الجمعة، ١١ شوال ١٤٤٥ هـ ، ١٩ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ

ليس المراد أن تكون المحاسبة لمجرد المعرفة أو التحسر، وإنما المراد المحاسبة الإيجابية التي يتبعها ‏إصلاح ومجاهدة ومصابرة

وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ
محمود عبد الحفيظ البرتاوي
الجمعة ٢٦ فبراير ٢٠١٦ - ١٣:٤١ م
1209

وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ

كتبه/ محمود عبد الحفيظ البرتاوي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد قال الله -تعالى-: (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) (المدثر:5)، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (المُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ ‏وَيَدِهِ، وَالمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ) (متفق عليه)‏.

فبيَّن النبي -صلى الله عليه وسلم- أن المسلم الحق هو مَن اتصف بهذا الأمر الظاهر مِن سلامة الناس مِن لسانه ويده، وخصَّ ‏اللسان بالذكر؛ لأ‌نه المعبـِّر‎ ‎عما في النفس، وخص اليد؛ لأ‌ن أكثر الأ‌فعال بها.‏

وبيَّن أن المهاجر حقـًّا ليس مَن فارق الديار ببدنه، وإنما هو مَن هجر الخطايا والذنوب كما قال -صلى الله ‏عليه وسلم-: (أَلا أُخْبِرُكُمْ بِالْمُؤْمِنِ: مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ، وَالْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ النَّاسُ مِنْ لِسَانِهِ ‏وَيَدِهِ، وَالْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ الْخَطَايَا والذنوب) (رواه أحمد وابن حبان، ‏وصححه الألباني).‏

وإذا كانت الهجرة مِن مكة إلى المدينة لمؤازرة الإسلام ونبيه -صلى الله عليه وسلم- قد انقطعتْ بفتحها وكونها دار إيمان بعد ‏أن كانت دار كفر، فإن الهجرة مِن كل مكان وبقعة لا يتمكن فيها المسلم مِن القيام بعبادة الله وأداء شعائر ‏الإسلام لا تزال باقية، فعن معاوية -رضي الله عنه- قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: (لا ‏تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ حَتَّى تَنْقَطِعَ التَّوْبَةُ، وَلا تَنْقَطِعُ التَّوْبَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا) (رواه أحمد وأبو داود، وصححه ‏الألباني).‏

وقال -صلى الله عليه وسلم-: (الْهِجْرَةُ هِجْرَتَانِ: هِجْرَةُ الْحَاضِرِ، وَهِجْرَةُ الْبَادِي، فَأَمَّا الْبَادِي فَيُجِيبُ إِذَا دُعِيَ وَيُطِيعُ إِذَا أُمِرَ، ‏وَأَمَّا الْحَاضِرُ فَهُوَ أَعْظَمُهُمَا بَلِيَّةً، وَأَعْظَمُهُمَا أَجْرًا) (رواه النسائي، وصححه الألباني). ‏

والمعنى: أن ترك المعاصي خير مِن ترك الوطن، فإن المقصود الأصلي مِن ترك الوطن هو ترك المعاصي، ‏فإذا تركها الإنسان وهو فِي وطنه، فهو أفضل ممن هاجر مِن وطنه؛ لأنه يقتدي به أهله، وعشيرته؛ فيكون ‏سببًا لهداية كثير مِن الناس.‏

فالمسلم في هجرة‎ ‎دائمة لا تنقطع، وهي هجرة الكفر والشرك، والذنوب والمعاصي الظاهرة والباطنة؛ فإن ‏أعظم أنواع الهجرة هجرة القلوب والجوارح لما حرَّم الله، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله ‏عنهما- قال: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الْهِجْرَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: (أَنْ تَهْجُرَ مَا كَرِهَ رَبُّكَ) (رواه أحمد والنسائي، ‏وصححه الألباني).‏

والهجرة ظاهرة وباطنة: فالهجرة الباطنة: ترْك ما تدعو إليه النفس الأمارة بالسوء‎ ‎والشيطان، والهجرة ‏الظاهرة: الفرار بالدين مِن الفتن، فحقيقة الهجرة: ترك ما كرهه الله -تعالى- مما يشين وليس مِن الدين في ‏العقائد والعبادات والمعاملات والسلوك والآداب والأقوال والأفعال والأحوال الظاهرة والباطنة.‏

والعبادة الخالصة لله -تعالى- وقت الفتن والشدائد والمحن تساوي هجرة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- القائل: (الْعِبَادَةُ فِي ‏الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ) (رواه مسلم). وفي رواية عند الطبراني في المعجم الكبير بسند صحيح: (الْعِبَادَةُ فِي الْفِتْنَةِ ‏كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ).‏

والهرج: هو الفتنة واختلاط أمور الناس بين الحلال والحرام حين ينتشر الحرام يظنه الناس حلال لكثرته، ‏ويُهجر الحلال وينساه الناس لندرته!‏

فما أحوجنا إلى هجرة الخطايا والذنوب... ‏

إلى هجر الكذب والرياء، والغيبة والنميمة، والفجور في الخصومة، والضعف والكسل، والإهمال.‏

فهلموا بنا إلى الهجرة...‏

إلى هجر كل ما يخالف الإسلام وشريعته... في بيوتنا، وأعمالنا، ومعاملاتنا، وفي كل حياتنا.‏

هلموا بنا إلى محاسبة النفس ومراجعتها... (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ ‏إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (الحشر:18)، (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ ‏حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) (الأنبياء:47).‏

قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "إن العبد لا يزال بخير ما كان له واعظ مِن نفسه، وكانت المحاسبة ‏مِن همته".‏

وليس المراد أن تكون المحاسبة لمجرد المعرفة أو التحسر، وإنما المراد المحاسبة الإيجابية التي يتبعها ‏إصلاح ومجاهدة ومصابرة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (آل ‏عمران:200). ‏

وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.‏

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com