الجمعة، ٢٠ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٩ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

إدراك الواقع موطن خلل

نناقش العنصر الثالث: إدراك الواقع، وفي نفس الوقت نضع معه العنصرين الآخرين موضع التطبيق، من خلال نموذج تاريخي عملي

إدراك الواقع موطن خلل
بسام الزرقا
الثلاثاء ٢٣ فبراير ٢٠١٦ - ١١:٢٨ ص
1291

إدراك الواقع موطن خلل

كتبه/ بسام الزرقا

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

ميزان تقييم للصواب والخطأ، إدراك حجم قدراتك وقوتك بالنسبة للاخرين، إدراك للواقع، هذه ثلاث لتدرك النجاح لهدفك، بل هي لازمة أًصلا حتى يكون تحديد هدفك واقعيا وممكنا على الطريق الصحيح.

بالقطع لا تكفي مقالة أو عدة مقالات لشرح الثلاثية شرحا وافيا، لكن حسبنا الإشارة كما فعلنا في العنصرين الأول والثاني في مقالتين سابقتين، واليوم نناقش العنصر الثالث: إدراك الواقع، وفي نفس الوقت نضع معه العنصرين الآخرين موضع التطبيق، من خلال نموذج تاريخي عملي.

إنه صلح الحديبية، ذلك الحدث الذي أشُبع بالبحث والتحليل والتنظير طوال قرون، لكننا سوف نتناوله من منظور هذه الثلاثية، ونمهد لذلك بسؤالين:

لماذا انتقل النبي صلى الله عليه وسلم من حال إلى نقيضه في فترة زمنية قصيرة؟ من حالة الحماسة الهائلة والرغبة في بذل أعز ما يملك البشر بدنياهم "بيعة على الموت" إلى حال المواءمات السياسية من خلال اتفاق صلح جعل العسكري عمر بن الخطاب يقول بمرارة: لم نعطِ الدنيّة في ديننا؟

السؤال الثاني: هو مقارنة لموقفين، أحدهما غير مشهور، وهو عفو النبي صلى الله عليه وسلم عن حادثة قتل رجل من صُلب أصحابه بُعيد توقيع معاهدة الصلح، وعندما يتم الاعتداء على حلفاء ليسوا من صلب قاعدة النبي صلى الله عليه وسلم -بل هم خليط من الكفار والمسلمين- لا يسامح النبي صلى الله عليه وسلم، ويرخص كل اعتبار من قائد قريش أبو سفيان وينصر حلفاءه، ذلك الحدث المشهور باسم "فتح مكة"، ألا يبدو عند المقارنة بين القرارين شيء كبير من التناقض؟! والإجابة: نعم سيكون هناك تناقض غير مبرر لو نظرنا لتلك الأحداث مجردة، أما لو نظرنا إليها من منظور الثلاثية موضع التمحيص فسوف نرى نموذجا فريدا وعبقريا من نماذج السياسة الشرعية! ولا ينغص على هذه الحقيقة استرشاد النبي صلى الله عليه وسلم بإشارات ربانية كانت له كعلامات، مثل امتناع القصواء عن السير ... إلخ.

كانت البداية خروج المسلمين يوم الاثنين في بداية ذي القعدة سنة 6 هجرية في حوالي 1400 فردا يريد العمرة، وخرج خالد في الخيل ومجموعة لبست جلود النمور وقد تعاهدوا ألا يدخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة أبدا؛ فيأخذ النبي صلى الله عليه وسلم طريقا وعرا ليتجنب مواجهة لا يريدها، وبعد فترة يصرح النبي صلى الله عليه وسلم بخطاب السلم ياويح قريش -"قريش العدو اللدود"- أكلتهم الحرب، ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر الناس؟ فأن أصابوني كان الذي أرادوا، وإن أظهرني الله عليهم دخلوا في الاسلام.

وإن لم يفعلوا قاتلوا -وبهم قوة، كما تظن قريش- فوالله لا أزال أجاهد على الذي بعثني به حتى يظهره الله أو تنفرد هذه السالفة -يعني الموت- وهو نص يحتاج إلى تأمل؛ حيث يخاطب العدو بمنطق مصلحته، والهدف الاستراتيجي واضح؛

محاولة تحييد عدو للتفرغ لآخر، فإن معاداة الكل في وقت واحد حماقة التزم بها العديد من القادة عبر التاريخ، وليس هذا محل بسط، واستخدم النبي صلى الله عليه وسلم وسيط علاقة حسنة، بقرين هو بديل بن ورقاء الخزاعي لإيصال رسالته، ثم خرجت الأمور عن المسار بإشاعة قتل قريش لرسول رسول الله صلى الله عليه وسلم، عثمان بن عفان، فكانت بيعة الرضوان على الموت، ثم كانت سفارة قريش عروة بن مسعود الثقفي، يتبعه الحُليس بن علقمة الكناني سيد الأحابيش، ثم مكرز بن حفص، ثم سهيل بن عمرو، مما يوضح حرج قريش؛ فقد جاء محمد صلى الله عليه وسلم يريد البيت لا الحرب، ثم كانت شروط الصلح التي كانت في غير صالح المسلمين تكتيكيا بل كانت شروطا مجحفة، مثل شرط عدم دخول مكة للعمرة هذا العام، والشرط غير العادل بأن يرد محمد من جاءه من قريش أما قريش فلا ترد من جاءهم من عند المسلمين، بل كانت هناك تنازلات في طريقة الصياغة لا تمس الدين إنما كانت كتابتها قاسية على الصحابة، مثل قبول محو صفة النبي صلى الله عليه وسلم بأنه رسول والاكتفاء باسم محمد، وعدم النص على صفة الرحمن والاكتفاء بما تعترف به قريش فقط باسمك اللهم.

