الخميس، ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٨ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

اللغة العربية .. ومعالم النهضة السلفية

إن تعلم فنون اللغة العربية وإحياءها من بدهيات المنهج السلفي والنهضة السلفية ...يظهر لي أمر آخر من اقترانها بأدوات الجهاد والقتال في قول عمر ، أن تعلم اللغة العربية إحدى أدوات جهاد البيان والدفاع عن الإسلام

اللغة العربية .. ومعالم النهضة السلفية
الجمعة ٢٩ يناير ٢٠١٦ - ١٥:٣١ م
6597

اللغة العربية .. ومعالم النهضة السلفية

كتبه / وائل سرحان

الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ..

إن اللغة - أي لغة كانت - لها ثلاث مهام هامة :

(أ) هي ركنُ التفكير ، فاللغة فكر ناطق ، والتفكير لغة صامتة.

(ب) وهي أولى وسائل التواصل والتفاهم والتخاطب، وبثِّ المشاعر والأحاسيس.

ولذلك كانت أهمية اللغة في حياة الأمم ؛ فإنها الأداة التي تحمل الأفكار ، وتنقل المفاهيم ؛ فتقيم بذلك روابط الاتصال بين أبناء الأمة الواحدة ، وبها يكون التقارب والتشابه والانسجام بينهم .

(ج) وهي وعاءُ المعرفة ؛ فهي الترسانة الثقافية التي تبني الأمة وتحمي كيانها.

هذه أهم مهام اللغة أيا ما كانت هذه اللغة ، وأيا ما كان الناطقون بها ، وما لهم من مجد وحضارة وتاريخ ، أيا ما كان .

أما اللغة العربية فلقد تبوأت من هذه الوظائف أعلى المراتب ، ولها منها أعظم الحظ والنصيب ، وتزيد عليها أنها لغة أعظم كُتب الله جل جلاله المنزلة ، وهي محفوظة بحفظ الله له ، فهي لغة مقدسة ؛ لغة وحي ودين ، لغة عبادات وشعائر، هي لغة مأجورٌ مَن يتعلمها، مُثاب من يعلمها.

اللغة العربية شعار الإسلام وتعلمها من الدين

وتزداد أهمية الاعتناء باللغة العربية فوق هذه الوظائف الثلاث أنها جزء من ديننا ، وهي شعار الإسلام ، ولا يمكن أن يقوم الإسلام إلا بها .

فـ«مَن أحب الله أحب رسوله، ومن أحب النبي أحب العرب، ومن أحب العرب أحب اللغة العربية التي بها نزل أفضل الكتب على أفضل العجم والعرب، ومَن أحب العربية عُني بها وثابر عليها، وصرف همته إليها». [فقه اللغة للثعالي ص 3]

يقول شيخ الإسلام رحمه الله : «إن اللسان العربي شعار الإسلام وأهله، واللغات من أعظم شعائر الأمم التي بها يتميزون» . [اقتضاء الصراط المستقيم (1/ 519) ، وانظره في (1/ 526)]

ويقول أيضًا رحمه الله : «واعلم أن اعتياد اللغة يؤثر في العقل، والخلق، والدين تأثيرًا قويًّا بينًا، ويؤثر أيضا في مشابهة صدر هذه الأمة من الصحابة والتابعين، ومشابهتهم تزيد العقل والدين والخلق.

وأيضًا فإن نفس اللغة العربية من الدين ، ومعرفتها فرض واجب ، فإن فهم الكتاب والسنة فرض ، ولا يفهم إلا بفهم اللغة العربية ، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.

وهذا معنى ما رواه أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا عيسى بن يونس عن ثور عن عمر بن زيد قال: كتب عمر إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: «أما بعد: فتفقهوا في السنة وتفقهوا في العربية وأعربوا القرآن، فإنه عربي ».

وفي حديث آخر عن عمر رضي الله عنه أنه قال: « تعلموا العربية فإنها من دينكم ، وتعلموا الفرائض فإنها من دينكم ».[ المصنف ، ابن أبي شيبة، (13/165 رقم 26164)]

وهذا الذي أمر به عمر رضي الله عنه من فقه العربية وفقه الشريعة، يجمع ما يحتاج إليه ؛ لأن الدين فيه أقوال وأعمال ، ففقه العربية هو الطريق إلى فقه أقواله، وفقه السنة هو فقه أعماله».[اقتضاء الصراط المستقيم (1/ 527 ، 528) باختصار ]

تعلم وتعليم العربية من منهج السلف الصالحين

وقد ورد عن فاروق الأمة من ذلك شيء كثير غير ما رواه شيخ الإسلام ، فالإقبال على العربية وإتقان فنونها تعلمًا وتعليمًا منهج الصحابة الأولين والسلف الصالحين ، رضي الله عنهم أجمعين .

