الخميس، ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٨ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

مواقف عُمَرِيَّة -1

إذا ذُكِرَ عمر رضي الله عنه ذُكِرَ العدل، وإذا ذُكِرَ العدل ذُكِرَ عمر رضي الله عنه

مواقف عُمَرِيَّة -1
إيهاب شاهين
الخميس ١٠ سبتمبر ٢٠١٥ - ١١:٤٦ ص
1964

مواقف عُمَرِيَّة (1)

كتبه/ إيهاب شاهين

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما بعد؛

إذا ذُكِرَ عمر رضي الله عنه ذُكِرَ العدل، وإذا ذُكِرَ العدل ذُكِرَ عمر رضي الله عنه؛ كان عمر ابن الخطاب رضي الله عنه مِن أشد الناس حرصًا على تحقيق العدالة بين الناس -القريب منهم والبعيد-، ولم يكن ليظلم أو يجور، وكان يعرف لصحابة النبي صلى الله عليه وسلم قدرهم وقدراتهم, لكن خصوم السنة أبوا إلا أن ينشروا كذبًا وبهتانًا ما يُشعر القارئ والسامع أن الصحابة لم يكونوا عدولًا وذكروا في ذلك شبهًا, مِن هذه الشبهات التي يثيرونها أن عمر قد عزل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنهما وما ذلك إلا لعجز في سعد رضي الله عنه وخيانة للرعية وقلة شجاعة (زعموا) ويا لها مِن قصة, ذكرها البخاري في صحيحه مِن حديث جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: شَكَا أَهْلُ الْكُوفَةِ سَعْدًا إِلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَعَزَلَهُ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ عَمَّارًا. فَشَكَوْا حَتَّى ذَكَرُوا أَنَّهُ َلا يُحْسِنُ يُصَلِّي. فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: يَا أَبَا إِسْحَاقَ؛ إِنَّ هَؤُلاَءِ يَزْعُمُونَ أَنَّكَ لاَ تُحْسِنُ تُصَلِّي! قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: أَمَّا أَنَا، وَاللَّهِ فَإِنِّي كُنْتُ أُصَلِّي بِهِمْ صَلاَةَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَا أَخْرِمُ عَنْهَا. أُصَلِّي صَلاَةَ الْعِشَاءِ، فَأَرْكُدُ فِي اْلأُولَيَيْنِ، وَأُخِفُّ فِي اْلأُخْرَيَيْنِ. قَالَ: ذَاكَ الظَّنُّ بِكَ يَا أَبَا إِسْحَاقَ. فَأَرْسَلَ مَعَهُ رَجُلًا أَوْ رِجَالًا إِلَى الْكُوفَةِ، فَسَأَلَ عَنْهُ أَهْلَ الْكُوفَةِ، وَلَمْ يَدَعْ مَسْجِدًا إِلاَّ سَأَلَ عَنْهُ، وَيُثْنُونَ مَعْرُوفًا، حَتَّى دَخَلَ مَسْجِدًا لِبَنِي عَبْسٍ. فَقَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ أُسَامَةُ بْنُ قَتَادَةَ، يُكْنَى أَبَا سَعْدَةَ، قَالَ: أَمَّا إِذْ نَشَدْتَنَا، فَإِنَّ سَعْدًا كَانَ لاَ يَسِيرُ بِالسَّرِيَّةِ، وَلاَ يَقْسِمُ بِالسَّوِيَّةِ، وَلاَ يَعْدِلُ فِي الْقَضِيَّةِ. قَالَ سَعْدٌ: أَمَا وَاللَّهِ َلأَدْعُوَنَّ بِثَلاَثٍ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ عَبْدُكَ هَذَا كَاذِبًا، قَامَ رِيَاءً وَسُمْعَةً، فَأَطِلْ عُمْرَهُ، وَأَطِلْ فَقْرَهُ، وَعَرِّضْهُ بِالْفِتَنِ. وَكَانَ بَعْدُ إِذَا سُئِلَ، يَقُولُ: شَيْخٌ كَبِيرٌ مَفْتُونٌ، أَصَابَتْنِي دَعْوَةُ سَعْدٍ. قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: فَأَنَا رَأَيْتُهُ بَعْدُ قَدْ سَقَطَ حَاجِبَاهُ عَلَى عَيْنَيْهِ مِنْ الْكِبَرِ، وَإِنَّهُ لَيَتَعَرَّضُ لِلْجَوَارِي فِي الطُّرُقِ يَغْمِزُهُنَّ.

وهذا الحديث فيه مِن الفوائد الكثيرة التي يظهر فيها بجلاء ووضوح فضل عمر وسعد رضي الله عنهما والرد على أهل الافتراء والكذب:

