الجمعة، ٢٠ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٩ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

براءة السلفية مِن التكفير

تحقق التكفير على المعين لابد له مِن توفر شروط، وانتفاء موانع

براءة السلفية مِن التكفير
محمد القاضي
الأربعاء ٢٦ أغسطس ٢٠١٥ - ١٠:٣٥ ص
2911

براءة السلفية مِن التكفير

كتبه/ محمد القاضي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

تدور في الآونة الأخيرة محاولات مغرضة، تريد إلصاق تهمة التكفير بالسلفية، وأنها المسئولة عن إخراج التنظيمات المتطرفة أمثال داعش وأخواتها، وهذا محض افتراء وكذب على المنهج السلفي، بل على العكس والنقيض ظلت السلفية منهجًا وكيانًا تحارب هذا الفكر على مر العصور ومر الدهور، والذي يريد أن يتأكَّد فليرجع إلى مؤلفات السلفيين وسيجد الكلام مسطور بأحرف مِن نور، ولكن كثيرًا مِن الناس لا يعقلون، وهذه الحملات المنظمة هدفها تشويه صورة السلفية والمنهج السلفي الذي هو منهج أهل السنة والجماعة، ولصرف جمهور الأمة عنه، ولاستعداء الأنظمة والحكومات عليه، وكان مِن أبرز ما طعنوا به عليه أنه منهج مغالٍ لا سيما في أحكامه على الآخرين، ونسبوا إليه ما يجري في العالم اليوم مِن العمليات الإرهابية.

ومما نسبوه إلى المنهج السلفي الغلو في التكفير، والغلو في سفك الدماء، وهما تهمتان باطلتان، والذين رموا بها هذه الدعوة المباركة هم أحق بها وأهلها، وسوف نناقشهم في كل هذه التُّهم على التبسيط والإجمال؛ فمذهب أهل السنة وسط بين مَن يقول: لا نكفر مِن أهل القبلة أحدًا، وبين مَن يُكفِّر المسلم بكل ذنب دون النظر إلى توفر شروط التكفير وانتفاء موانعه، ويتلخص مذهب أهل السنة في أنهم يطلقون التكفير على النوع، مثل قولهم: مَن استحل ما هو معلوم مِن الدين بالضرورة كفر، ومَن قال: القرآن مخلوق، أو أن الله لا يرى في الآخرة كفر، ولكن تحقق التكفير على المعين لابد له مِن توفر شروط، وانتفاء موانع، فلا يكون جاهلًا ولا متأولًا ولا مكرهًا ...إلخ.

قال شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله: «فقد يكون الفعل أو المقالة كفرًا، ويطلق القول بتكفير مَن قال تلك المقالة، أو فعل ذلك الفعل، ويُقال: مَن قال كذا؛ فهو كافر، أو مَن فعل ذلك؛ فهو كافر. لكن الشخص المعين الذي قال ذلك القول أو فعل ذلك الفعل لا يُحكَم بكفره حتى تقوم عليه الحجة التي يكفر تاركها. وهذا الأمر مطرد في نصوص الوعيد عند أهل السنة والجماعة، فلا يشهد على معين مِن أهل القبلة بأنه مِن أهل النار؛ لجواز أن لا يلحقه، لفوات شرط أو لثبوت مانع». (مجموع الفتاوى 165- 35).

قال ابن أبي العز الحنفي: «وأما الشخص المعين، إذا قيل: هل تشهدون أنه مِن أهل الوعيد وأنه كافر؟ فهذا لا نشهد عليه إلا بأمر تجوز معه الشهادة، فإنه مِن أعظم البغي أن يشهد على معين أن الله لا يغفر له ولا يرحمه، بل يخلده في النار، فإن هذا حكم الكافر بعد الموت، ولهذا ذكر أبو داود في (سننه) في كتاب (الأدب) باب (النهي عن البغي): عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: «كان رجلان في بني إسرائيل متواخيين، فكان أحدهما يذنب، والآخر مجتهد في العبادة، فكان لا يزال المجتهد يرى الآخر على الذنب فيقول: أقصر، فوجده يومًا على ذنب، فقال له: أقصر، فقال: خليني وربي، أبعثت عليَّ رقيبًا؟ فقال: والله لا يغفر الله لك، أو لا يدخلك الله الجنة، فقبض أرواحهما، فاجتمعا عند رب العالمين، فقال لهذا المجتهد: أكنت بي عالمًا؟ أو كنت على ما في يدي قادرًا؟ وقال للمذنب: اذهب فادخل الجنة برحمتي. وقال للآخر: اذهبوا به إلى النار. قال أبو هريرة: والذي نفسي بيده، لتكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته». وهو حديث حسن، ولأن الشخص المعين يمكن أن يكون مجتهدًا مخطئًا مغفورًا له، ويمكن أن يكون ممن لم يبلغه ما وراء ذلك مِن النصوص، ويمكن أن يكون له إيمان عظيم وحسنات أوجبت له رحمة الله». (العقيدة الطحاوية 357-358).