فقد قال عمر الفاروق رضي لله عنه : «تَعلّموا العربيّة وعلِّموها الناسَ» . [رواه البيهقي وابن الأنباري في الإيضاح من قول عمر بن الخطاب، وقد رواه ابن أبي شيبة عن أبي بن كعب موقوفًا]

وقال رضي الله عنه : «تعلموا إعراب القرآن كما تتعلمون حفظه».[فضائل القرآن ، أبو عبيد 23 ، إيضاح الوقف ، أبو بكر الأنباري : 1/35]

وقال رضي الله عنه : «تعلموا العربية ؛ فإنها تثبت العقل وتزيد في المروءة». [ شعب الإيمان (1556، 3/ 210) ]

وقال أيضًا رضي الله عنه : «تعلموا الفرائض واللحن والسنن كما تعلمون القرآن » .[سنن الدارمي 2/341 ، وأخرجه أيضا : أبو عبيد : فضائل القرآن 23 ، إيضاح الوقف 1/15 ، والأضداد ص239. كلاهما لأبي بكر الأنباري]

«وحدَّث يزيد بن هارون بهذا الحديث ، فقيل له : ما اللحن ؟ قال : النحو» . [إيضاح الوقف 1/15 ، والأضداد ص240]

وعن أبي عثمان النهدي قال : جاءنا كتاب عمر ، وهم بأذربيجان ، وكان فيه أن تعلموا العربية. [طبقات النحويين واللغويين ص12 ، التمهيد ، العطار 99]

وكتب عمر إلى أبي موسى الأشعري أن مُرْ مَن قِبَلك بتعلم العربية. [إيضاح الوقف 1/31 ، الإيضاح ، الأندرابي61 ]

وسئل الحسن البصري عن تعلم العربية ، أو عن المصحف ينقط بالعربية ، فقال للسائل : أوَما بلغك كتاب عمر بن الخطاب أن تعلموا العربية[المصاحف ، ابن أبي داود ص142 ، وأبو بكر الأنباري : إيضاح الوقف 1/49 ]

وتعلم اللغة العربية عند الفاروق كالرمي وفنون القتال ، فيروي الزهري عن سالم بن عبد الله بن عمر ، عن أبيه قال : مر عمر بن الخطاب بقوم قد رموا رِشْقًا ، فقال بئس ما رميتم ، فقالوا : يا أمير المؤمنين إنا قوم (متعلمين) ، فقال عمر : والله لذنبكم في لحنكم أشد عليّ من ذنبكم في رميكم ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : رحم الله رجلًا أصلح من لسانه. [شعب الإيمان (1557 ، 3/ 210) ، الجامع لأخلاق الراوي ، الخطيب البغدادي 2/81] ، فتعلم اللغة العربية من أسباب الرحمة أيضًا .

ولعل محدث الأمة وملهمها رضي الله عنه كان ملهمًا في جمعه بين تعلم اللغة والرمي كما سبق ، وكذلك جمعه بين تعلم فنون القتال وما يعين على القيادة والرجولة في قوله الشهير : «علّموا أبناءكم السباحة والرماية وركوب الخيل، وروّوهم ما جمل من الشعر». [الكامل في اللغة والأدب (1/ 211)] ، فتعلم اللغة العربية من المروءة والرجولة كما يظهر من قول عمر ، وهو يزيد العقل كما سبق من قول شيخ الإسلام ، لكنه يظهر لي أمر آخر من اقترانها بأدوات الجهاد والقتال في قول عمر ، أن تعلم اللغة العربية إحدى أدوات جهاد البيان والدفاع عن الإسلام .

وكما سبق ليس هذا منهج الفاروق المحدث وحده بل هو منهج الصحابة رضي الله عنهم :

قالت عائشة رضي الله عنها: «روُّوا أولادكم الشعر، تعذب ألسنتهم».

وقال المقداد بن الأسود : «ما كنتُ أعلم أحدًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم بشعر ولا فريضة (علم المواريث) من عائشة رضي الله عنها».

وكان عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- من أروى الناس للشعر .

ونقل عن أبي ذر رضي الله عنه أنه قال : «تعلموا العربية في القرآن كما تتعلمون حفظه». [ إيضاح الوقف 1/23 ، التمهيد ص207].

ويروى أن زيادًا بعث بولده إلى معاوية -رضي الله عنه- فكاشفه عن فنون من العلم، فوجده عالماً بكل ما سأل عنه، ثم استنشده الشعر فقال: لم أرْوِ منه شيئًا، فكتب معاوية إلى زياد يقول له: ما منعك أن ترويه الشعر؟ فوالله إن كان العاقّ ليرويه فيبرّ، وإن كان البخيل ليرويه فيسخو، وإن كان الجبان ليرويه فيقاتل .

إن في حث الرسول عليه الصلاة والسلام على تعليم وتعلم القرآن إشارة وإرشاد لتعلم وتعليم اللغة العربيّة ؛ قال صلى الله عليه وسلم «خَيْركُم مَن تَعلّم القُرآنَ وعَلَّمهُ» [متفق عليه]. فما نشأت علوم العربية بأسرها إلا لخدمة القرآن العظيم ومن أجله ، كما قيل «لولا القرآن ما كانت عربية» .

من معالم النهضة السلفية النهوض باللغة العربية

إن العناية بأمر اللغة العربية كانت جزءًا من منهج الإصلاح والتغيير الشامل الذي أحدثه الإسلام في حياة العرب ، فقد كانت لغة العرب وفصاحتهم وبلاغتهم ملكة وسليقة ، ولم يكن لهم درس لغوي قبل الإسلام ، حتى جاء الإسلام ونزل القرآن فكان أول كتاب مدون تشهده العربية ، ثم كان حث النبي ومن بعده صحابته على تعلم وتعليم اللغة العربية ، ثم جهود المسلمين الأوائل بداية من قراءة القرآن وما نشأ من أجله من علوم ومعارف وكتابته .

إن تعلم فنون اللغة العربية وإحياءها من بدهيات المنهج السلفي والنهضة السلفية ، فبدون التضلع من فنونها لن نستطيع استكناه أسرار التنزيل ومعرفة أحد أوجه إعجازه ، وكيف نفهم كلام من أوتي جوامع الكلم بمعرفة سطحية بلغته التي افتخر أنه أوتي جوامع كلمها .

