الخميس، ١٠ شوال ١٤٤٥ هـ ، ١٨ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

الولاء والبراء -12

الإكراه

الولاء والبراء -12
عبد المنعم الشحات
الأربعاء ٢٧ يناير ٢٠١٦ - ١٣:٠٢ م
1566

الولاء والبراء (12)

عبد المنعم الشحات

شرعنا في المرة السابقة في الكلام على الإكراه وذكرنا مناسبته للباب وأنه يدخل عمومًا في كل الأبواب الشرعية فمتى أكره الإنسان على ترك واجب أو فعل محرم فإن هذا عذر شرعي لكن لا بد أن يقدر بقدر وان يضبط بضوابطه ولما كان باب الموالاة من الأبواب التي يدعى فيها الإكراه بغير أن يكون هذا ذلك إكراهًا معتبر شرعًا لزم أن يذكر الإكراه هنا وأن يذكر ضوابطه وذكرنا أن باب الإكراه فرع على أحد الأبواب الشرعية العظيمة على أحد الأبواب الشرعية العظيمة وهو باب المصالح والمفاسد ودفع أكبر المفاسد بارتكاب أدناها فإذا تعارضت مصلحتان قدمت أولهما وإذا تعارضت مفسدتان دفعت أكبرهما فمتى غلب على الظن وجود ضرر وأمكن دفعه بضرر أقل منه فإنه يشرع هذا على اختلاف درجة المشروعية كما بينا في المرة السابقة ويتفرع على هذا باب الاضطرار وهو إذا اضطر الإنسان لارتكاب محظور أدنى لدفع محظور أكبر فيضطر لأكل ميتة فيها ضرر على البدن ولكنه ضرر يمكن احتمال لدفع الموت عن نفسه فضرر أكل الميتة كضرر المرض وهو دون ضرر الموت بكثير فيشرع له أكل الميتة وشرب الخمر أو غير ذلك.

ذكرنا أن  قاعدة العذر عند الضرورة أو أن الضرورات تبيح المحذورات فرع على قاعدة المصالح والمفاسد ومن باب الضرورات الإكراه والمسألة هنا أخص من الاضطرار فالإكراه يوجد فيه طرف مكرِهٌ يهدد بإيقاع العقوبة، وقلنا أن باب الإكراه كله مبني على التهديد بإيقاع العقوبة، لأنه إما أن يهدد فيغلب على الظن صدقه فيكون مبنى الأمر على التهديد وإما أن يشرع في العقوبة ويغلب على الظن أنه يستمر فيها فالقضية أيضًا هي التهديد بما سيتجدد من العقوبة وإلا فما مضى من العقوبة لا يعد إكراهًا فلو فعل ما هدد به فقد وقع الضرر وإنما يدفع الضرر المنتظر  حصوله بالإكراه، وقد ذكرنا أن الحافظ ابن حجر ذكر شروطًا للإكراه هي مستفادة من معنى الإكراه لغة وشرعًا [وهي:]      

غلبة الظن بأن الضرر سيقع ومع اعتبار جميع الشروط الذي ذكرها أن لا يكون مختارًا يظهر منه ما يدل على اختياره، وبقية الشروط تكون على غلبة الظن ثم بعد ذلك يوازن بين الضرر الذي سيقع وبين الضرر المطلوب فعله كما لو قيل له: اقتل نفسك وإلا جلدتك، وقتل النفس أعظم من الجلد فهذا لا يعد إكراه وبهذا يتبين أنه لا بد من الموازنة بين الفعل المكره عليه وبين العقوبة المتوقعة وقد تتفاوت المسألة فتكون بعض المسائل فيعتبر الإكراه على فعل ولا يعتبر على فعل شيء آخر فهذه لأهم المسائل في الباب وكنا قد انتهينا منها بفضل الله تبارك وتعالى وربما بقي مزيد تفصيل وتوضيح لهذه القضية.

يقول: «هل يصح الإكراه على القول والفعل أم القول فقط؟»

الأصول التي ذكرناها تقتضي أن الإكراه يصح على القول والفعل ولكن لأن بعض العلماء قال باقتصاره على القول فقط ناسب أن تبحث المسألة ومن قال باقتصاره على القول فقط إنما أخذ هذا من أثار لو تمعن فيها لوجدنا أن لا تدل على أن الإكراه يكون على القول فقط بل هي دليل على ما ذكرناه من الموازنة بين الفعل المكرَه على فعله وبين العقوبة وأشهر ما استدلوا به قول ابن مسعود: «ما من كلام يدرأ عني سوطين من ذي سلطان إلا كنت متكلمًا به» وأراد أن يبين أن يوسف -عليه السلام- أكره على الزنا وهدد بالسجن فرضي بالسجن ولم يزنِ بينما لو أن الكلام كلمتين يرضي بهما ظالم فلو كانت العقوبة سوطين لقال الكلمتين ليدرأ عنه السوطين ولا أن القول مختلف عن الفعل ولكن ربما يكون القول في كثير من الأحيان أهون فيمكن أن يدرأ الإنسان عن نفسه العقوبة اليسيرة لو كان المطلوب منه أن يقول قولًا ويرحل ونحو هذا.

