الأربعاء، ١٦ شوال ١٤٤٥ هـ ، ٢٤ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

ماذا بعد الصوم... ؟!

رمضان فرصة عظيمة لإصلاح القلوب والأسماع والأبصار والأبدان

ماذا بعد الصوم... ؟!
ياسر برهامي
الجمعة ٢٧ مايو ٢٠١٦ - ٢١:٤١ م
1756

ماذا بعد الصوم... ؟!

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فمِن رحمة الله -سبحانه وتعالى- بعباده المؤمنين أن يسَّر لهم وشَرَع لهم ما يُحصِّلون به غاية وجودهم التي أوجدهم الله مِن أجلها؛ وهي تحقيق التقوى وعبادة الله -عز وجل-، قال الله -تعالى-: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات:56)، وقال: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة:21).

فالعبادة شرعها الله لتحصيل التقوى التي هي حال القلب المؤمن، قال الله -تعالى-: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة:183)، وهذا مِن رحمة الله بعباده المؤمنين، أنه -سبحانه- شرَع لهم ما يُحصّلون به التقوى، والصيام مِن أعظم العبادات التي يُحصِّل بها المؤمن تقوى الله -عز وجل-، ويتطهر قلبُه ويسْلَم؛ ولا ينجو إلا مَن أتى الله بقلبٍ سليم.

وإن الإنسان لتشغله حياته عن تحصيل حياة قلبه، فيتردى في مدارك الحيوانية أو الشيطانية على تفاوت الناس في أعمالهم وأخلاقهم، وذلك مبدؤه مِن طمع الإنسان وحرصه على ما لا يحتاج إليه؛ فهناك احتياجات فطر الله الإنسان على طلبها، وعلى أن تستمر حياته بها، ولكن بشرط ألا تزيد عن الحاجة؛ فمن ذلك: الطعام والشراب، والشهوة الجنسية، وكذلك حب المال، وكذلك الاختلاط بالخلق؛ لأن الإنسان خلق مدنيًّا بطبعه -كما قال ابن تيمية رحمه الله-، وكذلك تعلق البدن بالراحة والكسل؛ وذلك يؤدي إلى ضعف عزيمة القلب عن الانطلاق في طاعة الله، فتكون راحة البدن سببًا في كسل الإنسان وعدم عزم قلبه على طاعة الله؛ فيسكن إلى الأرض ويُخْلِد إليها.

فهذه مداخل الشيطان يدخل منها إلى الإنسان يتدرج به مِن مقام الإنسانية إلى أن يكون كالحيوان البهيم الذي لا يعقل ولا يفهم، ويكون أضل منه -والعياذ بالله- بعد ذلك، قال الله -تعالى-: (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً) (الفرقان:44).

فالذين كالأنعام: هم الذين يعيشون الحياة الحيوانية في الطعام والشراب، والجنس، والمال، والاختلاط بالناس، وتعلق القلب بالراحة والكسل، والذين هم أضل: هم الذين يتعلقون بالإرادات الشيطانية مِن إرادة العلو وإرادة الفساد.

ومَن ينظر إلى أنظمة الحياة -التي يعيشها الناس اليوم في الشرق والغرب بعيدًا عن دين الله، التي يروِّج لها إعلام الغرب الخارج عن دين الله، ومَن يوافقه مِن المنافقين في سائر أرجاء الأرض يرى أنهم يروجون لحياة هي أشبه بحياة البهائم أو أسوأ منها.

فشَرَع الله لنا ما نتحكم به في شهواتنا، وما نتحكم به في فضول هذه الاحتياجات مِن الطعام والشراب، والشهوة والمال، وحب الراحة والسكون، فكان شهر رمضان رحمة مِن الله -عز وجل-، شرَع الله فيه مِن الصيام عن الطعام والشراب والشهوة الجنسية، حتى الشهوة التي أباحها الله في غير نهار رمضان جعلها في نهاره محرمة؛ ليكون الإنسان أملك لنفسه، فإذا كان يمتنع عن الحلال في النهار فهو أملك أن يمتنع عما حرم الله مطلقًا في الليل والنهار؛ مِن الفروج المحرمة، ومِن النظر إلى العورات المكشوفة.

