الخميس، ١٧ شوال ١٤٤٥ هـ ، ٢٥ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

وقفات إيمانية مع قصة نبي الله يوسف -عليه السلام- (3) مِن البئر إلى القصر!

مِن البئر إلى الرق- مِن الرق إلى القصر- محنة امرأة العزيز...

وقفات إيمانية مع قصة نبي الله يوسف -عليه السلام- (3) مِن البئر إلى القصر!
سعيد محمود
الأربعاء ٠٣ أغسطس ٢٠١٦ - ١٥:٤٦ م
1658

وقفات إيمانية مع قصة نبي الله يوسف -عليه السلام- (3)

مِن البئر إلى القصر!

كتبه/ سعيد محمود

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

مقدمة:

- تذكير مجمل بما سبق مِن إلقاء إخوة يوسف -عليه السلام- له في البئر، وكذبهم على أبيهم بأن الذئب قد أكله!

- الإشارة إلى أن الأحداث التالية فيها بداية التمكين ليوسف -عليه السلام-، وإن كانت تحمل مِن الآلام ما تحمل، فكثير مِن الآمال لا تتحقق إلا بعد الآلام: قال الله -تعالى-: (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) (البقرة:216).

- الإشارة إلى أن الآيات مِن سورة يوسف -عليه السلام- هذه المرة تتلخص في ثلاثة مشاهدة.

المشهد الأول: مِن البئر إلى الرق:

- قال الله -تعالى-: (وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَابُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ . وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ) (يوسف:19-20).

- ملخص الآيات: يخبر الله -تعالى- عن قصة يوسف -عليه السلام- حين وُضع في البئر أنه جلس ينتظر فرج الله ولطفه به حتى جاءت قافلة مِن المسافرين مِن الشام إلى مصر، فأرسلوا بعضهم ليستقوا مِن ذلك البئر، فلما أدلى دلوه تعلق فيه يوسف -عليه السلام-، فلما رآه ذلك الرجل قال: يا بشراي، هذا غلام جميل، آية في البهاء والجمال، وأسره هو وآخر عن بقية الركب، وكان إخوة يوسف يترقبون المشهد، فلما استشعروا بأخذ السيارة له، لحقوهم، وقالوا هذا غلام أبق منا، وإن شئتم بعناه لكم ونحن فيه مِن الزاهدين، فاشتروه منهم بثمن بخس دراهم قليلة!

- وقفة: لكَ أن تتصور حمل القافلة لأعظم طفل في العالم على أنه سلعة تباع وتشترى كالحيوان والمتاع! ولك أن تتصور مشهد مفارقة هذا الطفل لوطنه ولأبيه وأمه ومراتع صباه إلى مصير مجهول في سوق العبيد والرقيق! ولكن... (وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ).

- (وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ): قال ابن كثير -رحمه الله-: "أي هو عالم بما تمالأ عليه إخوته، وبما أسره واجده مِن أنه بضاعة لهم، ومع هذا لا يغيره -تعالى-؛ لما في ذلك مِن الحكمة العظيمة والقدر السابق، والرحمة بأرض مصر، بما يجري الله على يدي هذا الغلام الذي يدخلها في صورة أسير رقيق، ثم بعد ذلك يملكه أزمة الأمور، وينفعهم الله به في دنياهم وأخراهم بما لا يحد ولا يوصف" اهـ.

- فائدة في سؤال: لماذا سكت يوسف -عليه السلام- ولم يظهر الحقيقة؟ والجواب: أنه اختار أخف الضررين، فقد علم أنه إذا رجع قتلوه، وهو الأغلب، فبلاء أهون مِن بلاء، وظلم أهون مِن ظلم.

المشهد الثاني: مِن الرق إلى القصر:

- قال الله -تعالى-: (وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) (يوسف:21).

- ملخص الآيات: يخبر الله -تعالى- عن يوسف -عليه السلام- حين جُعل في سوق العبيد؛ كيف دبَّر الله -تعالى- له بلطفه ألا يشتريه إلا رئيس الوزراء الذي ألقى الله في قلبه محبة يوسف -عليه السلام- حتى اتخذه ولدًا له، وكان عقيمًا لا ولد له، وأن ذلك كان أول التمكين ليوسف -عليه السلام- في أكبر ممالك الأرض يومئذٍ.

- (أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا): قال عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: "أفرس الناس ثلاثة: عزيز مصر، حين قال لامرأته: (أَكْرِمِي مَثْوَاهُ)، والمرأة التي قالت لأبيها عن موسى -عليه السلام-: (يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ) (القصص:26)، وأبو بكر الصديق حينما استخلف عمر بن الخطاب -رضي الله عنهما-" (أخرجه الحاكم بسندٍ صحيح).

