الثلاثاء، ٨ شوال ١٤٤٥ هـ ، ١٦ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

حكم تارك الصلاة

اتفق العلماء على تكفير من جحد وجوب الصلاة وإن أداها

حكم تارك الصلاة
محمد إسماعيل المقدم
الخميس ٢١ يناير ٢٠١٦ - ١١:٥٧ ص
5369

حكم تارك الصلاة

محمد إسماعيل المقدم

اتفق العلماء على تكفير من جحد وجوب الصلاة وإن أداها، واختلفوا في تكفير من تركها تهاوناً وتكاسلاً مع اعتقاده فرضيتها، ولكل أدلته الكثيرة من الكتاب والسنة وأقوال سلف الأمة.

تارك الصلاة بين التكفير وعدمه

الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم! صل على محمد النبي الأمي وأزواجه أمهات المؤمنين، وذريته وأهل بيته كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة. أيها الأخ المسلم! يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا خلص المؤمنون من النار وأمنوا فوالذي نفسي بيده فما مجادلة أحدكم لصاحبه في الحق يكون له عليه في الدنيا بأشد من مجادلة المؤمنين لربهم في إخوانهم الذين أدخلوا النار، قال: يقولون: ربنا! إخواننا كانوا يصلون معنا ويصومون معنا ويحجون معنا ويجاهدون معنا فأدخلتهم النار! قال: فيقول: اذهبوا فأخرجوا من عرفتم منهم. فيأتونهم فيعرفونهم بصورهم، لا تأكل النار صورهم، فمنهم من أخذته النار إلى أنصاف ساقيه، ومنهم من أخذته إلى كعبيه، فيخرجون منها بشراً كثيراً، فيقولون: ربنا! قد أخرجنا من أمرتنا. قال: ثم يعودون فيتكلمون فيقول: أخرجوا من كان في قلبه مثقال دينار من الإيمان. فيخرجون خلقاً، ثم يقولون: ربنا! لم نذر فيها أحداً ممن أمرتنا. ثم يقول: ارجعوا، فمن كان في قلبه وزن نصف دينار فأخرجوه. فيخرجون خلقاً كثيراً، ثم يقولون: ربنا! لم نذر فيها ممن أمرتنا. حتى يقول: أخرجوا من كان في قلبه مثقال ذرة. فيخرجون خلقاً كثيراً، قال أبو سعيد رضي الله عنه: فمن لم يصدق بهذا الحديث فليقرأ هذه الآية:  إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً  [النساء:40]: قال: فيقولون: ربنا! قد أخرجنا من أمرتنا، فلم يبق في النار أحد فيه خير. قال: ثم يقول الله: شفعت الملائكة، وشفعت الأنبياء، وشفع المؤمنون وبقي أرحم الراحمين، قال: فيقبض قبضة من النار -أو قال: قبضتين- ناساً لم يعملوا لله خيراً قط، قد احترقوا حتى صاروا حمماً، قال: فيؤتى بهم إلى ماء يقال له: الحياة، فيصب عليهم فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل، قد رأيتموها إلى جانب الصخرة وإلى جانب الشجرة، فما كان إلى الشمس منها كان أخضر، وما كان منها إلى الظل كان أبيض، قال: فيخرجون من أجسادهم مثل اللؤلؤ وفي أعناقهم الخاتم -وفي رواية: الخواتم- مكتوب عليها: (عتقاء الله)، قال: فيقال لهم: ادخلوا الجنة، فما تمنيتم ورأيتم من شيء فهو لكم ومثله معه. فيقول أهل الجنة: هؤلاء عتقاء الرحمن أدخلهم الجنة بغير عمل عملوه ولا خير قدموه! قال: فيقولون: ربنا أعطيتنا ما لم تعط أحداً من العالمين. قال: فيقول: فإن لكم عندي أفضل منه. فيقولون: ربنا وما أفضل من ذلك؟ قال: فيقول: رضائي عنكم فلا أسخط عليكم أبداً) هذا الحديث أصله في الصحيحين، وهو في رواية خارج الصحيحين صحيح على شرط الشيخين، قد رواه عبد الرزاق وعنه الإمام أحمد، و النسائي، و ابن ماجه، و ابن خزيمة في التوحيد، و المروزي في (تعظيم قدر الصلاة). وهذا الحديث يعد من أقوى الحجج التي يستدل بها من لا يكفر تارك الصلاة، ولا يخرجه من الملة بالكلية بترك الصلاة كصلاة واحدة. قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: لا يختلف المسلمون أن ترك الصلاة المفروضة عمداً من أعظم الذنوب وأكبر الكبائر، وأن إثمه أعظم من إثم قتل النفس وأخذ الأموال، ومن إثم الزنا والسرقة وشرب الخمر، وأنه متعرض لعقوبة الله وسخطه وخزيه في الدنيا والآخرة. ......

 

الأحكام الدنيوية والأخروية المترتبة على ترك الصلاة

يكثر الكلام في وعيد ترك الصلاة وخطورة التقصير في الصلاة وبيان أهميتها، وسنتعرض لزاوية أخرى من البحث تليق بطلبة العلم؛ إذ إنهم يضعون الكلام في مواضعه، ولا يغترون بأمثال هذه القضايا الخلافية، وظننا بهم أنهم لن يقعوا فيما حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: (لا تخبرهم بها لئلا يتكلوا) فإذا كان الخطاب مع طلبة علم فلا بأس به؛ لأنهم يفهمون الكلام ويضعونه في مواضعه، بل لابد من توضيح هذه الأحكام، خاصة أن الكلام فيها يترتب عليه الكثير من الأحكام الخطيرة. فمثلاً إذا قلنا بقول بعض العلماء، وهو الحكم بكفر تارك الصلاة وخروجه من الملة بالكلية فمعنى ذلك أنه يكون مرتداً لا حظ له في الإسلام، فهذه ليست كلمة تقال وحسب، لكن وراءها عواقب خطيرة جداً، سواء في أحكام الدنيا أو في أحكام الآخرة، فمن أحكام الدنيا سقوط ولايته، فلا يجوز أن يولى أي ولاية، فلا يولي الولاية العظمى، ولا يولى الولاية في النكاح، فلا يصلح لأن يزوج بناته؛ لأنه غير مسلم فلا يؤتمن عليهن، ولا يولى على القاصرين من أولاده وغيرهم. ومنها -أيضاً-: أنه يسقط إرثه من أقاربه؛ لأن الكافر لا يرث المسلم، والمسلم لا يرث الكافر، كما جاء في الحديث المتفق عليه. ومنها أنه يحرم عليه دخول مكة، فلا يجوز له أن يمكن من دخول الحرمين الشريفين؛ لقوله تعالى:  يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا  [التوبة:28]. ومنها: تحريم ما ذكاه، فإذا ذكى شيئاً من بهيمة الأنعام -الإبل أو البقر أو الغنم- أو ذكى دجاجة وحكمنا بكفره فلا يحل أكل ما ذكاه، لأنه مثل الميتة ولأن من شروط الذكاة الشرعية أن يكون المذكي مسلماً أو كتابياً. فذبيحة الكتابي اليهودي أو النصراني تحل بشرطها، لكن لا تحل ذبيحة هذا المرتد. ومن ذلك أنه تحرم الصلاة عليه بعد موته، ولا يجوز الدعاء له بالمغفرة والرحمة. وكذلك تحريم نكاحه المرأة المسلمة، إذا قلنا بالكفر فلا يجوز أبداً لكافر أن يتزوج مسلمة كما هو معلوم. وأما الأحكام الأخروية فمنها أن الملائكة توبخه وتقرعه، بل تضرب وجهه ودبره إذا توفته، قال تعالى:  وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ * ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ  [الأنفال:50-51]. ومنها أنه يحشر مع الكفرة والمشركين، قال تعالى:  احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ  [الصافات:23]. ومنها الخلود في النار أبد الآبدين، قال تعالى:  إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً * يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَ  [الأحزاب:64-66] فهذه بعض الإشارات إلى ما يترتب على الحكم بتكفير تارك الصلاة. فهذا الموضوع ليس موضوعاً نظرياً، بل يترتب عليه أحكام، ونحن نواجه هذه المشاكل في حياتنا العملية، وفي الأسئلة الموجهة لنا، فلابد من أن نكون على بصيرة من حقيقة الخلاف في هذا الأمر. ......

