نفعه ... إلى غير ذلك من الإطروحات .

في الواقع أن هذا الأمر له أثر كبير على تأخر الدعوة الإسلامية وعدم استفادتها من تضافر الجهود ومواجهة التحديات لاسيما وأن الخصوم كل الخصوم من المنصرين ودعاة العلمانية يتجهون إلى العمل الجماعي وغالباً ما يكون لديهم حرية أكبر من التحرك .

الآن تجد أن مجموعة صغيرة جداً من الشباب حديثي السن يؤسسوا حركات ويستعملون الإنترنت في التواصل بينهم ، وعندما يتأمل الإنسان في حال أمثال هؤلاء الشباب يتأسف غاية الأسف على وجود الطاقات المهدرة ، فهؤلاء الشباب الذين يتحركون وينشطون في مجالات الحرية أو حقوق الإنسان وغيرها أي أنه ما زال لديهم طاقة  ، وهناك قطاع كبير من الشباب مغيب في الشهوات وفي غيرها ولكن هؤلاء عندهم طاقة في اتجاه آخر ، ولكن نتيجة وجود تواجد إعلامي للتيارات المنحرفة استهلكت طاقة هؤلاء الشباب وجذبتهم نحوها .

نحن نحتاج إلى أن نذكر الأدلة على مشروعية العمل الجماعي ونناقش أهم ما يحتج به هؤلاء على المنع منه .

من الأدلة على مشروعية العمل الجماعي:

قوله تعالى { وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان } فهذا أمر عام بالتعاون على البر والتقوى ومن آكده التعاون على الدعوى إلى الله والتعاون على نشر العلم وتعاون على دعوة الناس لحضور مجالس العلم وعلى نشر كتب أهل العلم وعلى نشر الأشرطة ، فهذه هي صور العمل الجماعي التي نقول بها ، لأنك ستجد هنا أن البعد يضع تعريف ما على قضية العمل الجماعي ثم يقضي عليه حكم ولا يترك للآخر فرصة أن يبين ماذا يعني بكلمة العمل الجماعي .

أنا أقول أن العمل الجماعي هو تعاون المسلمين في مكان ما على القيام بفروض الكفايات سواء في حال وجود إمام مقيم لفروض الكفايات أو في حال وجود إمام مقصر في فروض الكفايات أو في حال شغور الزمان عن الإمام وعدم وجود إمام شرعي يدعي أن دوره هو حفظ الدين وسياسة الدنيا بالدين .

فهذه أحوال مختلفة كلها ينطبق فيها قوله تعالى { وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان }

يعني في أفضل عصور الدولة الإسلامية وفي زمن الخلافاء الراشدين كان هناك الصحابة يتصدون للتعليم والإفتاء دون أن يوظفوا من قبل الخليفة ، فإذن يمكن عمل تعاون على فروض الكفايات في ظل وجود إمام عدل ، تزداد الحاجة جداً في ظل وجود إمام مقصر لأن الإمام العدل يقوم بفروض الكفايات على اعتبار أنه وكيل عن الأمة ونائب عنها في القيام بفروض الكفايات ويقوم بها غالباً على أكمل وجه وهذا لا يمنع أن بعض هذه الفروض التي لا يوجد مفسدة من أن يتناولها آحاد الناس كالعلم وتعليمه والإفتاء والقضاء بين الناس ، يعني في ظل وجود قضاء شرعي تكلم العلماء على أنه يجوز للخصمين أن يتراضيا على محكم يحكم بينهما في كتاب الله طالما كان هذا المحكم لديه أهلية الحكم ، فما بالك إذا كان القضاء المتاح أمام الناس قضاء وضعي مخالف لشريعة  الإسلام ، أنت تنادي الناس أن يتحاكموا فيما بينهم بشرع الله تبارك وتعالى .

وما هو السبيل ولا يوجد أمامهم إلا محاكم تحكم بغير شرع الله ؟

يتعين هاهنا أن يوجد من طلبة العلم من يتعلم أبواب الفقه لاسيما أبواب المعاملات وبالقضاء وكيف يقضي بين الناس ، بحيث أنه متى وجد خصمان في مسألة ما لديهما من الإيمان ما يكفيهما لأن يلتزما بحكم الشرع يذهبا إلى محكم ، وإن كان أحد الخصمين لديه ذلك الوازع والآخر ليس لديه حينئذ يذهب الطرف الذي يريد أن يحكم الشرع ويعرض قضيته على طلبة العلم وأهل العلم ليعرف حقه الشرعي فقط حتى إذا اضطر للوقوف أمام المحاكم الشرعية فلا يطالب إلا بحقه الشرعي لا أكثر ولا أقل .

فإذن قضية التعاون على البر والتقوى أمر عام يشمل التعاون على البر والتقوى في أحوال مختلفة في ظل وجود الإمام العدل وفي ظل تقصير الإمام أو انقطاع الصلة كما يأتي في غزوة مؤتة مثلاً كمثال أو عند شغور الزمان عن الإمام ، لأن البعض أيضاً يقول أن مشكلته في قضية العمل الجماعي أنه مبني على قضية شغور الزمان عن الإمام .