يقول القرطبي : في «تفسيره»: «ذهبت طائفة من العلماء إلى أن الرخصة إنما جاءت في القول، وأما في الفعل فلا رخصة فيه، مثل أن يكرهوا على السجود لغير الله أو الصلاة لغير القبلة»

قلنا أن هذا ربما ذهب بعضهم إليه للحديث الوارد عن سلمان قال: «دخل رجل الجنة في ذباب ودخل رجل النار مر رجلان على قوم قد عكفوا على صنم لهم وقالوا: «لا يمر علينا اليوم أحد إلا قدم شيئا» فقالوا لأحدهما: «قدم شيئا» فأبى فقتل وقالوا للآخر: «قدم شيئا» فقالوا: «قدم ولو ذبابا» فقال: وإيش ذباب؟! فقدم ذبابا فدخل النار فقال سلمان: «فهذا دخل الجنة في ذباب ودخل هذا النار في ذباب». الحديث ضعيف فلا حجة فيه وعلى فرض صحة فيجاب عنه أحد جوابين لأن أدلة العذر بالإكراه أظهر ويمكن الجمع إما أن يقال أن الرجل الذي قرب كان راضيًا فليس في هذا الحديث أنه كان ساخطًا أن يقرب وإنما قال : «لا أجد شيئًا» فلما دفعوا له شيء حقير فقربه مع أن ظاهر القصة يوحي أن هذا فيه إكراه لكن ليس تصريحًا وما دام أنه ليس صريحًا في كونه إكراه فلو كانت القصة صحيحة بقي أنها غير صريحة فما بالك والقصة ليست صحيحة ولا صريحة كما يحدث في بعض الأبواب أن نقول الدليل الصحيح ليس صريحًا والصريح ليس صحيحًا فما بلك بهذه القصة التي ليست صحيحة ولا صريحة فالدفع الأول بأنها ليست صحيحة والدفع الثاني بأنها ليست صريحة وبالتالي لا تناقض الأدلة الثابتة على فرض صحتها وصراحاتها لكانت دليلًا قاطعًا على أن العذر بالإكراه من خصائص هذه الأمة ولكن يبقى لأن القصة غير صحيحة ولا صريحة مسألة العذر بالإكراه هل هي من خصائص هذه الأمة أم لا؟ محل اجتهاد ونظر بين أهل العلم إذن فهذا الدليل ليس فيه شيء.

قال: «مثل أن يكرهوا على السجود لغير الله أو الصلاة لغير القبلة، أو قتل مسلم أو ضربه أو أكل ماله، أو الزنى وشرب الخمر وأكل الربا، يروى هذا عن الحسن البصري -رضي الله عنه-».

قلنا أن قتل المسلم لا يجوز ليس من باب أنه فعل وإنما من باب أنه أعلى مفسدة ممكنة فبماذا يدرأها؟! أيدرأ عن نفسه القتل بقتل؟! إن كل عقوبة يهددونها بها لا بد أن تكون أدنى من هذه المفسدة وكذا الاعتداء على عرضه وأما ضربه فينظر في الضرب فالأذى البالغ من الجلد ونحوه لا يجوز من باب حرمة المسلم ومن باب أنه لا يوفر نفسه بالاعتداء على أخيه، أما الضرب اليسير أو أكل المال فهذا فيه نظر.

يقول: «أو الزنى» وذكرنا التفصيل فالزنى من له حرمة كمسلم أو معاهد أو ذمي ولا يرضى  بالفعل به فهذا لا يجوز إجماعًا وأما غير ذلك فيجوز «وشرب الخمر» قلنا أن الظاهر في شرب الخمر أن فيها إكراه «وأكل الربا» هذا أيسر من باب أنهم يقولون له: التزم أن الألف بألف ومائة والربا إنما حرمه الله لما فيه من قطع الأوصال والظلم فإذا كان مدار الباب على الظلم المحض فدفع ظلم أكبر بهذا الظلم من باب أولى.

يقول: «يروى هذا» أي هذا الأقوال في أنه لا رخصة في الإكراه على الفعل «عن الحسن البصري -رضي الله عنه- وهو قول الأوزاعي وسحنون من علمائنا» من علماء المالكية.

يقول: «وقال محمد بن الحسن« صاحب أبي حنيفة «إذا قيل للأسير اسجد لهذا الصنم وإلا قتلتك فقال: إذا كان الصنم مقابل للقبلة فليسجد ويكون نيته لله تعالى وإن كان لغير القبلة فلا يسجد وإن قتلوه» فهو يفرق بين الحالات التي يمكن أن يكون لها تأويل في نفسه كأن يكون الصنم في تجاه القبلة فيسجد وينوي السجود لله وإلا فلا يقول: «والصحيح أنه يسجد وإن كان لغير القبلة، وما أحراه بالسجود حينئذ، ففي الصحيح عن ابن عمر م قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصلي وهو مقبل من مكة إلى المدينة على راحلته حيث كان وجهه، قال: وفيه نزلت ﴿تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ﴾ [البقرة: 115] في رواية: «ويوتر عليها، غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة».

