الجمعة، ١١ شوال ١٤٤٥ هـ ، ١٩ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

نماذج من عدل الملوك في زمن السلف -5

كانوا يخضعون لحكم القضاة الشرعيين، ويقبلون نصيحة العلماء الربانيين، وينقادون لأوامر الشرع الحنيف

نماذج من عدل الملوك في زمن السلف -5
محمود قناوي
الخميس ٠٧ أبريل ٢٠١٦ - ١١:٤٣ ص
1946

نماذج من عدل الملوك في زمن السلف (5)

كتبه/ محمود قناوي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

من أدلة عدل الملوك أنهم كانوا يخضعون لحكم القضاة الشرعيين، ويقبلون نصيحة العلماء الربانيين، وينقادون لأوامر الشرع الحنيف، ويحظى عندهم من يساوي بينهم وبين خصمهم في الحكم، أو من يأخذ الحق من أيديهم ويعطيه لغيرهم، ومن أمثلة ذلك :
1- الملك الظاهر بيبرس
أوقع الملك الظاهر الحوطة على الأملاك والبساتين في دمشق، واستولى عليها، وقعد 
الظاهر في دار العدل بدمشق، وجرى الحديث في هذا المعنى بحضور قضاة المذاهب 
الأربعة، وكبار العلماء، فكل من القضاة ألآن القول وخشي سطوة الملك الظاهر، ولم ينكر عليه القضاة إلا القاضي شمس الدين عبد الله الحنفي فإنه صدع بالحق ولم تأخذه في الله لومة لائم، وقال للسلطان: "ما يحل لمسلم أن يتعرض لهذه الأملاك والبساتين؛ فأنها بيد أربابها ويدهم ثابتة عليهم"، فغضب الملك الظاهر من هذا القول وقام من دار العدل وقال: "إذا كنا ما نحن مسلمون إيش قعودنا"، فشرع الأمراء يتألفوه، ولا زالوا به حتى سكن غضبه، فلما رأى الظاهر صلابة دين الشيخ شمس الدين حظي عنده وعظم في عينه، وهابه وقال: "اثبتوا كتبنا عند هذا القاضي الحنفي".

2- السلطان العادل
قال رجل للقاضي ابن الحرستاني أبو القاسم عبد الصمد الشافعي: "السلطان يسلم عليك، ويوصي بفلان فإن له محاكمة". فغضب القاضي وقال: "الشرع ما يكون فيه وصية". وأرسل إليه السلطان العادل كتابا فرمى به وقال:  "كتاب الله قد حكم على هذا الكتاب" فبلغ العادل قوله فقال: "صدق، كتاب الله أولى من كتابي".
وكان القاضي يقول للعادل: "أنا ما أحكم إلا بالشرع، وإلا فأنا ما سألتك القضاء، فإن شئت فابصر غيري". 
ويروي القاضي أبو يوسف -وهو من أفذاذ القضاة- عن نفسه أنه جاءه رجل يدّعي أن له بستانا في يد الخليفة، فأحضر الخليفة إلى مجلس القضاء، وطلب من المُدعي البينة، فقال: "غصبه المهدي مني، ولا بينة لدي، وليحلف الخليفة". فقال أمير المؤمنين: "البستان لي، اشتراه لي المهدي، ولم أجد به عقدا"، فوجه القاضي أبو يوسف إلى الخليفة اليمين ثلاث مرات، فلم يحلف الخليفة فقضى بالبستان للرجل. 