فهل الذي أخرج لنا "داعش" قول الشيخ محمد بن عبد الوهاب: «المعيَّن لا يكفر إلا إذا قامت عليه الحجة .. إذا بلغه كلام الله ورسوله، وخلا مِن شيء يُعذر به، فهو كافر». (الدرر السنية 10-69).

- أم مثل هذا النص: «إنما نُكفر مَن أشرك بالله في إلهيته، بعدما نبين له الحجة على بطلان الشرك». (الدرر السنية 10-128).

- أم مثل هذا النص: «نُكفِّر مَن أقر بدين الله ورسوله ثم عاداه وصد الناس عنه، وكذلك مَن عبد الأوثان بعدما عرف أنها دين المشركين، وزينه للناس فهذا الذي أكفره، وكل عالم على وجه الأرض يكفر هؤلاء، إلا رجل معاند أو جاهل». (الدرر السنية 10-131).

- أم هو هذا النص: «إذا كان يعمل بالكفر والشرك لجهله، أو عدم مَن ينبهه؛ لا نحكم بكفره حتى تقام عليه الحجة». (الدرر السنية 10-136).

- أم هو هذا النص: «إذا فعل الإنسان الذي يؤمن بالله ورسوله ما يكون فعله كفرًا، أو اعتقاده كفرًا؛ جهلًا منه بما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فهذا لا يكون عندنا كافرًا، ولا نحكم عليه بالكفر حتى تقوم عليه الحجة الرسالية التي يكفر مَن خالفها». (الدرر السنية 10-239).

- أو هذا النص: «كل مَن بلغه القرآن فقد قامت عليه الحجة بالرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن الجاهل يحتاج إلى مَن يعرفه بذلك مِن أهل العلم». (الدرر السنية 10-240).

- أو لعله هذا النص: «فتكفير المعين مِن هؤلاء الجهال وأمثالهم -بحيث يحكم عليه بأنه مع الكفار- لا يجوز الإقدام عليه إلا بعد أن تقوم على أحدهم الحجة بالرسالة». (الدرر السنية 10-248).

- وربما "الدعشنة" انبعثت مِن هذا النص: «في أزمنة الفترات وغلبة الجهل لا يكفر الشخص المعين بذلك حتى تقوم عليه الحجة بالرسالة، ويبين له». (الدرر السنية 10-274).

- وقد يكون هذا النص: «ولا نُكفِّر إلا مَن كفَّره الله ورسوله، بعد قيام الحجة عليه». (الدرر السنية 10-471).

- أو هذا النص: «ولا نكفر إلا ما أجمع عليه العلماء كلهم وهو الشهادتان، وأيضًا: نكفره بعد التعريف؛ إذا عرف وأنكر». (الدرر السنية 1-102).

- أو هذا: «ونحن لا نكفر إلا مَن عرف التوحيد وسبَّه وسماه دين الخوارج، وعرف الشرك وأحبه وأهله ودعى إليه وحض الناس عليه بعدما قامت عليه الحجة وإن لم يفعل الشرك، أو فعل الشرك وسمَّاه التوسل بالصالحين؛ بعدما عرف أن الله حرَّمه». (الدرر السنية 1-264).

- أو هذا: «فجنس هؤلاء المشركين وأمثالهم ممن يعبد الأولياء والصالحين: نحكم بأنهم مشركون، ونرى كفرهم؛ إذا قامت عليهم الحجة الرسالية». (الدرر السنية 1-522) براءة السلفية مِن داعش الخارجية - صالح السندي.

وقد تعمَّدت الإكثار مِن النُّقول عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب وتلامذته؛ لأن الاتهامات الباطلة الموجَّهة إليه كثيرة؛ فهذه النقول تُفصِح عن عقيدة الشيخ في العُذر بالجهل في قضايا التوحيد وعدم التفريق بين المسائل الظاهرة والخفية، وأنه لابد مِن توافر شروط وانتفاء موانع حتى يُحكَم بكفر المُعيَّن.

فمنهج أهل السنة والجماعة في الحقيقة ضيَّق مجال التكفير وفقًا للنصوص الشرعية، ولم يُلغِ التكفير بالكلية، وإلا فالتكفير موجود في جميع المذاهب الإسلامية المنتسبة للسنة؛ فلا تجد كتاب فقه جامع إلا وفيه باب حكم المرتد.