ثم إن مِن واجبات الصيام: أن يمتنع عن قول الزور والغيبة والنميمة والعمل بكل باطل، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ؛ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابه) (رواه البخاري)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (رُبَّ صَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إِلَّا الْجُوعُ، وَرُبَّ قَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ قِيَامِهِ إِلَّا السَّهَرُ) (رواه أحمد وابن ماجه، وصححه الألباني).

فمَن لم يصُم سمعه وبصره، وآذى جيرانه ومَن حوله، واغتاب ونم؛ لم يكن صائمًا! ومَن أفسد ليله ونهاره بالنظر إلى ما يُعده أهل الفساد مِن المسلسلات والأفلام التي تمتلئ بالعورات المكشوفة؛ فهو لم يصم بعد.

قال أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إذا صُمت؛ فليصُم سمعك وبصرك، ودع أذى الجار، ولا تجعل يوم صومك ويوم فطرك سواء!".

وفي الثُلث الأخير مِن رمضان شُرع الاعتكاف الذي يتخلص به الإنسان مِن الخُلطة المضرة بالناس "فُضول الخلطة بالناس"؛ فيحتاج إلى أن يخلو بنفسه، ويذكر ربه ويُكثر مِن قراءة القرآن، ويتعبد لله -عز وجل-، ويترك فُضول المنام والكسل، كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا دخل العشر أيقظ أهله وأحيا ليله، وشد المئزر. أي: اعتزل النساء.

فشُرع المزيد مِن ترك النوم والكسل بإحياء الليل كله، وشُرع المزيد مِن التحكم في الشهوة الجنسية، وشُرع الجود والكرم بإطعام الطعام والصدقة في رمضان، وختم ذلك بصدقة الفطر الواجبة، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ جِبْرِيلُ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ، فَيُدَارِسُهُ القُرْآنَ، فَلَرَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ أَجْوَدُ بِالخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ المُرْسَلَةِ" (متفق عليه).  

فهنا يتخلص الإنسان مِن فضول الطعام والشراب، والشهوة، والمال، والخلطة والمنام، وهذا بلا شك إذا تخلص مِن هذه الستة كان ذلك أدعى إلى أن يرتفع إلى مقام الإنسانية، وأن يبتعد عن مدارك الحيوانية، فضلًا عن الشيطانية؛ فإنه إذا قرأ القرآن وصلى، وسجد لله -سبحانه وتعالى-؛ فإنه يبتعد عما يريده الشيطان مِن إرادة العلو وإرادة الفساد (تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (القصص:83).

فيتخلص الإنسان مِن إرادة العُلو وإرادة الفساد، ويتخلص مِن أمراض القلوب التي منها ما بيَّنه النبي -صلى الله عليه وسلم- في تعوّذه: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَالْجُبْنِ وَالْبُخْلِ، وَالْهِرَمِ وَالْقَسْوَةِ، وَالْغَفْلَةِ، وَالْعَيْلَةَ، وَالذِّلَّةَ وَالْمَسْكَنَةَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْفَقْرِ وَالْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ، وَالشِّقَاقِ وَالنِّفَاقِ, وَالسُّمْعَةِ وَالرِّيَاءِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الصَّمَمِ وَالْبَكَمِ، وَالْجُنُونِ، وَالْجُذَامِ، وَالْبَرَصِ، وَسَيِّئِ الْأَسْقَامِ) (رواه الحاكم والبيهقي، وصححه الألباني).

فتعوذ مِن نحو عشرين مرضًا قلبيًّا، وتعوذ مِن ثلاثة أو نحوها مِن أمراض الأبدان، وأكثرنا يهتم بأمراض البدن ولا يهتم بمرض القلب؛ وإن التعوذ مِن العمى: عمى القلب أولًا، ومِن البكم: بكم اللسان عن نطق الحق، ومِن الصمم: عدم سماع الحق وقبوله.

رمضان فرصة عظيمة لإصلاح القلوب والأسماع والأبصار والأبدان إذا فهمنا كيف نصوم عما حرَّم الله -سبحانه وتعالى-، واجتهدنا أن نتخلص مِن الفضول، وأن نرتقي في حياتنا إلى الحياة الإنسانية بدلاً مِن الحياة الحيوانية أو الحياة الشيطانية.

نسأل الله -عز وجل- أن يبلغنا رمضان، وأن يوفقنا فيه لما يحبه ويرضاه، وأن يجعلنا مِن عتقائه مِن النار، ومن المقبولين. آمين.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

 

تصنيفات المادة