الجمعة، ٢٠ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٩ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

"من حُرِم أجرها فقد حُرِم"

نفحة شهر رمضان تضمن نفحات ورحمات كثيرة، وأعظمها على الإطلاق ليلة القدر

"من حُرِم أجرها فقد حُرِم"
رمضان النجدي
الأحد ٠٣ يوليو ٢٠١٦ - ٠٠:٠١ ص
3874

"من حُرِم أجرها فقد حُرِم"

كتبه/ رمضان النجدي

الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله، أمابعد:

فقد ثبت عن رسول الله في الحديث الحسن، عن محمد بن مسلمة قال: قال رسول الله: "إنَّ لِربِّكم عزَّ وجلَّ في أيَّامِ دهرِكم نَفَحاتٍ فتعرَّضوا لها؛ لعَلَّ أحَدَكم أنْ تُصيبَه منها نَفحةٌ لا يشقى بعدَها أبدًا" (المعجم الأوسط  3/180)

وهذا من رحمة الله بعباده أنه لم يجعل السنة كلها طرازا أو لونا واحدا؛ فاوَت الله سبحانه بين بعض الشهور والأيام والليالي "وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ" وهذا ما عناه رسول الله "بالنفحات" أي أيام وليالي وشهور تكون مواسم للطاعات يكثر فيها الخير والثواب والرحمات.

ونفحات الله فى السنة كثيرة؛ فالعشر الأُوَل من ذي الحجة نفحة، وتاسوعاء وعاشوراء نفحة، ويوم عرفة نفحة، ويوم الجمعة نفحة، وأعظم هذه النفحات وأعظمها أجرا وأثرا: شهر رمضان، النفحة العظمى والرحمة الكبرى من رب العباد للعباد.

ونفحة شهر رمضان تضمن نفحات ورحمات كثيرة، وأعظمها على الإطلاق ليلة القدر: "وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ"

 وهي محل حديثنا في هذه المقالة.

من اسمها تعرف فضلها؛ فهي ليلة ذات قدر، وأيّ قدر! هل في الليالي مثلها؟ لا والله.

خير الليالي وأشرفها، وأفضلها وأعلاها قدرا ومكانة وشرفا.

وهي ليلة تكتب فيها مقادير السنة كلها "إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ" "فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ".

نعم، هي ليلة مباركة لا يماثلها في بركتها ليلة؛ تتنزل فيها البركات والرحمات من رب البريات.

وهي ليلة "سلام"؛ مسلمة لا نقص فيها ولا عيب، يحلّ السلام فيها وبسببها على كل الخلائق دنيا وأخرى.

وهي ليلة " خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ" يالله، خير من ألف شهر ليس فيها هذه الليلة، أو أن العبادة فيها خير من ألف شهر.

من مراسيل مجاهد، أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ ذكر رجلًا من بني إسرائيلَ لبس السلاحَ في سبيلِ اللهِ ألفَ شهرٍ، قال: فعجب المسلمونَ من ذلك، قال: فأنزل اللهُ عزَّ وجلَّ: "إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ" التي لبس فيها ذلك الرجلُ السلاحَ في سبيلِ اللهِ ألفَ شهرٍ. (السنن الكبرى للبيهقي : 4/306)

أيّ فضل أعظم من هذا؟ أيّ خير أعظم من هذا الخير؟

حُق لنا والله أن نقول قولة عمر يوم عرفة، تاثرا ببعض الفضل لما سمعه من رسول الله: "كثر خير الله وطاب" إي والله "كثر خير الله وطاب"

أحبتنا الكرام:

رسولنا (صلى الله عليه وسلم) من أجل هذه الليلة إعتكف شهرا كاملا -رمضان كله- قبل أن يبين له أنها في العشر الأواخر؛ فعند مسلم عن أبي سعيد -رضي الله عنه- قال: إنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ اعتكف العشرَ الأُوَّلَ من رمضانَ، ثم اعتكف العشرَ الأوسطَ، في قبةٍ تركيةٍ على سدتها حصيرٌ، قال: فأخذ الحصيرَ بيدِه فنحَّاها في ناحيةِ القبةِ، ثم أطلع رأسَه فكلمَ الناسَ، فدنَوْا منهُ، فقال: " إني اعتكفتُ العشرَ الأُوَّلَ، ألتمسُ هذه الليلة، ثم اعتكفتُ العشرَالأوسطَ، ثم أُتيتُ فقيل لي: إنها في العشرِ الأواخرِ؛ فمن أحبَّ منكم أن يعتكفَ فليعتكف" فاعتكف الناسُ معَه . قال: "وإني أُريتُها ليلةَ وترٍ، وأني أسجدُ صبيحتها في طينٍ وماءٍ" فأصبح من ليلةِ إحدى وعشرين، وقد قام إلى الصبحِ، فمطرتِ السماءُ، فوكفَ المسجدُ، فأبصرتُ الطينَ والماءَ، فخرج حين فرغ من صلاةِ الصبحِ، وجبينُه وروثَةُ أنفِه فيهما الطينُ والماءُ، وإذا هي ليلةُ إحدى وعشرين من العشرِالأواخرِ. (صحيح مسلم - 1167)

يا الله، رسول الله يعتكف شهرا كاملا من أجل ليلة واحدة، وهو من هو، عليه أفضل الصلاة والسلام، سيد الأولين والآخرين، من غفر له ما تقدم من ذنبه وما تاخر؛ كم أحتاج أنا وأنت أن نعتكف وأن نخلو بالله ونتقرب منه ونعبده؟

ونحن بفضل الله قد صرنا اليوم على يقين أنها فى العشر الأواخر وليس في الشهر كله، بعد جملة من أحاديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم).

