الجمعة، ٢٠ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٩ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

مسألة التكفير بيْن الإفراط والتفريط

الخطر في هذا الباب هو في التنفير مِن الدين بالحكم بإسلام أو نجاة الكفار الذين حكم الله بكفرهم وخلودهم في النار

مسألة التكفير بيْن الإفراط والتفريط
ياسر برهامي
الأحد ٢٦ يونيو ٢٠١٦ - ١٢:٠٥ م
1934

مسألة التكفير بيْن الإفراط والتفريط

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فإن مصطلحات الكفر والنفاق، والشرك، والفُسوق، مصطلحات استعملها الشرع الإسلامي كتابًا وسنةً، واتّبع أهلُ العلم الكتاب والسُّنة على ذلك، وأجمعوا في مسائل واختلفوا في غيرها، وبيَّن الرسول -صلى الله عليه وسلم- انقسام كل هذه المصطلحات إلى كفر أكبر مخرج مِن الملة، وكفر أصغر لا يُخرِج مِن الملة، ولا يُنقض أصل الإيمان به، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ), فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ وَمَا الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ؟ قَالَ: (الرِّيَاءُ) (رواه أحمد، وصححه الألباني). وقال في النساء: (يَكْفُرْنَ) قِيلَ: أَيَكْفُرْنَ بِاللَّهِ؟ قَالَ: (يَكْفُرْنَ العَشِيرَ) (متفق عليه).

وقال للصحابة -رضي الله عنهم- لما قالوا: "أَيُّنَا لَمْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ؟!" عند نزول قول الله -تعالى-: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ) (الأنعام:82)، فقال -صلى الله عليه وسلم-: (لَيْسَ كَمَا تَظُنُّونَ، إِنَّمَا هُوَ كَمَا قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ: (يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) (لقمان:13) (متفق عليه). وقال -صلى الله عليه وسلم-: (آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ) (متفق عليه).

ومعلوم أن هذه الذنوب لا تُخرج مِن الملة إجماعًا، إلا مَن كَذَب في قوله: "أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله"، ونحو ذلك.

فعُلِم بذلك أن المقصود في الحديث هو النفاق الأصغر، وخَرج الخوارج عن إجماع أهل العلم مِن الصحابة فمَن بعدهم؛ فكفـَّروا بارتكاب الذنوب والكبائر، وأخرجوا صاحبها مِن الملة، وحكموا بخلوده في النار، معارضين لقول الله -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ) (النساء:48)، بل كانت بدايتهم في التكفير بما ظنوه هم شركًا وكفرًا ومعصية -ولم تكن معصية في الحقيقة- مِن علي ومعاوية -رضي الله عنهما-؛ لقبولهما التحكيم بمنع سفك دماء المسلمين!

وسار على طريق الخوارج جماعات التكفير اليوم، فكفّروا مَن خالفهم بالشبهة والظن! وإن لم يعلنوا التكفير بالذنوب، بل كفروا مَن رفض بيعة أميرهم، والدخول في دولتهم "المُدعاة!"، وهو أمر لم يسبقهم إليه أحد، ولا حتى مع الخلافة الراشدة، وكان سلوك هذه الجماعات في التنفير من الإسلام وتشويه صورة الجهاد "بل الشريعة كلها" مِن أعظم أسباب تأخر العمل الإسلامي في بلاد المسلمين والكفار على السواء؛ مما لم يقع مثله منذ بداية الصحوة الإسلامية!

وعلى الجانب الآخر وُجد فريق أخر يغالي في الامتناع عن وصف مَن وصفه الله ورسوله بالكفر أو النفاق! بل صارت هناك حملة عالمية لإلغاء هذه الأوصاف الشرعية، أو -على الأقل- تفريغها مِن مضمونها بالكلية؛ حتى وصل الأمر إلى رفض تكفير مَن عبد غير الله، وكذَّب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكذب القرآن، وهذا مخالف للمعلوم من الدين بالضرورة!

