الخميس، ١٠ شوال ١٤٤٥ هـ ، ١٨ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

من الإيمان باليوم الآخر.. الإيمان بعذاب القبر ونعيمه -2

إن الأحاديث النبوية الصحيحة في عذاب القبر ونعيمه كثيرة مستفيضة

من الإيمان باليوم الآخر.. الإيمان بعذاب القبر ونعيمه -2
علاء بكر
الخميس ٠٥ نوفمبر ٢٠١٥ - ١٣:١٠ م
1665

من الإيمان باليوم الآخر
الإيمان بعذاب القبر ونعيمه (2)

كتبه/ علاء بكر

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

ومما ورد في القرآن -غير ما سبق- في إثبات عذاب القبر والحياة في القبر، وإن تكلم البعض في صحة الاستدلال ببعضها:
- قوله تعالى: (يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء) (إبراهيم: 27) ، ووجه الدلالة ما ورد في تفسيرها من أحاديث تبين تثبيت الله تعالى للمؤمنين عند السؤال في القبر، ففي الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه عن البراء بن عازب رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا أقعد المؤمن في قبره أُتِيَ، ثم شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فذلك قوله: (يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت)، وفي رواية أخرى: وزاد (يثبت الله الذين آمنوا) نزلت في عذاب القبر.
- قوله تعالى: (وحاق بآل فرعون سوء العذاب . النار يعرضون عليها غدوًّا وعشيًّا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب) (غافر: 45-46)، فأثبت عرضًا على النار لآل فرعون غدوًّا وعشيًّا قبل يوم القيامة؛ قال القرطبي: «الجمهور على أن هذا العرض يكون في البرزخ، وهو حجة في تثبيت عذاب القبر».
- قوله تعالى: (فذرهم حتى يلاقوا يومهم الذي فيه يصعقون . يوم لا يغني عنهم كيدهم شيئًا ولا هم ينصرون . وإن للذين ظلموا عذابًا دون ذلك ولكن أكثرهم لا يعلمون) (الطور: 45-47 )، قيل في (عذابًا دون ذلك): عذاب القبر.
- قوله تعالى: (حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت  كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون) (المؤمنون: 100)، قال مجاهد: هو ما بين الموت والبعث، وقال ابن القيم: عذاب القبر ونعيمه اسم لعذاب البرزخ ونعيمه، وهو ما بين الدنيا والآخرة، قال تعالى: (ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون). والبرزخ في كلام العرب: الحاجز بين الشيئين .
- قوله تعالى: (ولنذيقنهم مِن العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون) (السجدة: 21)، قيل: العذاب الأدنى: عذاب القبر، والعذاب الأكبر عذاب الآخرة.
والراجح في تفسير الآية أن العذاب الأدنى هو عذاب الدنيا كالقحط ونقص الأموال والثمرات، إذ يمكن معه أن يرجع الإنسان عن ذنوبه ومعاصيه وكفره ويتوب ويتذكر، أما عذاب القبر فأي رجوع يكون عقبه، قال ابن كثير رحمه الله: «قال ابن عباس رضي الله عنهما: يعنى بالعذاب الأدنى مصاب الدنيا وأسقامها وآفاتها، وما يحل بأهلها مما يبتلي الله به عباده ليتوبوا إليه، وروي مثله عن أُبيِّ بن كعب وأبي العالية والحسن وإبراهيم النخعي والضحاك وعلقمة وعطية ومجاهد وقتادة وعبد الكريم الجزري».
- قوله تعالى: (وممن حولكم مِن الأعراب منافقون ومِن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم) (التوبة: 101)؛ أي: يعذبون في الدنيا، وفي القبر .. قال ابن مسعود وأبو مالك وابن جريج والحسن البصري وسعيد وقتادة وابن إسحاق ما حاصله: إن المراد بذلك عذاب الدنيا وعذاب القبر ثم يردون إلى عذاب عظيم هو عذاب النار.
قال الطبري: «والأغلب أن إحدى المرتين عذاب القبر، والأخرى تحتمل أحد ما تقدم ذكره من الجوع أو السبي أو القتل والإذلال أو غير ذلك».
- قوله تعالى في قوم نوح عليه السلام: (مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا نارًا فلم يجدوا لهم مِن دون الله أنصارًا) (نوح: 25)، قال الألوسي رحمه الله: هي نار البرزخ، والمراد عذاب القبر، ومَن مات في ماء أو نار أو أكلته السباع أو الطير مثلًا أصابه ما يصيب المقبور من العذاب .. قال فخر الدين الرازي: تمسك أصحابنا في إثبات عذاب القبر بقوله: (أغرقوا فأدخلوا نارًا ) (نوح: 25) وذلك مِن وجهين:
الأول: أن الفاء في قوله تعالى: (فأدخلوا نارًا) تدل على أنه حصلت عقيب الإغراق، فلا يمكن حملها على عذاب الآخرة، وإلا بطلت دلالة الفاء؛ لأن الفاء تفيد السرعة. الثاني: أنه قال: (فأدخلوا) على سبيل الإخبار عن الماضي.
- قوله تعالى: (ومَن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكًا ونحشره يوم القيامة أعمى) (طه: 124)، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في تفسير المعيشة الضنك قال: «عذاب القبر». رواه البزار, وقال ابن كثير: إسناده جيد. قال ابن القيم في (الداء والدواء): وفسرت المعيشة الضنك بعذاب القبر، ولا ريب أنه من المعيشة الضنك، والآية تتناول أعم مِن ذلك.

