الثلاثاء، ١٥ شوال ١٤٤٥ هـ ، ٢٣ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

مع القرآن .. هكذا ينبغي أن نكون -3‏

بهذا وصل الصحابة إلى ما وصلوا إليه مِن مكانة عند الله وعند رسوله

مع القرآن .. هكذا ينبغي أن نكون -3‏
رضا الخطيب
الخميس ١٧ سبتمبر ٢٠١٥ - ١١:٣٢ ص
1522

مع القرآن .. هكذا ينبغي أن نكون (3‏)

كتبه/ رضا الخطيب
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

ما زال الكلام موصولًا مِن ضرب نماذج مُشرقة من حياة الصحابة رضي الله عنهم، وكيف كانت استجابتهم لكلام ‏الله وامتثلهم لأوامره بعد تدبرهم لكلامه وتعقلهم لبيانه.

- لمَّا أنزل الله قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ ‏الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ كانت الخمر للعرب جزءًا مِن حياتهم اليومية، وكانوا يكرمون بها ضيوفهم، ولمجرد أن أنزل الله ‏عليهم ﴿فَاجْتَنِبُوهُ﴾ فعلت فيهم فعل السحر في النفوس، فكأنهم لم يعرفوها قبل ذلك -بعد هذا النداء ‏الرباني عليهم ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾، وهذه رسالة إلى مَن أسرته معاصيه.
عن أنس بن مالك قال: بينما أنا أدير الكأس على أبي طلحة، وأبي عبيدة بن الجراح، ومعاذ بن جبل، ‏وسهيل بن بيضاء، وأبي دُجَانة، حتى مالت رءوسهم مِن خَليط بُسْر وتمر. فسمعت مناديًا يُنادي: «ألا ‏إنَّ الخمر قد حُرِّمَت»، قال: فما دخل علينا داخل ولا خرج منا خارج، حتى أهرقنا الشراب، وكسرنا ‏القلال، وتوضأ بعضنا واغتسل بعضنا، وأصبنا مِن طيب أمِّ سليم، ثم خرجنا إلى المسجد، فإذا رسول ‏الله صلى الله عليه وسلم يقرأ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ ‏عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ فأصبحوا وكأنهم لم يعرفوها.