 

مؤلفات في حكم تارك الصلاة

يفرح طالب العلم إذا وجد في مثل هذا الموضوع كلاماً فيه من الشيوخ أو طلاب العلم أو الباحثين؛ فإن ذلك -بلا شك- لا يخلو من فوائد عظيمة جداً تثري البحث العلمي. ويتوافر لدينا بعض المصنفات المستقلة في هذا الباب، أشهرها على الإطلاق هو كتاب للإمام ابن القيم رحمه الله تعالى، وهو كتاب الصلاة وحكم تاركها، وسياق صلاة النبي صلى الله عليه وسلم من التكبير إلى التسليم كأنك تراها، فهذا هو أول مرجع وأشهره. وتوجد رسالة للشيخ محمد بن صالح العثيمين اسمها (حكم تارك الصلاة) وأيضاً صدر كتاب بعنوان (فتح من العزيز الغفار لإثبات أن تارك الصلاة ليس من الكفار) وقد وجهت إلى مؤلف هذا الكتاب نصيحة بتغيير اسم الكتاب، فلبى النصيحة وغير اسم الكتاب إلى اسم آخر، ويعد هذا الكتاب من أوفى البحوث في هذه القضية؛ لأنه جمع أدلة الفريقين بالتفصيل، وتتبع أدلة مخالفيه، ويعتبر من أقوى البحوث التي تناولت هذه القضية وأوسعها، ويكفي كتاب (فتح من العزيز الغفار) فضلاً أن الشيخ الألباني مدحه، والشيخ الألباني معروف بأنه عزيز المدح، وصعب جداً أن يمدح أحداً، فالشيخ ناصر قد أطلق قلمه في مدح هذا الكتاب والثناء عليه بما لم يظفر به غيره من المصنفين في هذا الزمان، فهذه -بلا شك- شهادة لها قيمتها ولها وزنها من العلامة الألباني . وكالعادة ما سلم الأمر من أخذ ورد، فبمجرد أن ألف الشيخ عطاء كتاب (فتح من العزيز الغفار) قام بالرد عليه أخ يدعى ممدوح جابر عبد السلام ، فألف كتاباً حول مسألة حكم تارك الصلاة وسماه: (الرد العلمي على كتاب فتح من العزيز الغفار لإثبات أن تارك الصلاة ليس من الكفار)، ثم عاد الشيخ عطاء وألف من جديد كتاباً سماه: (فيض من رب الناس بإبطال رد ممدوح بن جابر من الأساس). وما زلنا ننتظر المزيد من الردود، وعلى أي الأحوال نحن المستفيدون من هذه المساجلات العلمية، لكن نبرأ من الأساليب الغليظة من بعض المؤلفين في الرد على البعض الآخر في مثل هذه القضايا الاجتهادية. ونحن إنما نبحث عن الخلاصة، وننتفع بكلام هذا وكلام ذاك، ولكن لا ننصت ولا نلتفت إلى شدة بعضهم على بعض، أو ما يقع من تجاوزات، فهذا لا يعنينا في شيء، فذكر هذه البحوث يُفيد في تفصيل هذه القضية. والكلام كثير جداً، لكن سنحاول إن شاء الله تعالى أن نمر مروراً سريعاً بقدر المستطاع على هذا البحث إن شاء الله تعالى. ......

 