ومِن هنا عُرِف أهل السنة بالاحتياط في هذا الباب وعدم التجرؤ على تكفير أحد ينتسب إلى أي فكر إلا بعد قيام الحجة الرسالية عليه، حتى لو كانت هذه الفرقة تكفرهم؛ يقول شيخ الإسلام: «فلهذا كان أهل العلم والسنة لا يُكفِّرون مَن خالفهم، وإن كان ذلك المخالف يكفرهم؛ لأن الكفر حكم شرعي، فليس للإنسان أن يعاقب بمثله، كمن كذب عليك وزنى بأهلك، ليس لك أن تكذب عليه وتزني بأهله؛ لأن الكذب والزنا حرام لحق الله تعالى» (الرد على البكري 260)، وقال رحمه الله: «إني مِن أعظم الناس نهيًا عن أن ينسب معين إلى تكفير وتفسيق ومعصية إلا إذا علم أنه قد قامت عليه الحجة الرسالية التي مَن خالفها كان كافرًا تارة وفاسقًا أخرى وعاصيًا أخرى». (الفتاوى 229- 3).

ولهذا كنت أقول للجهمية مِن الحلولية والنفاه الذين نفوا أن الله تعالى فوق العرش لما وقعت محنتهم: «أنا لو وافقتكم كنت كافرًا؛ لأني أعلم أن قولكم كفر، وأنتم عندي لا تكفرون؛ لأنكم جُهَّال، وكان هذا خطابًا لعلمائهم وقضاتهم وشيوخهم وأمرائهم». (الرد على البكري).

فهذا نموذج عظيم للتطبيق العملي لهذا المبدأ، وفيه رد عملي على أدعياء العلم مِن المبتدعة الذين يزعمون أن شيخ الإسلام يُكَفِّر المسلمين إلى آخر هذا الكلام المستند إلى الهوى والتعصب.

وكذلك بالنسبة للتكفير بالذنوب فإنهم لا يكفرون بالذنوب كما يفعل الخوارج، يقول الشيخ كما في (الدرر 1/32): «ولا أكفر أحدًا مِن المسلمين بذنب ولا أخرجه مِن دائرة الإسلام». اهـ.

وقال في موضع آخر كما في (الدرر 10/129): «والمسألة الأخرى: يذكر لنا مِن أعداء الإسلام مَن يذكر أنَّا نكفر بالذنوب مثل التتن وشرب الخمر والزنا أو غير ذلك مِن كبائر الذنوب، فنبرأ إلى الله مِن هذه المقالة». اهـ.

وكذلك لا يكفرون بالعموم أو كل مَن خالفهم، ولم يدخل في طاعتهم، قال الشيخ في رسالة لأحد علماء العراق كما في (الدرر 1/80): «ومنها ما ذكرتم أني أكفر جميع الناس إلا مَن اتبعني وأزعم أنكحتهم غير صحيحة، ويا عجبًا كيف يدخل هذا في عقل عاقل؟! هل يقول هذا مسلم أو كافر، أو عارف أو مجنون؟!». اهـ.

وقال الشيخ أيضًا كما في (الدرر 1/100): «وأما القول إنا نكفر بالعموم فذلك مِن بهتان الأعداء الذين يصدون عن هذا الدين ونقول: سبحانك هذا بهتان عظيم». اهـ.

وكذلك أهل السنة لا يكفرون بالظن، بل لابد مِن التثبُّت، وكذا يعذرون الجاهل بجهله، وأنه لابد من إقامة الحجة، يقول الشيخ مبينًا ذلك كما في مؤلفات الشيخ (الرسائل الشخصية) الرسالة الثالثة: «وأما ما ذكر الأعداء عني أني أكفر بالظن وبالموالاة، أو أكفر الجاهل الذي لم تقم عليه الحجة؛ فهذا بهتان عظيم يريدون به تنفير الناس عن دين الله ورسوله صلى الله عليه وسلم». اهـ.

قال الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب كما في (الدرر 1/234): «ونحن نقول فيمن مات: «تلك أمة قد خلت»، ولا نكفر إلا مَن بلغته دعوتنا للحق، ووضحت له المحجة، وقامت عليه الحجة، وأصر مستكبرًا معاندًا». اهـ.

وقال الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف كما في (الدرر 10/434): «فإن الشيخ محمدًا رحمه الله لم يُكفِّر الناس ابتداءً إلا بعد قيام الحجة والدعوة؛ لأنهم إذ ذاك في زمن فترة وعدم علم بآثار الرسالة، ولذلك قال: لجهلهم وعدم من ينبههم، فأما إذا قامت الحجة فلا مانع مِن تكفيرهم». اهـ.

فيتبين بعد كل هذه النقول عن العلماء براءة السلفية براءة تامة من المنهج الداعشي الذي انتشر في هذه الأوقات للأسف الشديد بين أبناء الصحوة؛ نتيجة قلة العلم، وانتشار الجهل بالأدلة الشرعية، وأقوال العلماء، ووجود كيانات منحرفة تخدم انتشار هذه البدع المهلكة بين أبناء الأمة .. فإلى الله المشتكى.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

 

الكلمات الدلالية

تصنيفات المادة