وكيف يصح قولنا (الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة) بدون التمكن من اللغة العربية ، ففهم سلف الأمة وتراثهم مدون بتلك اللغة وهم قد بلغوا فيها مبلغًا عظيمًا ، اقرأ كتب الشافعي رحمه الله أو الجويني رحمه الله أو غيره ممن سبقهما أو أتى بعدهما تجدها قطعًا أدبية رصينة لا يذوق حلاوتها ويتبين دلائلها إلا من تضلع بالعربية ، وكيف ننادي بإحياء الشريعة ونحن نفقد أداة من أهم أدوات فهمها ؟!

لقد ورد وصف القرآن بالعربي في أكثر من آية في كتاب الله تعالى ، ويتبع ذلك علته وهو لعلكم تعقلون أو تتقون أو لعلة التدبر والإنذار .

ربما أنكر بعض ذلك في عصرنا هذا الذي نحياه أو اعتراهم العجب ، وحتى يتبين لك الأمر جليًّا أسوق لك بعض أقوال أهل العلم في المعاني التي ذكرتُها ، فقط لأمسح عنك بعضًا مما اعتراك .

فإن الله بعث «أفضل رسله من العرب، وأنزل عليه آخر كتبه بلسان العرب، فصار على الناس فرضا أن يتعلموا لسان العرب ، وإن كان ذلك من فروض الكفاية ليعقلوا عن الله أمره ونهيه، ووعده ووعيده ويفهموا عن رسوله صلى الله عليه وسلم بيانه وتبليغه». [شعب الإيمان (3/ 163)]

«قال الشافعي رحمه الله : فإنما خاطب الله بكتابه العرب بلسانها، على ما تعرف من معانيها، وكان مما تعرف من معانيها: اتساع لسانها، وأن فطرته أن يخاطب بالشيء منه عاما، ظاهرا، يراد به العام، الظاهر، ويستغنى بأول هذا منه عن آخره. وعاما ظاهرا يراد به العام، ويدخله الخاص، فيستدل على هذا ببعض ما خوطب به فيه؛ وعاما ظاهرا، يراد به الخاص. وظاهرا يعرف في سياقه أنه يراد به غير ظاهره. فكل هذا موجود علمه في أول الكلام، أو وسطه، أو آخره.

وتبتدئ الشيء من كلامها يبين أول لفظها فيه عن آخره. وتبتدئ الشيء يبين آخر لفظها منه عن أوله.

وتكلم بالشيء تعرفه بالمعنى، دون الإيضاح باللفظ، كما تعرف الإشارة، ثم يكون هذا عندها من أعلى كلامها، لانفراد أهل علمها به، دون أهل جهالتها.

وتسمي الشيء الواحد بالأسماء الكثيرة، وتسمي بالاسم الواحد المعاني الكثيرة.

وكانت هذه الوجوه التي وصفت اجتماعها في معرفة أهل العلم منها به - وإن اختلفت أسباب معرفتها -: معرفة واضحة عندها، ومستنكرا عند غيرها، ممن جهل هذا من لسانها، وبلسانها نزل الكتاب، وجاءت السنة، فتكلف القول في علمها تكلف ما يجهل بعضه.

ومن تكلف ما جهل، وما لم تثبته معرفته: كانت موافقته للصواب - إن وافقه من حيث لا يعرفه - غير محمودة، والله أعلم؛ وكان بخطئه غير معذور، وإذا ما نطق فيما لا يحيط علمه بالفرق بين الخطأ والصواب فيه». [الرسالة (ص 50)]

قال شيخ الإسلام رحمه الله : «إن نفس اللغة العربية من الدين، ومعرفتها فرض واجب ؛ فإن فهم الكتاب والسنة فرض ، ولا يفهم إلا بفهم اللغة العربية ، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ، ثم منها ما هو واجب على الأعيان، ومنها ما هو واجب على الكفاية» . [ اقتضاء الصراط المستقيم (1/ 527) ]

وقال رحمه الله : «وإنما الطريق الحسن اعتياد الخطاب بالعربية، حتى يتلقنها الصغار في المكاتب وفي الدور فيظهر شعار الإسلام وأهله، ويكون ذلك أسهل على أهل الإسلام في فقه معاني الكتاب والسنة وكلام السلف» . [اقتضاء الصراط المستقيم (1/ 526)]

وقال رحمه الله في مجموع الفتاوى : «ولابد في تفسير القرآن والحديث من أن يعرف ما يدل على مراد الله ورسوله من الألفاظ، وكيف يفهم كلامة فمعرفة العربية التي خوطبنا بها مما يعين على أن نفقه مراد الله ورسوله بكلامه، وكذلك معرفة دلالة الالفاظ على المعاني». [الإيمان لابن تيمية (ص: 97) ]

فهذا كلام أئمة السلفية رحمهم الله في بيان أهمية (التضلع) في اللغة العربية لفهم كتاب الله وفهم مراد الله ومراد رسوله وفهم كلام السلف .