فإذا كان هذا مباحا في السفر في حالة إلا من لتعب النزول عن الدابة للتنفل فكيف بحالة هذا المكره؟» يقول: أنه لو كانت المسألة في أن تكون النية لله فلينوي ذلك في القبلة وفي غير القبلة، فكأن محمد بن الحسن ذهل أن هناك سجود لله إلى غير القبلة بل سيأتي في باب سجود الشكر وسجود التلاوة أن بعضهم اشترط السجود لغير القبلة والراجح اشتراطها لكن المقصود أن المسألة لها نظائر في الشرع لو كان الأمر يتعلق بكون النية بالسجود لله مع أن العذر أعم من ذلك.

يقول: «واحتج من قصر الرخصة على القول بقول ابن مسعود: «ما من كلام يدرأ عني سوطين من ذي سلطان إلا كنت متكلما به». فقصر الرخصة على القول ولم يذكر الفعل، وهذا لا حجة فيه» فليس في كلام ابن مسعود -رضي الله عنه- أنه لا رخصة في الفعل إنما قال أن الرخصة في القول فبعض العلماء يفهم معنى قوله: «هناك رخصة في القول» بأنه ليس هناك رخصة في الفعل وهذا يسمى «مفهومًا» أي مفهوم الكلام، ومنطوقه أن هناك رخصة في القول، وباب المفهوم بصفة عام باب شائك جدًا ولا يجوز العمل بكل مفهوم جزمًا وإلا أدى إلى الكفر فلو قلت: «محمد رسول الله» فإذا جعلت لها مفهومًا أصبح المعنى أن غيره ليس رسولًا لله وهذا كفر والعياذ بالله إذن فمن المعلوم جزمًا أن باب المفهوم عليه قيود لدرجة جعلت بعض العلماء لا يحتج بالمفهوم مطلقًا لكن الظاهر أن مرجع المسألة إلى القرائن هل قصد المتكلم المفهوم أم لا؟ فهذا يفهم من سياق الكلام ككلام ابن مسعود هناك عن الإكراه: «ما من كلام يدرأ عني سوطين من ذي سلطان إلا كنت متكلمًا به» إذن فهذا الكلام لم يكن في معرض الكلام على القول والفعل وإنما أعطى مثالًا فكون المثال خرج على القول فهذا لا يعني على أنه تعرض  أو كان يقصد منع الفعل.

لكن مر بنا في الفقه حديث: «إذا الماء قلتين لم يحمل الخبث» وإن كان هذا مختلف في مفهومه بين الفقهاء هل يعمل به أم لا؟ لكن قلنا أن من عمل بالمفهوم قوى المفهوم من جهة أنه كان هناك سؤال عن الماء وما يرد عليه من السباع فقال لهم إذا هذا الماء الذي يرد عليه السبع ولعاب السبع نجس كما ذكرنا فيشرب من الماء فيختلط لعابه به فقال لهم: «إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث» يعني أنتم تسألون عن ماء كثير أكثر من قلتين وهذا الماء لا يحمل الخبث فقال الشافعية والحنابلة: العمل بالمفهوم هنا قوي لأنه ذكر القلتين قصدًا مع أنه لم يكن له أي [ذكر في] سياق الكلام فكأنه يقول لهم هذا الماء الذي بلغ هذا الحد من الكثرة لا يضره فعلم أن ما دونهما يحمل الخبث أو يضره ومع ذلك فالمالكية لا يعملون بهذا المفهوم ويعتبرون هذا الحديث لا مفهوم له وعمومًا فباب المفهوم باب شائك المرجع فيه إلى القرائن فلما قال المتكلم: حضر فلان الدرس، وكان جوابه في معرض السؤال عمن حضر الدرس فقال : فلان وفلان وفلان ثم سكت ففي هذه الحالة يعد نعتبر أن المسكوت عنه لم يحضر فهنا يكون للمفهوم قوة لكن إذا كنت تسأله: هل رأيت فلانًا؟ فقال لك: فلان حضر الدرس فهو إذن لم يتعرض لغيره ولا يتصور أنه كان وهو يقول هذه الكلمة يعني أن لها مفهومًا وأنه يتعرض للكلام على غيره إذن كلام ابن مسعود -رضي الله عنه- من الواضح من هذا السياق أنه لم يقصد المفهوم فهو يقرر منطوق كلام وهذا الكلام على المفهوم في كلام الله -عز وجل- وكلام رسوله -صلى الله عليه وسلم- أما في حق غيرهما فقد يكون ذهل أن يكون في الكلام مفهومًا أصلًا لكن هذا لا يكون في الوحي ويمكن أن يكون في كلام الناس بحيث أنه يمكن أن لا يتطرق إلى ذهنه أنها تفيد هذا الكلام الحاصل أن الظاهر من كلام ابن مسعود -رضي الله عنه- أنه لا مفهوم له للقرائن التي تدل على أنه يعطي مثالًا على قول معين يسير يهدد عليه بعقوبة يسيرة فيدرأ هذه العقوبة اليسيرة بهذا الأمر اليسير والأقرب فيه أن يحتج به على قاعدة الموازنة بين العقوبة وبين الفعل لأن الباب كله مبني على درء المفاسد.