أدلة من لا يكفر تارك الصلاة كسلاً وتهاوناً

وقبل معرفة الأدلة ينبغي أن نعلم أن الخلاف هو في الذي يقر بوجوب الصلاة ويكسل عنها، أما الذي يجحد وجوب الصلاة فهو كافر مرتد وإن كان يصلي الفرض والنفل ويحافظ على الصلاة في الجماعة، ويأتي بظاهرها وباطنها، فمن كان يفعل ذلك ويقول: أنا أفعل هذا وأعتقد أن الصلاة ليست فريضة وليست واجبة، فهو كافر كفراً اعتقادياً؛ لأنه أنكر ما هو معلوم من الدين بالضرورة. فالذي لا يقر بوجوب الصلاة لا خلاف في كفره بين العلماء، لكن اختلفوا في الذي يقر بوجوب الصلاة لكنه يكسل عن أدائها، فهذا هو محل الخلاف، أما الشخص الذي يجحد وجوب الصلوات فهو كافر مرتد مشرك حلال الدم والمال، واليهود والنصارى خير من الذي يجحد وجوب الصلاة، حتى ولو كان يصلي. فكلامنا عن حكم تارك الصلاة الذي يقر بوجوبها ويكسل عنها. وهنا مجموعة من الأدلة التي استدل بها الذين لا يكفرون تارك الصلاة: الدليل الأول: حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها مرفوعاً: (ثلاث أحلف عليهن: لا يجعل الله من له سهم في الإسلام كمن لا سهم له، وسهام الإسلام ثلاثة: الصلاة، والصوم، والزكاة، ولا يتولى الله عبداً في الدنيا فيوليه غيره يوم القيامة، ولا يحب رجل قوماً إلا جعله الله معهم، والرابعة: لو حلفت عليها رجوت ألا آثم: لا يستر الله عبداً في الدنيا إلا ستر عليه يوم القيامة) رواه الإمام أحمد و الحاكم و النسائي وغيرهم، وهو حديث صحيح. فهذا الحديث يدل على أن من جاء بسهم واحد أياً كان هذا السهم وترك بقية سهام الإسلام كلها فإن حكمه يختلف عن حكم من ترك سهام الإسلام كلها ولم يأت منها بأي سهم. فوجه الدلالة في هذا الحديث على عدم تكفير تارك الصلاة أنه جعل الصلاة سهماً من أسهم الإسلام، مثل الصيام ومثل الزكاة، ثم صرح بأن من أدى واحدة من هذه الأسهم الثلاثة كان له سهم في الإسلام، ولا يتساوى في الحكم مع من لم يؤد واحداً منها، فهذا يدل على أن من أدى الزكاة فقط -مثلاً- وترك الصوم والصلاة له سهم في الإسلام، وعليه فإن له نصيباً فيه، فلو كان ترك الصلاة مخرجاً من الملة بالكلية لما كان له -أصلاً- نصيب في الإسلام. فقوله: (لا يجعل الله من له سهم في الإسلام -أي: من هذه الأسهم الثلاثة- كمن لا سهم له، وأسهم الإسلام ثلاثة: الصلاة، والصوم، والزكاة) هو الدليل الأول الذي استدلوا به. الدليل الثاني: حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن للإسلام صوى ومناراً كمنار الطريق) والصوى علامات من الحجارة توضع على الطريق لتبين مراحل الطريق في السفر، قال: (إن للإسلام صوى ومناراً كمنار الطريق، من ذلك: أن تعبد الله ولا تشرك به شيئاً، وأن تقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وتسليمك على بني آدم إذا لقيتهم، فإن ردوا عليك ردت عليك وعليهم الملائكة، وإن لم يردوا عليك ردت عليك الملائكة ولعنتهم أو سكتت عنهم، وتسليمك على أهل بيتك إذا دخلت عليهم، فالذي انتقص منهن شيئاً فهو سهم من الإسلام تركه، ومن تركهن فقد نبذ الإسلام وراء ظهره) هذا رواه المروزي في (تعظيم قدر الصلاة) وهو حديث صحيح رجاله ثقاة رجال الشيخين. فوجه الدلالة في هذا الحديث أن النبي عليه الصلاة والسلام جعل هذه منارات وعلامات في الإسلام، أعظمها بلا شك: أن تعبد الله ولا تشرك به شيئاً، ومعلوم أن التوحيد هو شرط في صحة كل شعب الإيمان، إذا فقد التوحيد بطلت كل شعب الإيمان، ولا ينتفع بها صاحبها في الآخرة. قال: (وأن تقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وتسليمك على بني آدم إذا لقيتهم، فإن ردوا عليك ردت عليك وعليهم الملائكة، وإن لم يردوا عليك ردت عليك الملائكة ولعنتهم أو سكتت عنهم، وتسليمك على أهل بيتك إذا دخلت عليهم، فمن انتقص منهن شيئاً فهو سهم من الإسلام تركه) فقوله: (فمن انتقص منهن شيئاً فهو سهم من الإسلام تركه) يعم كل ما تقدم ذكره ما عدا شهادة التوحيد؛ لأنها شرط في صحة كل شعب الإيمان، فالذي لا يأتي بالتوحيد لا نقول عنه: إنه ترك سهماً من سهام الإسلام. بل إنه لا حظ له في الإسلام، لكن المقصود باقي الشعب المذكورة، وهي (أن تقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان..) إلى آخره، يقول (فمن انتقص منهن شيئاً فهو سهم من الإسلام تركه، ومن تركهن -يعني: جميعاً- فقد نبذ الإسلام وراء ظهره). الدليل الثالث: عن حذيفة رضي الله تعالى عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الإسلام ثمانية أسهم: الإسلام سهم، والصلاة سهم، والزكاة سهم، وحج البيت سهم، والصيام سهم، والأمر بالمعروف سهم، والنهي عن المنكر سهم، والجهاد في سبيل الله سهم، وقد خاب من لا سهم له) ووجه الدلالة قريب مما مضى. الدليل الرابع: عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: (أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: خمس صلوات افترضهن الله تعالى، من أحسن وضوءهن وصلاهن لوقتهن وأتم ركوعهن وخشوعهن كان له عند الله عهد أن يغفر له، ومن لم يفعل فليس له عند الله عهد، إن شاء غفر له وإن شاء عذبه) هذا الحديث رواه الإمام أحمد و أبو داود و البغوي في (شرح السنة) وفي بعض الروايات: (وأتم ركوعهن وسجودهن وخشوعهن). فمعنى ذلك أن من قصر في شيء من هذه الصلوات فإنه يدخل تحت المشيئة، فإن شاء الله عذبه وإن شاء غفر له، وهذا شأن أهل الكبائر وليس شأن المشركين أو الكفار؛ لقوله تعالى:  إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ  [النساء:48] فإذا كان ترك الصلاة كفراً فإن الله لا يغفره، أما دخوله هنا تحت المشيئة فيدل بنص هذا الحديث على أنه لا يكفر بذلك كفراً يخرجه من ملة الإسلام. الدليل الخامس: عن عبادة رضي الله عنه مرفوعاً: (خمس صلوات افترضهن الله على عباده، فمن لقيه بهن لم يضيع منهن شيئاً لقيه وله عنده عهد يدخله به الجنة، ومن لقيه وقد انتقص منهن شيئاً استخفافاً بحقهن لقيه ولا عهد له، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له) وهذا -أيضاً- حديث صحيح، ووجه الدلالة واضح وموافق لما مضى. الدليل السادس: عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أدخل رجل قبره فأتاه الملكان فقالا: إنا ضاربوك ضربة. فقال لهما: علام تضرباني؟! فضرباه ضربة امتلأ قبره منها ناراً، فتركاه حتى أفاق وذهب عنه الرعب، فقال لهما: علام ضربتماني؟ فقالا: إنك صليت صلاة وأنت على غير طهور، ومررت برجل مظلوم ولم تنصره) وهذا رواه الطبراني وهو حديث حسن بطرقه. الدليل السابع: عن نصر بن عاصم الليثي عن رجل منهم: (أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم على أن يصلي صلاتين فقبل منه) وهذا رواه الإمام أحمد، وهو حديث صحيح ورجال إسناده ثقات. فالنبي صلى الله عليه وسلم قبل منه الإسلام مع هذا الشرط، فكونه قبل منه الإسلام مع أنه اشترط أنه لا يصلي غير صلاتين يدل على أنه لا يمكن أن يقبل منه شرطاً لا يدخله في الإسلام، فهذا الحديث يدل -أيضاً- على أنه لم يكفر بذلك. الدليل الثامن: عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه مرفوعاً: (إن أول ما يحاسب به الناس من أعمالهم الصلاة، فيقول ربنا للملائكة وهو أعلم: انظروا في صلاة عبدي هل أتمها أم نقصها. فإن كانت تامة كتبت له تامة، وإن كان قد انتقص شيئاً قال: انظروا هل لعبدي من تطوع؟ فإن كان له تطوع قال: أتموا لعبدي فريضته من تطوعه. ثم تؤخذ الأعمال على ذلكم) وهذا حديث صحيح ثبت عن ستة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم. الدليل التاسع: حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الدواوين عند الله ثلاثة: ديوان لا يعبأ الله به شيئاً، وديوان لا يترك الله منه شيئاً، وديوان لا يغفره الله، فأما الديوان الذي لا يغفره الله فالشرك، قال الله عز وجل:  إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ  [المائدة:72] وأما الديوان الذي لا يعبأ الله به شيئاً فظلم العبد نفسه فيما بينه وبين ربه، من صوم يوم تركه أو صلاة تركها، فإن الله عز وجل يغفر ذلك ويتجاوز عنه إن شاء، وأما الديوان الذي لا يترك الله منه شيئاً فظلم العباد بعضهم بعضاً، القصاص لا محالة) وهذا رواه الإمام أحمد، والشاهد هنا قوله عليه الصلاة والسلام: (وأما الديوان الذي لا يعبأ الله به شيئاً فظلم العبد نفسه فيما بينه وبين ربه من صوم يوم تركه أو صلاة تركها، فإن الله عز وجل يغفر ذلك ويتجاوز عنه إن شاء) فهذا دليل على عدم تكفير المتعمد ترك الصلاة كسلاً. الدليل العاشر: عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قام بآية من القرآن يرددها حتى صلى الغداة -أي أنه ظل يردد هذه الآية حتى صلى صلاة الفجر- وقال: دعوت لأمتي. قلت: فماذا أجبت -أو: ماذا رد عليك؟- قال: أجبت بالذي لو اطلع عليه كثير منهم طلعة تركوا الصلاة. قلت: أفلا أبشر الناس؟ قال: بلى. فانطلقت معنقاً قريباً من قذفة بحجر فقال عمر : يا رسول الله! إنك إن تبعث إلى الناس بهذا ينكلوا عن العبادة. فنادى أن: ارجع فرجع، وتلك الآية  إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ  [المائدة:118]).

