السبت، ١٢ شوال ١٤٤٥ هـ ، ٢٠ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

عُمركَ أيامُ

الحرصَ الحرصَ على الوقت، والبدارَ البدارَ كما جاء في الأخبار

عُمركَ أيامُ
جمال فتح الله عبد الهادي
الاثنين ١٢ سبتمبر ٢٠١٦ - ١٥:٣٩ م
1534

عُمركَ أيامُ

كتبه/ جمال فتح الله عبد الهادي

          الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد،

منحَناَ اللهُ عزوجل هذا العُمر, وهو نعمة عظيمة للمؤمن, ووبال على الكافر, فالمؤمن يستثمر هذا العُمرفى طاعة الله تعالى, والكافر يأكل ويشرب ويتمتع كالانعام بل أضلُ سبيلا, قال أهل العلم: نعمت الدنيا للمؤمن عمل فيها قليلاً وأخذ زاده إلى الجنة, وبئست الدنيا للكافر عمل فيها قليلاً وأخذ زاده إلى النار .

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو، فَبَائِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. أي: كل الناس يسعى, وَيبدأ يومه بِالغدوة من العمل, إلا أَنَّ سَعْيَهم مختلف، فهذا يسعى في نجاة نفسه من عذاب الله, وهو المؤمن, لأنه يعلم الحكمة التي من أجلها خلقه الله. وهذا هو معنى قوله ( مُعْتِقُها ) أي: محررها من العذاب.

والآخر يسعى في هلاك نفسه وهو الكافر, أو في غفلة عن طاعة الله, وهو المسلم العاصي, وهذا هو معنى قوله: ( أو مُوبِقُها ). أي: في العذاب.

فمنهم من يتجه إلى الخير، وهم المسلمون، ومنهم من يتجه إلى الشر، وهم الكفار والعياذ بالله.

ودلَّ الحديث على أنَّ كلَّ إنسان إمَّا ساع في هلاك نفسه أو في فكاكها، فمن سعى في طاعة الله فقد باع نفسه لله وأعتقها من عذابه، ومن سعى في معصية الله تعالى فقد باع نفسه بالهوان وأوبقها بالآثام الموجبة لغضب الله وعقابه.  

المسلم أول ما يغدو يتوضأ ويتطهر ثم يذهب فيصلي، فيبدأ يومه بعبادة الله -عز وجل- بالطهارة، والنقاء، والصلاة، التي هي صلة بين العبد وبين ربه، فيفتتح يومه بهذا العمل الصالح، بل يفتتحه بالتوحيد, فإما يؤذن أو يردده, هذا المسلم. هذا الذي يغدو في الحقيقة وهو بائع نفسه، لكن هل باعها بيعاً يعتقها فيه؟ نقول: المسلم باعها بيعا يعتقها من النار, ولهذا قال: فبائع نفسه فمعتقها.

"أو موبقها" معناها: بائع نفسه فموبقها. الكافر يغدو إلى العمل الذي فيه الهلاك؛ لأن معني أوبقها أهلكها. وذلك أن الكافر يبدأ يومه بمعصية الله، حتى لو بدأ بالأكل والشرب؛ فإن أكله وشربه يعاقب عليه يوم القيامة، ويحاسب عليه. لأنه لم يؤدِّ شكره, والدليل قوله تعالى: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ للذين آمنوا لا غيرهم. ﴿خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ يعني: ليس عليهم من شوائبها شيء يوم القيامة. فمفهوم الآية ﴿قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ أنها لغير المؤمنين حرام، وأنها ليست خالصة لهم يوم القيامة، وأنهم سيعاقبون عليها.

قال أبو بكر بن عيَّاش: قال لي رجل مرَّة وأنا شاب: خلِّص رقبتك ما استطعت في الدنيا من رقِّ الآخرة، فإنَّ أسير الآخرة غير مفكوك أبداً . قال(فو الله ما نسيتها بعدُ)

أى تخليصها من النار بأداء العبادات والاخلاص لله تعالى ,والمتابعة للنبى صلى الله عليه وسلم.