بل وُجد مَن يدافع عن الملحدين المنكرين لوجود الله -تعالى- أو عدم تعذيبهم في الآخرة بحجة أنهم غير معاندين، أو أن الإسلام وصلهم بطريقة مشوهة، وكأن طواغيت الأمم عبْر الزمان كانوا يوصلون الإسلام بطريقة صحيحة إلى أتباعهم ثم رفض هؤلاء الأتباع الحق، وكأن فرعون لم يقل لقومه: (مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ) (غافر:29)، ولم يلتفت هؤلاء إلى قول الله -تعالى-: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا . الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا . أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا) (الكهف:103-105)، وقوله -تعالى-: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا  إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ) (السجدة:22).

فكفرُ الإعراض عن الحجة وعدم سماعها وقبولها، ثابت في الكتاب والسُّنة، ومَن تأمل رسالة النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى كسرى، وهرقل قيصر الروم، وفيها: (مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ: سَلاَمٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الهُدَى، أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الإِسْلاَمِ، أَسْلِمْ تَسْلَمْ، يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ، وإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الْأَرِيسِيِّينَ) (متفق عليه).

فلماذا أَثِمَ الأريسيّون -أي فلاحو العجم-؟!

ولماذا كان على هرقل مثل إثمهم، وكذا على كسرى مثل إثمهم؟!

أليس لأجل أنهما أضلوهم السبيل؟

ولقد بيَّن الله مصير الأتباع على جهلهم لإعراضهم عن الحجة يوم القيامة، فقال -عز وجل-: (إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا . خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا . يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا . وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا . رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا) (الأحزاب:64-68).

فهل كان في زمن مِن الأزمنة طاغوت مِن الطواغيت يسمح بوصول الإسلام نقيًّا صحيحًا إلى قومه دون تشويه؟!

لم يقع ذلك قطعًا، بل لم تزل شياطين الإنس والجن (يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا) (الأنعام:112)، أي: يغري بعضهم بعضًا، ليغروا عامتهم ويضللوا جهالهم، وقد عامل النبي -صلى الله عليه وسلم- كل مَن بلغه خبره فلم يبحث ولم يرفع رأسه بالتفكير فيما بُعث به مِن كلمتي الشهادة: "لا إله إلا الله، محمد رسول الله"، معاملة الكفار في الدنيا والآخرة.

قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ، إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ) (رواه مسلم). 

قال أبو محمد بن حزم -رحمه الله- بعد أن بيَّن عذر مَن أخطأ مِن المسلمين في أي مسألة مِن مسائل العقيدة والعمل إذا لم يبلغه عن الله وعن رسوله -صلى الله عليه وسلم- حجة: "فَإِذا عذرتم للمجتهدين إِذا أخطأوا فأعذروا الْيَهُود وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوس، وَسَائِر الْملَل، فَإِنَّهُم أَيضًا مجتهدون قاصدون الْخَيْر! فجوابنا -وبَالله تَعَالَى التَّوْفِيق-: إننا لم نعذر مَن عذرنا بآرائنا، وَلَا كفرنا مَن كفرنا بظننا، وإن هذه خطة لم يؤتها الله -عز وَجل- أحدًا دونه، ولا ندخل الجنة والنار أحدًا، بل الله -تَعَالَى- يدخلهَا مَن شَاءَ، فَنحْن لَا نسمي بِالْإِيمَان إِلَّا من سَمَّاهُ الله -تَعَالَى- بِهِ، كل ذَلِك على لِسَان رَسُوله -صلى الله عَلَيْهِ وَسلم-.

وَلَا يخْتَلف اثْنَان من أهل الأَرْض -لَا نقُول مِن الْمُسلمين، بل مِن كل مِلَّة- فِي أَن رَسُول الله -صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- قطع بالْكفْر على أهل كل مِلَّة غير الْإِسْلَام الذي تَبرأ أَهله مِن كل مِلَّة حاشا الَّتِي أَتَاهُم بهَا عَلَيْهِ السَّلَام فَقَط، فوقفنا عِنْد ذَلِك.