وروى الإمام أحمد عن كَيسان أنه ‏كان يتاجر في الخمر في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه أقبل مِن الشام ومعه خمر في الزقاق، ‏يريد بها التجارة، فأتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني جئتك بشراب طيب، ‏فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا كيسان؛ إنها قد حرمت بعدك». قال: فأبيعها يا رسول الله؟ ‏فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنها قد حُرِّمَت وحُرِّمَ ثمنها». لم يرغ روغان الثعالب مع ‏أوامر الله، ولم يلتمس لنفسه المعاذير كحال كثير من المسلمين، فانطلق كيسان إلى الزقاق، ‏فأخذ بأرجلها ثم أراقها.
- لما أنزل الله قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ ‏كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ﴾ مع أنهم رضوان الله عليهم مضرب ‏المثل في الخلق العالي والأدب السامي مع نبيهم، لكن أراد منهم المزيد، ولم يقولوا إن هذه ‏الآيات ليست لنا إنما هي لأناس آخرين ونحن مضرب المثل في الخلق والأدب، بل روى البخاري عن ابن أبي مُلَيْكَة قال: كاد الخيِّران أن يهلكا، أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، رفعا ‏أصواتهما عند النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم عليه ركب بني تميم، فأشار أحدهما بالأقرع بن ‏حابس أخي بني مجاشع، وأشار الآخر برجل آخر فقال أبو بكر لعمر: ما أردت إلا خلافي. قال: ما ‏أردت خلافك. فارتفعت أصواتهما في ذلك، فأنزل الله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ ‏صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ﴾ الآية، قال ابن الزبير: فما كان عمر يسمعُ ‏رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية حتى يستفهمه.
وعن أنس قال: لما نزلت هذه الآية: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ﴾ وكان ثابت بن ‏قيس بن الشماس رفيع الصوت فأتى امرأته جميلة ابنة عبد الله بن أبي بن سلول فقال لها: إذا دخلتُ ‏بيت فَرَسي فشدِّي عَلَيَّ الضبَّة بمسمار، أنا الذي كنت أرفع صوتي على رسول الله صلى الله عليه ‏وسلم، حبط عملي، أنا مِن أهل النار، وجلس في أهله حزينًا، ففقده رسول الله صلى الله عليه وسلم، ‏فانطلق بعض القوم إليه فقالوا له: تفقَّدك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما لك؟ قال: أنا الذي ‏أرفع صوتي فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم، وأجهر له بالقول، حبط عملي، أنا مِن أهل النار. ‏فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه بما قال، فقال: «لا بل هو مِن أهل الجنة»، فظن رضي الله ‏عنه أن الله يخاطبه هو وسيحبط عمله هو.
- أما نساء المهاجرين والأنصار فلا يقل موقفهن روعة وجمالًا عن موقف أصحاب محمد ‏صلى الله عليه وسلم، أضرب لكم مثالًا واحدًا، وكيف كانت استجابتهن لكلامه.
وروى أبو داود عن صفية بنت شيبة قالت: بينما نحن عند عائشة، قالت: فذكرنا نساء قريش ‏وفضلهن. فقالت عائشة، رضي الله عنها: إن لنساء قريش لفضلًا، وإني -والله- وما رأيت أفضلَ مِن ‏نساء الأنصار أشدّ تصديقًا بكتاب الله، ولا إيمانًا بالتنزيل منهن. لقد أنزلت سورة النور: ﴿وَلْيَضْرِبْنَ ‏بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ﴾، فانقلب إليهن رجالهن يتلون عليهن ما أنزل الله إليهم فيها، يتلو الرجل على ‏امرأته وابنته وأخته وعلى كل ذي قرابة، فما منهن امرأة إلا قامت إلى مِرْطها المُرَحَّل فاعتجرت به، ‏تصديقًا وإيمانًا بما أنزل الله مِن كتابه، فأصبحْنَ وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح ‏معتجرات، كأن على رءوسهن الغربان.
انظروا كيف استشعر الرجال عظم المسئولية عليهم؟ فقاموا بالبلاغ والبيان، ثم استجابة فورية وامتثال مِن ‏جانب النساء؛ فالمجتمع كله برجاله ونسائه يعيش حياة العبودية لله عز وجل.
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْطَلَقَ لِيَخْطُبَ عَلَى فَتَاهُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ، فَدَخَلَ ‏عَلَى زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ الْأَسَدِيَّةِ فَخَطَبَهَا، وَكَانَتْ بِنْتَ عَمَّتِهِ، فَظَنَّتْ أَنَّ الْخِطْبَةَ لِنَفْسِهِ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ ‏أَنَّهُ يُرِيدُهَا لِزَيْدٍ كَرِهَتْ وَأَبَتْ وَامْتَنَعَتْ، فَقَالَتْ: لَسْتُ بِنَاكِحَتِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ ‏وَسَلَّمَ: «بَلْ فَانْكِحِيهِ». قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أُؤَامَرُ فِي نَفْسِي. فَبَيْنَمَا هُمَا يَتَحَدَّثَانِ أَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ ‏عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ ‏الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا مُبِينًا﴾ الْآيَةَ، قَالَتْ: قَدْ رَضِيتُهُ لِي ‏مُنْكِحًا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «نَعَمْ». قَالَتْ: إِذًا لَا أَعْصِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم، قد أنكحته ‏نفسي، فَأَذْعَنَتْ زَيْنَبُ حِينَئِذٍ وَتَزَوَّجَتْهُ.
عباد الله:
- بهذا وصل الصحابة إلى ما وصلوا إليه مِن مكانة عند الله وعند رسوله، كان كل رجل ‏منهم يشعر أن الله يخاطبه هو ويأمره هو وينادي عليه هو وسيحاسبه هو.
- بهذا مكَّن الله لهذا الجيل الفريد في برهة مِن الزمن لا تعد شيئًا في تاريخ الأمم.

هكذا ينبغي أن نكون؛ فلن يصلح أمر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

 

تصنيفات المادة