والحادثة الفاجعة عندما لم يستطع المسلمون إنقاذ الهارب من فتنة قريش أبو جندل بن سهيل بن عمرو، وهو يرسف في قيوده.

لقد كان وقع ذلك ثقيلا جدا على الصحابة، ومما يوضح ذلك تلك المراجعة من عمر بن الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم: فأتيت نبي الله فقلت: ألست نبي الله حقا؟ قال بلى، قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى، قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا إذا؟ قال: إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري، قلت: أوليس كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به؟ قال: بلى، أفأخبرتك أنك تأتيه العام؟ قال قلت: لا، قال: فإنك آتيه ومطوف به، وقال سهل بن حنيف يوم حنين: " اتهموا رأيكم، رأيتني يوم أبا جندل لو أستطيع أن أرد أمر رسول الله لرددته."

أما عن المستوى الاستراتيجي فالتقييم يأخذ مساراً آخر،

ومنطلق التقييم الاستراتيجي سؤالان: ما هدف النبي؟ وما هو ميزان القوى النسبي؟

الإجابة على السؤال الأول: أن الهدف هو تبليغ يصل للكافة، ودعوة تكسب مزيدًا من الأنصار، وإعادة ترتيب البيت "المدينة وما حولها".

والواقع لا يسمح بالوصول لذلك مع وضع الحرب الشاملة،

ولندع الإمام الزُهري يضع لنا التقييم الاستراتيجي حيث يقول: "فما فُتح في الإسلام فتح قبله كان أعظم منه إنما كان القتال حيث التقى الناس، فلما كانت الهدنة ووُضعت الحرب، وأمن الناس بعضهم بعضا والتقوا، فتفاضوا في الحديث والمنازعة، فلم يُكلّم أحد بالإسلام يعقل إلا دخل فيه، ولقد دخل في السنتين مثل من كان في الإسلام قبل".

ويعلق ابن هشام على هذا قائلا: "والدليل على قول الزهري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى الحديبية في ألف وأربعمائة في قول جابر، ثم خرج في عام الفتح بعد ذلك بسنتين في عشرة آلاف ".

إذا: حسن إدراك وتوظيف القدرات، مع حسن إدراك الواقع يُنتج شيئين: ازدياد القدرات، وتغيير الواقع بما يُوسع دائرة البدائل أمام متخذي القرار، ويجعل الانتقال من هدف إلى هدف أكبر أمر متاح، فما كان مستحيل اليوم يصبح في المتناول غدا.

هذه الملاحظة ستحوّل التناقض بين حادثتين -الفارق الزمني بينهما سنتان فقط - إلى تناغم؛

الحادثة الأولى يرويها سلمة بن الأكوع، والثانية سبب فتح مكة،

نروي الموقفين فلا نعلق بل نسأل !

جاء في مسلم عن سلمة: "فلما اصطلحنا نحن وأهل مكة، واختلط بعضنا ببعض، أتيت شجرة فكسحت شوكها، فاضجعت في أصلها، قال: فأتاني أربعة من المشركين من أهل مكة، فجعلوا يقعون في رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأبغضتهم، فتحولت إلى شجرة أخرى، وعلقوا سلاحهم واضطجعوا، فبينما هم كذلك إذ نادى منادٍ من أسفل الوادي: يا للمهاجرين ! قتل ابن زنيم، قال: فاخترطت سيفي، ثم شددت على أولئك الأربعة وهم رقود، فأخذت سلاحهم، فجعلته ضغثا في يدي، قال: ثم قلت: والذي كرم وجه محمد ! لا يرفع أحد منكم رأسه إلا ضربت الذي فيه عيناه، قال: ثم جئت بهم أسوقهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: وجاء عمي عامر برجل من العبلات يقال له مكرز، يقوده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على فرس مجفف في سبعين من المشركين، فنظر إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ( دعوهم، يكن لهم بدء الفجور وثناه ) فعفا عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم .

الحادثة الثانية: غدرت بنو كنانة -حلفاء قريش- بـ "خزاعة" -حلفاء محمد صلى الله عليه وسلم- بدعم من قريش، فلم يعف رسول الله صلى الله وسلم ورفض كل عروض زعيم قريش أبي سفيان وخرج في عشرة الآف وفتح مكة.

يقتل رجل من صلب أصحابه فيعفو، ويُغدر بحليف فلا يعفو !!

هل ترى أخي القارئ في ذلك تناقضا؟ أم ماذا ؟! وما الدرس من ذلك ؟

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

 

تصنيفات المادة