وهذا هو الصحيح عن توقيت هذه الليلة، أنها تنتقل في العشر كلها وترا وشفعا.

فقد تكون ليلة إحدى وعشرين، وهذا ثابت في حديث أبي سعيد المتقدم وغيره؛

- عن أبي سلمةَ قال تذاكرنا ليلةَ القدرِ، فأتيتُ أبا سعيدٍالخدريِّ رضيَ اللهُ عنهُ وكان لي صديقًا، فقلتُ: ألا تخرجُ بنا إلى النخلِ؟ فخرج وعليهِ خميصةٌ، فقلتُ لهُ: سمعتَ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يذكرُ ليلةَ القدرِ؟ فقال: نعم . اعتكفنا مع رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ العشرَ الوسطى من رمضانَ، فخرجنا صبيحةَ عشرين، فخطبنا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ فقال: " إني أُريتُ ليلةَ القدرِ، وإني نسيتها (أو أُنسيتها) فالتمسوها في العشرِ الأواخرِ من كل وترٍ، وإني أُريتُ أني أسجدُ في ماءٍ وطينٍ، فمن كان اعتكفَ مع رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ فليرجع" . قال: فرجعنا وما نرى في السماءِ قزعةٌ، قال: وجاءت سحابةٌ فمُطرنا، حتى سال سقفُ المسجدِ، وكان من جريدِ النخلِ، وأُقيمتِ الصلاةُ، فرأيتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يسجدُ في الماءِ والطينِ، قال: حتى رأيتُ أثرَ الطينِ في جبهتِه. وفي حديثِهما: رأيتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ حين انصرفَ، وعلى جبهتِه وأرنبتِه أثرُ الطينِ. (صحيح مسلم 1167)

وقد تكون ليلة ثلاث وعشرين، وهذا ثابت من حديث عبدالله بن أنيس:

"أريتُ ليلةَ القدرِ ثم أُنسيتُها، وأراني صُبحَها أسجدُ في ماءٍ وطينٍ، قال: فمُطِرْنا ليلةَ ثلاثٍ وعشرين، فصلى بنا رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم، فانصرفَ وإن أثرَ الماءِ والطينِ على جبهتِه وأنفِه. قال: وكان عبدُاللهِ بنِ أنيسٍ يقولُ: ثلاثَ وعشرين . (صحيح مسلم1168)

وقد تكون ليلة السابع والعشرين؛

وكان أُبَيّ بن كعب -رضي الله عنه- يقسم على ذلك، فعن زر بن حبيش يقول: سألتُ أُبيَّ بنَ كعبٍ رضيَ اللهُ عنه، فقلتُ: إنَّ أخاك ابن مسعوٍد يقول: من يَقُمِ الحولَ يُصِبْ ليلةَ القدرِ. فقال: رحمه اللهُ ! أراد أن لا يتَّكِلَ الناسُ، أما إنه قد علم أنها في رمضانَ، وأنها في العشرِ الأواخرِ، وأنها ليلةُ سبعٍ وعشرين، ثم حلف لا يَستثني أنها ليلةُ سبعٍ وعشرين . فقلتُ: بأيِّ شيءٍ تقول ذلك يا أبا المُنذرِ ؟! قال: بالعلامةِ، أو بالآيةِ التي أخبرنا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنها تطلع يومئذٍ، لا شعاعَ لها. (صحيح مسلم 762)

وقد تكون ليلة شفع، ثنتين وعشرين أو أربع وعشرين أو ست وعشرين؛

اعتكف رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ العشرَ الأوسطَ من رمضانَ، يلتمسُ ليلةَ القدرِ قبل أن تُبانَ لهُ، فلما انقضينَ أمرَ بالبناءِ فقُوِّضَ، ثم أُبينت لهُ أنها في العشرِ الأواخرِ، فأمرَ بالبناءِ فأُعيدَ، ثم خرج على الناسِ، فقال: " يا أيها الناسُ ! إنها كانت أُبينت لي ليلةَ القدرِ وإني خرجتُ لأُخبركم بها، فجاء رجلانِ يحتقَّانِ معهما الشيطانُ، فنسيتُها. فالتمسوها في العشرِ الأواخرِ من رمضانَ، التمسوها في التاسعةِ والسابعةِ والخامسةِ "قال قلتُ: يا أبا سعيدٍ ! إنكم أعلمُ بالعددِ منا. قال: أجل، نحن أحقُّ بذلك منكم . قال قلت: ما التاسعةُ والسابعةُ والخامسةُ؟ قال: إذا مضت واحدةٌ وعشرين فالتي تليها ثنتينِ وعشرين وهي التاسعةُ، فإذا مضت ثلاثٌ وعشرون فالتي تليها السابعةُ، فإذا مضى خمسٌ وعشرون فالتي تليها الخامسةُ" (صحيح مسلم 1167).

