الثلاثاء، ٨ شوال ١٤٤٥ هـ ، ١٦ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

الظلمات والنور

لا بد لنا مِن أن نقدِّم الصورة الحقيقية المشرقة لهذا الدين

الظلمات والنور
ياسر برهامي
السبت ٠٢ يناير ٢٠١٦ - ٢١:٥٦ م
1336

الظلمات والنور

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فـ(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) (الأنعام:1).

جمع الله الظلمات ووحَّد النور في هذه الآية في صدر سورة الأنعام، فدل ذلك على كثرة الظلمات وتعددها، ووحدة النور وانفراده، وواقع البشرية شاهد بكثرة أنواع الضلالات مِن الشبهات والشهوات وانتشارها، ولقد كانت البشرية قبْل البعثة المحمدية في أشد ظلماتها كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَإِنَّ اللهَ نَظَرَ إِلَى أَهْلِ الأَرْضِ، فَمَقَتَهُمْ عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ، إِلا بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَقَالَ: إِنَّمَا بَعَثْتُكَ لأَبْتَلِيَكَ وَأَبْتَلِيَ بِكَ) (رواه مسلم).

فقضى الله بحكمته أن يبدأ الإسلام كنور الفجر وسط الظلمات، فبدأ غريبًا؛ ولذا -والله أعلم- كثُر الإقسام في القرآن المكي بالساعات الأخيرة مِن الليل وقرب إدباره كقوله: (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى) (النجم:1)، وقوله: (وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ . وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ) (المدثر:33-34)، وقوله: (وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ . وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ) (التكوير:17-18)، وقوله: (وَالْفَجْرِ) (الفجر:1)؛ إيذانًا بقرب ظهور النور رغم غرابته.

وقضى الله -سبحانه- أن يعود الإسلام غريبًا كما بدأ؛ ليتحقق الابتلاء للمخلصين مِن الأمة التي تقتدي برسولها -صلى الله عليه وسلم-، ويرثون مهمته في الدعوة والإبلاغ، وتحقيقها في أنفسهم وفيمن حولهم، عبودية، منها منازعة ومراغمة ومقاومة مِن داخل أنفسهم، وفي المجتمعات التي يعيشون فيها، والعالم مِن حولهم وأكثره ظلمات: (وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ) (الأنعام:116)، (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) (يوسف:103)، فلا ينبغي لنا أن نضيق ونحن نرى انتشار الظلم والظلمات، والمكر والكيد: (وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ . إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) (النحل:127-128).

وإن مِن أعظم فوائد ذلك للمؤمنين: أن تترحل وتذهب مِن نفوسهم أحوال الاعتماد على الخـَلـْق أو الثقة بهم، وكذلك هم مع أنفسهم قد يئسوا منها إلا مِن رحمة الله وفضله (أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَن لَّوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا) (الرعد:31)، واليأس مِن الخَلْق ومِن النفس عبادة جليلة، وصل الابتلاء بالرسل إليها لتحقيق كمال التوحيد (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) (يوسف:110).

ومِن فوائد ذلك أيضًا: أن يترحل ويذهب عن طائفة المؤمنين مَن يريد الدنيا، فإن الكثيرين في فترات الظلمة ينسحبون مِن العمل؛ لأنه في قصدهم وإرادتهم لا تثمر له ثمرة، ولا يحصل منه غرض، فتراهم يقعدون ويؤثرون السلامة، وعلى أحسن الأحوال مَن يتصدرون المشهد نحو مَن قال الله فيهم: (وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلا فِرَارًا) (الأحزاب:13).

ومِن فوائد ذلك: أن يصرف عن المؤمن إرادة مدح الناس والفرح بها، أو الخوف والضيق مِن ذمهم؛ فإن فترات الظـُلمة تشهد لعن أهل الظلمة للنور، وذمه وعيبه، ورؤوس هؤلاء يظنون ما قال الأعرابي الجاهل للنبي -صلى الله عليه وسلم- وقد ناداه مِن وراء الحجرات: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ حَمْدِي زَيْنٌ، وَإِنَّ ذَمِّي شَيْنٌ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (ذَاكَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-) (رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني)؛ فلا بد أن تتعود القلوب والأسماع على ذم أهل الباطل للحق وعيبهم لأهله دون أن يدفعهم ذلك لموافقة الباطل أو لترك الحق مهما تألم الإنسان فإنهم (لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلا أَذًى) (آل عمران:111)، وعلينا أداء المهمة مع التوكل (فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) (هود:12).

ولا يصح أن نترك بعض الحق الذي دلَّ عليه الوحي "والذي يستجلب المزيد مِن مهاجمة أهل الباطل، وتجديد سبهم وشتمهم وشبهاتهم المتهافتة"، وأن تضيق صدورنا مِن طرح القضايا التي  تهيجهم.

إن مهمة البلاغ والإنذار لا بد مِن القيام بها مع التوكل على الله، وفي نفس الوقت لا بد أن نقدِّم الحق في أحسن صورة، وبأوضح برهان، ولا نسمح بتشويه صورته مِن قـِبَل مَن يَنتسب إليه بسلوك خاطئ أو فهم منحرف؛ فالحق نزل ليعيش به المؤمنون مع الناس -وإن لم يستطيعوا إلزامهم به-، كما قال الله -تعالى- عن نوح -عليه السلام-: (قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ) (هود:28)؛ فليس في قدرتنا ذلك، ولا هو مِن واجبنا في الدعوة إلى الله.

ولو حاول أعداء الإسلام أن يجعلوا الصورة التي تقدَّم للناس عن الإسلام صورة مشوهة -وربما هم الذين صنعوها-؛ فلا بد لنا مِن أن نقدِّم الصورة الحقيقية المشرقة لهذا الدين، ولا نقبل "التحوصل" خارج المجتمع الذي نعيش فيه؛ فضلاً عن التحوصل أو الانفجار فيه،  في نفس الوقت الذي نحافظ فيه على الثوابت الحقيقية -لا المصطنعة ولا الموهومة- ليبقى الدين الذي ارتضاه لنا هو الذي وعد بالتمكين لنا به (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا) (النور:55).

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

 

تصنيفات المادة