3- الخليفة المقتدر والقاضي بن بهلول:
قال ابن كثير: "اتفق أن السيدة أم الخليفة المقتدر وقفت وقفا وجعل الحاكم هذا عنده نسخه به في سلة الحكم، ثم أرادت أن تنقض ذلك الوقف، فطلبت هذا الحاكم –القاضي- وأن يحضر معه كتاب الوقف لتأخذه منه، فتعدمه فلما حضر من وراء الستار فهم المقصود، فقال لها القاضي أحمد بن بهلول: "لا يمكن هذا لأني خازن المسلمين، فإما أن تعزلوني عن القضاء، وتولوا هذا غيري، وإما أن تتركوا هذا الذي تريدون أن تفعلوه، فلا سبيل إليه وأنا حاكم"، فشكته إلى ولدها الخليفة المقتدر، فشفع عنده المقتدر بذلك، فذكر له القاضي صورة الحال، فرجع إلى أمه، فقال لها: "إن هذا الرجل ممن يرغب فيه ولا يزهد فيه، ولا سبيل إلى عزله، ولا التلاعب به"، فرضيت السيدة عنه، وبعثت تشكر القاضي على ما صنع. فقال القاضي: "من قدم أمر الله على أمر العباد كفاه الله شرهم ورزقه خيرهم".
4- الملك عبد الرحمن الناصر، والقاضي بن البلوطي
القاضي المنذر بن سعيد البلوطي الذي ولي القضاء بقرطبة أيام عبد الرحمن الناصر، يروي أن الملك الناصر أراد أن يبني قصراً لإحدى نسائه، وكان بجوار المكان دار صغيرة، وحمام لأيتام تحت ولاية القاضي، فطلب شراءه، فقالوا: "إنه لا يباع إلا بإذن القاضي، نسأله بيعه"، فقال القاضي: "لا، إلا بإحدى ثلاث: حاجة الأيتام، أو وهن البناء، أو غبطة الثمن"، فأرسل الخليفة خبراء قدروهما بثمن لم يعجب القاضي، فأباه وأظهر الخليفة العدول عنهما والزهد فيهما، وخاف القاضي أن يأخذهما جبرا، فأمر بهدم الدار والحمام، وباع الأنقاض بأكثر مما قدر الخبراء، وعز ذلك على الخليفة وقال له: "ما دعاك إلى ذلك؟"، قال: "أخذت بقول الله تعالى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً}. "الكهف: 79"، لقد بعت الأنقاض بأكثر مما قدرت للدار والحمام، وبقيت للأيتام الأرض، فالآن اشتريها بما تراه لها من الثمن"، قال الخليفة: "أنا أولى أن أنقاد إلى الحق، فجزاك الله عنا وعن أمتك خيرا". وقال ابن أصبع الهمداني: "كان الناصر كلف بعمارة الأرض وإقامة معالمها، وانبساط أمرها واستجلابها من أبعد بقاعها، وتخليد الآثار الدالة على قوة الملك وعزة السلطان، وعلو الهمة، فأفضى به الإغراق في ذلك إلى أن ابتنى مدينة الزهراء البناء الشائع ذكره، الذائع خبره، المنتشر في الأرض خبره، واستفرغ وسعه في تنميقها وإتقان قصورها وزخرفة مصانعها، وانهمك في ذلك حتى عطل شهود الجمعة بالمسجد الجامع الذي اتخذه ثلاث جمع متواليات، فأراد القاضي منذر أن يغض منه بما يتناوله من الموعظة بفصل الخطاب والحكمة والتذكر بالإنابة والرجوع، فابتدأ في أول خطبته بقوله تعالى {أتبنون بكل ريع}. إلى قوله تعالى {أم لم تكن من الواعظين}. ثم وصله بقوله: "فمتاع الدنيا قليل، والآخرة خير لمن اتقى، وهي دار القرار، ومكان الجزاء"، ومضى في ذم تشييد البنيان والاستغراق في زخرفته والإسراف في الإنفاق عليه بكل جزل، وقول فصل، قال الحاكي: "فجرى فيه طلقا وانتزع فيه قوله تعالى: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ}.  التوبة 109، إلى آخر الآية، وأتى بما يشاكل المعنى من التخويف بالموت والتحذير من فجأته، والدعاء إلى الزهد في هذه الدار الفانية، والحض على اعتزالها، والرفض لها والندب إلى الإعراض عنها والإقصار عن طلب اللذات، ونهى النفس عن اتباع هواها، فأسهب في ذلك كله، وأضاف إليه من آي القرآن ما يطابقه وجلب من الحديث والأثر ما يشاكله وخشعوا ورقوا واعترفوا وبكوا وضجوا، 