يقول الإمام القرطبي: «فقصر الرخصة على القول ولم يذكر الفعل، وهذا لا حجة فيه، لأنه يحتمل أن يجعل الكلام مثالا وهو يريد أن الفعل في حكمه» وهذا أقرب الاحتمالات وهو أن يجعل الكلام مثالًا.

قال: «وقالت طائفة: الإكراه في الفعل والقول سواء إذا أسر الإيمان.

روى ذلك عن عمر بن الخطاب ومكحول، وهو قول مالك وطائفة من أهل العراق.

روى ابن القاسم عن مالك أن من أكره على شرب الخمر وترك الصلاة أو الإفطار في رمضان، أن الإثم عنه مرفوع».

يقول [الشيخ ياسر]: «قال القرطبي :: «واختلف العلماء في حد الإكراه، فروى عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنه قال: ليس الرجل آمن على نفسه إذا أخفته أو أوثقته أو ضربته».

حد الإكراه أي الوصف الذي تسمى الحالة عنده إكراهًا.

وهذه أمثلة لأمور تعد إكراهًا «إذا أخفته» أي هددته بالعقوبة كما ذكرنا لأن الباب كله مبني على التهديد بالعقوبة ولكن كما ذكرنا قد تقع العقوبة فبل أن يمتثل المكرَهُ أمر المكرِهِ أو غلب على ظنه أن المكرِه غير جاد فلم يمتثل فشرع في العقوبة وانقضت ولكن التهديد إما أن تفعل وإما أن نستمر ولذلك فالأمر مبني على الخوف سواء حصل جزء منه أو لم يحصل فالعبرة بغلبة الظن وربما لا تكون غلبة الظن إلا بعد التجربة يقول: «وقال ابن مسعود ما كلام يدرأ عنى سوطين إلا كنت متكلما به.

وقال الحسن: التقية جائزة للمؤمن إلى يوم القيامة، إلا أن الله تبارك وتعالى ليس يجعل في القتل تقية.

وقال النخعي: القيد إكراه، والسجن إكراه». يعني لم يجعل في قتل معصوم إكراهًا وقد ذكرنا المسألة.

قال: «وقال النخعي: القيد إكراه، والسجن إكراه.

وهذا قول مالك، إلا أنه قال: والوعيد المخوف إكراه وإن لم يقع، إذا تحقق ظلم ذلك المعتدى وإنفاذه لما يتوعد به، وليس عند مالك وأصحابه في الضرب والسجن توقيت» يعني: لم يقولوا ضرب سوطين أو ثلاثة أو جلدة أو عشر جلدات ولا قالوا سجن يومين أو اثنين أو ثلاثة.

قال: «إنما هو ما كان يؤلم من الضرب، وما كان من سجن يدخل منه الضيق على المكره. وإكراه السلطان وغيره عند مالك إكراه»

فهنا أحال الإمام مالك كعادته المسألة إلى العرف وقد ذكرنا في دروس الفقه أن من أصول الإمام مالك أن غير المقدر شرعًا يعاد في تقديره إلى العرف وقد ذكر الشرع الإكراه ولم يذكر له حدًا وذكر السفر ولم يذكر له حدًا فإذا الشرع أي أمر ولم يذكر له حدًا فحده يكون حدًا عرفيًا فهذه هي القاعدة عند المالكية والحنابلة فهنا لم يضع حدًا في الضرب ولم يضع حدًا في السجن ولكن قال ما يدخل الضيق على المكره، وقد قدمنا أنه لا بد من الموازنة بين الفعل المكره عليه وبين العقوبة المنتظرة كما قال ابن مسعود أنه طلب منه كلمة لن تضر بمعنى لو قال الإنسان شهادة زور لن تضره فهذا يختلف عن أن يطلب منه كلمة لن ينبني عليها عمل ككلمة مداهنة أو كتم لحق في مجلس خاص ونحو هذا بخلاف أن يطلب منه شهادة زور أو نشر باطل فهذه مما لا يدخلها الإكراه فالإكراه بالضرب يمكن أن يكون ببعض الأشياء ليدفع عن نفسه سوطين وهناك أشياء لا يفعلها إلا إذا أكره على أمر شديد جدًا فإذا أكره على شرب الخمر مع ما فيها من ضرر على دين العبد لأنه يغيب عقله مدة لا يدري فيها ما صلاة ولا ذكر وربما هذى وافترى وهي ضرر في بدنه لأنها داء كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إنها داء وليست بدواء» فلو كان يحتمل ضرب سوطين ولا يشرب الخمر  لأنه يمكن أن يشرب فيضر في بدنه أكثر من شربه للخمر ويمكن أن يفعل في أثناء سكره أن يرتكب أنواعًا من الفسق أو يعتاد على السكر  بخلاف ما لو كان ضربًا مبرحًا وهذا أمر يحرم من أجل ضرر الخمر لا يكون ضررًا بالغًا إلا مع طول المدى أم ضرر الدين فحكمه في حينها كالنائم وإن كان هو أسوأ حالًا وقد تكلمنا في درس الأصول وفرقنا بين أن يتعاطى الإنسان منوم وبين أن يتعاطى مخدر ولكن على أية حال ففي هذه نوع من تحمل المفسدة.