قال النووى -رحمه الله-: "وأجمع من يعتد به على وجودها ودوامها إلى آخر الدهر، للأحاديث الصحيحة المشهورة، قال القاضى: واختلفوا في محلها، فقال جماعة: هي منتقلة تكون فى سنة في ليلة وفي سنة أخرى في ليلة أخرى، وهكذا، وبهذا يجمع بين الاحاديث، ويقال: كل حديث جاء بأحد أوقاتها ولا تعارض فيها، قال: ونحو هذا قول مالِك، والثوري، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وغيرهم، قالوا: وإنما تنتقل في العشر الأواخر من رمضان....... وقيل: في العشر الأواخر، وقيل تختص بأوتار العشر، وقيل:بأشفاعها كما فى حديث أبى سعيد ."اه من شرح مسلم للنووي4/247.

وقد كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يجتهد في العشر كلها، وترها وشفعها،

ففي الحديث: "كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ إذا دخل العشرُ، أحيا الليلَ وأيقظ أهلَه وجدَّ وشدَّ المِئزَرَ" . (صحيح مسلم 1174)

هذا حاله (صلى الله عليه وسلم) في العشر كلها:

"أحيا ليله"، أي أنه كان في غيرها يقوم وينام، أما فيها فكان يحيي الليل كله.

"وأيقظ أهله" أي أنه في غيرها قد يتركهم ينامون وهو قائم، أما في العشر كان يوقظهم للعبادة والصلاة.

"وشد المئزر" وهي كناية عن ترك النساء للاعتكاف في العشر الأواخر.

فكيف يكون حالنا يا عباد الله؟

هذه الليلة وما فيها من الخير العظيم لهذه الأمة كنا سنعرف ليلتها تحديدا، لكن وقع خلاف وتخاصم بين رجلين من المسلمين فرفعت، ففي حديث أبى سعيد عند مسلم: "ثم خرج على الناسِ، فقال: " يا أيها الناسُ ! إنها كانت أُبينت لي ليلةَ القدرِ وإني خرجتُ لأُخبركم بها، فجاء رجلانِ يحتقَّانِ معهما الشيطانُ، فنسيتُها"

يالله رجلان فقط من المسلمين يختصمان ويتلاحيان فيُرفع معرفة هذه الليلة، يرفع خير عظيم عن هذه الأمة لخصومة اثنين فقط؛ فكم من الخير رُفع بسبب خلافات ليست بيت اثنين بل جماعات ودول من المسلمين؟

والله أن هذا الحديث ليربط بين هذا الداء -داء التخاصم والتقاطع والتدابر- وبين رفع الخير ونزول البلاء. نعم والله إنها حالقة للخير والبركات والرحمات والدين؛ فحري بنا ونحن في الشهر الرحمات أن نتراحم فيما بيننا، عسى أن يرفع بلاؤنا وتتنزل علينا رحمات ربنا "من لا يرحم لا يرحم"

عباد الله: إن هذه الليلة قال فيها رسول الله(صلى الله عليه وسلم): "مَن قام ليلةَ القدرِ إيمانًا واحتسابًا، غُفِرَ له ما تقدَّمَ من ذنبه" (البخارى1901)

يالله، هلا تأملنا هذا الأجر العظيم: "غفر له ما تقدم من ذنبه"!

وفي الختام: في الحديث الصحيح عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قلت يا رسول الله: أرأيت إن علمت أي ليلة ليلة القدر، ما أقول فيها؟ قال: قولي اللهم إنك عفو كريم تحب العفو فاعف عني" (سنن الترمذي -3513 حسن صحيح)

نعم والله تلك ليلة العافية فى الدنيا والآخرة، العفو والعافية، وما أدراكم ما العفو والعافية؟

معنى يشمل كل خير؛ عفو وعافية فى البدن والصحة، عفو وعافية من الذنوب والمعاصي، عفو وعافية من الشبهات والشهوات، عفو وعافية من البلايا والعقوبات للأمم والدول والجماعات والأفراد، عفو وعافية من عذاب القبر وأهوال يوم القيامة، عفو وعافية من عذاب النار.

حقا والله وصدق الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: "لله فيه ليلة من حرم خيرها فقد حرم" صحيح الترغيب والترهيب.

اللهم بلغنا أياها ولا تحرمنا أجرها واعفُ عنا ياكريم. اللهم آمين.

وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

 

تصنيفات المادة