ولله دره أبو فهر رحمه الله حينما بين القوة التي ينضوي عليها المنهج السلفي ، وبين أن السلفي لابد أن يمتلك ناصية اللغة مستدلًّا بما استدل به سلفه الأوائل، يقول الشيخ محمود شاكر رحمه الله : «وأدرك الذين كانوا يقودون حركة الصراع بين الحضارتين [الغربية والإسلامية] أن أقوى الفريقين المتصارعين من سلفيين ومبتدعة هو فريق (السلفيين) ، لا من حيث كثرتهم وغلبتهم ، بل من حيث القوة التي تشتمل عليها دعوتهم ؛ لأنها تؤدي إلى إعادة بناء لغة الأمة ؛ إذ لا معنى للانتساب لطريقة (السلف) إلا بأن يمتلك (السلفي) ناصية اللغة وآدابها تملكًا يمكنه من الاستمداد المباشر من (القرآن) و(السنة) ، على نفس النهج الذي كان (السلف) يستمدون به من القرآن والسنة في آدابهم ، وأخلاقهم ، وثقافتهم ، وفقههم ، وعلمهم ، وتفكيرهم ، وفي سائر ما يكون به الإنسان حيًّا رشيدًا قادرًا على بناء الحضارة ، ولأنها تؤدي أيضًا إلى اتخاذ سمتٍ نابع من القرآن والسنة ، تكون به حضارة القرآن والسنة ممثلة في رجال يغدون بين الناس ويروحون ، ويغضبون ويرضون ، ويتنازعون ويصطلحون ، ويعيشون عيشة كاملة ممثلة لخلاصة الرحلة الطويلة العميقة في استنباط طريق للحياة الإنسانية الصحيحة ، من الفطرة التي جعلها الله كامنةً في الطبيعة البشرية ، ومطوية في هذا التنزيل المعجز الذي جاء من عند الله ، وهو (القرآن) وفي جوامع الكلم التي أوتيها نبي الله صلى الله عليه وسلم ، مبينًا عن كتاب الله مفصِّلًا لجمله وهو (الحديث) .

وهذه الفطرة هي التي ذكرها الله سبحانه في سورة الروم فقال : «فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ» [الروم: 30].

فهذه القوة التي اشتملت عليها دعوة (السلفيين) كانت مصدرًا لمخاوف (الاستعمار) و (التبشير) ، فأرادوا أن يقاوموا هذه الدعوة القليل عدد أصحابها ، والذين هم مع قلتهم يصارعون جمهورًا غالبًا من (المبتدعة) يؤيدهم إلف العامة وهم الكثرة ، ما عندهم من (البدع) المنكرة التي ينكرها (السلفيون) أشدَّ الإنكار». [ أباطيل وأسمار لأبي فهر محمود محمد شاكر (402 ، 403).]

فقوة السلفية في عودتها إلى الكتاب والسنة والتماسها درب السلف الأوائل، وكيف نفهم مراد الله ومراد رسوله فهمًا صحيحًا عميقا وكيف نشعر بأسرار التنزيل إذا كنا جهلاء بأسرار العربية ، أشبه ما يكون بالأعاجم ، وكذلك كيف نتصل بالسلف الأوائل إذا كنا عن لغتهم متباعدين .

وقد وُفق رحمه الله فقد بين أهمية اللغة في أن يحيا بالقرآن وبمنهج السلف سلوكًا حيًّا في شتى مناحي الحياة ، أن اللغة عماد تعتمد عليه مختلف جوانب الحضارة الإسلامية .

اللغة وعقيدة التوحيد

غير أن الشيخ شاكر رحمه الله ألمح إلى إمر آخر هام يبين أهمية تعلم اللغة وإيحائها وهو أن من أراد القضاء على أي يقظة إسلامية أو عربية بدأ بالقضاء على اللغة ، ومن أراد إحياءها اهتم بإحياء اللغة العربية وتقويتها ، ولقد عد الشيخ محمود شاكر رحمه الله المرتضى الزبيدي أحد رواد النهضة الإسلامية لاجتهاده في إيحاء لغة الأمة ؛ اللغة العربية ، ولقد كان دفاع مصطفى صادق الرافعي رحمه عن اللغة العربية دفاعًا عن القرآن وعن الدين الإسلامي .

وأوضح ذلك أستاذه الرافعي فقال : «لا جرم كانت لغة الأمة هي الهدف الأول للمستعمرين؛ فلن يتحول الشعب أول ما يتحول إلا من لغته؛ إذ يكون منشأ التحول من أفكاره وعواطفه وآماله، وهو إذا انقطع من نسب لغته انقطع من نسب ماضيه، ورجعت قوميته صورة محفوظة في التاريخ، لا صورة محققة في وجوده؛ فليس كاللغة نسب للعاطفة والكفرة حتى أن أبناء الأب الواحد لو اختلفت ألسنتهم فنشأ منهم ناشئ على لغة، ونشأ الثاني على أخرى ، والثالث على لغة ثالثة ، لكانوا في العاطفة كأبناء ثلاثة آباء.

وما ذلت لغة شعب إلا ذل، ولا انحطت إلا كان أمره في ذهاب وإدبار؛ ومن هذا يفرض الأجنبي المستعمر لغته فرضًا على الأمة المستعمرة ، ويركبهم بها، ويشعرهم عظمته فيها، ويستلحقهم من ناحيتها ؛ فيحكم عليهم أحكامًا ثلاثة في عمل واحد : أما الأول فحبس لغتهم في لغته سجنًا مؤبدًا ، وأما الثاني فالحكم على ماضيهم بالقتل محوًا ونسيانًا ، وأما الثالث فتقييد مستقبلهم في الأغلال التي يصنعها؛ فأمرهم من بعدها لأمره تبع». [وحي القلم (3/ 27)]

ولما أراد من فتن من أبناء الأمة التشكيك في دينها وقرآنها بدأ بالتشكيك في لغتها وشعرها وقوتهما .

وما دخل التوحيد – وهو شعار السلفية - بهذا الكلام ؟!

نعم ، إن ما سبق لصيق الصلة بعقيدة الولاء والبراء ، التي يريد كل محتل أن يقضي عليها في أي أمة يجتاحها ، فتذوب تلك الأمم ذوبان الملح في الماء في أمة أولئك المحتلين ، وإذا كان ؛ فلن يعودا أمتين ، بل يعودوا أمة واحدة ، هي أمة المحتل ، وشواهد التاريخ على ذلك يعز على هذا المقال حصرها .