الدليل الحادي عشر: عن حذيفة بن اليمان رضي الله تعالى عنه مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب -أي: تذهب وتنمحي آثاره ومعالمه- حتى لا يدرى ما صيام ولا صلاة ولا نسك ولا صدقة أي: يصبح الإسلام غريباً حتى لا يعرف الناس شيئاً من الذين وليسرى على كتاب الله عز وجل في ليلة فلا يبقى في الأرض منه آية، وتبقى طوائف من الناس الشيخ الكبير والعجوز يقولون: أدركنا آباءنا على هذه الكلمة: لا إله إلا الله فنحن نقولها) رواه ابن ماجة والحاكم وصححه ووافقه الذهبي وصححه البوصيري وقواه الحافظ ابن حجر ، وكان حذيفة يحدث بذلك صلة بن أشيم فقال صلة بعدما روى حذيفة الحديث: (ما تغني عنهم لا إله إلا الله وهم لا يدرون ما صيام ولا صلاة ولا نسك ولا صدقة؟ فأعرض عنه حذيفة، فقالها ثلاثاً، كل ذلك يعرض عنه حذيفة، ثم قال له في الثالثة: تنجيهم من النار تنجيهم من النار، تنجيهم من النار)هذا هو الحد الأدنى من النجاة الذي يثبت به الإسلام، وما عداه مما ذكر في هذا الحديث لا يكون شرطاً في صحة الإسلام.

 

الدليل الأخير: حديث الشفاعة، وهو عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا خلص المؤمنون من النار وأمنوا) أي: بعدما يأمن المؤمنون؛ لأنه في بعض المواقف حتى الأنبياء أنفسهم يقول كل واحد منهم: (نفسي، نفسي) فهذه مرحلة معينة وبعدها ينقضي الفزع عن المؤمنين وأهوال هذا اليوم العظيم، فإذا نجوا من النار وخلصوا منها وشعروا بالأمان حينئذ تجدهم يتذكرون إخوانهم الذين تخلفوا عنهم وسقطوا في جهنم والعياذ بالله، يقول عليه الصلاة والسلام: (إذا خلص المؤمنون من النار وأمنوا فوالذي نفسي بيده ما مجادلة أحدكم لصاحبه في الحق يكون له عليه في الدنيا بأشد من مجادلة المؤمنين لربهم في إخوانهم الذين أدخلوا النار) فهذا من وفاء أهل الإيمان لإخوانهم، هم يجادلون الله سبحانه وتعالى ويحامون ويدافعون عن إخوانهم الذين تخلفوا عنهم في هذا الموقف، وسقطوا في النار -والعياذ بالله- أشد مما يجادل أحدكم وهو يحاول أن يدافع عن حق كان له في الدنيا.

 

ثم يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (يقولون: ربنا إخواننا كانوا يصلون معنا ويصومون معنا ويحجون معنا ويجاهدون معنا فأدخلتهم النار؟ قال: فيقول: اذهبوا فأخرجوا من عرفتم منهم فيعرفونهم بصورهم؛ لا تأكل النار صورهم فمنهم من أخذته النار إلى أنصاف ساقيه، ومنهم من أخذته إلى كعبيه، فيخرجون منها بشراً كثيراً، فيقولون: ربنا قد أخرجنا من أمرتنا، ثم يعودون فيتكلمون فيقول: أخرجوا من كان في قلبه مثقال دينار من الإيمان، فيخرجون خلقاً كثيراً، ثم يقولون: ربنا لم نذر فيها أحداً ممن أمرتنا، ثم يقول: ارجعوا فمن كان في قلبه وزن نصف دينار فأخرجوه فيخرجون خلقاً كثيراً، ثم يقولون: ربنا لم نذر فيها ممن أمرتنا حتى يقول: أخرجوا من كان في قلبه مثقال ذرة فيخرجون خلقاً كثيراً قال أبو سعيد : فمن لم يصدق بهذا الحديث فليقرأ هذه الآية: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً [النساء:40] قال: فيقولون: ربنا قد أخرجنا من أمرتنا، فلم يبق في النار أحد فيه خير، قال: ثم يقول الله: شفعت الملائكة، وشفعت الأنبياء، وشفع المؤمنون، وبقي أرحم الراحمين قال: فيقبض قبضة من النار أو قال: قبضتين ناساً لم يعملوا لله خيراً قط) يفهم في ضوء الأدلة التي تواترت على أنهم لم يعملوا لله خيراً قط، حتى مثقال ذرة غير موجود، فهؤلاء أقل ممن سبقوهم: (قال: فيقبض قبضة من النار، أو قال قبضتين ناساً لم يعلموا لله خيراً قط، قد احترقوا حتى صاروا حمماً، قال: فيؤتى بهم إلى ماء يقال له الحياة فيصب عليهم، فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل، قد رأيتموها إلى جانب الصخرة إلى جانب الشجرة فما كان إلى الشمس منها كان أخضر، وما كان منها إلى الظل كان أبيض، قال: فيخرجون من أجسادهم مثل اللؤلؤ وفي أعناقهم الخاتم -وفي رواية-: الخواتم مكتوب عليها: عتقاء الله، قال: فيقال لهم: ادخلوا الجنة فما تمنيتم ورأيتم من شيء فهو لكم ومثله معه، فيقول أهل الجنة: هؤلاء عتقاء الرحمن أدخلهم الجنة بغير عمل عملوه ولا خير قدموه، قالوا: فيقولون: ربنا أعطيتنا ما لم تعط أحداً من العالمين، قال: فيقول: فإن لكم عندي أفضل منه فيقولون: ربنا وما أفضل من ذلك؟ فيقول تبارك وتعالى: رضائي عنكم فلا أسخط عليكم أبداً) متفق عليه.