وكذلك لو سجن الإنسان يومًا فهذا يدخل عليه الضيق ويعطله عن معاشه فهذا ضرر معتبر ولكن ما المطلوب منه بحيث يجعل سجن يوم عقوبة له؟ فلو أكره على أن يزني ولكن لا يزني بما لها حرمة لأن ذلك لا يجوز لكن كما كان مطلوبًا من يوسف -عليه السلام- أن يزني بامرأة مسقطة لحقها وهي الراغبة ومع ذلك رضي بالسجن ففي السجن نوع من تضييع كثير من الطاعات  ولو جاز له أن يفعل لكان واجبًا عليه أن يفعل لأنه عطل في السجن عن كثير من المصالح الشرعية فلم يختر السجن إلا أنه ليس أمامه إلا أن يختاره لماذا قلنا ذلك أليس جائزًا أن يكون قد أخذ بالأفضل؟ لأن في المسألة تعطيل عن كثير من المصالح لا يحل له أن يرتكبها إلا إذا كانت المفسدة الأخرى أشد كما ذكرنا فإذا طلب من إنسان بعض أمور وإلا سجن يومًا فإن السجن يومًا واحدًا يعد إكراهًا بالنسبة وهناك أمور لا تعتبر إكراهًا إلا بالسجن أسابيع أو شهور وهناك أمورًا لا [يحل له أن] يفعلها ولو سجن مدى الحياة وبالتالي فلا يمكننا القول أن حد الإكراه كذا وكذا جلدة أو كذا وكذا ساعة بل لا بد من الموازنة كما ذكرنا.

يقول: «وتناقض الكوفيون فلم يجعلوا السجن والقيد إكراها على شرب الخمر وأكل الميتة، لأنه لا يخاف منهما التلف».

لأنهم قالوا أن الشرع حرم الخمر والميتة لما فيهما من تلف البدن وليس ذلك في السجن فيسجن أولى له من أن يأكل الميتة لأنه قد يموت، والحق أن ضرر الميتة ليس كضرر السم يمكن أن يكون هذا الكلام لو أمره أن يتحسى السم والكفار يأكلون الميتة طيلة حياتهم ولا يصابون بأضرار حالية بل تأتيهم الأضرار من تكرار ذلك الفعل، ونظرة الكوفيين جيدة لكن توصيفهم للمسألة [محل نظر] فلو قلنا أن أكل الميتة يخاف منه التلف وهذا بغلبة الظن أن يموت بسببها أو يصاب بمرض شديد بالغ فبذلك يكون كلامهم مستقيم لكن الواقع لا يدل بذلك وإنما يدل على أن الضرر من الميتة إنما يأتي عبر وقت طويل  فلو أمروه بأكل الميتة فخلو سبيله فسيأكلها مرة ونحو ذلك فهذا لا إشكال فيه.

وقد يقال له إما أن تأكل ميتة وإما أن تسجن وإذا سجن أطعموه الميتة أيضًا أو تركوه للموت إذن لا بد من الموازنة بين الصبر حتى يموت وبين أكل الميتة، إذن هذا التناقض ليس مبناه عدم ضبط أصول المسألة وإنما مبناه أنهم وصفوا الضرر المتوقع من الميتة ضبطًا غير صحيح.

قال: «وجعلوها إكراها في إقراره لفلان عندي ألف درهم».

وهذا نتيجة أنهم تصور أن الميتة يمكن أن يأتي منها ضرر مباشر.

قال: «قال ابن سحنون: وفى إجماعهم على أن الألم والوجع الشديد إكراه ما يدل على أن الإكراه يكون من غير تلف نفس.

وذهب مالك إلى أن من أكره على يمين بوعيد أو سجن أو ضرب أنه يحلف، ولا حنث عليه، وهو قول الشافعي وأحمد وأبى ثور وأكثر العلماء».

مثل أن يأمروه أن يحلف بطلاق امرأته وإما أن يسجن فيحلف ولا يكون هذا طلاقًا، كذلك يقر على نفسه فيقول: «علي ألف درهم» ويقول أمام القاضي أن هذا كان هذا إقرار وليد إكراهٍ وهكذا.

[ومما ينبغي أن يعلم أن] القوانين الوضعية شديدة التعظيم للحرية الشخصية حتى إنهم ليعظمونها على حساب كثير من المصالح التي اعتبرها الشارع وهم لجهلهم وسفههم لا يعتبرونها ولكن هنا يتضح أنهم سيلتقون مع القواعد الشرعية في في عدم اعتبار الإقرار وليد الإكراه إقرارًا لأنهم يعظمون جانب احترام بدن الإنسان ونفسه وأن العقوبة لا تتم إلا بعد أمور مغلظة جدًا عندهم أكثر من الشرع.