- (وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ): بهذا البلاء وهو الإلقاء في البئر، ثم الوقوع في الرق والعبودية، والحرمان مِن الأبوين، ومِن الوطن والعشيرة؛ قدرناه سببًا لتمكين يوسف -عليه السلام- ونشر دينه في الأرض؛ فلعل فيما تكرهون خيركم وأنتم لا تعلمون.

- (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ): قال ابن كثير -رحمه الله-: "أي إذا أراد شيئًا فإنه يقيض له أسبابًا وأمورًا لا يهتدي إليها العباد".

- وقفة: كان مِن الممكن أن يقع يوسف -عليه السلام- في يد مَن لا يعرف قدره، ولكن الله يقيض أمورًا وأسبابًا لا يهتدي إليها العباد، ومِن نظائره: قصة خشبة الرجل الأمين، وكيف وصلت الخشبة إلى صاحب الدين دون غيره، وكيف أخرج الله صاحب الدين في وقت وصولها؟!

المشهد الثالث: محنة امرأة العزيز:

قال الله -تعالى-: (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ . وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ . وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ . وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ . قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ . وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ . فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ . يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ) (يوسف:22-29).

- ملخص ما جاء في الآيات: دار الزمان والأيام، وأصبح يوسف شابًا بديع الجمال والبهاء، وهو يعيش في بيت العزيز مع امرأته الشابة، وهي في غاية الجمال والمنصب والشباب، وهى بمثابة الأم له، ولكن غلبتها نفسها التي عاشت حياة المُلك والرفاهية والشهوات، وهكذا أكثر أهل هذه الطبقات (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ) (محمد:12).

- (وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ): المرأة توفر كل أسباب الفتنة والوقوع في الفاحشة، ثم أضف إلى ذلك: الدواعي التي تدفع إلى ذلك، ومنها: أن يوسف -عليه السلام- كان شابًا وعزبًا وغريبًا، وكانت المرأة صاحبة جمال شديد، ومنصب فريد، وهي الطالبة!

- ولكن... يوسف -عليه السلام- سيد النجباء والأتقياء السبعة الذين هم في ظل عرش الرحمن يوم القيامة: (قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ).

- وأما قوله -تعالى-: (وَهَمَّ بِهَا) فعلى قولين:

الأول: لم يقع الهم منه ألبتة، وتقديره كما تقول العرب: "لقد قارفت الذنب لولا أن عصمك الله".

والثاني: مالت نفسه بمقتضى الطبيعة البشرية، ومنعه دينه وتقواه، كما يميل الصائم إلى الماء البارد في الحر؛ فيمنعه دينه وتقواه.

- وقفة: تأمل كيف تناول القرآن مشهدًا مليء بالفتنة في أحسن عبارة وألطف إشارة دون جرح المشاعر وإثارة الغرائز، لا كما هو حال كتبهم وأدبهم المزعوم.

- (كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ): قال الله -تعالى-: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا) (الطلاق:2)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (تَعَرَّفْ إلَى اللهِ فِي الرَّخَاءِ , يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ) (رواه أحمد، وصححه الألباني).

تابع المشهد الثالث: حضور العزيز:

- قال الله -تعالى-: (وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ . قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ . وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ . فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ . يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ).

- ملخص الآيات: لقد استمكنت الفتنة والشهوة مِن المرأة حتى إنها لم تسمع بقدوم زوجها، وهو الذي تصحبه المواكب عادة، وظلت تطارد يوسف -عليه السلام- في ذل ومهانة حتى قطعت ثيابه مِن شدة جذبه عند الباب، ثم دار ما دار مِن الحوار الذي أظهر الله به الحق، ولكن دياثة العزيز كانت سببًا في أحداث مؤلمة تأتي بعد ذلك.

- (وَاسْتَبَقَا الْبَابَ): إن مخالطة أهل المعاصي والنظر في وجوههم بلاء يجب الفرار منه، انظر إلى دعوة أم جريج غضبًا عليه: (اللهُمَّ لَا تُمِتْهُ حَتَّى يَنْظُرَ إِلَى وُجُوهِ الْمُومِسَاتِ ) (متفق عليه)؛ فكيف بمن يستجلب على نفسه ذلك: "الشواطئ، والأفلام، ونحوها!"؟!

- (قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ): اتهمته وهي المتهمة، وجعلت تملي على زوجها الأوامر.

- (قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي): دفاع مشروع، وسكوت لا يسوغ؛ لأنه يؤثر على دينه، بخلاف سكوته على ظلم إخوته.

- (وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا): الله يقيض شاهدًا منصفًا ليفضح كذب المرأة.

- (يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ): هكذا انشغال الطبقة المترفة بالمظاهر والوجاهات ولو على حساب الدين والشرف.

- المسكِّنات لا تداوي ولا تعالِج الأمراض والجروح، وستنفجر بعد قليل: (وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) (يوسف:30).

وهذا ما سيأتي الحديث عليه في المرة القادمة -إن شاء الله تعالى-.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

 

تصنيفات المادة