 

يقول الشيخ ناصر الدين: في هذا الحديث فوائد جمة عظيمة منها: شفاعة المؤمنين الصالحين في إخوانهم المصلين الذين أدخلوا النار بذنوبهم، غيرهم ممن هم دونهم على اختلاف قوة إيمانهم، ثم يتفضل الله تبارك وتعالى على من بقي في النار من المؤمنين فيخرجهم من النار بغير عمل عملوه ولا خير قدموه.

 

ولقد توهم البعض أن المراد بالخير المنفي تجويز إخراج غير الموحدين من النار، قال الحافظ في الفتح: ورد ذلك؛ لأن المراد بالخير المنفي ما زاد على أصل الإقرار بالشهادتين، كما تدل عليه بقية الأحاديث.

 

أما قوله: (فحرم الله عز وجل على النار أن تأكل أثر السجود) فقد قال ابن أبي جمرة : فمن لم يكن يصلي لا يخرج من النار؛ لأنه لا علامة له يعرف بها، لكن تعقبه الحافظ رحمه الله تعالى بقوله: إن القبضة التي قبضها الله عز وجل أو القبضتين، ليس لهم علامة يعرفون بها، ومع ذلك أخرجهم الله عز وجل، واستدل بقوله: (لم يعملوا خيراً قط).

 

وقال الشيخ الألباني : وقد ساق الحافظ رحمه الله في هذا الحديث نفسه تعقيباً على ابن أبي جمرة من وجه آخر: وهو أن المؤمنين لما شفعهم الله في إخوانهم المصلين والصائمين وغيرهم في المرات الأولى فأخذوهم من النار بالعلامة، فلما شفعوا في المرات الأخرى وأخرجوا بشراً كثيراً لم يكن فيهم مصلون بداهة، وإنما فيهم من الخير كل بحسب إيمانه.

 

إذاً: الشفاعة الثانية كان فيهم من لم يصل، يقول الشيخ الألباني : وعلى هذا فالحديث دليل قاطع على أن تارك الصلاة إذا مات مسلماً يشهد أن لا إله إلا الله أنه لا يخلد في النار مع المشركين، وفيه دليل قوي جداً أنه داخل تحت مشيئة الله تعالى في قوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48]، كذلك ذكر الشيخ هنا حديث (الدواوين عند الله عز وجل ثلاثة: فأما الديوان الذي لا يغفره الله: فالشرك بالله، قال الله عز وجل: (( مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ ))[المائدة:72] وأما الديوان الذي لا يعبأ الله به شيئاً: فظلم العبد نفسه فيما بينه وبين ربه من صوم يوم تركه، أو صلاة تركها، فإن الله عز وجل يغفر ذلك ويتجاوز عنه إن شاء)، فالشيخ الألباني بنى على حديث الشفاعة -حديث أبي سعيد هذا الذي ذكرناه- وقال: هذا نص قاطع في المسألة ينبغي أن يزول به النزاع في هذه المسألة بين أهل العلم الذين تجمعهم العقيدة الواحدة التي منها: عدم تكفير أهل الكبائر من الأمة المحمدية، وبخاصة في هذا الزمان الذي توسع فيه بعض المنتمين إلى العلم في تكفير المسلمين؛ لإهمالهم القيام بما يجب عليهم عمله مع سلامة عقيدتهم، خلافاً للكفار الذين لا يصلون تديناً وعقيدة، والله سبحانه وتعالى يقول: أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ [القلم:35] * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ [القلم:36].

نتيجة أدلة من لا يكفر تارك الصلاة كسلاً

تلك الأدلة تدل على أن ترك الصلاة -بلا شك- من أكبر الكبائر على الإطلاق، لكن ليس هو كفراً أكبر مخرجاً من الملة؛ لأننا لا يمكن أن نسوي بين من آمن بالرسول عليه الصلاة والسلام إيماناً صادقاً وأيقن أن محمداً عليه الصلاة والسلام رسول من عند الله حقاً وبين من كذب الرسول صلى الله عليه وسلم كاليهودي أو النصراني. فهناك أدلة على عدم تخليد أصحاب الكبائر في النار، وهي تثبت أن تارك الصلاة يعذب بالنار ويستحق ذلك إن شاء الله عز وجل، لكن لا يخلد فيها، ولذلك نجد أن أدلة الفريق الآخر الذي يكفر تارك الصلاة غاية ما فيها أن تارك الصلاة يعذب في النار، لكن يرد عليهم بالقول: فأين الدليل على خلوده؟ فنحن لا نختلف على أنه يدخل النار إذا قدر الله له العذاب. ومن الأدلة التي تؤيد القاعدة العامة التي تقول: إنه ليس هناك من الأعمال الصالحة ما إذا ضيعه الإنسان يخلد في النار قول الله عز وجل:  إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ  [المائدة:72]، ومنها قوله تعالى:  وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ  [البقرة:39]، ومنها قوله تعالى:  بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ  [البقرة:81] وغير ذلك من الأدلة العامة التي تدل على تكفير مرتكب الشرك، أما من ارتكب الكبائر خلا الشرك فإنه لا يكفر إلا إذا استحلها. ومن ذلك -أيضاً- قوله تبارك وتعالى:  ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ  [فاطر:32] فقوله: (فمنهم ظالم لنفسه) هم أصحاب الكبائر. فيدل هذا على عدم كفره؛ لأنه داخل في الذين اصطفاهم الله، وإن كان قد يعذب. وهناك جملة كبيرة من النصوص التي فيها وصف أفعال معينة بالكفر، والكفر فيها ليس كفراً أكبر، ولكنه كفر دون كفر، والآيات في هذا كثيرة جداً والأحاديث في هذا كثيرة. ......