نقول كيف تقولون بغشور الزمان عن إماما ؟ ونحن هل نحن الذين ادعينا شغور الزمان عن إمام ؟ هل يوجد مدعي يدعي أنه هو الإمام ؟ ، لا يوجد مدعي ، وذكرنا هذا مراراً أنه وجود سلطان مدنية يتحتم احترامها احترام وجود هذه السلطة وإلا تضيع مصالح المسلمين ، وإلا إذا أغفلت أن هذه السلطة هي التي تنظم أحوال الناس وتنظم معايشهم وتنظم أعمالهم وطرقهم ، فإغفال هذا يضر بمصالح المسلمين ، وبالتالي لابد من مراعاة هذا من هذا الباب ، ولكن إسقاط نصوص الخلافة أو الإمامة على سلطان مدنية تتنصل غاية التنصل من وصف الإمامة ، ولذلك كما أشرنا قبل ذلك أن من يرى هذا يقع في تناقض خطير جداً .

يعني السلطان المدنية في عامة بلاد المسلمين تنتهج النهج الديمقراطي على الأقل من الناحية النظرية ، والنهج الديمقراطي يقول أنه لابد من تداول السلطة وأنه يمدح رأس السلطة إذا كان يسمح بالانتخابات بل يجب أن يكون في أصل النظام وجود الانتخابات وأناس تتنافس مع بعضها بما في ذلك من هو في السلطة .

تجد عندنا أناس عندهم أن هؤلاء ولاة أمور وبالتالي من يترشح أمامهم خارجي ، وتقر الإشكالية هنا ، كيف يكون خارجي وعلى من خرج وإذا كان هم الذي يأصلون هذا النظام ؟ !

تجد البعض يقول أن من يترشح ليس بخارجي لأن الإمام هو الذي دعا إلى الانتخاب ، فيقول الآخر لا بل نحن نطيع في المعروف فقط وإذا دعا الإمام الناس للخروج عليه فيكون عاصياً بذلك فلا نطيعه في هذه المعصية .

هذه الأضحوكات العجيبة تنشأ من الخطأ في توصيف حال هذه السلطان المدنية . ولكن على كل حال نحن نقول أن مشروعية العمل الجماعي لا تلازم بينها وبين مسألة شغور الزمان عن الإمام ، لأن العمل الجماعي كان موجود في أزمنة أفضل الأئمة وازدادت الحاجة إليه في أزمنة الضعف التي وجدت في الأمة الإسلامية وصار هناك تقصير من الأئمة في فروض الكفايات ، وهي الحاجة إليها أشد وأشد عند شغور الزمان عن الإمام ، ولا يتصور أن يكون أناس في بقعة كبيرة من الأرض لا حاكم لهم ، ولكن هل توصيفه أنه إمام شرعي أو توصيفه أن بيده مقاليد الأمور تكون هذه مسألة لابد من الانتباه إليها .

كما ذكرنا عندما ننظر للأمور هذه النظرة نستطيع أن نفرق إذا كان متسلط كافر وهو معلن بالكفر

البعض لما جعل الشرط الوحيد للإمامة هو التسلط وصل لشيء عجيب جداً هو أن يقول أن الكافر اليهودي أو النصراني متى تسلط صار إماما تجب طاعته .

فهو فقط لا يهدم الثوابت الشرعية ، بل الثوابت عند عامة الخلق الذين قاتلوا المحتلين وغيرهم ، فهذا يكون محل إجماع من العقلاء .

ولكن البعض لما اختزل شروط الإمامة في التسلط صار عنده أن اليهودي والنصراني إذا تسلط صار إماما شرعياً تجب طاته وبالتالي تستأذنه في إقامة الجمعة ونشر العلم ومتى منع يمنع .

إذن لم يكن الرسل يستطيعوا أن يدعوا إلى شيء ، يبعث الرسول وهو رجل واحده مع وجود سلطة متسلطة ومستقر لها الأمور من كل الجهات وليس فقط أن تكون هذه السلطة مستقرة سياسياً ودينياً فهي تحكم ناس يدينون بنفس دينها ويخرج الأنبياء على هؤلاء يدعونهم إلى دين الله تبارك وتعالى وينظمون شئون أتباعهم إلى أن يمكن الله تبارك وتعالى لهم .

في الواقع أن الاستغراق في هذا التوصيف الخطائ يؤدي إلى نتائج في غاية الشناعة

نحن نقول أنه لا يوجد تلازم بين قضية العمل الجماعية وبين قضية شغور الزمان عن الإمام ، فضلاً عن التلازم بينه وبين اللزمة المشهورة عند بعض من يتعرض لهذه القضية ويقول العمل الجماعي التنظيمي السري القائم على التكفير والخروج ... إلى آخر هذه الأمور التي في النهاية قد تسلم أن ما كان كذلك فهو منهي عنه ، ولكنه منهي عنه لأي اعتبار ؟ هل لكونه جماعياً أو لكونه تنظيمياً أو لكونه يدعوا إلى الخروج أم لكونه يدعوا إلى التكفير ؟؟

في الواقع نحن نقول أن العمل الجامعي الذي نعني به هو التعاون على البر والتقوى .

متى وجد تعاون على معصية أو على بدعة ، فالبدعة محرمة سواء صدرت من فرد أو من جماعة ، والمعصية محرمة سواء صدرت من فرد او من جماعة ، وبالتالي التعاون عليها يزيدها إثماً كما أن الطاعة مطلوبة من الفرد أو من الجماعة والتعاون عليها يزيدها فضلاً .

فلا ينبغي لأحد أن يزج بأمور غير لازمة لوصف العمل الجماعي ، بمعنى أنه يتكلم ويفرض جدلاً لأن الأمر ممكن بل وواقع وجود عمل جماعي كل ما فيه هو التعاون على البر والتقوى  ، ثم يضيف أن من كان لهم عصبية جاهلية وعندهم حزبية ماذا سيكون الحكم ؟ من كان عنده هذا الاجتماع على مذهب بدعي ماذا سيكون الحكم ؟ .. إلى غير ذلك من الأمور التي يمكن أن تؤثر على الحكم ، إذن يحصل الاستدلال بقوله تعالى { وتعانوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعداون } وهذا المعنى ورد في منهج جمعية إحياء التراث الإسلامي بالكويت وأقره وراجعه الشيخ ابن باز والشيخ الألباني رحمه الله تعالى .