وقد سبق من كلام شيخ الإسلام رحمه الله أن «اعتياد اللغة يؤثر في العقل، والخلق، والدين تأثيرًا قويًّا بينًا، ويؤثر أيضا في مشابهة صدر هذه الأمة من الصحابة والتابعين، ومشابهتهم تزيد العقل والدين والخلق» ، وهذا في جانب الولاء وعكسه يكون البراء .

وسيأتي شيخ الإسلام رحمه الله في اقتضاء الصراط المستقيم أن اعتياد الكلام بغير العربية من التشبه المكروه ؛ لأنه يخالف شعار الإسلام .

إن اللغة هي الترسانة التي تحمي الأمة وتحفظ هويتها وكيانها ووجودها ، وتحميها من الضياع والذوبان في الحضارات والأمم الأخرى .

إن اللغة العربية هي شعار الإسلام وهوية ولسان الأمة الإسلامية ، واللغة من الأمة أساس وحدتها، ومرآة حضارتها ، واللغة مقوم من أهم مقومات حياتها وكيانها ، وهي الحاملة لثقافتها ورسالتها ، والرابط الموحد بين أبنائها، والصلة بين أجيالها ؛ لذلك يحرص المحتلون (المستعمرون) على اختلاف توجهاتهم على فرض لغتهم على البلدان التي يحتلونها ، ويحاولون جهدهم طمس لغة هذه الشعوب المحتلة .

يقول الرافعي رحمه الله: «إنما القرآن جنسية لغوية تجمع أطراف النسبة إلى العربية، فلا يزال أهله مستعربين به، متميزين بهذه الجنسية حقيقةً أو حكمًاً» .

واللغة إحدى عواصم الانحراف العقدي

فمن أسباب ضلال الفرق المبتدعة التي ضلت في مسائل الاعتقاد هو جهلها باللغة العربية ، وكون جهلها في هذا الزمن البعيد سبب من أسباب ضلالها وانحرافها فذلك نذير خطر لنا ولأجيالنا .

وقال الحسن البصري - رحمه الله- في المبتدعة : « أهلكتهم العجمة ».

وعن ابن أبي الزناد، عن أبيه، قال: «ما تزندق من تزندق بالمشرق إلا جهلًا بكلام العرب وعجمة قلوبهم». [شعب الإيمان (1569 ،3/ 217)]

قال شيخ الإسلام رحمه الله : «فمعرفة العربية التي خوطبنا بها مما يعين على أن نفقة مراد الله ورسوله بكلامه، وكذلك معرفة دلالة الالفاظ على المعاني؛ فإن عامة ضلال أهل البدع كان بهذا السبب فإنهم صاروا يحملون كلام الله ورسوله على ما يدعون أنه دال عليه ولا يكون الأمر كذلك ويجعلون هذه الدلالة حقيقة، وهذه مجازا كما أخطأ المرجئة في اسم الإيمان جعلوا لفظ الإيمان حقيقة في مجرد التصديق وتناوله للأعمال مجازا». [الإيمان لابن تيمية (ص: 97) ]

لذلك تجد استشهاد واستناد ابن عباس حبر الأمة رضي الله عنه في محاورته لنافع بن الأزرق الخارجي كان بالشعر ، وهو رضي الله عنه كان رواية للشعر .

وعن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : «إذا قرأ أحدكم شيئًا من القرآن فلم يدر ما تفسيره ؛ فليلتمسه في الشعر ؛ فإنه ديوان العرب». [شعب الإيمان (1560 ،3/ 213) ]

وعن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس رضي الله عنهما: «أنه كان يسأل عن القرآن فينشد فيه الشعر » . [شعب الإيمان (1559 ، 3/ 212)]

يقول الشيخ محمود شاكر رحمه الله : «وهذه الصورة الجامعة هي منشأ كل اختلاف في اللغة ، وكل اختلاف في الفهم ، وكل اختلاف في التفكير ، فإذا بدأ المرء يفكر مستخدمًا لفظًا ينطوي على صورة جامعة ، وعرض له في إدراك هذه الروابط عارض من الوهم ، أو من سوء التقدير ، أو من إساءة فهم الروابط ، أو من تغليب بعض المعاني الحادثة فيه على بعض ، أو مما شئت من وجوه كثيرة = كان تفكيره مهددًا بسلوك طريق غريبة بجره إليها بعض ما بنى عليه تفكيره ، وعلى قدر ما يعرض له من الوهم ، أو سوء التقدير ، أو إساءة فهم الروابط ، أو تغليب بعض المعاني الحادثة فيه على بعض – يحدث له انحياز إلى جانب من الفكر لم يكن لينحاز إليه إذا هو بريء من ذلك براءة تامة ، أو بريء من بعضه براءة مشوبة بالنقص .

وعلى مثل ذلك يكون شأن الذي يتلوا كلامًا ويحاول أن يفهمه أو يحاول أن يفسره ، فهو عرضة للانحياز إلى جانب من الفهم أو التفسير يزيد وينقص على قدر مبلغه من كنه الألفاظ التي يحاول أن يفسرها أو يفهمها ، ولا سيما إذا تضمن الكلام ألفظًا تنضم على صور جامعة .