 

أدلة من يكفر تارك الصلاة مطلقاً والرد عليها

استدل القائلون بكفر تارك الصلاة بقول الله عز وجل:  فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ  [التوبة:11] فقالوا: اشترط الله تعالى لثبوت الأخوة بيننا وبين المشركين ثلاثة شروط: الأول: أن يتوبوا من الشرك. الثاني: أن يقيموا الصلاة. الثالث: أن يؤتوا الزكاة. أما إذا تابوا من الشرك ولم يقيموا الصلاة ولم يؤتوا الزكاة فليسوا بإخوة لنا، ولا تنتفي أخوة الدين إلا بالشيء الذي يخرج من الملة، بدليل أن بعض المعاصي لم تنتف بها -رغم وقوعها- أخوة الدين، كقوله تبارك وتعالى في القصاص:  فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ  [البقرة:178] إذاً: لا تنتفي أخوة الدين مع وجود القتل الذي هو كبيرة من الكبائر، فدل على أنها ليست كفراً. وكذلك -أيضاً- قوله تعالى:  إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ  [الحجرات:10] وهذا في فئتين متقاتلتين، ومع ذلك بقيت أخوة الإيمان مع وجود القتال. فالأخوة في الدين لا تنتفي إلا بما يخرج من الملة، وهنا قاعدة، وهي أن ما علق على شرطين لا يتحقق بواحد منهما، وما علق على ثلاثة لا يتحقق باثنين أو واحد منها، وهكذا هنا، قالوا: قال الله تعالى: (فإن تابوا) يعني: من الشرك (وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين)، فإن افتقد واحد من هذه الشروط الثلاثة، فإنهم لا يكونون إخوة لكم في الدين. وأما الفريق الذي لا يكفر تارك الصلاة فقد ردوا على هذا وقالوا: إذا تابوا من الشرك وأقاموا الصلاة ولم يؤتوا الزكاة هل يكونون كفاراً؟ وهل تنقطع أخوة الدين بناء على هذا الكلام؟ قالوا: لا؛ إذ عندنا أدلة تدل على أن تارك الزكاة لا يكفر، وهو أنه ورد في وعيد تارك الزكاة أنه يصور له ماله شجاعاً أقرع إلى آخر الحديث، وفي آخر الحديث قال عليه الصلاة والسلام: (ثم يرى سبيله إما إلى جنة وإما إلى نار) فبعد أن يعذب هذا العذاب يرى سبيله إما إلى جنة وإما إلى نار، فهذا يدل على أن تارك الزكاة لا يكفر لمجرد تركها. وردوا كذلك على هذا الاستدلال بأن منطوق هذه الأدلة التي ذكرناها آنفاً يدل على أن تارك الصلاة لا يخرج من الملة، وهذا المنطوق يقدم على مفهوم هذه الآية، فالله تعالى يقول:  فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ  [التوبة:11] فمنطوق هذه الآية أن من تاب من الشرك وأقام الصلاة وآتى الزكاة فإنه يكون أخاً لنا في الدين مسلماً، أما المفهوم فهو: أن من ترك هذه الثلاثة أو شيئاً منها فليس أخاً لنا. فالتعارض هو بين مفهوم الآية ومنطوق النصوص أو الأحاديث التي ذكرناها من قبل التي تدل على عدم كفره، وعند تعارض المنطوق مع المفهوم يقدم المنطوق. وكما لا يكفر تارك الزكاة تقديماً لمنطوق حديث: (ثم يرى سبيله إما إلى جنة وإما إلى نار) على مفهوم هذه الآية، فكذلك يقدم منطوق النصوص الدالة على عدم كفر تارك الصلاة على مفهوم هذه الآية. فتكون كلمة (فإخوانكم في الدين) في شأن الشرك محمولة على أصل الأخوة، أما في إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة فتحمل على كمال الأخوة في الدين، يعني: ليسوا إخواننا إخوة كاملة، بل ناقصة. الدليل الثاني: استدلوا بقوله تعالى:  فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً * إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً  [مريم:59-60] فقالوا: قوله تعالى: (إلا من تاب وآمن) دل على أنهم حين إضاعتهم للصلاة واتباع الشهوات ليسوا مؤمنين؛ لأن الآية تقول: (إلا من تاب وآمن) فدل ذلك على أن تارك الصلاة غير مؤمن؛ لأن توبته مرتبطة بالإيمان. والجواب أن قوله تعالى: (إلا من تاب وآمن) معناه: لو تاب وداوم وثبت على إيمانه. كما في قوله تعالى:  يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ  [النساء:136] أي: داوموا على إيمانكم. لأنه خاطبهم بصفة الإيمان. فيكون معنى قوله: (إلا من تاب وآمن) أي: آمن إيماناً كاملاً بشروعه في الصلاة. والدليل على إبطال احتمال أن قوله تعالى: (إلا من تاب وآمن) قصد به الدخول في أصل الإيمان وأنه مشرك بتضييعه للصلاة أنه لم يكتف بكلمة (إلا من تاب) لأن التوبة ستشمل الكفر وتشمل المعاصي، لكنه لم يكتف بها ولم يقل: (تاب) فحسب كما قال سبحانه وتعالى في الكافرين:  فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ  [التوبة:74] ولم يقل: فإن يتوبوا ويؤمنوا. مع أن الله سبحانه وتعالى ذكر في حق المنافقين أنهم كفروا بعد إسلامهم، فتوبة الكافر هي إيمانه، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام لرجل قال له: أقاتل ثم أسلم، أم أسلم ثم أقاتل؟ قال له: ( أسلم ثم قاتل)، ولم يقل له: تب وأسلم. أو: تب وآمن ثم قاتل. لكنه قال: (أسلم). وفي حديث معاذ قوله عليه الصلاة والسلام: (إنك تأتي قوماً أهل كتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإن هم أطاعوا لذلك فأخبرهم...) إلى آخر الحديث، فقال: (فادعهم إلى أن يشهدوا) ولم يقل: إلى أن يتوبوا. وقال عليه الصلاة والسلام لـهرقل : (أسلم تسلم)، وقال الله عز وجل حاكياً عن الوالدين يعظان ابنهما:  وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ  [الأحقاف:17]. فالشاهد من هذا كله أن المقصود من كلمة (آمن) أي: دخل في تمام الإيمان وكماله. وقد أولنا كلمة (آمن) عن معناها الحقيقي -وهو الدخول في أصل الإيمان- إلى المعنى المجازي -وهو تمام الإيمان وكماله- القرينة، فقوله تعالى: (إلا من تاب وآمن) أي: إيماناً كاملاً. والقرينة التي جعلتنا نصرف كلمة (آمن) عن معناها الحقيقي هي الأدلة التي تدل على أن تارك الصلاة كسلاً لا يكفر كفراً مخرجاً من الملة، وليس المقصود بذلك أصل الإيمان، بل كماله. الدليل الثالث: قوله تعالى:  أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ * أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ * إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا يَتَخَيَّرُونَ * أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ * سَلْهُم أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ * أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ * يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ  [القلم:35-43] فقوله تعالى: (أفنجعل المسلمين كالمجرمين) يفهم منه: أنه لا يليق بحكمة الله أن يجعل المسلمين كالمجرمين، فبين تبارك وتعالى حال هؤلاء المجرمين أنهم يوم القيامة عندما يكشف عن ساق -كما بين ذلك الحديث الصحيح- ويدعون إلى السجود يحال بينهم وبين السجود عقوبة لهم على ترك السجود مع المصلين في دار الدنيا، قال تعالى: (ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة وقد كانوا يدعون) أي: في الدنيا (إلى السجود وهم سالمون) فيمتنعون من الصلاة، فلذلك يؤاخذون بذلك، فيفهم من هذا أنهم يكونون مع الكفار والمنافقين؛ لأن المنافقين ستبقى ظهورهم إذا سجد المسلمون كالطبق الواحد لا يستطيعون السجود، فلو كانوا من المسلمين لأذن لهم بالسجود كما أذن للمسلمين. والجواب على هذا الاستدلال أن الآية لم تتعرض لخلودهم في النار حتى تدل صراحة على كفرهم، وتعجيزهم عن السجود لا يستلزم دخولهم النار؛ لأن هذا في موقف من مواقف يوم القيامة، ولو افترضنا أنه يستلزم دخولهم النار، فهل دخول النار يستلزم الخلود فيها؟ والجواب أنه لا يستلزم الخلود فيها إذا دخلوها. أما قولهم: لو كانوا من المسلمين لأذن لهم بالسجود كما أذن للمسلمين، فجوابه أن هذا غير مسلَّم؛ لأن عدم الإذن لهم بالسجود ربما لأنهم كانوا لا يسجدون لله في الدنيا فعوقبوا بمنعهم من السجود في الآخرة، أو كانوا يسجدون في الدنيا رياء لا لوجه الله، فعوقبوا بحرمان السجود في الآخرة مع المؤمنين. وأما في الحديث فيقول عليه الصلاة والسلام: (فيكشف عن ساق، فلا يبقى من كان يسجد لله من تلقاء نفسه إلا أذن الله له في السجود، ولا يبقى من كان يسجد اتقاء ورياء إلا جعل الله ظهره طبقة واحدة، كلما أراد أن يسجد خر على قفاه...) إلى آخر الحديث، والسجود رياء لا يستلزم الخروج من الملة بالكلية. إذاً: عدم الإذن بالسجود لا يستلزم أن يكون غير المأذون لهم كافرين، ثم إن الآيات لم تذكر أنهم لو دخلوا النار يكون خالدين فيها أو غير خالدين. الدليل الرابع: استدلوا بقوله تعالى:  كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلاَّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ * عَنْ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ * فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ  [المدثر:38-48] فاستدلوا هنا بقوله تعالى: (في جنات يتساءلون عن المجرمين ما سلككم في سقر) قالوا: المجرمون تطلق في القرآن على الكافرين بدليل قوله: أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ [القلم:35] كذلك أيضاً يقول تعالى: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ [القمر:47] * يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ [القمر:48] كذلك أيضاً يقول تعالى: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ [المطففين:29] فجعل المجرمين ضد المؤمنين المسلمين.

