الخميس، ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٨ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

رمضان .. وفقه التعبد

من فَقهَ ذلك انشغل بالأولى، فإن كثرة العبادات وتشعبها قد يشغله عما استوجب عليه إصلاحه

رمضان .. وفقه التعبد
نور الدين عيد
الاثنين ٢٠ يونيو ٢٠١٦ - ١٣:١٦ م
1367

رمضان .. وفقه التعبد

كتبه/ نور الدين عيد

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد:

فإن مظاهر الإعانة في مواسم الرحمات أكثر من أن تحصى، فلا بد للعبد أن يغتنم هذه المواسم، فلا تكون عبادته عبادة متخلص أو مستأجر، بل لابد من اغتنام هذه الرحمات بتعرض القلب لها، والقيام بشكرها، فإن هذه المواسم زادٌ لما بعدها، " وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى"

ومما لا ريب فيه أن شعب الإيمان أعظم من أن يحيط بها عبد عملاً وقولًا وحالاً؛ فعن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «استقيموا ولن تحصوا واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن» . رواه مالك وأحمد ورواه الطبراني في "الأوسط" من حديث سلمة بن الأكوع، وقال فيه: "واعلموا أن أفضل أعمالكم الصلاة".، لذلك تعيّن على العبد الاعتناء بالفرائض إصلاحاً وتجويداً ، ومن ثم يبني عليها متمماتها من النوافل المقربات،

فمن فَقهَ ذلك انشغل بالأولى، فإن كثرة العبادات وتشعبها قد يشغله عما استوجب عليه إصلاحه؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى قال: من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، وما زال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي عليها، وإن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس المؤمن، يكره الموت وأنا أكره مساءته ".رواه البخارى .

1- فقه الزمان الذي اكتنفه:

فمن المتعين في موسم رمضان من الطاعات التي تخصه أن يصلحها ويقوم بها على وجه أتم وأكمل، يجهد في ذلك ويبتهل أن يوفق لها منكسراً ذليلاً مستحضراً فضل الله الذي إن فاته فقد لا يدركه تارة أخرى، عن أنس رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تعرضوا لنفحات رحمة الله فان لله نفحات من رحمته يصيب بها من يشاء من عباده" رواه الطبرانى في الكبير وحسنه الألباني،

وإن العبد إذا أبصر عيبه وخطيئته وخشي عاقبة أمره حمله على إصلاح ما بينه وبين سيده قبل أن يمنع من العمل ويحال بينهما، قال سبحانه: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ"، فمن فقه ذلك وتدبره حمله على ملازمة الباب حتى يفتح له أو يموت على عتبته، فليس له أن يفارقه أو يطرق غيره، فقلب يزيغ وعين تلتفت وتفتن بزخارف، وجارحة تلهث خلف مشتهاها، أنّى لها أن تخلص لربها، فيكون شوقها إليه، وتوكلها عليه، وعبوديتها له وحده متحررة من كل قيد وأسر، هذا موسم فك أسرها، هذا زمان قربها من خالقها،

يلبي النداء فيُجبر كسره، ويرحم ضعفه، ويستر عيبه، ويغفر ذنبه، ويؤخذ بيده إلى مراضي ربه، صفدت أسباب شقائه حتى ينطلق إلى باب سيده؛ " وصفدت الشياطين ومردة الجن"، ولا يزال مناد ينادي: "يا باغي الخير أقبل ويا باغى الشر أقصر"، فهلم إلى شفاء علتك، ومغفرة زلتك، وستر غدرتك، هلم يا ضعيف فتقَوّ بالله، هلم يا ذليل فاعتزّ بالله، هلم يا فقير فاستغن بالله، هذا موسم الجبران والغفران والعتق من النيران .

2- فقه وظائف الشهر:

إن العبادة منها متعين على الدوام والتكرار في كل وقت كالتوحيد، ومنها ما يتكرر في اليوم والليلة كالصلاة وغيرها، ومنها ما يتكرر في العام كزكاة من بلغ ماله نصاباً وحال عليه حوله، ومنها ما يتعين مرة في العمر كالحج، أما موسم رمضان فأعظم شعائره التي تخصه الصيام، لذلك لا بد للعبد أن يفقه هذا الوقت ووظائفه فلا ينشغل في ليله مثلاً بعبادة مفضولة فى هذا الوقت مضيعاً عبادة القيام في جماعة المصلين، عن أبي ذر، قال: صمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم رمضان فلم يقم بنا النبي صلى الله عليه وسلم حتى بقي سبع من الشهر، فقام بنا حتى ذهب نحو من ثلث الليل، ثم كانت سادسة فلم يقم بنا، فلما كانت الخامسة قام بنا حتى ذهب نحو من شطر الليل، قلنا: يا رسول الله، لو نفلتنا قيام هذه الليلة، قال: «إن الرجل إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف حسب له قيام ليلة»، قال: ثم كانت الرابعة فلم يقم بنا، فلما بقي ثلث من الشهر أرسل إلى بناته ونسائه، وحشد الناس، فقام بنا حتى خشينا أن يفوتنا الفلاح، ثم لم يقم بنا شيئا من الشهر، قال داود: قلت: ما الفلاح؟ قال: السحور" رواه أحمد والترمذي وهذا لفظ النسائي وصححه الألباني، فالأولى أن يصليها في جماعة المصلين لا أن يؤخرها ولو وحده، سمعت أحمد قيل له: يعجبك أن يصلي الرجل مع الناس في رمضان أو وحده؟ قال يصلي مع الناس، وسمعته أيضا يقول: يعجبني أن يصلي مع الإمام ويوتر معه قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الرجل إذا قام مع الإمام حتى ينصرف كتب الله له بقية ليلته" ومثله ذكر ابن نصر عن أحمد ثم قال أبو داود: " قيل لأحمد وأنا أسمع: يؤخر القيام -يعني التراويح- إلى آخر الليل؟ قال: لا، سنة المسلمين أحب إلي"، فلعل عبداً تدركه "هم القوم لا يشقى بهم جليسهم"، فلعل ربه يهب المسيئين للمحسنين، وأن ينظر إلى متنسك منكسر فيرحم به جمعه، وينزل عليهم من جوده لذله وتعبده، أدرك قدرة الله على كل شىء وأنه لا يستعظمه شىء فاطلب معالي الأمور،

عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من آمن بالله ورسوله وأقام الصلاة وصام رمضان كان حقا على الله أن يدخله الجنة جاهد في سبيل الله أو جلس في أرضه التي ولد فيها» . قالوا: أفلا نبشر الناس؟ قال: «إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة وفوقه عرش الرحمن ومنه تفجر أنهار الجنة» . رواه البخاري،

واعلم أن شفاء داء قلبك وعلته بيد ربك، فأكثر من دعائه أن يكشف ما حلّ بك من عائق يحول بينك وبين مرضاته، وإياك أن تظن بالله ظن السوء أن يعظم عليه داؤك أو يثقل عليه شفاؤك، قال الله تعالى: "أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ * اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ".

فلئن قسا قلبك وكثر ذنبك فاعلم أن لك رباً جواداً قديراً كريماً يرحم الضعف ويجبر الكسر، ويحيي الموات، ولكن اعمل وكن متصدقاً باذلاً مبرهناً على صدق أوبتك لربك،

ووظائف الشهر ليس على القيام في جوف الليل فحسب؛ بل نهار صائم محتسب متهذب بآدابه: "عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله تعالى: إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، يدع شهوته وطعامه من أجلي، للصائم فرحتان: فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه، ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، والصيام جُنة، وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، وفإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني امرؤ صائم" متفق عليه،

قال جابر بن عبد الله: «إذا صمت فليصم سمعك وبصرك، ولسانك عن الكذب والمحارم، ودع أذى الخادم، وليكن عليك وقار وسكينة يوم صيامك، ولا تجعل يوم فطرك وصومك سواء»، وعن أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من صام رمضان، وعرف حدوده، وتحفظ مما كان ينبغي له أن يتحفظ فيه، كفر ما قبله" رواه أحمد وحسنه الأرناؤوط،

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه. ومن قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه. ومن قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه» متفق عليه ، وقال الخطابي في "أعلام الحديث" 1/169: قوله: "إيمانا واحتسابا"، أي: نية وعزيمة، وهو أن يصومه على وجه التصديق به، والرغبة في ثوابه، طيّبة نفسه بذلك، غير كارهة له، ولا مستثقلة لصيامه، أو مستطيلة لأيامه"، فيدرك العبد عظمة وشرف الزمان الذى هو فيه فيبادر في اغتنامه والقيام فيه بما يقربه من ربه مستعيناً بالله على ذلك .

3- فقه إصلاح الباطن:

إن آفات القلب وعلله أكثر من أن تحصى، وإن كل داء للعبد لا بد وأن يبحث عن علاجه قبل أن يحرم من جنة ربه: "يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ"، وإن موسم الصيام فى رمضان أعظم فرصة لإصلاح باطنه؛ لاشتماله على عبادة الإخلاص والاحتساب في صومه لله رب العالمين وقيامه بين يديه، يصبر على طاعته فيوفى أجره بغير حساب ويقع أجره على الله "إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ"، وعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صم شهر الصبر رمضان .." رواه أبو داوود والبخاري في التاريخ وصححه الألباني، فوقوع هذا الصبر والإخلاص الذى يمنعه أن يقبل على طعامه وشرابه الذي خلا به رجاء ما عند الله وما أعد للصائمين، فبهذا يقوى عمل القلب وتضعف داعية الهوى وصراخ النفس بأمانيها.

لذلك رتب الله بكرمه وجوده بعد إعانته جزاءً عظيماً وأجراً وفيراً لهؤلاء الصائمين القائمين المحتسبين، فعن عبد الله بن عمرو: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الصيام والقرآن يشفعان للعبد، يقول الصيام: أي رب إني منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفعني فيه ويقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفعني فيه فيشفعان" رواه أحمد وصححه الألباني، فهذه العبادات التي ملأت هذا الشهر من الصيام والقيام وقراءة القرآن وإخراج الصدقات والزكوات تقع على القلب بالتطهير والشفاء أعظم من أي وقت أخر .

فلا يلتفت العبد عن الدعاء لربه أن يقيه شر نفسه وأن يصلح له قلبه الذي هو محل نظره، فإنه بكل جميل كفيل وهو حسبنا ونعم الوكيل، والحمد لله رب العالمين .

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com