وإلى هذا الباب يرجع أكثر ما تجد من افتراق الفرق في الملل التي دان بها الناس ، وأكثر ما نشأ من المذاهب المتباينة مع انتمائها إلى أصل واحد تصدر عنه ، وأكثر ما يعرض لمفسري النصوص من الاختلاف الغريب المتناقض حين يحاولون حل الإشكال بالتأويل ، فالإشكال عندهم ينشأ من القصور عن بلوغ كنه الألفاظ ذوات الصور الجامعة فيحتاجون إلى تأويل هذه الألفاظ تأويلًا يناسب ما عند كل منهم من قدر من القصور ، فإذا قل القدر خف التأويل ، وإذا غلا قدر القصور أفضى إلى غلو في التأويل» . [أباطيل وأسمار 411، 412]

وإن تعجب فعجب من يزعم أنه على درب السلف في التغيير والإصلاح وهو لا يقوى على استظهار بيت من الشعر ، ولا على الاستشهاد به ، فضلا عما عداه من فنون العربية .

اللغة العربية بين التقليد والاجتهاد

من معالم المنهج السلفي محاربة القول بغلق باب الاجتهاد ومعالجة ظاهرة التقليد أو ترشيدها ، والقول بفتح باب الاجتهاد ، ونشر العلم في جميع قطاعات الأمة ومستوياتها وطبقاتها ، كل بما يطيقه ويناسبه ، وتنادي السلفية بالرجوع إلى الأصلين في الاستنباط ، والاجتهاد والقدرة على استنباط أحكام الله في المسائل يعتمد فيما يعتمد عليه على التمكن من اللغة العربية فنونها .

يقول الماوردي رحمه الله : «والسبب الثاني في معرفة الأصول الشرعية معرفة لسان العرب ، وهو معتبر في حجج السمع خاصة قال الله تعالى: «وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ» [إبراهيم: 4] لأنه لا يخاطبهم إلا بما يفهم عنه ليكون حجة عليهم ولهم، وقد قال تعالى: « لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ» [النحل: 103] فاحتاج الناظر إلى معرفة لسانهم، وموضوع خطابهم، ليفرق بين الحقيقة والمجاز، وبين الإثبات والنفي، وبين المطلق والمقيد، وبين العام والخاص، وبين المفسر والمجمل، وبين الناسخ والمنسوخ، ويفرق بين الفاعل والمفعول، ويعرف صيغة الأوامر والنواهي .. فإن قصر عنها لم يصح منه النظر». [الحاوي (16/ 54) ]

وأسوق أليك – أيها الكريم –كلامًا عجبًا للإمام الشاطبي رحمه الله في شروط الاجتهاد ، ومنزلة العلم باللغة العربية وفنونها من بين هذه الشروط .

يقول الشاطبي رحمه الله : «وأما الثاني من المطالب: وهو فرض علم تتوقف صحة الاجتهاد عليه ، فإن كان ثم علم لا يحصل الاجتهاد في الشريعة إلا بالاجتهاد فيه ، فهو لا بد مضطر إليه ؛ لأنه إذا فرض كذلك لم يمكن في العادة الوصول إلى درجة الاجتهاد دونه ، فلا بد من تحصيله على تمامه ، وهو ظاهر، إلا أن هذا العلم مبهم في الجملة فيسأل عن تعيينه.

والأقرب في العلوم إلى أن يكون هكذا علم اللغة العربية، ولا أعني بذلك النحو وحده، ولا التصريف وحده، ولا اللغة، ولا علم المعاني، ولا غير ذلك من أنواع العلوم المتعلقة باللسان، بل المراد جملة علم اللسان ألفاظ أو معاني كيف تصورت، ما عدا الغريب ، والتصريف المسمى بالفعل، وما يتعلق بالشعر من حيث هو الشعر كالعروض والقافية، فإن هذا غير مفتقر إليه هنا، وإن كان العلم به كمالًا في العلم بالعربية وبيان تعين هذا العلم ما تقدم في كتاب المقاصد من أن الشريعة عربية، وإذا كانت عربية؛ فلا يفهمها حق الفهم إلا من فهم اللغة العربية حق الفهم؛ لأنهما سيان في النمط ما عدا وجوه الإعجاز، فإذا فرضنا مبتدئا في فهم العربية فهو مبتدئ في فهم الشريعة، أو متوسطا؛ فهو متوسط في فهم الشريعة والمتوسط لم يبلغ درجة النهاية، فإن انتهى إلى درجة الغاية في العربية كان كذلك في الشريعة ؛ فكان فهمه فيها حجة كما كان فهم الصحابة وغيرهم من الفصحاء الذين فهموا القرآن حجة، فمن لم يبلغ شأوهم ؛ فقد نقصه من فهم الشريعة بمقدار التقصير عنهم ، وكل من قصر فهمه لم يعد حجة ، ولا كان قوله فيها مقبولًا.

فلا بد من أن يبلغ في العربية مبلغ الأئمة فيها ؛ كالخليل ، وسيبويه ، والأخفش ، والجرمي ، والمازني ومن سواهم ، وقد قال الجرمي : «أنا منذ ثلاثين سنة أفتي الناس في الفقه من كتاب سيبويه».

وقد قال الغزالي في هذا الشرط: «إنه القدر الذي يفهم به خطاب العرب وعادتهم في الاستعمال، حتى يميز بين صريح الكلام وظاهره ومجمله ، وحقيقته ومجازه، وعامه وخاصه، ومحكمه ومتشابهه، ومطلقه، ونصه وفحواه ولحنه ومفهمومه».

وهذا الذي اشترط لا يحصل إلا لمن بلغ في اللغة العربية درجة الاجتهاد ، ثم قال : «والتخفيف فيه أنه لا يشترط أن يبلغ مبلغ الخليل والمبرد ، وأن يعلم جميع اللغة ويتعمق في النحو».