ودعوا وأعلنوا التضرع إلى الله تعالى في التوبة، والابتهال في المغفرة وأخذ خليفتهم من ذلك بأوفر حظ وقد علم أنه المقصود به؛ فبكى وندم على ما سلف له من فرطه واستعاذ بالله من سخطه، إلا أنه وجد على منذر لغلظ ما قرعه به، فشكا ذلك لولده الحكم بعد انصراف منذر وقال: "والله لقد تعمدني منذر بخطبته، وما عنى بها غيري، فأسرف علي وأفرط في تقريعي، ولم يحسن السياسة في وعظي، فزعزع قلبي، وكاد بعصاه يقرعني"، واستشاط غيظا عليه فأقسم أن لا يصلي خلفه صلاة الجمعة خاصة، فجعل يلتزم صلاتها وراء أحمد بن مطرف صاحب الصلاة بقرطبة، ويجانب الصلاة بالزهراء وقال له الحكم فما الذي يمنعك من عزل منذر عن الصلاة بك والاستبدال بغيره منه إذ كرهته؟، فزجره وانتهره، وقال له: "أمثل منذر بن سعيد في فضله وخيره وعلمه -لا أم لك- يعزل لإرضاء نفس ناكبة عن الرشد، سالكة غير القصد، هذا ما لا يكون، وإني لأستحي من الله أن لا أجعل بيني وبينه في صلاة الجمعة شفيعا، مثل منذر في ورعه وصدقه، ولكنه أحرجني فأقسمت ولوددت أني أجد سبيلا إلى كفارة يميني بملكي، بل يصلي بالناس حياته وحياتنا إن شاء الله تعالى، فما أظننا نعتاض منه أبدا". وقيل إن الحكم اعتذر عما قال منذر، وقال: "يا أمير المؤمنين إنه رجل صالح، وما أراد إلا خيرا، ولو رأى ما أنفقت وحسن تلك البنية لعذرك"، فأمر حينئذ الناصر بالقصور ففرشت وفرش ذلك المسجد بأصناف فرش الديباج، وأمر بالأطعمة وقد أحضر العلماء وغيرهم من الأمراء، وغص بهم المجلس فدخل منذر في آخرهم فأومأ إليه الناصر أن يقعد بقربه، فقال له: "يا أمير المؤمنين إنما يقعد الرجل حيث انتهى به المجلس، ولا يتخطى الرقاب"، فجلس في آخر الناس وعليه ثياب رثة. وقحط الناس آخر مدة الناصر فأمر القاضي منذر المذكور بالبروز إلى الاستسقاء بالناس فتأهب لذلك، وصام بين يديه أياما ثلاثة تنفلا وإنابة ورهبة، واجتمع له الناس في مصلى الربض بقرطبة بارزين إلى الله تعالى في جمع عظيم. وصعد الخليفة الناصر في أعلى مصانعه المرتفعة من القصر ليشارف الناس ويشاركهم في الخروج إلى الله تعالى والضراعة له، فأبطأ القاضي حتى اجتمع الناس وغصت بهم ساحة المصلى، ثم خرج نحوهم ماشيا متضرعا مخبتا متخشعا وقام ليخطب، فلما رأى بدار الناس إلى ارتقائه واستكانتهم من خيفة الله وإخباتهم له وابتهالهم إليه - رقت نفسه وغلبته عيناه فاستعبر وبكى حينا ثم افتتح خطبته بأن قال يا أيها الناس سلام عليكم ثم سكت ووقف شبه الحصر ولم يك من عادته فنظر الناس بعضهم إلى بعض لا يدرون ما عراه ولا ما أراد بقوله ثم اندفع تاليا قوله تعالى { كتب ربكم على نفسه الرحمة } إلى قوله تعالى رحيم [ الأنعام 54 ] ثم قال استغفروا ربكم إنه كان غفارا استغفروا ربكم ثم توبوا إليه وتزلفوا بالأعمال الصالحة لديه قال الحاكي فضج الناس بالبكاء وجأروا بالدعاء ومضى على تمام خطبته ففزع النفوس بوعظه وانبعث الإخلاص بتذكيره فلم ينقض النهار حتى أرسل الله السماء بماء منهمر روى الثرى وطرد المحل وسكن الأزل والله لطيف بعباده وكان لمنذر في خطب الاستسقاء استفتاح عجيب ومنه أن قال يوما - وقد سرح طرفه في ملأ الناس عندما شخصوا إليه بأبصارهم فهتف بهم كالمنادي - يا أيها الناس وكررها عليهم مشيرا بيده في نواحيهم أنتم الفقراء إلى الله [ فاطر 15 ] فاشتد وجد الناس وانطلقت أعينهم بالبكاء ومضى في خطبته وقيل إن الخليفة الناصر طلبه مرة للإستسقاء وإشتد عزمه عليه فتسابق الناس للمصلى فقال للرسول - وكان من خواص الناس - ليت شعري ما الذي يصنعه الخليفة سيدنا فقال له ما رأينا قط أخشع منه في يومنا هذا إنه منتبذ حائر منفرد بنفسه لابس أخس الثياب مفترش التراب وقد رمد به على رأسه