- قوله تعالى: (قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين) في تفسيره ثلاثة أقوال أرجحها قول الجمهور، حيث حملوا الموتة الأولى على العدم قبل الوجود في الدنيا، والموتة الثانية على الخروج من الدنيا، ولم يعدوا نومتهم بعد الفتنة في القبر موتة مستقلة؛ لأن حال البرزخ مِن الموتة الثانية وليس هو مِن دار الدنيا ولا دار الآخرة، بل هو حاجز بينهما، ذكر ابن كثير عن ابن مسعود رضي الله عنه في هذه الآية أنها كقوله تعالى: (كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتًا)؛ أي: عدمًا، (فأحياكم ثم يميتكم)؛ أي: بعد الحياة الدنيوية، (ثم يحيكم)؛ أي: يوم القيامة (ثم إليه ترجعون) .. كذلك قال ابن عباس والضحاك وقتادة وأبو مالك.

الأدلة القرآنية على نعيم القبر

- قال تعالى: (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتًا بل أحياء عند ربهم يرزقون . فرحين بما آتاهم الله مِن فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون . يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين) (آل عمران: 169- 171)، وفيها أن الشهداء مِن المؤمنين ينعمون في حياة برزخية بعد الموت، ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم مِن إخوانهم مِن المؤمنين الذين ما زالوا في الدنيا مِن خلفهم لم يلحقوا بهم بعد.
جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لجابر رضي الله عنه بعد استشهاد أبيه عبد الله بن حرام رضي الله عنه: إن الله أحيا أباك وكلمه كفاحًا -أي: مواجهة ليس بينهما حجاب ولا رسول- وما كلَّم أحدًا قط إلا مِن وراء حجاب، فقال له: يا عبدي تمن أُعطِك، قال: يا رب فردني إلى الدنيا فأقتل في سبيلك ثانية، فقال الرب تبارك وتعالى: إنه قد سبق مني أنهم إليها لا يرجعون، قال: يا رب فأبلغ مَن ورائي، فأنزل الله عز وجل: (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتًا بل أحياء عند ربهم يرزقون . فرحين بما آتاهم الله من فضله ويسبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون) رواه بقي بن مخلد، وابن ماجه، والترمذي وقال: حديث حسن غريب.