أولًا: التثبُّت مِن الأخبار صفة أهل الإيمان لا سيما صحابة النبي صلى الله عليه وسلم: لما جاءت الشكوى عمرَ رضي الله عنه أرسل إلى سعد بن أبي وقاص ليتثبت الخبر أولًا كما قال الله تعالى: ﴿يٰأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا﴾, وبيَّن العلة في ذلك: ﴿أَن تُصِيبُواْ قَوْمَا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾ هذا الخُلُق الذي فُقِدَ في كثير مِن أوساط ومجتمعات المسلمين الآن، ولو عدنا إليه لأغلق علينا أبوابًا مِن الشر عظيمة, ثم إن عمر رضي الله عنه سأل سعدًا ليس على سبيل التندر، بل على سبيل المخاصمة؛ لأنه يعلم أنه موقوف بين يدي الله عز وجل وسيُسأل عن رعيته جميعًا، حتى إنه كان يقول: «لو أن دابة في العراق عثرت لسألت عنها لِمَ لَمْ تُمَهِّد لها الطريق يا عمر؟»، فيا لها مِن مسئولية يعرف عمر قدرها وخطرها، فقال لسعد على سبيل المخاصمة: «أرني كيف تصلي؟», يقول ذلك لسعد مع علمه أن سعد سابع سبعة في الإسلام، وأول مَن رمى بسهم في سبيل الله، وأول مَن أراق دمًا في سبيل الله، وقد افتداه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبيه وأمه، قال: ارم سعدًا فداك أبي وأمي، ولم تكن لأحد بعد سعد غير الزبير ابن العوام كل هذه المناقب العظيمة، ومع ذلك يقول عمر لسعد: «أرني كيف تصلي؟» مع أن سعدًا هو الذي علم أهل الكوفة وغيرهم صلاة النبي صلى الله عليه وسلم, ولكنها مسئولية القائد واستجابة الجندي رضي الله عنهم, قام سعد أمام عمر وصلى صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما انتهى قال عمر رضي الله عنه: «ذاك الظن بك يا أبا إسحاق»، فهو يعرف ديانة سعد وفضله، ولكنه لم يعامله بما يعرف عنه مسبقًا؛ لأن الشكاية قد رفعت, فكان لا بد مِن التحقيق, فهذا هو عمر رضي الله عنه, ولم يكتفِ عمر بذلك, بل أرسل وفدًا إلى الكوفة؛ ليحقق في المسألة، فكوَّن لجنة تقصي الحقائق حتى يستوثق مِن الأمر عن كثب, حتى إذا حكم بين المتخاصمين يكون قد بذل الجهد واستفرغ الوسع في تقصي الحقيقة, نزل هذا الوفد أرض الكوفة حيًّا حيًّا يجمعون الناس ليجتمعوا ويسألوهم عن حال سعد معهم فيثنون خيرًا, حتى وصلوا إلى آخر أحياء الكوفة، فأثنى الجميع خيرًا، وكاد الوفد أن يهم بالرحيل، فإذا برجل مِن هذه القبيلة يقول: أما إذا ناشدتنا -يعني استحلفتنا- فإن سعدًا لا يسير بالسرية، ولا يقسم بالسوية، ولا يعدل في القضية, لك الله يا سعد؛ ثلاث تهم أخرى فوق تهمة أنه لا يحسن الصلاة, تخيل ذلك وهو أمير الكوفة وله الكلمة المسموعة, ولكن العدل لا يفرق بين أمير ومأمور، ولا رئيس ومرءوس؛ فالكل سواسية، إنه ديننا دين الإسلام, قام سعد في مظلومية واضحة قال: والله لأدعون بثلاث؛ اللهم إن كان عبدك هذا كاذبًا قام رياءً وسمعة فأطل عمره وأطل فقره وعرضه للفتن.

 ثانيًا: تحرز الصحابة رضي الله عنهم حتى في أمر  الدعاء, لم يدعُ سعدًا مباشرة، وإنما قال: «اللهم إن كان عبدك هذا كاذبًا قام رياء وسمعة» هذا التحرز لربما يكون عند الرجل شبهة أو تأويلًا ورائد الصحابة في ذلك النبي صلى الله عليه وسلم عندما سأله سائل قال: «يا رسول الله؛ ما الغيبة؟»، قال صلى الله عليه وسلم: «ذِكْرُك أخاك بما يكره»، قال: «أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟»، قال: «إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته», في قمة مظلوميته لم ينسَ هذا الأمر حتى لا يدعو على أحد خطأ, قام سعد ودعا بثلاث دعوات تناسب التهم الثلاث، ولم يزِد على ذلك؛ فإن الرجل قد اتهم سعدًا رضي الله عنه في نفسه وديانته وذمته المالية، فقال: التهمة الأولى: لا يسير بالسرية، وهذه في النفس, التهمة الثانية: ولا يقسم بالسوية، وهذه في الذمة المالية, التهمة الثالثة: ولا يعدل في القضية، وهذه في الديانة؛ فقال: «اللهم أطل عمره» فهذه في النفس, «وأطل فقره» وهذه في المال, «وعرِّضه للفتن» وهذه في الديانة, يقول عبد الملك ابن عُمير راوي الحديث عن جابر بن سمُرة: لقد رأيت هذا الرجل (أبو سعدة) طال عمره، يقعد في الطرقات يتعرَّض للجواري، يغمزُهُن، فإذا قيل: كيف أصبحت؟ يقول: «شيخ كبير مفتون أصابتني دعوة سعد», وفي هذا دليل واضح على براءة سعد رضي الله عنه مِن هذه التهم، فلو لم يكن مظلومًا ما استجاب الله له دعوته.

والسؤال الآن بعد هذا البيان: لماذا عزل عمر سعدًا رضي الله عنه؟ هذا ما سنتعرَّف عليه في المقال اللاحق إن شاء الله تعالى .. والحمد لله رب العالمين.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

 

تصنيفات المادة

ربما يهمك أيضاً