أيضاً قد يعترض على هذا الدليل بقولهم أن هذا دليل عام ، وهذا اعتراض لا يليق أن يقال في مجال البحث العلمي بمعنى أن العموم معمول به عند عامة أهل السنة ، فنحن الآن مثلاً عندما نسأل عن حكم التدخين نقول حرام والدليل قوله صلى الله عليه وسلم : ( لا ضرر ولا ضرار ) فإذن اللفظ العام يشمل جميع أفراد جنسه التي كانت موجودة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم والتي وجدت بعده ما لم يخصه مخصص ، فمجرد الاعتراض على دليل ما بأنه دليل عام هذا أمر غير موافق لقواعد البحث العلمي إطلاقاً ، ولكن يمكن الاعتراض مثلاً بأنه دليل عام خص بمخصص ما ، فعنئذ يسمع لهذا الكلام وننظر هل ورد مخصص أم لا ؟ ، أما أن يكون الدليل عام وينطبق على القضية موضوع البحث ثم يحتج محتج بأنه لا يسلم بهذا الدليل لمجرد كونه عاماً فهذا مما لا ينبغي أن يطلق بأي حال من الأحوال .

وعلى كل حال إذا كان الدليل عام فإن هناك أدلة أكثر خصوصية وورادة أيضاً في سنة رسول الله  صلى الله عليه وسلم .

من ذلك قوله  صلى الله عليه وسلم : ( لا يحل لثلاثة يكونون بفلاة من الأرض إلا أمروا عليهم أحدهم ) هذا الحديث فيه وجوب التأمير في السفر ، يمكن أن يقال أن هذا الدليل ليس في محل النزاع ، نقول بل هو في محل النزاع بطريق قياس الأولى أو على الأقل بطريق قياس المثل أو نفي الفارق ، وممن استعملوا واستعمل دلالة قياس الأولى فيه شيخ الإسلام ابن تيمية ، استعمل دلالة قياس الأولى على هذا الدليل بوجوب نصب الخليفة ، فقال : " إذا كان هذا في الاجتماع القليل العارض " ، يعني اجتماع أقل خطراً من اجتماع الناس في القرى والأنصار من جتهين :

أنه قليل ـ ثلاثة ـ ، والناس في القرى والأمصار يكونون بالآلاف والآن بالملايين وبعشراتها ومئاتها

ثانياً : عارض ، يعني سفره ينتهي ومع ذلك وجب فيه التأمير ، فدل هذا على أن ما وفوقه من الاجتماعات الكثيرة العدد المستقرة الطويلة الأمد لابد فيها من هذا التأمير .

فإذا كان الشرع راعى مصلحة انتظام السفر لثلاثة في سفرة واحدة .

تعالى نتخيل ما هي المفاسد التي تترتب على أن ثلاثة في سفر لا يكون عليهم أميراً :

ربما عرض لهم عارض فهل يستريحون الآن أم ينتظرون عند نقطة ما ؟ فإذا اختلفوا كل الناس تطرح حل التشاور وكأن أي مجموعة من الناس يتشاورون ويتناقشون لابد وأن يصلوا إلى حل ، هذه الصورة السطحية الساسجة تسبب كثير من المشكلات خارج هذه القضية .

فعندما نقول للزوجة أن تسمع وتطيع لزوجها تقول أن الحياة شركة وقائمة على التشاور ، فلا بأس ولكن في النهاية في معظم الأحيان لا تثمر المناقشات الوصول إلى رأي موحد .

فانظر في قضية السفر : هل تنظر هنا أم تنزل عند أقرب استراحة أخرى ، هي قضية ليست قضية قطعية فيها أدل من الكتاب والسنة ولا هي قضية قطعية من ناحي الحس بل هي قضايا خاضعة للاجتهاد وللترجيح للمصالح والمفاسد وبالتالي من الوارد ومن الطبيعي أن يختلف الناس فيها ابتداءاً ومن الطبيعي أن يستمر الخلاف حتى بعد المناقشة ، من الوارد أن المناقشة تزيل الخلاف ومن الوارد أن لا تزيله ، إذن لابد من طريقة لحسم الخلاف ، وإلا انفكت عروة هذه الجماعة وهذا نزل في هذه الاستراحة والآخر أمضى الطريق ففقدت مصلحة اجتماعهم في السفر ، ومصلحة اجتماعهم في السفر فيها تعاون على البر والتقوى وفيها مزيد من الأمن من الأعداء وفيها مزيد من الأمن من الفتنة ، فإذا كان ثلاثة في طريق قل أن يتعرض من يعرض عليهم معصية أو تتعرض لهم بغي أما إذا كان الإنسان وحده تكون الفتنة قريبة منه ، لذلك حرص الشرع أنه طالما أنهم في طريق يجعلون عليهم من يحسن مواطن الخلاف ويعودون إلى هذا الذي أمروه في هذا السفر .