يقول: « وذهب مالك إلى أن من أكره على يمين بوعيد أو سجن أو ضرب أنه يحلف، ولا حنث عليه، وهو قول الشافعي وأحمد وأبى ثور وأكثر العلماء»ا.هـ

يقول: [الشيخ ياسر] هل يختلف الإكراه مع اختلاف المكره عليه ونوع الإكراه؟

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: « تأملت المذهب فوجدت الإكراه يختلف باختلاف المكره عليه فليس الإكراه المعتبر في كلمة الكفر كالإكراه المعتبر في الهبة ونحوها فإن أحمد قد نص في غير موضع على أن الإكراه على الكفر لا يكون إلا بتعذيب من ضرب أو قيد ولا يكون الكلام إكراها» ا.هـ

يعني يمكن أن يعتبر الكلام المؤذي إكراهًا إذا كان سببًا في ترك الإنسان بعض الطاعات كأن يشتم ولكن ليس إكراهًا.

يقول: «قال القرطبي في «تفسيره»: «أكره يوسف عليه السلام على الفاحشة بالسجن، وأقام خمسة أعوام، وما رضي بذلك لعظيم منزلته وشريف قدره، ولو أكره رجل بالسجن على الزنى ما جاز له إجماعا» ا.هـ

إذن لم يفعل يوسف -عليه السلام- الفاحشة مع أنه لم يكن عرضًا معصومًا لأن المرأة كانت راغبة فكان الإكراه على الزنا المجرد الذي لا انتهاك فيه لحرمة المرأة ومع ذلك رفض، هل رفض -عليه السلام- وجوبًا أم استحبابًا؟ احتمالان، أن يكون رفض أن يأخذ بالإكراه لأنه ليس عذرًا في هذه الحالة ويمكن أن يكون رفض مع كونه عذرًا في هذه الحالة لكن الأفضل عدم الأخذ به كما قلنا في مسألة شعار الدين، فإذا أكره الإنسان ووجد في صبره نوع من إظهار شعار الدين استحب له أن يأخذ بالرخصة وإن كانت الرخصة جائزة، هل هذه المسألة من تلك؟ أم أن عقوبة السجن التي هدد بها لا ترقى إلى أن تجعله يرتكب فاحشة كالزنا؟! الظاهر ما ذكره القرطبي إجماعًا من أن القضية هنا من أن عقوبة السجن لا ترقى  إلى أن تبيح الزنا الذي هو فاحشة عظيمة لاسيما وأن السجن يعطل الإنسان عن حقوق شرعية تخصه وتخص من يعولهم فكونه يرضى به فهذا لا يرضى به إلا في حالة أنه لا يجد مخرجًا ولا يجد مساغًا أن يفعل ما طلبوه ويخرج.

يقول: «فإن أكره بالضرب فقد اختلف فيه العلماء، والصحيح أنه إذا كان فادحا فإنه يسقط عنه إثم الزنى وحده».

وهذا على اعتبار أن الضرب أعلى من السجن الخالي عنه، وكل هذه النقول تشير إلى الموازنة بين الفعل المكره عليه وبين العقوبة وأنها لا بد وأن تكون العقوبة أشد ضررًا من الفعل المكره عليه ولأن الضرب الفادح يؤلم الإنسان ويؤذيه وهو أشد على الإنسان من أن يرتكب فاحشة وهو مكره ويعتبر هو الذي يلي القتل في المعاذير الموجودة.

يقول: «وقد قال بعض علمائنا: إنه لا يسقط عنه الحد، وهو ضعيف، فإن الله تعالى لا يجمع على عبده العذابين، ولا يصرفه بين بلاءين، فإنه من أعظم الحرج في الدين. ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ [ الحج: 78 ].

لأننا لو أسقطنا الحد عن المكره لأدعى من زنا أنه أكره فجعل هذا الإثم بينه وبين الله فلو رفع للإمام رجل زانٍ وزعم أنه أكره فهذا الإكراه لا يعتبر عند بعض العلماء وعلى القاضي أن يبحث في القرائن أما لو ادعى الإكراه بالبينة فالأصل أنه إذا ثبت عليه الزنا بشهادة الشهود  ولم يروا إكراهًا فالظاهر أنه ليس مكرهًا فهو مطالب بالبينة على أنه ليس بمكره وإلا يحد أما إذا أتي ببينة على أنه مكروه ثم يقال له هذا بينك وبين الله وتحد في الدنيا فهذا بعيد ولذلك قال: « وهو ضعيف، فإن الله تعالى لا يجمع على عبده العذابين، ولا يصرفه بين بلاءين، فإنه من أعظم الحرج في الدين. ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ [ الحج: 78 ].

يعني يكرهه مكرِهٌ على الزنا ويأتي بشهود عليه وهو يزني فإما أن لا يزني فتقع عليه عقوبة المكرِه وإما أن يزني ويشهد عليه الشهود فيجلد أو يرجم فكأن الشرع في هذه الحالة على قول هؤلاء أن على الإنسان أن يختار بنفسه إما العذاب بيدي المكرِه وإما العذاب بيدي القاضي فقال أن هذا مما لا تأتي به الشريعة.