وهذا أيضا صحيح ، فالذي نفي اللزوم فيه ليس هو المقصود في الاشتراط ، وإنما المقصود تحرير الفهم حتى يضاهي العربي في ذلك .

[ثم ساق كلام الشافعي الذي نقلته وأنفًا ، ثم قال :] هذا قوله، وهو الحق الذي لا محيص عنه، وغالب ما صنف في أصول الفقه من الفنون إنما هو المطالب العربية التي تكفل المجتهد فيها بالجواب عنها

فالحاصل أنه لا غنى للمجتهد في الشريعة عن بلوغ درجة الاجتهاد في كلام العرب ، بحيث يصير فهم خطابها له وصفًا غير متكلف ولا متوقف فيه في الغلب إلا بمقدار توقف الفطن لكلام اللبيب». [الموافقات (5/ 52: 57) باختصار]

وخلاصة كلامه رحمه الله أن الاجتهاد في فنون علم اللغة – وليس النحو وحده - شرط الاجتهاد في الشريعة وعليه يتوقف ، فمن يرد الاجتهاد في الشريعة عليه أن يبلغ في اللغة مبلغ الخليل، وسيبويه، والأخفش، والجرمي، والمازني ومن سواهم !! حتى يستطيع الاجتهاد فيها ، وإذا أريد التخفيف في هذا الشرط فلابد أن (يعلم جميع اللغة ويتعمق في النحو..حتى يضاهي العربي) !!

وهو معنى قول من لم يشترط بلوغ الاجتهاد في اللغة كشرط لبلوغ الاجتهاد في الشريعة كالماوردي رحمه الله ، فتأمل قوله : «ولسنا نعني أن يكون عالمًا بجميع لغتهم وإعراب كلامهم، لأن التشاغل به يقطعه عن علم ما سواه ، وإنما نريد أن يكون عالمًا بموضوع كلامهم ومشهور خطابهم» . [الحاوي (16/ 54) ]

وأقل ما قيل في ذلك ما لخصه ابن القيم رحمه الله بقوله : «فالمطلوب الواجب من العبد من العلوم والأعمال إذا توقف على شيء منها كان ذلك الشيء واجبًا وجوب الوسائل ، ومعلوم أن ذلك التوقف يختلف باختلاف الأشخاص والأزمان والألسنة والأذهان ؛ فليس لذلك حد مقدر». [مفتاح دار السعادة (1/ 159)]

اللغة العربية وطالب العلم

إن اللغة العربية ليست ضرورة للفقهاء والمجتهدين في فروع الشريعة فحسب ، بل هي ضرورة لكل طالب علم – وطلب العلم دعوى الدعوة السلفية - قال شعبة رحمه الله : «إذا كان المحدث لا يعرف النحو ؛ فهو كالحمار يكون على رأسه مخلاة ليس فيها شعير» . [شعب الإيمان (3/ 216)]

وقال أبو داود السنجي : سمعت الأصمعي يقول: إن أخوف ما أخاف على طالب العلم إذا لم يعرف النحو أن يدخل في جملة قول النبي صلى الله عليه وسلم : «مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ» ؛ لأنه لم يكن يلحن ، فمهما رويت عنه ولحنت فيه كذبت عليه. [تهذيب الكمال (18/ 388) ، سير أعلام النبلاء (10/ 178)]

وقال الشيرازي رحمه الله في صفة المفتي : «يعرف من اللغة والنحو ما يعرف به مراد الله تعالى ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم في خطابهما» . [اللمع (ص: 127) ]

وقال الماوردي رحمه الله : « معرفة لسان العرب فرض على كل مسلم من مجتهد وغير مجتهد ، إلا أن غير المجتهد يلزمه من فرضه ما اختص بتكليفه من الشهادتين وما تتضمن الصلاة من القراءة والأذكار ولا يلزمه معرفة ما عداه إلا بحسب ما يتدرج إليه في نوازله وأحكامه.

قال الشافعي رحمه الله : «على كل مسلم أن يتعلم من لسان العرب ما بلغه جهده في أداء فرضه كما عليه أن يتعلم الصلاة والأذكار ». [الحاوي (16/ 120) ]

اللغة العربية والشريعة

وإذا كانت الاتجاهات المسماة بالإسلامية تجعل من المناداة بتطبيق الشريعة شعارًا تحرص على التمسك به وإعلانه ، فعليها أن تحرص على أدوات فهم الشريعة ، وقد مر بك – أيها اللبيب – كلام الشافعي ، وكذلك كلام الشاطبي من أنه من كان (مبتدئًا في فهم العربية فهو مبتدئ في فهم الشريعة ، أو متوسطًا فهو متوسط في فهم الشريعة ، فإن انتهى إلى درجة الغاية في العربية كان كذلك في الشريعة) .

ويقول الشاطبي رحمه الله : «وبيان تعين هذا العلم ما تقدم في كتاب المقاصد من أن الشريعة عربية، وإذا كانت عربية؛ فلا يفهمها حق الفهم إلا من فهم اللغة العربية حق الفهم؛ لأنهما سيان في النمط ما عدا وجوه الإعجاز، فإذا فرضنا مبتدئا في فهم العربية فهو مبتدئ في فهم الشريعة، أو متوسطا؛ فهو متوسط في فهم الشريعة والمتوسط لم يبلغ درجة النهاية، فإن انتهى إلى درجة الغاية في العربية كان كذلك في الشريعة ؛ فكان فهمه فيها حجة كما كان فهم الصحابة وغيرهم من الفصحاء الذين فهموا القرآن حجة، فمن لم يبلغ شأوهم؛ فقد نقصه من فهم الشريعة بمقدار التقصير عنهم، وكل من قصر فهمه لم يعد حجة، ولا كان قوله فيها مقبولا». [الموافقات (5/ 53)]