 

أجاب الفريق الآخر عن هذا: بأن الآيات ذكرت أنهم يكونون في سقر: (ما سلككم في سقر) وأنهم يعذبون بها، لكن لم تتعرض الآيات للخلود فيها.

 

كذلك أيضاً وصفهم بالإجرام لا يستلزم أن يكون إجراماً أكبر، الذي يقال له: الشرك، وإنما يكون الإجرام منطبقاً على الكفر والشرك والنفاق والجهل وغير ذلك، فنقول: إجرام دون إجرام؛ حتى نجمع بين الأدلة التي فيها وصفهم بالمجرمين، فهو إجرام دون إجرام، والصارف عنه الذي هو إجرام والصارف هنا من الإجرام الأكبر إلى الأصغر هو عموم الأدلة التي ذكرناها واستدل بها العلماء على عدم تكفير تارك الصلاة.

 

الدليل الخامس: قوله تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [النور:56] قالوا: علق حصول الرحمة بهذه الأمور، أي: أنهم لا يرحمون إلا إذا أتوا بهذه الأشياء: (أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول) فلو كان ترك الصلاة لا يوجب تكفيرهم وخلودهم في النار لكانوا مرحومين بدون فعل الصلاة، والرب تعالى إنما جعلهم على رجاء الرحمة إذا فعلوها.

 

الجواب على هذا: أن هذا الاستدلال كان يمكن أن يكون استدلالاً صحيحاً إذا لم يرد في الباب أدلة قوية أخرى تدل على جواز أن تنالهم الرحمة، كحديث أبي سعيد الذي ذكرناه في الشفاعة وغيرها من الأحاديث، فهذه الآية دالة بمفهومها على عدم رحمتهم إذا لم يصلوا، ودالة بمنصوصها على رجاء الحصول على رحمة الله لمن أقام الصلاة وآتى الزكاة وأطاع الرسول، لكن إذا تعارض مفهوم الآية مع منطوق هذه الأحاديث الكثيرة التي ذكرناها، والتي تدل على أنه تناله الرحمة، فأيهما يقدم؟ يقدم منطوق الأحاديث الدالة على عدم تكفيره على مفهوم هذه الآية.

 

موضوع تقديم المنطوق على المفهوم إذا أمكننا الجمع فلا نحتاج إلى الترجيح، والجمع هنا ممكن بأن نقول: إن المقصود: (لعلكم ترحمون) هنا الرحمة الواسعة العالية التامة الشاملة، التي تكون سبباً لدخول الجنة بدون سابقة عذاب، أما الأدلة الأخرى فتدل على أن تارك الصلاة يرحم بعد أن يعذب في النار فترة، فهو يرحم رحمة تنجيه، لا تنجيه من دخول النار، لكن تنجيه من الخلود في النار، فبهذا نجمع بين هذه الأدلة.

 

فأدلة عدم تكفير تارك الصلاة تدل على أنه لا يخلد فيها، وهذه الأدلة تدل على أن من أقام الصلاة وآتى الزكاة وأطاع الرسول يرحم رحمة واسعة شاملة، بحيث لا يعذب ولا يسبق نعيمه عذاب.

 

الدليل السادس قول الله تبارك وتعالى: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ [الماعون:4] * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ [الماعون:5] قال مصعب بن سعد لأبيه: (يا أبتاه أرأيت قول الله: (الذين هم عن صلاتهم ساهون) أينا لا يسهو؟ أينا لا يحدث نفسه؟ قال: هم الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها) وقال محمد بن كعب : هو تاركها.

 

وقال المفسرون: اقترن الوعيد بالويل في القرآن غالباً بالكفار، مثل قوله تعالى: وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ [فصلت:6] * الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ [فصلت:7] الزكاة قد تكون الزكاة الاصطلاحية المعروفة، وقد تكون الزكاة التي بمعنى تطهير النفوس من الكفر والشرك.

 

ومنها قوله تعالى: وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ [الجاثية:7] * يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا [الجاثية:8] إلى آخر الآية، لكن هذه في الحقيقة تخالف هذا الافتراض المزعوم؛ لأن الويل هنا ورد في حق أشياء ليست من جنس الصلاة، منها قوله تعالى: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ [المطففين:1] * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ [المطففين:2] * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ [المطففين:3] فهذه الكلمة تدل على أن هذا الفعل من كبائر الأمور، كذلك قوله: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ [الهمزة:1] فعلق الويل بالتطفيف والهمز واللمز، وهذا لا يكفر.

 

فإذاً: نحن في الوعيد والويل الذي يستحقه تارك الصلاة، (فويل للمصلين) (الذين هم عن صلاتهم ساهون) هذا الويل إما أن يلحق بويل الكفار، وإما أن يلحق بويل الفساق.