إذن هذا الحديث استدل به شيخ الإسلام ابن تيمية بقياس الأولى على وجوب نصب الخلافة ، ونحن نستدل به بقياس الأولى أو بقياس المثل على الأقل على ما يسمونه بالعمل الجماعي أو التعاون على البر والتقوى لأن الناس يجتمعون في مساجدهم وفي مدارسهم وفي جامعاتهم ، ويوجد في هذه الأماكن من المصالح الشرعية ما لابد من القيام به ، يوجد في المساجد من القيام بالآذان والصلاة وخطبة الجمعة وهي من الواجبات ونحن لا نكاد نعلم عن أشد المانعين من العمل الجماعي تطرفاً إلا أنه لابد أن يكون له مسجد ولابد داخل المسجد من ترتيب الآذان والإقامة وخطبة الجمعة على الأقل ، بل غالباً ما يكون مزيد من دروس العلم ، ما الفرق بين هذه وبين أن يزيد الأمر إلى أمور أخرى .

أيضاً الناس تتواجد في أماكن العمل وفي المدارس والجامعات وتوجد منكرات تحتاج إلى إنكار . لا يوجد الشخص الذي ستطيع أن يمر على آلاف الطلاب في مكان دراسته لكي ينكر الغناء وجلهم يسمع الغناء أو ينكر التبرج على النساء ، فلا يستطيع أن يفعل هذا ، وإذا فعل ربما فتن من الحوار المباشر مع المتبرجة ، فضلا ًعن الأمور التي غالب الظن أنها موجودة حتى إن لم تراها أمام عينيك ، فهذا غالباً لا يعرف عقيدته وغالباً ما يكون عنده أنواع من الشرك الأصغر وأنواع من الجهل بالتوحيد  ... إلى غير ذلك .

كيف يمكن لشخص بمفرده أن يقوم بهذا وكيف يمكن أن يوجد من يستطيع أن يعالج هذه القضايا كلها ، فإذا تعامل الناس مع بعضهم البعض فوجد فيهم المدرس الذي يدرس في المسجد كما يوجد مدرس يدرس في المساجد يوجد من هؤلاء الطلاب من لديه الأهلية فيتعاونون معه على أن يمكنوه من إعطاء درس في مسجد المدرسة أو الكلية وأن يوجد من يعلق بعض النصائح أو الفتاوى فهذا يكتبها وهذا يعلقها وهذا يعطيها إلى زملائه فيحصل بهذه التعاون قدر أكبر من الإنكار والبلاغ مع أنه غالباً لا يكون متناسباً مع عدد الناس ولا كم المنكرات ولا كم المخالفات ولا كم الجهود التي يبذلها المخالفون الذين يتكلمون على المنع من العمل الجماعي لا يرون شيئاً على أرض الواقع وكيف يتحرك المنصرون الآن علانية في المدارس والجامعات يختلسون صور العمل الجماعي التي وضعها الإسلاميون ولديهم قدر من الأمان في التحرك وقد يوجد منهم من هو طالب واحد لسن لقم الشبهات والآخرون يصطادون له الفرائس ثم يأتون بها إليه وهذا يفعل وهذا يفعل وهذا يفعل وأما أهل الحق فيوجد من يفتيهم بأن عليهم أن يلتزموا الصمت انتظاراً لما يسمونه بإذن الإمام ، والقضية هنا ليست إمام بل القضية سلطات متشعبة موجودة ونحن نركز دائماً أن ننصح أحداً يوما ما أن يحدث مفسدة بأن يستجلب على نفسه أو على غيره مفسدة ولكن أن يتعامل مع الواقع ، الواقع أن الجميع يتحرك طالما أن هناك إذن ضمني وطالما لم يكن هناك مفسدة من العمل وإلا هناك المعوقات كثيرة وهناك عدة جهات لو أنك أردت أن تستأذنها لأمضيت حياتك في طلب الإذن ولما وجدت هناك شروط منطبقة على أي حالة من حالات الإذن أو غيرها ، والمخالفون يتحركون ويعملون إلى غير الله .

نقول أن هذا بقياس الأولى اجتماع الناس في مساجدهم والمساجد لها وظائف لابد أن تقوم بها وفي مجتماعاتهم بصفة عامة مع شيوع الجهل بالدين ومع وجود المنكرات ومع وجود المناوئين لاسيما قديماً كنا نقول المناوئين أهل البدع من الصوفية وغيرهم ، فالآن القضية ازدادت خطراً بوجود التنصير واضحاً علانية ويوجد من يقع فريسة لهذا كما ذكرنا .

استدلالنا بهذا الحديث أن يغلق أمام من يسيء الظن أبواباً منها :

أننا لا نزعم إذا كان تكييف السلطات المدنية أنها سلطات موجودة لا ينبغي أن تصادم ولكن لا نتعبد لله تبارك وتعالى بطلب الإذن الصريح في كل أمر إذا وجد مساحة لعمل الخير لا تسبب مفسدة فإذن الشرع مقدم على إذن أي أحد ، أما إذ وجدت مفسدة فالامتناع يكون من أجل المفسدة ، ولكن في ذات الوقت نحن لا نأتي مثلاً إذا جعلنا إمام للمسجد لا نجعله إماماً عاماً للمسلمين ولو أن مجموعة المساجد التي تتفق مع بعضها في المنهج لها إمام فوق هؤلاء الأئمة لم نجعله إماماً عاماً للمسلمين ، إمام المسجد كإمام السفر دوره وحدوده مسجده ، يرتب الآذان والإقامة والإمامة والصلاة والخطبة والدرس ونفقات المسجد وفرش المسجد وفتح المسجد وغلق المسجد ولكن لا يقول لهذا تزوج ولهذا طلق ولهذا بع بيتك ، وحتى الإمام العام ليس له دخل في ذلك ولكن عموماً كل من يقوم بمصلحة دعوة نحن نقيسه على إمامة السفر وهي إمارة مقيدة بموضوعها ، وبالتالي نقول التعاون على البر والتقوى في مكان عمل او في مكان دراسة والناس تجتمع وتتفق على من يرجعون إليه ، يرجعون إليه في حدود المصلحة التي اجتمعوا عليه ، وهذا يرد على طابور طويل من الشبهات التي قد يطرحها المخالفون ويقولون أنتم جعلتم إمام عام على الناس دون أن يكون له شوكة ودون ودون ودون ، نقول : لم نجعل هذا .

