الأربعاء، ٩ شوال ١٤٤٥ هـ ، ١٧ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

الواقعية مِن أسس السياسة الشرعية

لما ذهب إلى المدينة وأقام دولة كان مدركًا لمقدار قوته؛ فلم يفرض هيمنته المطلقة على كل سكانها

الواقعية مِن أسس السياسة الشرعية
شريف طه
الأحد ٢٣ أغسطس ٢٠١٥ - ١٣:٣٣ م
2086

الواقعية مِن أسس السياسة الشرعية

كتبه/ شريف طه

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

- السياسة هي فن التعامل في حدود الممكن، وهذا الممكن إنما يتم تحديده بناءً على معرفة موازين القوى الذاتية والخارجية، وهو ما يتطلب إحاطة جيدة بمراكز القوى المحيطة سواءً على المستوى الدولي أو الإقليمي أو المحلي، ومعرفة تأثير هذه القوى في الواقع، يتخذ السياسي بناءً على هذا كل مواقفه؛ إقدامه وإحجامه .. تحالفاته وخصوماته .. سلمه وحربه .. موازنات المصالح والمفاسد لا تكون صحيحة إلا إذا كانت مدركة لموازين القوى، وحينما تفقد الكيانات -الجماعات- الدول هذه الحاسة وتصاب بمرض الغباء السياسي فتقع في التحالفات الفاشلة والرهانات الخاسرة، ويكون ذلك طريق سقوطها وفشلها، ولن يشفع لها صدق نية أو إخلاص لقضية، مصداقًا لقانون أحكم الحاكمين ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾، ولقوله صلى الله عليه وسلم: «احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز»؛ فجمع بين الأخذ بالأسباب والتوكل على الله، العمل بالشرع والإيمان بالقدر وليس ترك الأسباب وإهمال موازنات المصالح والمفاسد والاحتجاج على النتائج الكارثية بالقدر واستدعاء آيات الابتلاء والصبر عليه، وأنه سنة الله الماضية، وإغفال ما أمرنا به شرعًا، وهو عدم طلب البلاء كما في حديث الراهب والغلام «فإن ابتليت فلا تدل عليَّ»، وقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تتمنوا لقاء العدو، وإذا لقيتموهم فاثبتوا».

- ومَن يتأمَّل سيرته العطرة صلى الله عليه وسلم -وهي من أهم الأبواب التي ينبغي الاعتناء بدراستها؛ لأنها الأساس في بيان أصول السياسة الشرعية- يتعجب مِن حسن إدراكه لموازين القوى وعدم الانجرار للمعارك غير المتكافئة وإن حرص العدو عليها؛ ففي غزوة الخندق حينما اجتمعت أحزاب الكفر يريدون استئصال الإسلام، كان همُّ النبي صلى الله عليه وسلم حماية المدينة ومنعهم مِن دخولها وتفكيك هذا التحالف، مع إدراكه التام لخطر الدخول في مثل هذه المواجهة غير المتكافئة (غزوة الأحزاب كانت في السنة الخامسة؛ أي: بعد الإذن في قتال المعتدين) فكان توجيهه لحذيفة: «لا تذعرهم علينا»، وذلك بقتل رأس هذا التحالف أبي سفيان الذي قد يرى بعض المتحمسين أن في قتل أمثاله نصرًا عظيمًا للدين، ولكن ماذا بعد؟ استثارة التحالف وإغاظتهم أكثر وتكثير الأعداء!

حينما تناقش أحد المعجبين بالفكر المتطرف، وتذكُّره بما آلت إليه غزوة ١١ سبتمبر -كما يحلو لهم تسميتها- مِن ضياع طالبان واحتلال العراق وإعلان بوش الحرب على الإرهاب، وأن مَن ليس معهم فهو ضدهم! والتضييق على السلفية في العالم بحجة أنها مفرخة الإرهاب، غالبًا ما يكون رده أنها حرب على الإسلام، ويستدعي آيات الصراع بين الحق والباطل، وغاب عنهم هذا المبدأ العظيم «لا تذعرهم علينا».

كذلك حاله صلى الله عليه وسلم في مكة وهو يمر على المعذبين، فلا يملك إلا أن يأمرهم بالصبر ويبشرهم بالجنة، ويأتيه خباب مستنصرًا فيبشره بنصر الإسلام وينهره على عجلته، وهي المرض الذي يجعل البعض يقفز على السنن الكونية متجاهلًا موازين القوى الحقيقية.

- بل لما ذهب إلى المدينة وأقام دولة كان مدركًا لمقدار قوته؛ فلم يفرض هيمنته المطلقة على كل سكانها، بل عاهد اليهود عهدًا مطلقًا، ووضع وثيقة لبيان الحقوق والواجبات المشتركة أشبه ما تكون بالدساتير المعاصرة، وكان لليهود في المدينة صلاحيات تقترب من الحكم الذاتي؛ فهم مخيرون بين التحاكم للنبي صلى الله عليه وسلم أو التحاكم لشريعتهم، وكانت لهم أراضيهم التي فيها حصونهم والتي لم يطأها المسلمون إلا بعد خَيْبَر، ومن باب أولى لم تكن لهم سلطة عليها، والنماذج مِن سيرته كثيرة كلها تجعلك تتعجب مِن حسن سياسته وتقديره للموقف صلى الله عليه وسلم.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

 

تصنيفات المادة