وَلَا يخْتَلف أَيْضا اثْنَان فِي أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قطع باسم الْإِيمَان على كل مَن اتبعهُ وصدَّق بِكُل مَا جَاءَ بِهِ، وتبرأ من كل دين سوى ذلك؛ فوقفنا أيضًا عِنْد ذَلِك وَلَا مزِيد، فَمن جَاءَ نَص فِي إِخْرَاجه عَن الْإِسْلَام بعد حُصُول اسْم الْإِسْلَام لَهُ أخرجناه مِنْهُ سَوَاء أجمع على خُرُوجه مِنْهُ أَو لم يجمع، وَكَذَلِكَ من أجمع أهل الْإِسْلَام على خُرُوجه عَن الْإِسْلَام فَوَاجِب اتِّبَاع الْإِجْمَاع فِي ذَلِك، وَأما من لَا نَص فِي خُرُوجه عَن الإسلام بعد حُصُول الْإِسْلَام لَهُ، وَلَا إِجْمَاع فِي خُرُوجه أيضًا عَنهُ؛ فَلَا يجوز إِخْرَاجه عَمَّا قد صَحَّ يَقِينًا حُصُوله فِيهِ، وَقد نَص الله -تعالى- على مَا قُلْنَا فقال: (وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (آل عمران:85)، وقال -تعالى-: (وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً . أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا) (النساء:150-151)" إلى آخر كلامه، وهو كلام متين يلزم مراجعته؛ إذ أن البعض قد نقل عن ابن حزم -رحمه الله- خلاف كلامه قطعًا!

بل الحقيقة أن مَن بلغته التوراة والإنجيل الحاليين "على ما فيهما مِن تبديل وتحريف"؛ فقد قامت عليه الحجة في مسألة التوحيد؛ إذ أن نصوص التوحيد الباقية في الكتابين تقوم بها الحجة على كل مَن بلغته.

فأول الوصايا العشر في التوراة: "الرَّبُّ إِلهُنَا رَبٌّ وَاحِدٌ، رَبَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ".

وفي الإنجيل أن المسيح سُئل: "أيها المعلم: أي الوصايا هي أول الكل؟"، فقال: "كما هو مكتوب: الرَّبُّ إِلهُنَا رَبٌّ وَاحِدٌ، رَبَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ، وأن تُحِبُّ الرَّبَّ إِلهَكَ مِن كل عقلك، وقلبك، وفكرك". وأيضًا في الإنجيل عن المسيح -عليه السلام- أنه قال في مناجاته لربه: "إن الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ أَنْ يَعْرِفُوكَ أَنْتَ الإِلهَ الْحَقِيقِيَّ وَحْدَكَ، وَيَسُوعَ الْمَسِيحَ الَّذِي أَرْسَلْتَهُ", وغير ذلك كثير مِن إثبات الوحدانية لله، والرسالة للمسيح -عليه السلام-، وهي عقيدة أهل الإسلام.

فمن أصر على القول بالتثليث أو ألوهية المسيح -عليه السلام- مع ما وصله مِن نصوص؛ فقد قامت عليه الحجة، فضلًا عمن ينكِر النبوات والكتب بالكلية، فضلاً عن الملحدين المنكرين لوجود الله -عز وجل-!

والمسألة المشهورة المعروفة بالتفرقة بيْن فهم الحجة وقيام الحجة، متقررة عند أهل العلم، وأن المعتبر هو إقامة الحجة بوصولها إلى المكلـَّف بلسان مثله، والمقصود في ذلك في أصل الدين أمر الوحدانية "لا إله إلا الله"، وأمر الرسالة "محمد رسول الله"؛ فمن كذَّب بهما بعد بلوغهما تقليدًا أو اجتهادًا باطلاً؛ فهو غير معذور في الدنيا والآخرة.

والخطر في هذا الباب هو في التنفير مِن الدين بالحكم بإسلام أو نجاة الكفار الذين حكم الله بكفرهم وخلودهم في النار؛ فما الذي يدفعهم للبحث عن الحق إذا كانت النجاة حاصلة لهم مِن غير أن يبحثوا عن هذا الدين؟!

ثم أعظم مِن ذلك: المخالفة للنصوص الشرعية في بيان حال المكذبين الجهال، والمعاندين بعد وصول خبر الرسول -صلى الله عليه وسلم- إليهم، قال الله -تعالى-: (وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (آل عمران:85)، وقال -تعالى-: (إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ) (آل عمران:19).

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

 

تصنيفات المادة