ولكن البعض أحياناً يتذاكى ويقول : أنتم جعلتم إمامين : الإمام العام الذي اتفقت الناس على إمامته ثم تجعلون إمام خاص بكم ، فكون أن من لوازم العمل الجماعي أن تنزل صلاحيات الإمام العام على من يتولى قيادة العمل الدعوى سواء في منطقة جغرافية صغيرة أو كبيرة أو قطاع دعوي صغير أو كبير فهذا لا نقر به ولا نقول به وإن وقعت فيه بعض الجماعات ، ولكن أين هذا الإمام العام الذي يدعون أنه موجود ، نحن نتمنى أن يكون موجود ، وكما ذكرنا لا يوجد مدع لهذه الإمامة العامة إلا في خيالهم هم .

يعني من جملة الأمور العجيبة أن دكتورة في جامعة الأزهر استدرجت وانضت لحزب الوفد وحزب الوفد حزب علماني من أكثر الأحزاب لبرالية وهو من الأحزاب التي ترى أن النظام الحالي فيه قدر من التدين ينافي النظام المدني ، يعني هم يريدون محو كل ما يمكن أن يشير إلى أن دين الدولة الرسمي هو الإسلام أو أن الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع ، ومع ذلك دكتور في جامعة الأزهر انضمت إليهم .

مزيع في قناة يمتلكها رجل نصراني والرجل النصراني عنده مليارات ومع ذلك قدراً المزيع استضاف هذه والآخر بجوار التلفزيون ويشاهد حتى يتصل وهذا يدل على أن الأمور مرتبة ، فالمزيع سألها على أنها تنضم لحزب الوفد وحزب الوفد لبرالي ويرى أنه يريد تطبيق الدولة المدنية بكل أمورها وهذا قد يتعارض مع توجهها كأزهرية فعلى سبيل المثال هي كتدكتور في الأزهر ما هو رأيها بشأن توليى المسيحي رئاسة الدولة ، فتكلمت الدكتورة على سجيتها بأنه لا يمكن أبداً التولي وطبعاً هي اجترت التي تحفظه دون أن تفكر في الكاميرات المسلطة ، وقالت لا يوجد أن يتولى كافر الإمامة لقوله تعالى { ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً } وطبعاً الآخر على التليفون وطبعاً اتصل ولم يكن هناك انقطاع كما يحصل لو اتصل أحد آخر ، وأخذ يكيل لهذه الدكتورة القدح والذم ، وقال أنت وشأنك فيما تفهمين دينك ولكن نحن في دولة مدنية ولا ينبغي أن تسمي النصارى كفار ولا ينبغي أن تمنعيهم حقهم في التشرح لرئاسة الدولة ولا يجوز لك أن تنتمي إلى حزب وأنت تخالفين مبادئه ، فاضطرت أن تدافع وقالت كلام حسن ، قالت : لو تعارضت مبادئ الحزب مع الشرع فأقدم الشرع ولا يستطيع أحد أن يلزمني بما يخالف الشرع ، وانتهت القضية وقامت حملة إعلامية كبيرة وراء هذا الموضوع فخرجت هذه الدكتورة وهي تقول أنا قولت أنه لا يجوز لنصراني أن يتولى خلافة المسلمين ولا يوجد الآن خلافة فنحن نتكلم على رئاسة دولة مدنية فيصلح لها المسلم والكافر .

إذن في النهاية كان المخرج أنها تتكلم على سلطة مدنية يترشح لها المسلم والكافر

وبعض إخواننا الذين يتصورون وجود إمام وأن الإمام أخذ على الناس بيعة ولا ندري متى تمت ، وأين هذه البيعة حتى نبايع

يقول " أتجعلون بيعتين في البلد ؟ !! " نقول أين البعية الأولى .

الأمر الآخر نفترض أنها بيعة ضمنية كما يقولون فلا يوجد أحد يريد أن يتورط هذه الوارطة ، ولا يوجد من يدعي أنه إمام ولا من يأخذ على الناس بيعة ولا من يطالب الناس بأن يعاملوه بهذه المعاملة ، ولما يكون إنسان يجد من يعطيه فروض الطاعة والولاء المجانية المفتوحية هكذا فقد يسر ولا يوجد أحد أن يرفض مثل هذه العروض ، ولكن توصيف الواقع غير هذا ، توصيف الواقع يوجد سلطات مدنية حتى الذين يتكلمون باسم الدين فئة يريدون أن يفتحوا الباب على مصرعية من باب أن الشروط الموجودة في كتب الفقه تتكلم عن إمام للمسلمين أو خليفة ونحن الآن نتكلم عن رئيس مدني لمجموعة من الناي يسير لهم مصالحهم ، فإذا كان هذا هو الطرح المطروح لماذا يتطوع البعض بنقل هذا ؟ .

ولكن نحن نقول أن تنظيم الدعوة لا يلزم منه ولا يجوز أن ينزل على من يرتب الدعوة في أي مكان توصيف الإمام العام لأن هذا يخالف الشرع أيضاً لأن الإمام العام لابد أن يكون ممكناً قادراً على مصالح الناس .