- قال تعالى: (ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون) (البقرة: 154) وفيها إثبات حياة بعد الموت للشهداء، ولكننا لا نشعر بها، ولا ندركها بأبصارنا وبأسماعنا، رغم أننا نرى أجسام هؤلاء الشهداء أمامنا، مدفونة في قبورها ساكنة، ونظن أن أرواحها فارقتها مفارقة كلية ولا اتصال بينها وبين تلك الأجساد.
ملحوظة: لعل مما يدل على النعيم في عذاب القبر في القرآن قول صاحب سورة (يس) -بعد أن قتله قومه بسبب إيمانه برسل الله ونصرته لهم- لما قيل له بعد موته: (ادخل الجنة) قال: (يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني مِن المكرمين)، وقد ذكر العلماء أنه قال ذلك راجيًا النصح لقومه بعد موته كما نصحهم قبل موته راجيًا لهم الخير، ولا ينفع هذا النصح إلا وهم ما زالوا في الدنيا لينتفعوا به؛ إذ لو كان ذلك يوم القيامة ما انتفعوا به، ويوافق ذلك تعقيب الآيات بعدها -بما يفهم منه أن هذا التعقيب بعد قوله الذي قاله- (وما أنزلنا على قومه مِن بعده مِن جند مِن السماء وما كنا منزلين . إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون) (يس: 28-29)، ويكون قول الملائكة: (ادخل الجنة) مع كونه في قبره بعد الموت أن قولهم هو لروحه، إذ أرواح المؤمنين في حواصل طير خضر في الجنة كما سيأتي، أو أنه أُري مقعده داخل الجنة وهو في قبره، ويدل على تنعمه إخباره أنه مِن المكرمين بعد موته، والله تعالى أعلم.
فإن قيل: هذه الآيات فيها عذاب القبر ونعيمه عند الموت وبعده ولكن ليس فيها ما تذكرونه مِن تفاصيل هذا العذاب وهذا النعيم مما تفيضون فيه؟ قلنا : هذه التفاصيل مأخوذة مِن السنة النبوية الصحيحة التي بيَّنت ما أشارت إليه هذه الآيات القرآنية مجملًا، فمِن مهام السنة النبوية بيان ما أجمله القرآن الكريم.
فإن قيل: إن هناك مَن يُشكك في صحة هذه الأحاديث المتعلقة بعذاب القبر ونعيمه، قلنا: هذا مِن الضلال الشديد؛ فإن الأحاديث النبوية الصحيحة في عذاب القبر ونعيمه كثيرة مستفيضة، منها ما رواه البخاري ومسلم، وهذا من أعلى درجات الصحة، ومنها ما انفرد به البخاري، ومنها ما انفرد به مسلم، ومنها ما لم يرد في البخاري ومسلم مِن الأحاديث الصحيحة والجيدة والحسنة عند علماء الحديث المعتبرين مما تطمئن به النفس إلى صحة ما ورد فيها، وقد ذكر علماء أن أحاديث عذاب القبر ونعيمه متواترة تواترًا معنويًّا يفيد العلم القطعي اليقيني .. نعم هناك بعض أحاديث غير ما أشرنا إليه فيها ضعف يجب تركها إذ يغني عنها ما صح في بابها.
فإن قيل: مَن لا يحتج بهذه الأحاديث يزعم أنها أحاديث آحاد، وأحاديث الآحاد لا يحتج بها في العقائد. قلنا: عدم الاحتجاج بأحاديث الآحاد الصحيحة التي تلقتها الأمة بالقبول في مسائل الاعتقاد بدعة محدثة لم يعرفها السلف مِن عهد الصحابة رضي الله عنهم ومَن جاء بعدهم مِن الأئمة مِن التابعين وتابعي التابعين والأئمة الأربعة ومَن بعدهم، وإنما قال بها المعتزلة وبعض علماء الأصول مِن المتكلمين، وأخذها عنهم من أخذها مِن علماء الأصول المتأخرين. والمعتزلة ليس عندهم مِن المعرفة بعلم الحديث، فحالهم فيه أنهم مِن المقلدة، وكلام علماء الحديث حجة عليهم. وعلماء الأمة لا يفرقون في الاعتقاد والعمل بين المتواتر والآحاد، وإلا لردت بسبب هذا التفريق أمور اعتقادية كثيرة متفق عليها؛ كالعديد مِن معجزاته صلى الله عليه وسلم المادية غير القرآن الكريم، وكأشراط الساعة الصغرى والكبرى، وتحديد العشرة المبشرين بالجنة ...إلخ .. وقد ذكرنا أن أحاديث عذاب القبر ونعيمه مِن المتواتر المعنوي، فبطل قولهم، على ما في الاحتجاج به مِن الفساد. وقد رد المعتزلة أحاديث أخرى متواترة بسبب مقالتهم تلك المبتدعة كأحاديث الشفاعة، والدجال، ونزول المسيح في آخر الزمان، ونزول الرب عز وجل إلى السماء الدنيا في الثلث الأخير مِن الليل في كل ليلة.
وآفة المعتزلة ومَن وافقهم أنهم في قضية عذاب القبر عرضوا الأمر أولًا على عقولهم فلما عجزت عن تصوره؛ لكونه مِن الأمور الغيبية التي لا تدركها العقول، وحجبت الحواس عن إدراكها -وقد بينا أنه ليس مِن المستحيل عقلًا وقوع ووجود أمور لا نراها ولا ندرك كيفيتها- عمدوا إلى النصوص فردوها وكذبوا بها وشككوا فيها. وفاتهم أن الروح وعلاقتها بالبدن وتفاصيل ذلك مِن الأمور مما أخفاه الله تعالى عنا، قال تعالى: (وما أوتيتم مِن العلم إلا قليلًا). فوجب التسليم بكل ما أخبر به الشرع عنها، وتجنب الخوض في كيفيته وتفاصيله، إذ لا يحيط بالكيفية والتفاصيل إلا الله تعالى ومن أحاطه عز وجل بها؛ (ولا يحيطون بشيء مِن علمه إلا بما شاء).

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

 

تصنيفات المادة