مسألة في بيان التقية:

هذا مصطلح آخر لقضية الإكراه ورد التعبير عنها بقضية «التقية» وربما يكون فيها إشارة إلى نوع موسع لأن الإكراه إكراه على ترك واجب أو فعل محرم والتقية مدارها على المدارة وهي في نهاية أمرها ترك واجب وهو ترك واجب إظهار العداوة فالتقية تشمل درجة بالذات في باب الموالاة وهي أن يمتنع أن إظهار شيء كان يجب عليه إظهاره فليس فيها أن المكره أتاه فقال له: إما أن تفعل وإما أن أوقع بك العقوبة فهذه تدخل فيها ولكن مما يدخل في التقية وربما لا يكون داخلًا في التقية بالإطار الذي عرضناه أنه يعرف إجمالًا أن لو أظهر ما يجب عليه إظهاره فسيقع في العقوبة ولو كتمه فسيمر، فكأنه إكراه سلبي بعض الشيء.

يقول: «قال تعالى ﴿لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ﴾ [آل عمران: 28]

قال البغوي في «تفسيره»: « ومعنى الآية: أن الله تعالى نهى المؤمنين عن موالاة الكفار ومداهنتهم ومباطنتهم إلا أن يكون الكفار غالبين ظاهرين» وهذه حالة يداري المؤمن فيها حتى يمر من بين أيدي الكفار وهذا نوع من أنواع التقية الذي ربما لا يكون داخلًا دخولًا ظاهرًا في الكلام على الإكراه الذي يكون فيه عقوبة ظاهرة أو تهديد ولكن نفس المعنى وهو أنه يعلم طاعة فيها استعداء لقوم أعداء [للمسلمين] وهو يعلم أنه يجب عليه أن يظهر هذا الأمر له كان يملك فبدلًا من أن يستعديهم يكتم هذا الأمر ويمر كما ذكرنا.  

يقول: «أو يكون المؤمن في قوم كفار يخافهم فيداريهم باللسان وقلبه مطمئن بالإيمان دفعا عن نفسه من غير أن يستحل دما حراما أو مالا حراما، أو يظهر الكفار على عورة المسلمين» لأن هذه مسائل لا يدخلها الإكراه ولا التقية.

«والتقية لا تكون إلا مع خوف القتل وسلامة النية، قال الله تعالى ﴿إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ﴾ [النحل: 106]  ثم هذه رخصة، فلو صبر حتى قتل فله أجر عظيم» ا.هـ وكما ذكرنا أن باب التقية هو باب الإكراه ولكن باب التقية قد يكون أشمل لصور غير واردة في باب الإكراه.

وقال ابن القيم في «بدائع الفوائد»: «معلوم أن التقاة ليست بموالاة ولكن لما نهاهم عن موالاة الكفار اقتضى ذلك معاداتهم والبراءة منهم ومجاهرتهم بالعدوان في كل حال إلا إذا خافوا من شرهم فأباح لهم التقية وليست التقية موالاة لهم» ا.هـ

فباب الموالاة يشرع فيه للمسلم أن يظهر العداوة للكفار فإن كان في مواطن لا يظهرها فهذا نوع من الاضطرار أو نوع من أنواع الإكراه أنه متى غلب على ظنه أنه متى أظهر هذه العداوة فعل به ما يعد إكراهًا.

يقول: [الشيخ ياسر] «ولأن التقاة باب يمكن أن ينفذ منه الشيطان بسهولة يزين للضعفاء ومرضى القلوب أن يركنوا إلى أعداء الله قال بعدها مباشرة ﴿ وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ﴾ يحذركم في الدنيا أن تتخذوا هذا الباب تكأة، وتستسهلوا هذه الكبيرة - وهي موالاة أعداء الله- وينذركم أن إليه المصير فيجازيكم على ما فعلتم في الدنيا فلا تحسبوا أن ترتكبوا هذه الكبيرة في الأرض -مخادعين أنفسكم أو مخادعين الناس- ثم تنجوا من عذاب الله في الآخرة»

فهذا أمر منذ زمن بعيد وقد نزل القرآن بهذه الآية لأنه يعلم أن الشيطان سينفذ من هذا الباب فتجد الإنسان يسارع في أعداء الله ثم يزعم أن هذا من باب التقية وأن ما في القلب في القلب! لا بل أمرك الشرع بإظهار ما في القلب متى استطعت إلى إظهاره سبيلًا وقد ذكرنا مرارًا أن هناك وفاء بالعهد وقد قلنا في باب الإكراه أن المسلم لا يجوز له أن يقتل ذميًا ولو أكره على ذلك ولا يوفر نفسه على حساب غيره وباب العدل والإنصاف يجب على المسلم أن يتخلق به في كل وقت وفي كل حين مع المسلم والكافر ومع البر والفاجر لكن باب إظهار العداوة فهو باب تعبد به الشرع فيظهره الإنسان مع إظهار العدل ويمكن أن يكتم هذه العداوة إذا كانت هناك مصلحة شرعية من دعوة أحدهم إلى الإسلام ويغلب على ظنه أنه يستجيب فلا يظهر له هذه العداوة وقد يقول البعض أنه يمهد إلى دعوته إلى الإسلام فتجد عشرات السنين أنواعًا من المودة والصداقة المنهي عنها مع الكفار وكل ذلك لأن بينه وبينه مصالح دنيوية أصلها مباح كالبيع والشراء لكن لكي يكتسب مشترين يداهنهم على الدين ثم يخدع نفسه أكثر بأنه يمهد لدعوتهم! وهو يعلم أنه كاذب أو يدعي أنه لو لم يفعل ذلك لتضرر ضررًا بالغًا وكل ذلك من أنواع تسويلات الشيطان ﴿الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ﴾ [البقرة: 268] وتجد كل التسويلات من هذا الباب وقد يقول أن المشتري الكافر لو لم أفعل معه صورًا منهي عنها كبدئه بالسلام ونحو ذلك لن يشتري مرة أخرى فهذا لا يعد إكراهًا ولا يعد عذرًا لمسلم أن يرتكب هذا فهذا الباب باب التقية باب يمكن أن ينفذ الشيطان منه بسهولة ولذا لما بينت الآيات هذه الرخصة حذرت العباد بأن الله -عز وجل- مطلع على ما يفعلون يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، يعلم ما في نفسهم وأنهم سوف يرجعون إليه.