الأمر الآخر : أنه لا يجوز بناء على هذا أن تؤخذ له بيعة التي هي بيعة الإمام العام ، ولكن مصطلح البيعة أشمل وأعم من بيعة الإمام العام لأن البيعة ما هي إلا عهد وميثاق .

نقول من كان يأخذ أناس يتعاهدون عهد خاص على أمر مشروع فلا بأس به ، ولكن من الناحية العملية نحن لا نتعاطى بيعة عامة لأنها غير شرعية ولا بيعة خاصة لأنه يساء فهمها ويساء توظيفها ومن أراد أن يتعاون على البر والتقوى يكون دافعه الذاتي كف للتعاون ، ومن يريد أن يترك طريق الدعوة عموماً أو منهج فئة معينة خصوصاً لا تمنعه البيعة من ذلك ، يعني مثلاً جماعة الإخوان هي الجماعة الرئيسية التي معروف عندها بيعة والبيعة عندها لا ينكرونها وهذا لا يمنع من حدون انشقاقات متتالية في تاريخ الإخوان لأنه عندما يحدث أن الإنسان يخالف المنهج الذي بايع عليه تكون البيعة في حد ذاته غير ذات مضمون وبالتالي نحن نرى أننا نؤكد أن البيعة ليست من لوازم العمل الجماعي بل نرى أنها غالباً ما تستجلب الضرر وأن البيعة التي تجعلها الناس ويجعلونها من الناحية النظرية أو العملية كبيعة الإمام العام فيها محاذير شرعية وإن لم تكن كذلك ففيها محاذير واقعية كما أشرنا من قبل .

أيضاً من الأدلة على ذلك غزوة مؤتة ، وفي هذه الغزوة أمر النبيى  صلى الله عليه وسلم ثلاثة قواد فقتلوا جمعياً رضي الله عنهم ثم اتفق الناس على تأمير خالد رضي الله عنه فأقر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فدل هذا على أنه متى احتاجت مصلحة من مصالح المسلمين اجتماع على كلمة فلابد من انتداب من يجتمع المسلمون على كلمته .

هنا البعض يذكر فروق بين غزوة مؤتة وبين ترتيب أعمال الدعوة إلى الله تبارك وتعالى في زماننا الحالي ، وهي فروق عليهم لا لهم .

فأما الفرق الأول يقولون أن هذا في زمن وجود الإمام وأما في غيابه فلا ، ونحن هنا سنقف عند إشكالية وهي ما تكييفهم للواقع الآن أيوجد إمام أم لا يوجد ؟ لأن البعض أحياناً يقول بوجود إمام فإذا أتينا نحتج بغزوة مؤتة قالوا هذه كانت في زمن الإمام فكيف تحتج بها غير وجوده فيكون هذا تناقض ، يقولون أن هؤلاء كانت غزوة وانتهى الأمر وأما أمر الدعوة فمستقر ودائم ، نقول أن هذا من باب أولى ، فلو أن الصحابة رضي الله عنهم رجعوا بعد مقتل قواتتهم لكانت المفسدة هي في عدم إتمام غزوة فيعودون إلى الإمام ينصب عليهم أمير ثم يعودون وأما إذا كان هناك مصالح شرعية مفقودة من طلب العلم وتعليمه والإفتاء والقيام على حقوق الفقراء والمساكين والتصدي للتيارات البدعية وتيارات إخراج المسلمين من دينهم .. إلى غير ذلك ، وهذه لا تتأتى إلا بنوع تعاون فإذا كان الصحابة رضي الله عنهم لم يتركوا غزوة وكان بوسعهم أن يرجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيأمر عليهم أميراً إلا أنهم بفققهم واجتهادهم علموا أن هذه المصلحة لا تضيع لمجرد عدم وجود الإمام أو نائبه ، ولكن يمكنهم أن يتفقوا على واحد منهم .

بل كدليل إضافي لغزوة مؤتة ويوضح الأمر بقوة وبتضدها تتميز الأشياء ما رواه أبو داوود عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال : بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية فسحلت رجلاً منهم دابته فلما رجع قال : لو رأيت ما لامنا عليه رسول الله  صلى الله عليه وسلم : قال : أعجزتم إن بعثت رجل منهم فلم يمضي لأمري أن تجعلوا مكانه من يمضي لأمري ؟

إذن هنا القائد أصيب أو حدث له ما حدث فرجعوا حتى يؤمر النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً آخر فلامهم النبي  صلى الله عليه وسلم وأرشدهم إلى أنه كان عليهم أن يؤمروا عليهم أحداً .

هذا فيما يتعلق بالأدلة أو ببعض الأدلة من الكتاب والسنة على مشروعية ذلك الأمر وأما فعل وقول السلف فلا يحصى كثرة ، حتى في الأزمنة الخيرية التي كان الأئمة فيها يقومون بكل الواجبات وجد من تصدى للتعلم والتعليم والإفتاء ونحو ذلك دون أن يكون هذا بتوظيف من الإمام فدل هذا على أن العمل الجماعي مشروع حتى في ظل وجود الإمام العدل وإن كان بلا شك تزداد الحاجة إليه حينما يوجد التقصير ، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " خاطب الله المؤمنين بالحدود والحقوق خطاباً مطلقاً كقوله تعالى { والسارق والسارقة فاقطعوا } " هاهنا يؤصل شيخ الإسلام ابن تيمية للمسألة من جزرها بأن الخطاب في الأصل للأمة والإمام نائب عنها فإذا كان هذا الإمام لم يقم بذلك أو لم يوجد لم يعفي هذا الأمة من أنه مازال الخطاب موجه إليها وبالتالي يرجع بالأدلة التي خاطبت الأمة بأمور هي واجبات الإمام بإجماع المسلمين ، فدل هذا على أن الواجب الأصلي مخاطبة به الأمة

قال : " وقوله { والزاني والزاني فاجلدوا } وقوله { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فجلدوهم } وكذلك قوله { ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً } "

اجلدوا ، لا تقبلوا ، الخطاب كله موجه للأمة .