 

قال المفسرون: الأول أولى؛ لأن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: (لو تركوها لكانوا كفاراً ولكن ضيعوا وقتها).

 

أجاب الذين لا يكفرون تارك الصلاة عن هذا الاستدلال وقالوا: إذا تأملنا الآية نجد أن هؤلاء كانوا يصلون: (فويل للمصلين) لكنهم كانوا يخرجون الصلاة عن وقتها أو يسهون عنها.

 

فقالوا: فالجمع بين الأدلة يقتضي إلحاق ويل لتارك الصلاة لغير الفساق والكافرين؛ لأن الأدلة التي ذكرناها على عدم تكفير تارك الصلاة ترجح جانب أن الويل هو من نوع ويل المطففين وويل كل همزة لمزة، وليس هو بويل للمشركين.

 

ثم قالوا: يحتمل أن يكون الويل للكافرين أو للفاسقين، لكن ما الذي رجح الثاني؟ الذي رجح الثاني الأدلة التي ذكرناها التي تدل على أنه ليس كافراً، وإنما هو هنا من نفس ويل المطففين والهمزة واللمزة.

 

أما قول سعد : (لو تركوها لكانوا كفاراً)، فهذا موقوف على سعد في مسألة اجتهادية مختلف فيها، ثم إن الويل هنا ذكر للاحتمال: (ويل للمصلين) (الذين هم عن صلاتهم ساهون) أي: يحتمل أن يكون ويلاً مثل ويل الكفار، ويحتمل أن يكون ويلاً مثل ويل الفساق، فالدليل متى طرأ عليه الاحتمال بطل به الاستدلال.

 

كذلك لو قلنا: إن تارك الصلاة يستحق الويل، هل هذا يدل على كفره؟ لا يدل على كفره إلا إذا اقترن به الخلود في هذا الويل.

 

الدليل السابع: قوله تبارك وتعالى: فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى [القيامة:31] * وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى [القيامة:32] قالوا: إن الإسلام عبارة عن تصديق الخبر والانقياد بالأمر.

 

فما ضد تصديق الخبر؟ التكذيب، فكما يزول الإسلام بالتكذيب كذلك يزول بالتولي عن الصلاة من باب المقابلة: (فلا صدق ولا صلى ولكن كذب وتولى) فكذب عكس صدق، أي: أنه لم يصدق ولكنه كذب.

 

(ولا صلى) مقابلتها تولى، (ولكن كذب وتولى) فإذاً التولي عن الصلاة تكذيب أو مثل التكذيب.

 

الجواب: أننا لا نسلَّم أن التولي الذي هو ترك الصلاة مخرج من الإسلام كالتكذيب، أما التكذيب فإنه يخرج من الملة بلا خلاف، أما ترك الصلاة فلا نسلم أنه يخرج من الإسلام؛ لأن الله تبارك وتعالى قال: إِلاَّ مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ [الغاشية:23] والعكس يقتضي المغايرة فدل على أن التولي يمكن أن يكون خلاف الكفر.

 

إذاً: ممكن تأتي نصوص أخرى لقوله: (تولى) يكون فيها دلالة على الكفر، لكن لو سلمنا أن التولي عن الصلاة تكذيب بمعنى الكفر لأمكن الجمع بين ذلك وبين أدلة عدم التكفير، فيحمل على أنه كفر دون كفر.

 

الدليل الثامن: من هذه الأدلة أيضاً قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ [المنافقون:9] قال عطاء : هي الصلاة المكتوبة، فهنا حكم عليه بالكفران المطلق أي: أن كل من ألهاه ماله أو ولده عن الصلاة فيحكم عليه بالكفر.

 

(فأولئك هم الخاسرون) وهذا لا يكون إلا في حق الكفار.

 

فالجواب: أن الكفار يوصفون بالأكثرية صفة أفعل، كما قال تعال في الكافرين: لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمْ الأَخْسَرُونَ [هود:22]، وقال تعالى: وَهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمْ الأَخْسَرُونَ [النمل:5] فهذا يدل على زيادة خسران الكافر على خسران تارك الصلاة، فهناك فرق بين الخسرانين، فهذا الذي تلهيه أمواله وأولاده عن ذكر الله قال الله عنه: (ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون) أما الكفار فقال الله في شأنهم: (وهم في الآخرة هم الأخسرون) فيدل على زيادة خسران الكافر عن خسران تارك الصلاة.

 

الدليل التاسع: بقوله تعالى: إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا [السجدة:15] مثل قوله تعالى: وَأَقِمْ الصَّلاةَ لِذِكْرِي [طه:14] خَرُّوا سُجَّدًا [السجدة:15] اقترن السجود بالتذكير: وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ [السجدة:15] فقالوا: إن من أعظم التذكير، التذكير بآيات الصلاة، فمن ذكر بها ولم يتذكر ولم يصل فهذا يدل على أنه لم يؤمن بها، وأنه سبحانه خص المؤمنين بها وأنهم: (إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها) إذا ذكروا بالصلاة يسجدون لله تبارك وتعالى، فالذي لا يفعل هذا فلا يكون مؤمناً بآياتنا فيكون كافراً.

 

فالجواب عن هذا الاستدلال: أن الآية محمولة على نفي كمال الإيمان لا على نفي الإيمان المطلق المؤدي إلى خروجه من الملة، على سبيل الجمع بين الأدلة.

 

الدليل العاشر: قوله تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ [المرسلات:48] * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ [المرسلات:49]، واستدلوا بقوله: كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ [المرسلات:46].

 

فأجيب عن ذلك: بأن الوعيد بالويل لا يستلزم الخلود في النار.

 

أما أدلة السنة فكثيرة منها: قوله عليه الصلاة والسلام: (إن بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة) هذا رواه مسلم .

 

ومنها: قوله عليه الصلاة والسلام: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر).

 

وهذا يجاب عنه: بأن الفعل يوصف أحياناً بأنه كفر، لكن لا يكون كفراً مخرجاً من الملة وإنما يكون كفراً دون كفر، والأدلة على ذلك كثيرة كما في قوله صلى الله عليه وسلم في وصف القتال: (سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر)، ومع ذلك قال: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ [البقرة:178].

 

كذلك القتال بين المؤمنين: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا [الحجرات:9]وقال مع ذلك: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ [الحجرات:10] فهذا يدل على وجود ودوام الأخوة في الإيمان مع وقوع الاقتتال، وكذلك في مثل قوله عليه الصلاة والسلام: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض) فهو كفر دون كفر.

 

والحمد لله رب العالمين.

 

الشبكة الإسلامية

 موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

 

ربما يهمك أيضاً

رسالة من غريق
1906 ١٢ يناير ٢٠١٧
آداب التخلي -3
2390 ٠٨ ديسمبر ٢٠١٦
آداب التخلي -2
1862 ٠١ ديسمبر ٢٠١٦
البيع بالتقسيط
2842 ١٧ نوفمبر ٢٠١٦
السيرة البازية
1479 ١٠ نوفمبر ٢٠١٦