يقول: «وقال شهاب الدين القرافي في «الاستغناء في أحكام الاستثناء»: ﴿إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً﴾ تقديره: لا تفعلوا ذلك في حالة من الحالات إلا في حالة الاتقاء».

وقال ابن جرير الطبري في «جامع البيان» في تفسير قوله تعالى ﴿إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً﴾ أي: إلا أن تكونوا في سلطانهم فتخلفوهم على أنفسكم فتظهروا لهم الولاية بألسنتكم وتضمروا العداوة ولا تشايعوهم على ما هم عليه من الكفر، ولا تعينوهم على مسلم بفعل» ا.هـ

والكلام كله دائر في هذا الباب إلى هنا نكون بفضل الله تبارك وتعالى قد تكلمنا على الآية الثانية من أبواب باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله والآية الأولى كانت في الكلام على الغلو في الصالحين وهذا أحد أشهر أسباب وقوع الشرك على ظهر الأرض وكانت الآية الثانية في الموالاة وهذه أيضًا كانت من أكثر أسباب وقوع الشرك والانحراف على ظهر الأرض وذكرنا ما يتعلق بها من كتاب «فتح المجيد» ومن كتاب «فضل الغني الحميد» وقبل أن ننتقل إلى الآية الثالثة ستكون المرة القادمة في الكلام والتفصيل في قضية البيع والشراء مع الكفار لما ذكرناه من الأدلة على جواز هذا ومن دعوة البعض إلى مقاطعة المنتجات الأجنبية ويرى أن هذا من الدين مع وقوعه في أنواع من الموالاة الصريحة فقد حرم الشرع المودة والمحبة والنصرة والثناء على الكفار ومشاركتهم في أعيادهم  ثم يأتي لقضية البيع والشراء فيتشدد فيها وسنزيد الأمور وضوحًا بإذن الله تبارك وتعالى من بيان الأدلة على جواز البيع والشراء مع الكفار مع أن هذا خلاف الأولى دائمًا كما ذكرنا في حكم الزواج من الكتابية وإن كان الأمر في الزواج من الكتابية أغلظ لأنه مكروه كراهة مشددة بينما البيع والشراء خلاف الأولى في حالة الحرب  والسلم فالأولى دائمًا وهذا ليس من باب التحريم وإنما من باب الأولوية بحيث أن الربح الذي يؤخذ منه يذهب إلى مسلم، فالمسألة أن البيع والشراء مع الكفار جائز لكن الأولى متى أمكن أن لا يبيع ويشتري إلا مع مسلم، يبقى أنه هل يوجد حالات يمكن أن يفتى فيها بعدم جواز التعامل مع الكفار أو مع صنف معين من الكفار فهذه أولًا يجب أن يعلم أننا لو قلنا بجواز هذا فهو استثناء وليس أصلًا كما  يزعمه البعض والظاهر أنه يجوز لولي الأمر أن يقيد المباح متى كان الأمر مبنيًا على مصلحة شرعية معتبرة فهذا ملخص المسألة وإنما نعني أن يوجد اجتهاد من علماء معتبرين يرون أن الأمر بدون خضوع الأمر لمصالح محدودة لأفراد من المسلمين أو لجماعات منهم إنما العبرة المصلحة العامة للمسلمين لو وجد علماء معتبرين يجتهدون وفق الضوابط الشرعية ومنعوا من هذا فإن المنع يكون مؤقتًا وفق ما ذكرنا ربما نزيد هذا الأمر بعض التوضيح في المرة القادمة إن شاء الله تبارك وتعالى.

تمت والحمد لله رب العالمين

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

 

ربما يهمك أيضاً

الولاء والبراء -11
1707 ١٨ يناير ٢٠١٦
الولاء والبراء -10
2034 ١١ يناير ٢٠١٦
الولاء والبراء -9
2036 ٠٤ يناير ٢٠١٦
الولاء والبراء -8
1669 ٢٨ ديسمبر ٢٠١٥
الولاء والبراء -7
1429 ٢١ ديسمبر ٢٠١٥
الولاء والبراء -6
1317 ١٤ ديسمبر ٢٠١٥