قال : " ولكن قد علم أن المخاطب بالفعل لابد أن يكون قادراً عليه والعاجزون لا يجب عليهم ، وقد علم أنه فرض على الكفاية وهو مثل الجهاد بل هو نوع من الجهاد ، فقوله { كتب عليكم القتال } وقوله { قاتلوا } وقوله { إلا تنفروا } ونحو ذلك فهو فرض على الكفاية من القادرين ، والقدرة هي السلطان فلهذا وجب إقامة السلطان على ذي السلطان ونوابه ،والسنة أن يكون للمسلمين إمام واحد والباقون نوابه فإذا فرض أن الأمة خرجت على ذلك لمعصية من بعضها وعجز الباقين أو غير ذلك فكان لها عدة أئمة لكان يجب على كل إمام ان يقيم الحدود ويستوفي الحقوق ولهذا قال العلماء إن أهل البغي ينفذ من أحكامهم ما ينفذ من أحكام أهل العدل وكذلك لو شاركوا الإمارة وصاروا أحزاباً لوجب على كل حزب فعل ذلك في أهل طاعته ، فهذا عند تفرق الأمراء وتعددهم ، وكذلك لو لم يتفرقوا ، ولكن طاعة الأمير الكبير ليست طاعة تامة لأن ذلك أيضاً إذ سقط عنه إلزامهم بذلك لم يسقط عنهم القيام بذلك بل عليهم أن يقيموا ذلك وكذلك لو فرض عجز بعض الأمراء عن إقامة الحدود والحقوق  أو إطاعته لذلك لكان ذلك الفرض على القادر عليه ، وقول من قال لا يقيم الحدود إلا السلطان ونوابه إذا كانوا قادرين فاعلين بالعدل "

إذا كان السلطان قادرين فاعلين بالعدل وكلت إليهم الأمور والأمور التي تعاطي أحاد الناس لها مفسدة كالحدود وأما ما سوى ذلك فحتى مع الإمام العدل طالما لم يتضمن هذا خروجاً عليه ولا إخلالاً بما رتبه هو بل إضافة ومعاونة ومؤازرة فلا يمنع من هذا .

قال : " كما يقول الفقهاء الأمر إلى الحاكم إنما هو العادل القادر فإذا كان مضيعاً لأموال اليتامى أو عاجزاً عنها لم يجب تسلميها إليه مع إمكان حفظها بدونه ، وكذلك الأمير إذا كان مضيعاً للحدود أو عاجزاً عنها لم يجب تفويضها إليه مع إمكان إقامتها بدونه ، والأصل أن هذه الواجبات تقام على أحسن الوجوه فمتى أمكن إقامتها من أمير لم يحتاج إلى اثنين ومتى لم تقم إلا بعدد ومن غير سلطان أقيمت إذا لم يكن في إقامتها فساد يزيد على إضاعتها " وهذا هو الضابط ، وهذه هي القضية التي يلتزم بها في كل الأحوال ، فإنها من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فإن كان في ذلك من فساد ولاة الأمر أو الرعية ما يزيد على إضاعتها لم يدفع فساد بأفسد منه ، والله أعلم .

فإذن هذا كلام شيخ الإسلام في هذه المسألة وأيضاً سيرته العملية معروفة في تعاونه هو تلامذته على إنكار المنكرات واشتراكه في الجهاد هو وتلامذته إلى غير ذلك من الأمور المعروفة عن شيخ الإسلام ابن تيمية وهذا كلام من وصف الشيخ أبو زهرة رحمه الله لحياة شيخ الإسلام ابن تيمية فيه حكاية هذا السلوك عن ابن تيمية مع الإقرار والإعجاب به ، فالشيخ أبو زهرة لا يكاد يوجد من المعاصرين الأزهريين من يدانيه في علمه وهو ليس من أتباع ابن تيمية بل هو من خصومه على الأقل في مسألة العقيدة حيث أنه أشعري العقيدة ولكنه في الجملة كان منصفاً لشيخ الإسلام ابن تيمية في أمور كثيرة وله دراسة مستقلة عن شيخ الإسلام ابن تيمية ذكر ملخصها في كتاب تاريخ المذاهب الإسلامية وتكلم على ابن تيمية تحت عنوان " من محراب العلم إلى ميدان الحرب والسياسة " وعهد الناس العلماء في عصر ابن تيمية عاكفين على العلم قد أنحلتهم المقاعد وحنت عضلاتهم وتقوست عظامهم يرون قوة العلم كلها في فكره ورأسه فهو من الأمة رأسها لا عضلاتها وقوتها البدنية ولعل ذلك أتى إليه من الفلسفة الهندية أو الديانة البرهامية التي تقول إن العلماء في الدين خلقو من رأس برهامة وأن الجند خلقوا من ساعديه ، هذا ما كان عليه العلماء في عصر ابن تيمية وقبله وبعده ولذا كانوا يفرون من التتار كلما دخلوا بلداً يتركونه فارين إلى أقرب مصر إليها ففروا من بغداد إلى دمش ومن دمشق إلى القاهرة ولكن عالماً من هؤلاء العلماء لم يرضى هذه القاعدة لأنه رأى السلف الصالحين من الصحابة كانوا علماء وكانوا مجاهدين مدبرين لشئون الدولة فأبو بكر كان عالماً وفقيهاً واعظم مدبر للدولة وأعظم عابد رآه التاريخ بعد النبيين ، يقول : " وأما علي هو باب مدين العلم ، حديث ضعيف "

ولكنه يمدح الصحابة لجمعهم بين العلم والعمل .