سلفيون لا يستطيعون بيان معانيهم بالعربية

وهذا عجب عجاب ، سلفيو آخر الزمان ، إذا أراد أحدهم أن يعبر عما في نفسه ، أو أراد أن يكشف عما يعتلج في صدره ، أو بيان ما يدور في رأسه وخلده أعوزته اللغة العربية ، فلم تسعفه لغة القرآن ، ولم يجد من العربية ما يمكنه من ذلك ، فلاكه بغير العربية ، أف لهم وتف ، ولا أدري أيضاف إلى ذلك الفقر اللغوي هزيمته النفسية تلك ، أم ادعاء الثقافة والمكانة الاجتماعية ؛ لكون الرجل يتمكن من لغة الأعاجم أقوى من تمكنه من لغة دينه وقرآنه ونبيه ، وهل هذه مفخرة أم مذمة ؟! لله الأمر .

وسعت كتاب الله لفظًا وغــايــة ... وما ضقت عن آيٍ به وعظـــــات

فكيف أضيق اليوم عن وصف آلة ... وتنسيـــق أسمـــاءٍ لـمخترعات

إن أي مطلع على ما يدور بين أولئك السلفيين في محادثاتهم المكتوبة (الشات) على الشبكة من ابتذال للغة وتدمير لها لهاله الأمر ولأدمي فؤاده ، ليس من الحديث بالعامية فقط أو الكتابة بها أيضًا إنما يتكلمون لغة الأعاجم في ثوب اللغة العربية ، والله وحده المستعان .

وإن ما يحز في النفس كون هؤلاء يدعون الفهم السلفي ، بل يزعمون الريادة السلفية النهضوية ، إنه ليحلو لي باطمئنان قلب أن أزعم أنهم أدعياء السلفية ، وكما قيل : ما هلك امرؤ عرف قدر نفسه .

يقول شيخ الإسلام رحمه الله : «وأما اعتياد الخطاب بغير اللغة العربية - التي هي شعار الإسلام ولغة القرآن - حتى يصير ذلك عادة للمصر وأهله ، أو لأهل الدار ، أو للرجل مع صاحبه ، أو لأهل السوق ، أو للأمراء ، أو لأهل الديوان ، أو لأهل الفقه ، فلا ريب أن هذا مكروه فإنه من التشبه بالأعاجم ، وهو مكروه كما تقدم.

وإنما الطريق الحسن اعتياد الخطاب بالعربية، حتى يتلقنها الصغار في المكاتب وفي الدور فيظهر شعار الإسلام وأهله ، ويكون ذلك أسهل على أهل الإسلام في فقه معاني الكتاب والسنة وكلام السلف». [اقتضاء الصراط المستقيم (1/ 526) باختصار]

ويقول رحمه الله : «وما زال السلف يكرهون تغيير شعائر العرب حتى في المعاملات وهو (التكلم بغير العربية) إلا لحاجة كما نص على ذلك مالك والشافعي وأحمد بل قال مالك: من تكلم في مسجدنا بغير العربية أخرج منه .

مع أن سائر الألسن يجوز النطق بها لأصحابها؛ ولكن سوغوها للحاجة وكرهوها لغير الحاجة ولحفظ شعائر الإسلام؛ فإن الله أنزل كتابه باللسان العربي وبعث به نبيه العربي وجعل الأمة العربية خير الأمم فصار حفظ شعارهم من تمام حفظ الإسلام .

فكيف بمن تقدم على الكلام العربي - مفرده ومنظومه - فيغيره ويبدله ويخرجه عن قانونه ويكلف الانتقال عنه إنما هذا نظير ما يفعله بعض أهل الضلال من الشيوخ الجهال حيث يصمدون إلى الرجل العاقل فيؤلهونه ويخنثونه؛ فإنهم ضادوا الرسول إذ بعث بإصلاح العقول والأديان وتكميل نوع الإنسان وحرم ما يغير العقل من جميع الألوان ، فإذا جاء هؤلاء إلى صحيح العقل فأفسدوا عقله وفهمه وقد ضادوا الله وراغموا حكمه.

والذين يبدلون اللسان العربي ويفسدونه لهم من هذا الذم والعقاب بقدر ما يفتحونه؛ فإن صلاح العقل واللسان مما يؤمر به الإنسان. ويعين ذلك على تمام الإيمان وضد ذلك يوجب الشقاق والضلال والخسران». [مجموع الفتاوى (32/ 255)]

ويقول رحمه الله : «ومعلوم أن (تعلم العربية وتعليم العربية) فرض على الكفاية ؛ وكان السلف يؤدبون أولادهم على اللحن ، فنحن مأمورون أمر إيجاب أو أمر استحباب أن نحفظ القانون العربي ، ونصلح الألسن المائلة عنه ؛ فيحفظ لنا طريقة فهم الكتاب والسنة ، والاقتداء بالعرب في خطابها ؛ فلو ترك الناس على لحنهم كان نقصا وعيبا». [مجموع الفتاوى (32/ 252)]

إذا كانت الدعوة السلفية تتخذ شعارًا لها قول الإمام مالك رضي الله عنه : «لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها» .. فهذه المقولة منهج في مكانة اللغة بين أدوات الإصلاح والتغيير .

إن من معاني السلفية ، ومن معالم النهضة السلفية إحياء اللغة العربية ، وتقويتها ونشرها ، والاهتمام بها تعلمًا وتعليمًا ، في الكتابة والحديث . والحمد لله رب العالمين

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

الكلمات الدلالية