قال الله تعالى : "وَالْعَصْرِ*إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ*إِلَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ". لقد أقسمَ اللهُ بالزمن للإنسان أنّه في خُسرٍ، بمعنى أنَّ مُضِيَّ الزمنِ وحدَه يستهلكُ عُمُرَ الإنسان الذي هو رأسُ ماله، ووعاءُ عملِه الصالحِ، الذي هو ثمنُ الجنة التي وَعَدَه اللهُ بها .

فجنس الانسان خاسر , لكن هناك أداة استثناء, إلا الذين ءامنوا, فهذه رحمة من الله تعالى بالمسلمين, إذ آمنوا بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم, ولابد من العمل الصالح بعد الايمان.

ويزدادُ ثقلُ العملِ الصالح في ميزانِ الحقِّ، وتتضاعفُ قيمتُه ومثوبتُه عند الله كلما كثرتْ العوائقُ في سبيله، وعظُمتِ الصوارفُ عنه، وقَلَّ المُعينُ عليه.

 ويزدادُ ثقلُ العملِ الصالح كذلك في ميزان الحقِّ، وتتضاعفُ قيمتُه ومثوبتُه عند اللهِ حينما تَفْسُدُ المجتمعاتُ، وتضطرب الأحوالُ، فيجور الأمراءُ، ويتجبّرُ الأقوياءُ, كما ترون, ويترفُ الأغنياءُ، ويداهِن العلماءُ، وتشيع الفاحشةُ، ويظهرُ المنكرُ، ويختفي المعروفُ، وفي الحديث عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ( الْعِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ)

قال الإمام الشافعى رحمة الله تعالى عليه: لو تدبر الناس هذه السورة لكفتهم.

 فالمسلم يغتنم يومه في العبادات من أول صلاة الفجر في جماعة ثم أذكار الصباح, ثم ورده من القرآن, أو مذاكرة في كتب العلم, ثم يغدوا إلى عمله, فإن كان عاملاً كان مخلصاً في عمله, أو تاجراً كان صادقاً في تجارته, أو موظف كان متقنا في وظيفته, أو مديراً كان رفيقا مع موظفيه, أو طبيباً كان ناصحاً لمرضاه, أو مهندساً كان بارعاً في تصميماته, وهذا لأنهم بدأوا يومهم بالطاعة لله تعالى, ويعلموا أن اليوم من عُمر الانسان عبارة عن وثيقة أو كتاب, فيه من العبر والعظات الكثير, فالإنسان يتعرض في يومه إلى أحداث كثيرة من أفراح وأتراح ومقابلات, وربما مشاحنات مع الأخرين, فالمسلم المُصلي, يكون عنده من الصبر والحلم والرفق الكثير , لأنه يتعبد بذلك إلى الله, ويعلم أن كلامه من عمله, فيمسك لسانه. ويصفح عمن ظلمه, كما قال أحمد بن حنبل: هي صحيفتك فاملأها بما شئت.

ويشغل نفسه بالذكر والاستغفار , في طريقه إلى عمله والعودة, بل يحافظ على جميع الأذكار الموظفة, ويعلم أن هذا اليوم لن يعود مرة أخرى, فيغتنمه بكل عمل صالح.

يقول ابن الجوزي "ينبغي للإنسان أن يعرف شرف زمانه وقدر وقته، فلا يضيع منه لحظة في غير قربة، ويقدم فيه الأفضل فالأفضل من القول والعمل، ولتكن نيته في الخير قائمة من غير فتور بما لا يعجز عنه البدن من العمل".

يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: "وقت الإنسان هو عمره في الحقيقة، وهو مادة حياته الأبدية في النعيم المقيم، ومادة معيشته الضنك في العذاب الأليم، وهو يمر مرَّ السحاب، فمن كان وقته لله وبالله فهو حياته وعمره، وغير ذلك ليس محسوباً من حياته, فإذا قطع وقته في الغفلة والسهو والأماني الباطلة وكان خير ما قطعه به النوم والبطالة، فموت هذا خير من حياته".