وعلى لحيته وبكى وإعترف بذنوبه وهو يقول هذه ناصيتي بيدك أتراك تعذب بي الرعية وأنت أحكم الحاكمين لن يفوتك شيء مني قال الحاكي فتهلل وجه القاضي منذر عندما سمع قوله وقال يا غلام احمل المطر معك فقد أذن الله تعالى بالسقيا إذا خشع جبار الأرض فقد رحم جبار السماء وكان كما قال فلم ينصرف الناس إلا عن السقيا وكان منذر شديد الصلابة في أحكامه والمهابة في أقضيته وقوة الحكومة والقيام بالحق في جميع ما يجري على يده لا يهاب في ذلك الأمير الأعظم فمن دونه ومن أخبار منذر المحفوظة له مع الخليفة الناصر أن ا تخذ لسطح القبيبة المصغرة الاسم للخصوصية التي كانت مائلة على الصرح الممرد المشهور شأنه بقصر الزهراء قراميد مغشاة ذهبا وفضة أنفق عليها مالا جسيما وقرمد سقفها به وجعل سقفها صفراء فاقعة إلى بيضاء ناصعة تستلب الأبصار بأشعة نورها وجلس فيها إثر تمامها يوما لأهل مملكته فقال لقرابته ومن حضر من الوزراء وأهل الخدمة مفتخرا عليهم بما صنعه من ذلك مع ما يتصل به من البدائع الفتانة هل رأيتم أو سمعتم ملكا كان قبلي فعل مثل هذا أو قدر عليه فقالوا لا والله يا أمير المؤمنين وإنك الأوحد في شأنك كله وما سبقك إلى مبتدعاتك هذه ملك رأيناه ولا انتهى إلينا خبره فأبهجه قولهم وسره وبينما هو كذلك إذ دخل عليه القاضي منذر بن سعيد وهو ناكس الرأس فلما أخذ مجلسه قال له كالذي قال لوزرائه من ذكر السقف المذهب واقتداره على إبداعه فأقبلت دموع القاضي تنحدر على لحيته وقال له والله يا أمير المؤمنين ما ظننت أن الشيطان لعنه الله يبلغ منك هذا المبلغ ولا أن تمكنه من قيادك هذا التمكين مع ما آتاك الله من فضله ونعمته وفضلك به على العالمين حتى ينزلك منازل الكافرين قال فانفعل عبد الرحمن لقوله وقال له انظر ما تقول وكيف أنزلني منزلتهم قال نعم أليس الله تعالى يقول { ولولا أن يكون الناس أمة واحدة } الآية فوجم الخليفة وأطرق مليا ودموعه تتساقط خشوعا لله تعالى قال الحاكي ثم أقبل على منذر وقال له جزاك الله يا قاضي عنا وعن نفسك خيرا وعن الدين والمسلمين أجل جزائه وكثر في الناس أمثالك فالذي قلت هو الحق وقام عن مجلسه ذلك وهو يستغفر الله تعالى وأمر بنقض سقف القبيبة وأعاد قرمدها ترابا على صفة غيرها انتهى 
وحضر القاضي المنذر معه يوما في الزهراء فقام الرئيس أبو عثمان بن إدريس فأنشد في مدح الناصر قصيدة منها 
(
سيشهد ما أبقيت أنك لم تكن ** مضيعا وقد مكنت للدين والدنيا ) 
(
فبالجامع المعمور للعلم والتقى ** وبالزهرة الزهراء للملك والعليا )
فاهتز الناصر وابتهج وأطرق منذر بن سعيد ساعة ثم قام منشدا 
(
يا باني الزهراء مستغرقا ** أوقاته فيها أما تمهل ) 
(
له ما أحسنها رونقا ** لو لم تكن زهرتها تذبل ) فقال الناصر إذا هب عليها نسيم التذكار والحنين وسقتها مدامع الخشوع يا أبا الحكم لا تذبل إن شاء الله تعالى فقال منذر اللهم اشهد أني قد بثثت ما عندي ولم آل نصحا ولقد صدق القاضي منذر رحمه الله تعالى فيما قال فإنها ذبلت بعد ذلك في الفتنة وقلب ما كان فيها من منحة محنة 
وفي الختام اذكركم بان ما ذكرت من قصص ما هو إلا نذر يسير ولولا خوف الاطالة والملل لاطلت نسأل الله القبول "ربنا تقبل منا انك انت السميع العليم "
***********************************
 
المصادر
1- النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة حوادث سنة 673 هـ
2-  نفخ الطيب من غصن الأندلس الرطيب ج1ص372و378و570
3- البداية والنهاية لابن كثير 
4- سير اعلام النبلاءج16ص111

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

 

تصنيفات المادة