قال : " وهو أفضل الصحابة وهو كذلك وكان فارس الإسلام حقاً وصدقاً كما قال فيه النبي  صلى الله عليه وسلم "

يقول : " كان الشيخ تقي الدين في درسه يلقي العلم ويرقب الحوادث ومجرى الأمور ويستعد للدخول في القتال ، وقد جاء التتار إلى مصر سنة 669 هجرية ولم تكن حاميتها كافية لصد غاراتهم ففرت تلك الحامية إلى مصر وفر معهم العلماء والقضاة وغيرهم من كبار الدولة حتى صار البلد شاغراً من علمائه وحكامه " إذن يوجد حالة يقال فيها شغور الزمان عن إمام ، بلا شك التسلط هنا حصل للتتار ، والتتار في زمن شيخ الإسلام ابن تيمية كانوا ينتسبون إلى الإسلام وكانوا قد أظهروا الدخول في الإسلام ودخلوا فيه من حيث الجملة وكانوا من العصاة ولكن صار هذا شاغراً من الحكام الذين تولوا باسم الخليفة وصار هناك متسلطين سفاكين للدماء ناهبين للأموال لا يمكن حينئذ أن يقال أنهم يطاعون في ذلك .

قال : " وكان ذلك قبل أن يدخل التتار ولكن عالماً واحداً أبى أن يترك البلد فوضى لأن له قلباً يحول بينه وبين الفرار وله إحساس يمنعه من أن يترك العامة من غير مواس في هذه البأساء وقد رأى بعض أهل الذمة التتار أخذوا يلقون الخمر في المساجد ويعلنون الفساد والسلب والنهب ورأى الشطار يخرجون من السجون ويهربون ويعيشون في المدينة فساداً ، لذلك جمع ابن تيمية أعيان المدينة الذين لم يتمكنوا من الفرار واتفق معهم على ضبط الأمور واتفقوا أن يذهبوا إلى قازان قائد التتار وملكهم وكانوا قد دخلوا في الإسلام كالأعراب ولم يدخل الإيمان في قلوبهم وهو رابع ملك مسلم فيهم "

إذن شيخ الإسلام لم يستسلم لسلطة التتار رغم انتسابهم للإسلام فضلاً عن من يأتي ويقول إذا أتى عدو يعلن بانتسابه يهودي أو نصراني وتمكن يكون ولي أمر يطاع ويستأذن في طلب العلم وتعليمه فضلاً عن الجهاد ، ولا يمكن أن تستأذنه في جهاده .

يقول : " ذهب الشيخ على رأس الوفد والتقى بقازان القائد الفاتك الذي صارت بذكره فتك الركبان فقال الشاب العالم للمترجم قل لقازان أنت تزعم أنك مسلم ومعك قاض وشيخ ومؤذن كما بلغنا وأبوك وجدك كانا كافرين وما عملا الذي عملت عاهدا فوفيا وأنت عاهدت فغدرت وقلت فما وفيت وجرت ، وعندما قدم للوفد الطعام امتنع ابن تيمية عن الطاعم فقيل له لما لا تأكل ؟ قال كيف آكل من طعامك وكله مما نهبتم من أغنام الناس وطبختموه مما قطعتم من أشجار الناس ؟ "

يقول الشيخ أبو زهرة : " كان الشيخ يتكلم وهو يحس أن الله يؤيده لأنه يؤيد دينه ويرفع أمره ويدفع عن خلقه ،والله فوق كل جبار عنيد ، لذلك لان قازان لما وقع في قلبه من كلامه حتى أنه كان يقول إني لم أرى مثله ولا أثبت قلباً منه ولا أوقع من حديث في قلبي ولا رأيتني أعظم انقياداً لأحد منه "

يقول : " قال الطاغية العتي للعالم التقي وأخذا يتحدثان في المقصد الذي جاء إليه واستطاع الشيخ أن يؤجل غزة التتار لدمشق وهو يعلم أن التأخير سيعقبه من بعد ذلك الاستعداد للقتال ، وحمل الشيخ قازان على أن يفك الأسرى الذين أسرهم ففك القائد أسرى المسلمين ولم يرد أن يفك وثاق الأسرى من أهل الذمة من اليهود والنصارى ولكن الشيخ عارضه وأبى أن يعود إلى دمشق إلا ومعه أسرى النصارى واليهود أيضاً وكأنه يفي بكل واجبات الإمام الذي فر ، حتى أنه يجادل عن أسرى أهل الذمة "

إلى أخر الكلام الطويل في واقع فعل شيخ الإسلام ابن تيمية في جهاده ضد التتار بعد ذلك وفي موقعه مع السلطان في مصر إلى غير ذلك من المواقف العظيمة .

فهذا ملخص للأدلة التي نستدل بها على هذه القضية في مناقشة من ينحى المنحى الذي أشرنا .

وللحديث بقية في المرة القادمة إن شاء الله تبارك وتعالى .

سبحانك اللهم ربنا وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك .

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

 

 

الكلمات الدلالية