وجاءت السنة لتؤكد على أهمية الوقت وقيمة الزمن، وتقرر أن الإنسان مسئول عنه يوم القيامة، فعن معاذ بن جبل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع خصال: عن عمره فيم أفناه، وعن شبابه فيم أبلاه، و عن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن علمه ماذا عمل فيه". وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الوقت نعمة من نعم الله على خلقه، ولابد للعبد من شكر النعمة وإلا سُلبت وذهبت. وشكر نعمة الوقت يكون باستعمالها في الطاعات، واستثمارها في  الباقيات الصالحات، يقول صلى الله عليه وسلم: "نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة، والفراغ".

قال ابن مسعود -رضي الله عنه-:  "ما ندمتُ على شيءٍ ندمي على يومٍ غرَبَت فيه شمسُهُ، نقص فيه أجلي، ولم يزدَدْ فيه عملي"

قال يحيى بن معاذ: إضاعةُ الوقت أشدُّ منَ الموت؛ لأنَّ إضاعةَ الوقت انقطاعٌ عن الحقّ، والموتُ انقطاعٌ عن الخلق .

             تزوَّد من التقوى فإنك لا تدري *** إذا جنَّ ليلٌ هـل تعـيشُ إلى الفجــرِ

            فكم من سليمٍ مات من غير عِلَّةٍ ***  وكم من سقيمٍ عاش حِيناً من الدهرِ

           وكم من فتىً يمسي ويصبح آمناً ***  وقـد نُسجتْ أكفانُه وهـو لا يـدري

وقال حمَّادُ بن سلمة:ما جِئنا إلى سليمان التَّيْمِي في ساعةٍ يُطاعُ اللهُ فيها إلاَّ وجدناهُ مُطيعًا إنْ كان في ساعةِ صلاةٍ وجدناهُ مُصلّيًا، وإن لم تكنْ ساعة صلاةٍ وجدناهُ إمَّا متوضِّأً أوعائدًا مريضًا، أو مشيِّعًا لجنازة، أو قاعدًا في المسجد، قال: فكُنَّا نرى أنَّهُ لا يُحسنُ أن يعصي الله عزَّ وجل.

        يقول الوزير الصالح يحيى بن زهير:

          وَالوَقْتُ أَنْفَسُ مَا عُنِيتَ بِحِفْظِهِ   ***   وَأَرَاهُ  أَسْهَلَ  مَا  عَلَيْكَ  يَضِيعُ

آفات تقتل الوقت:

 الغفلة: وهي مرض خطير ابتلي به معظم المسلمين حتى أفقدهم الحسَّ الواعي بالأوقات.

التسويف: وهو آفة تدمر الوقت وتقتل العمر، وللأسف فقد أصبحت كلمة "سوف" شعاراً لكثير من المسلمين وطابعاً لهم، يقول الحسن: "إياك والتسويف، فإنك بيومك ولست بغدك".

فالحرصَ الحرصَ على الوقت، والبدارَ البدارَ كما جاء في الأخبار، واستغلَّ وقت الشباب في الأعمال النافعة قبل المشيب، فتقول ليت الشباب يعود، فيكون حالك كحال القائل:

         بَكَيْتُ عَلَى الشَّبَابِ بِدَمْعِ عَيْنِي    ***    فَلَمْ  يُفِدِ  البُكَاءُ  وَلاَ   النَّحِيبُ

         أَلا  لَيْتَ  الشَّبَابَ   يَعُودُ   يَوْمًا  ***    فَأُخْبِرَهُ   بِمَا    فَعَلَ    المَشِيبُ

        وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

                             والحمد لله رب العالمين

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

 

ربما يهمك أيضاً

نطهر صيامنا (2)
71 ١٢ مارس ٢٠٢٤
نطهر صيامنا (1)
66 ٠٤ مارس ٢٠٢٤
إنما الحلم بالتحلم (1)
47 ٣١ يناير ٢٠٢٤
لا تحمل همًّا!
98 ٢٠ ديسمبر ٢٠٢٣
محطات تطهير!
96 ١٩ يونيو ٢٠٢٣